سرية صدقي.. نقطة نور في تاريخ التربية الفنية


تعتز كثيرا بأنثويتها، وتدافع عن المرأة بضراوة ضد أي فعل أو قول من شأنه الانتقاص منها، تلك المرأة التي تحتل غالبية أعمالها الفنية - إن لم تكن جميعها - وتتسم بقوام غير متناسق وجمال شرقي أخاذ، إيمانا منها بأن قيمة المرأة والإنسان بشكل عام لا تعتمد على مظهره الخارجي ولكن على جوهره الذي يحتاج عملا وجهدا لاكتشافه. وجدت ضالتها في الفن؛ فأضحى خير متنفس لها للتعبير عن كل ما يجول بخاطرها أو وجدانها، وهو لم يبخل عليها بدوره، حيث أخذ بيدها وصعد بها إلى أعلي المراتب، وقابل إخلاصها بكل امتنان، حتى أصبح اسم الفنانة والدكتورة سرية صدقي نقطة نور في تاريخ التربية الفنية، محليا ودوليا.

ولدت سرية صدقي في يوليو عام 1946، درست في قسم التصوير بكلية التربية الفنية وتخرجت منه عام 1967، لتبدأ مشوارها الأكاديمي كعضو هيئة تدريس في الكلية بجامعة حلوان، فحصلت على درجة الماجستير في الفنون والتربية عام 1974، ثم الدكتوراه في الفنون الإسلامية بجامعة نيويورك عام 1979، كما تولت رئاسة المركز القومي لثقافة الطفل، ولها عدد من البحوث في الفن الإسلامي والثقافة المصرية ومناهج التثقيف والتعليم الفني، بالإضافة إلى إشرافها على عدة مشاريع لتطوير برامج التربية المتحفية وبرامج الفنون، ومشاركتها في إعداد المناهج للعديد من المدارس والجامعات في مصر وعدد من البلدان العربية. حصلت على عدة جوائز محلية ودولية منها: جائزة الصالون في النحت 1969، جائزة الرسم من المركز القومي للفنون التشكيلية 1982، جائزة الفيلم المتحرك من جامعة نيويورك 1978، جائزة الإنجاز المتميز في ثقافة الطفل من محافظة الفيوم 2001، و جائزة تقديرية من جامعة القاهرة عام 2002، وأخيراً جائزة السير هربرت ريد من جمعية »إنسيا» الدولية.

نشأت د.سرية وعاشت طيلة عمرها وسط عائلة فنية، منذ صغرها وحتى الآن، فوالدها ، عبد الرازق صدقي ، رغم كونه وزيرا للزراعة ومديرا إقليميا لهيئة الأغذية والزراعة، لكنه أحب الفن واعتاد ممارسته، حيث كان يدرس مع حبيب جورجي، وله لوحات كثيرة في المنزل الذي تقطنه ابنته الآن. أما والدتها فهي من درست الفن وكانت من أوائل السيدات اللاتي حصلن على أعلي مؤهل من إنجلترا كمعلمة تربية فنية، لذلك كانا يشجعانها جدا.

من بعدهما اقترنت الفنانة بشريك عمرها الفنان والدكتور مصطفى الرزاز، الذي يساندها دائما ويغمرها بدعمه دونما طلب. ثم ابنتيها «هالة» و«دينا»؛ هما أيضا فنانتان، فالأولى خزافة تعمل في جامعة القاهرة بكلية التربية النوعية، ومنذ 18 عاما تستخدم الفن كأداة لتأهيل مرضى السرطان من الأطفال، حيث أن ممارسة الفن والاستمتاع به يقوي المناعة ويقلل استخدام المسكنات ويساعد على الشفاء من خلال رفع معدلات السعادة. أما «دينا» فكانت الأولى على دفعتها في كلية الفنون الجميلة قسم الجرافيك، تمارس الفن أيضا، لكنها انشغلت في أمور أسرتها وتركت المجال الأكاديمي.

لم تطلب أبدا منهما دخول مجال الفن، لكنهما تعلمتا بالنموذج، عندما رأتا وحاولتا محاكاة والديهما، حيث توافرت لهما منذ الصغر كراسات رسم كبيرة، وكانت لديهم أدوات الفن. وذلك ليس بغريب؛ حيث تؤكد د.سرية: «في الحقيقة؛ هذا ما تفعله الطبقة المثقفة والقادرة ماديا، بل إنهم يجلبون مدرسين للفنون في البيت لأولادهم، أما الطبقة المطحونة التي ليس لديها القدرة علميا أو ماديا أو ثقافيا لعمل ذلك لأولادهم، فقد كانت توفر لهم المدرسة ذلك قديما، ولكن يبدو أنها تخلت عن هذا الدور الآن».

ماهية الإنسيا

«الإنسيا» أو التربية عن طريق الفن، هي جمعية دولية منبثقة عن اليونسكو، نشأت في الثمانينيات، وتتبع لها معظم دول العالم، تعد مصر بين آخر مجموعة انضمت لها، حيث أنشأ الجمعية د.محمود بسيوني، وعندما توفى تضاءلت إلى أن انتهت. من حينها أراد الفنانون المعاصرون إحياءها مرة أخرى وإعادتها، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول للجمعية القديمة، لأنها توقفت لمدة تزيد على 15 عاما. وفي أحد المؤتمرات الدولية تقابلت سرية صدقي مع مسئولي الإنسيا، فأخبروها بعزمهم على إنشاء فرع للجمعية بأفريقيا والشرق الأوسط، وبالفعل تأسست «الأمسيا».

تقول عنها د.سرية: «إنها نتاج جهود أساتذتنا في هذا التخصص، مثل حبيب جورجي الذي تتلمذ على يده والدي وأجريت عنه رسالة الماجستير الخاصة بي، فقد ازدهرت التربية الفنية في عصره كثيرا بالخمسينيات، حيث كانوا على تواصل دائم بالأحدث عالميا. وكذلك د.محمود بسيوني، أستاذي أنا وجيلي، ومؤسس الدراسات العليا في مجال الفنون، الذي شارك في جمعية الإنسيا باسم مصر وانشأ فرع (إنسيا مصر)، وحصل على جائزة سميت باسمه منذ حصل عليها».

بدأت «الأمسيا» من مصر، وبعد ذلك انضمت لها بعض البلدان العربية، فأسسوا موقع دولي اعتمدت مصاريفه في البداية على التبرعات والاشتراكات ثم بدأوا في إعداد مجلة علمية؛ وجدت صدى كبيرا جلب لهم ناشرين دوليين، من بينهما الناشر الثاني بعد ناشر الكونجرس. وفي اليوم العالمي للتربية الفنية الذي تقيمه اليونسكو، رحبت بهم جامعة الإسكندرية وعميدة كلية التربية الفنية د.فاتن مصطفى كمال، فأقامت مؤتمرا بالاشتراك مع جمعية الإنسيا والأمسيا، أصبح يعقد سنويا لمدة 15 يوما حافلة بالأنشطة.

وبالمثل؛ رحب د.صلاح خضر عميد كلية التربية بجامعة 6 أكتوبر باستضافة مؤتمر «الأمسيا» وساعدهم كثيرا في محاوره ووضع شروط قبول أبحاثه. ذلك المؤتمر الذي حقق نتائج ملموسة مع ختامه في اليوم الثالث، حيث لم ينته إلى مجرد توصيات. النتيجة الأولى أن الأمسيا أصبحت مكتبا بدلا من جمعية، ضمن ثلاثة مكاتب فقط تابعة للإنسيا. والثانية أنه تم ترقية المؤتمر ليكون كونجرس. أما الثالثة فكانت بناء على طلب د.سرية صدقي ويتم تحقيقها الآن؛ بأن تصدر مجلة عن الإنسيا باللغة العربية والإنجليزية سنويا، تختص بالشرق الأوسط وأفريقيا، وتلك هي المرة الأولى التي تدخل فيها العربية للإنسيا منذ عام 1981.

جائزة السير هربرت

التربية عن طريق الفن؛ مصطلح غير مألوف تداوله في الثقافة المصرية، لكنه يسعى منذ أعوام لفرض معناه وتطبيقاته، من خلال جمعية «الأمسيا»، المكتب الإقليمي التابع لجمعية «إنسيا» الدولية، التي تمثل الجناح المعنى بالتربية الفنية لهيئة اليونسكو، والتي قررت مؤخرا منح جائزة باسم «السير هربرت ريد» للدكتورة سرية صدقي أستاذ المناهج بكلية التربية الفنية جامعة حلوان ورئيسة جمعية الأمسيا، وهي أعلى جائزة لأصحاب الإنجاز المهني والأكاديمي والتطبيقي المتميز قوميا وعالميا في مجال التربية الفنية، وتعد د.سرية أول عربية مصرية تحصل عليها منذ عام 1981 ضمن ستة أشخاص فقط فازوا بها.

تمنح الجمعية ثلاث جوائز، يشبهون جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية والنيل. حصلت د.سرية على الجائزة الخاصة بالسير هربرت ريد، الذي نال لقب سير من ملكة إنجلترا لما أنجزه في مجال التربية الفنية، وهو أحد مؤسسي جمعية «الإنسيا» لذا سميت أكبر جائزة باسمه، وتمنح الجائزة لمشوار حياة، فلابد أن يكون للحاصل عليها إنجاز سنوي منذ بدأ العمل في المجال، يتمثل في نظرية جديدة أو تطبيقات متعددة محليا ودوليا. يتم الترشيح لها من جهات وليس بشكل شخصي. أما الثانية فهي جائزة الفنان محمود بسيوني، والثالثة جائزة «إدوين زيجفيلد» أول رئيس للإنسيا.

تنافست صدقي على الفوز بالجائزة بعد ترشيح عدد كبير من طلابها بمختلفالدول العربية لها، حيث بدأ الأمر من عند د.دينا عادل وكيل كلية التربية الفنية بجامعة الإسكندرية، التي ذهبت لها تطلب سيرتها الذاتية وأكملتها معها، ثم كتبت على الانترنت عن ذلك، فأخذوا الطلاب في الشرق الأوسط المؤمنين بالدكتورة يرسلون خطابات للجمعية ليتم ترشيحها، ومن ثم يتم تحكيم سيرتها الذاتية، لذلك تقول ممتنة: «أعتبر أن تلك الجائزة لطلابي أكثر مني».

روح تحيا بالفن

تؤمن د.سرية صدقي أن الفن هو الحل لكل المشكلات الفكرية والمجتمعية، وهو ما اكتشفته دراسات العصر الحديث، وعلى وجه الخصوص دراسة غريبة أحدثت اهتمامات كبيرة بالفنون في القرن ال21، توصلت إلى أن الجانب اليمين من المخ هو المسئول عن الإبداع والسعادة والرقص والغناء والموسيقى والتفكير خارج الصندوق والاستمتاع بالطبيعة، وعندما تتدمر خلايا الجانب الأيسر المسئولة عن الكتابة والقراءة والفهم يتحمل هذا الجانب الآخر المسئولية. واكتشفوا تباعا أن هؤلاء الذين يعتمدون على الجانب الأيمن لأنهم غير نمطيين لديهم قدرة عالية على حل المشاكل، ومن هنا بدأ التناقش حول أهمية الفنون إلى جانب العقل والمنطق، فأجروا دراسات توصلت إلى أن الطفل غير الموهوب فنيا ولكن يمارس الفن لديه فرصة أكبر من زملائه 4 مرات أن يصبح بارعا في الرياضيات، ولديه قدرة أكبر على القيادة وأن يكتسب حب المجموعة، بل اكتشفوا أن بعض قطع الموسيقى لموزارت تنمي القدرة الرياضية بشكل كبير، لدرجة أن هارفارد أعدت برنامج اسمه «التفكير بالفن» ونصحت كل مدرس قبل بدء حصته أن يمنح خمس دقائق لتذوق الفن، لينشط قدرة الطلبة على الفهم.

نصائح في الفن والتعليم

في منزلها؛ استقبلتني د.سرية صدقي بابتسامة دافئة. وبجانب النافذة المطلة على النيل جلسنا نتبادل أطراف الحديث، والجمال يحيط بنا من كل الاتجاهات. قاطعنا مجئ إحدى طالباتها، وفهمت أن هذه المكان مفتوح دائما لمحبي الفن ودارسيه، وأبنائهم الصغار أيضا المستقبل فهؤلاء يحتلون الجزء الأكبر من تفكير د.سرية، وحولهم دار أغلب حديثنا، حول التعليم والفن والنشء، وجاءت كلماتها بمثابة خطوط عريضة يجب التوقف عندها، بل ونصائح في بعض الأحيان، آثرت أن أنقلها كاملة بقدر المستطاع.

* لابد أن يتعرض أكبر عدد من أولادنا للنظريات المعاصرة في التربية الفنية، فمهما دُرِّست للطلبة في الكلية؛ عددهم محدود وقدراتهم ضعيفة على نشر القضايا في التعليم.

* التعليم بعيد تماما عن مهارات العمل والحياة، فالإحصائيات تفيد بأن غير المتعلم فرصته في العمل أكبر ممن يعرف القراءة والكتابة، والثاني فرصته أكبر من الحاصل على الثانوية العامة، الذي بدوره فرصته أكبر ممن يحمل مؤهل جامعي وهكذا.

* الفنون تكسب مهارات الحياة والعمل التي تختلف تماما عن مهارات الدراسة، فحينما وضعت نظرية «مهارات القرن الحادي والعشرين» لرفع قيمة الحياة والقدرة على اختيار العمل الممتع بالنسبة لصاحبه؛ جاءت الفنون في المركز الثالث بعد اللغتين القومية والأجنبية، حيث تشجع على التفكير المتوازن الذي يتقبل الآراء المختلفة بدون تناطح، وتعتمد على العمل الجماعي، الذي نفتقده، فدائما نفوز في الألعاب الفردية لأننا لا نعلم الأولاد من صغرهم كيف يعملون في جماعة. لذلك عندما عقدت الأمم المتحدة مؤتمر «خارطة الطريق لتعليم الفنون» منذ تسع سنوات، جاء في توصياته أن ممارسة الفنون ووجود برنامج علمي لتعليمها بواسطة معلم معد إعداد كاف؛ حقا من حقوق الإنسان من المهد إلى اللحد.

* كل البلاد التي نهضت اهتمت بالتعليم بعيدا عن الحفظ والتلقين، أما نحن فمازلنا نعاني كل عام من مشكلة الغش ونفكر فيكيفية منعه في الامتحان، ويخرج المسئولون قائلين «لم يخرج الامتحان عن كتاب المدرسة»، هذه المقولة مصيبة، لأن التعليم أصبح حفظاً. منذ 10 سنوات وامتحاناتي كلها كتاب مفتوح. الفكرة ليست في النقل والحفظ وإنما التحليل والتعليق والمناقشة. طالما ليس هناك تفكير ناقد وتحليل فالطلاب سينقلون من الكتاب.

* تجربة «مدارس النيل»، تستدعي الاهتمام. الأطفال يتحدثون اللغة العربية الفصحى منذ بداية التعليم، وتساعدهم المدرسة للمشاركة في الأنشطة الدولية، ويتحدث الطلبة اللغة الإنجليزية بطلاقة من خلال معلم مصري تم تدريبه على التدريس بدرجة عالية من خلال ورش سنوية تحت إشراف جامعة كامبريدج، ليست بها مناهج مستوردة من الخارج كالمدارس الدولية التي ترفع علم أمريكا أو بريطانيا في الفصل. فهي بالفعل نموذج أتمنى أن يسود.

Comments