عبد الفتاح الجمل.. السيرة المنسية للراعي الصالح «2-2» كتابات بخط اليد تُنشَر للمرة الأولى

 


انتهيتُ قبل عشرة شهور من سرد بعض محطات رحلة بحثي في «السيرة المنسية للراعي الصالح.. عبدالفتاح الجمل» وسلّمت الملف للنشر، لكني لم أضع قلمي، إذ علمتُ مسبقًا أن رحلتي طويلة، وأن ما كشفتُ عنه هو قدر يسير من مشوار الجمل، يكفي فقط لنثر ألوان الأساس على اللوحة، لكنه لا يُظهِر ملامحه داخلها.

هذا المشوار بدأه عبدالفتاح الجمل مبكرًا جدًا، كانت الكتابة خلاله، لأكثر من أربعين عامًا، هي الرفيق الدائم والأقرب. كانت فعلًا تلقائيًا لا يحرص عليه، بل يعيش به. يكتب دون أن يشغل باله بالنشر، ويدرك أن يومًا سيأتي وتجد مخطوطاته طريقها للنور، يكفيه فقط أن يكتب ويحافظ على ما يكتبه. لذا مع تفاقم أعراض مرضه الأخير وإحساسه بتدهور حالته؛ أخذ عبدالفتاح الجمل يرتِّب أوراقه ويبعث بها لمن وثَق أنهم سيحفظونها إذا حلَّ الأجل.

•••

أثناء بحثي في السيرة المنسية ذهبتُ ذات يوم لدار الكتب والوثائق، وحين عُدت مساءً وجدتُ رسالة من أحد أصدقاء الجمل، الذي لم أكن أعرفه حتى أيام قليلة مضت - قبل تلك الليلة - حين أثنى على الملف الذي أعددته؛ رسالة يخبرني فيها أن لديه أوراقًا تخّص عبدالفتاح الجمل، بلغ عمرها لديه ما يقرب من ثلاثين عامًا، ويشعر أن وقت بيانها قد حان.

شهور مرَّت حتى تمكنتُ من الاطلاع على الأوراق، بسبب انتشار فيروس كورونا وما أحدثه من شلل في الحياة عالميًا، خاصة أنني في القاهرة وهي مع الصديق في دمياط.

•••

في فبراير الماضي؛ نشرتُ أول مقال لعبدالفتاح الجمل في جريدة المساء كصحفي، بعد حصولي عليه من أرشيف مركز المعلومات بدار التحرير، لكن بين أوراقه وجدتُ الكاتب الذي لم يهتم للنشر، والشاعر الذي لم يظهر أبدًا طوال حياته، بل والشاب حديث التخرج الذي وُجِّهت إليه دعوة من الملك فاروق لتناول الشاي بالقصر لتفوقه، وذلك بعد أسبوع واحد من إتمام عامه الثاني والعشرين، وجاء في الدعوة التي تحمل شعارًا ملكيًا:

«بأمر حضرة صاحب الجلالة الملك.. يتشرف كبير الأمناء بأن يدعو حضرة المحترم عبدالفتاح علي جمعة الجمل أفندي لتناول الشاي بقصر رأس التين يوم الإثنين 21 شعبان سنة 1364 (30 يوليه سنة 1945) الساعة السادسة مساءً وذلك لمناسبة نجاحه بتفوق في امتحان ليسانس كلية الآداب»

وملحوظة جانبية مفادها أن الحضور بالملابس العادية.

•••

مخطوطات وأوراق متناثرة ومتفرقة، بقراءتها وجمعها والبحث فيها تكتمل أجزاء من اللوحة، وترتسم داخلها لوحة ثانية للحياة الثقافية في حقب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عبر رسائل أشبه بجلسات نقاشية.

في هذه الصفحات نضيئ زاوية أخرى – صغيرة – من السيرة، لكن القلم لم يوضع بعد والرحلة مازالت مستمرة.

رسائل تنبض بالحكايات

1

في مرحلته الثانوية، خطَّ د.محمد زكريا عناني كتابه «طريق الحياة» عام 1954، وفي مقدمته أشار إلى أن صاحب الفضل الأول في توجيهه هو «الأستاذ عبدالفتاح الجمل، المدرس بكلية أسيوط الآن»، وحينما سألته عن «كلية أسيوط» لم يتذكر من أين جاءته المعلومة أو ماذا تعني.

بين أوراق الجمل وجدتُ عددًا من الأقصوصات التي تعود لتلك الفترة من منتصف الخمسينيات، تتضمن مواقف مختلفة دوَّنها في هيئة قصص قصيرة أو ومضات، بأكثر من محافظة مثل أسوان والواحة الخارجة، أو داخل القطار، وبعضها وقَّعه باسمه متبوعًا بصفته «مدرس بالكلية الأمريكية بأسيوط»، ومنها تلك الشكوى التي قصَّها في بداية عام دراسي جديد يوم 17/10/1954، منتقدًا توزيع الكتب على المدارس بعد بدء العام وانتظام الطلبة في الحضور بدلًا من استغلال إجازة الصيف في ذلك، وكتبها كالتالي:

«أقبل زميلي الأمريكي مقطبًا عابسًا، ينفخ بعض ما عبأ من ضيق قائلًا: أنت تعرف كم أحب مصر، وكيف أطلت مدة إقامتي بها سنة أخرى بعد انتهاء المدة المعهودة، ولكنني اليوم فقط تمنيت أن أكون في أمريكا لأنني آت الآن من اجتماع لمدرسي اللغة الإنجليزية، حيث أعلنوا أن الروايات التي قيل أنها مقررة، ليست بالمقررة، وأنهم لا يستطيعون أن يجزموا بشيء إلا اعتمادا على الشائعات وحدها، بل لا يجزمون إلا بالشائعات نفسها. ثم نظر غير بعيد، وعاد يقول: في وزارة المعارف هذه شيء لا أفهمه، لابد أن يكون فيها عقل (مخلول) يخل ببقية العقول.

حقًا أيها الأمريكي، إن الشائعات أمست لنا متنفسًا، لأنها تملأ الفراغ الذي ينجم عن تلكؤ أولي الأمر ونقضهم ما يثبتون.. وما أطول ما يتلكئون، وأكثر ما ينقضون.

ثم فكرت في شهور الصيف الطويلة، والدواوين تغط لتصحو على أجراس المدارس، لتفكر في المقررات وطبع المنشورات والتنقلات.

نعم التنقلات.. فكرت فيها.. كيف تأتي أخبارها كضربات القدر العمياء، في أوائل العام الدراسي، على أن يسلم المنقول اليوم في الشمال، ويتسلم الغداة في الجنوب، وأن ينتظم عمله، فيفتح صنبور العلم وينشر منشفة التربية، دون تقدير ما يثير النقل من زوابع وأعاصير.. أين كان الناقل هذه الشهور الطويلة وأشهد بأنه قد بكر هذا العام بعض الشيء وساعده تأجيل الدراسة، ما ضره لو أتم هذه التحركات في أواخر العام الدراسي، حتى يوزع المنقول متاعب النقل على أشهر الصيف الطويلة.

وأخيرًا عاد بي التفكير إلى الطلبة، كيف يحق لنا أن نلومهم على إرجاء التحصيل، إلى أن يطل من الامتحان رأس وفحيح؟ ألا نجد لهم العذر فيما يفعلون، وقد قدمنا لهم القدوة؟

تالله لن يتغير شيء حتى نغير ما بأنفسنا»

أما الكلية الأمريكية، فقد أُنشئت بمحافظة أسيوط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بهدف تنمية شباب الصعيد والريف وتعليمهم القراءة والكتابة، وقد عمل فيها الجمل لما يقرب من العامين، قبل أن يصعد على ظهر سفينة متجهة إلى أوروبا، في رحلة استمرت عام، عاد منها إلى القاهرة حيث بدأ مشواره الصحفي.

2

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، سافر الفنان نبيل السلمي (1941-1987) إلى برلين بألمانيا للعمل في مجلة «ويلن شبيجيل» للكاريكاتير، وفي شهر أبريل عام 1982 بعث مع الكاتب الصحفي د.فتحي عبدالفتاح (1935-2007) «كارت بوستال» إلى صديقه عبدالفتاح الجمل، أو «الجمل عبدالفتاح» كما اعتاد أن يسمّيه بعض أصدقائه المقربين في خطاباتهم وإهداءاتهم. يحمل الكارت رسمة للسلمي، مع جملة بالعربية وترجمتها الألمانية تقول «حظ سعيد في العام الجديد 1982»، وخلفها كتب:

«عزيزي الفنان الكاتب العظيم الجمل عبدالفتاح

أحييك تحية عبقرية.. على مقالك العبقري «فاقد الشيء يعطيه» (المقال التي نُشر في السفير) بعد أن استمتعت بقراءته وضحكت من قلبي.. وتذكرت ضحكاتك.. وحزنت أن الأيام والسنين مضت..

أعرف أنك زعلان مني.. – ومقموص – لكني والله ما كان بيدي حيلة.. أن أرسل لك كتاب ولا أعرف أين يذهب.. حيث فُقِد كتابك في مصر (أقصد جحا) في ظروف غامضة.. وهأنذا أرسل لك النسخة بتاعتك مع هذا الكارت مع فتحي عبدالفتاح لعلك ترضى عني وتصفح..

وأخبرك – حتى تطمئن على أخيك – أنني أعمل بجد (بجانب البنك) في كتاب صغير كاريكاتير (في حجم علبة الكبريت).. وموضوعه أيضًا (عودان الكبريت).. سوف يهز الدنيا.. ويغير العالم (!!) وسوف أرسله لك فور انتهاء طباعته..

أرجو أن تطمنونا عليكم... – وما أخبار أبو إسكندر – هل انتهيت من كتابته..

يسعدني لو كتبت ورقة صغيرة في هيئة خطاب وأعطيته لفتحي..

مع تحياتي لجميع الأوغاد في الدار.. وغير الدار»

بعد هذه الرسالة بعامين، أصدر السلمي كتابه الصغير الذي حكى عنه للجمل بعنوان «تاباكوميك.. عود ثقاب» عام 1984، لكن «أبو إسكندر» الذي يكتبه عبدالفتاح الجمل لا يزال مصيره مجهولًا حتى اليوم.

3

تحدَّث نبيل السلمي في رسالته عن فقدانه لكتاب جحا في ظروف غامضة، ويقصد به «وقائع عام الفيل كما يرويها الشيخ نصر الدين جحا» لعبدالفتاح الجمل، لكن لا يتبيّن لنا إن كانت المفقودة نسخة من الطبعة الأولى الصادرة عن دار الفكر المعاصر في يوليو 1979، أم الثانية التي صدرت قبل كتابة الرسالة بشهور، عن دار الوحدة ببيروت عام 1981، ولتلك حكاية يرويها الجمل في أوراقه.

فأثناء إعداد مجلة الثقافة الجديدة لملف عن عبدالفتاح الجمل عام 1992، والذي وضّبه بنفسه إخراجيًا وأشرف على كل مادة فيه؛ كتب تعريفًا لشخصه في ورقة تحت عنوان «المؤلف»، كتبها أكثر من مرة حتى وصل إلى الصيغة الأخيرة، التي اختلفت أيضًا عند النشر، إذ حُذفت منها بعض العبارات التوضيحية التي خطًها بيده، من بينها أن «رواية الخوف 1972 تم نشرها على نفقة المؤلف من مطبعة عبده وأنور أحمد، جمع صندوق، وتكلفت يومها بضعة وتسعين جنيها وكم كانت مبلغا!».

أما «حكايات شعبية من مصر» الصادرة عن دار الفتى العربي 1985 فكتب بجانبها «حذف الناشر منها حكاية فذة عن سيدنا سليمان ومثولوجيا نشأة النيل بحجة أن النبي سليمان يهودي».

وفي سطر واحد وصف الطبعة الثانية من كتابه «وقائع عام الفيل» قائلًا: «أهداها المؤلف للدار الجديدة، وباعتها الدار لبيروت دون علمه». وهذا ما اكتشفه صدفة ودوّنه في أوراق تحمل عنوان «الفلاح الفصيح»، في إطار حديثه عن تلك الرواية للكاتب يوسف القعيد التي اختيرت كأفضل رواية عام 1985 في استفتاء أحمد بهاء الدين، إذ كتب:

«ذهبتُ إلى رجاء النقاش لأعزيه في أبيه، فقدمني إلى الحاضرين ومنهم محمد علي ناصف الصحفي المصري الذي عمل في بيروت ناشرًا. حينما سمع اسمي قال من الفور: كتابك «وقائع عام الفيل» أوشكنا على إخراجه في طبعة جديدة من بيروت.

قلت مستنفرًا: كيف؟

قال: اشتريتُ حق النشر من عبدالسلام مبارك.

وكانت صدمة، فعبدالسلام هذا حينما أراد أن يشيّد داره، أعطيته مخطوطة كتابي هدية مجانية. فيذهب من ورائي ويبيعه في بيروت؟!»

4

بعد عشر سنوات من سؤال نبيل السلمي عن «أبو إسكندر» يعود الكاتب والناقد والمترجم حسين عيد (1946-2020) في 4 سبتمبر عام 1992 للتساؤل مجددًا، ولكن بشكل أوضح، حول رواية «أبوقير»، في رسالته التي بعث بها للجمل من واشنطن، عقب وصوله إلى هناك بأيام، ليبلغه تفاصيل رحلته، وانطباعه الأول عن الحياة الأمريكية، إذ يقول:

«الصديق العزيز الذي أفتقده بشدة، عبدالفتاح الجمل

تحياتي وأشواقي الحارة إلى قعداتنا أو مكالماتنا التليفونية أو مناقشاتنا، التي عشناها، وسنعيدها بإذن الله..

أخي العزيز..

أبدأ بالسؤال عن أحوالك وأخبارك وخاصة رواية أبو قير ومقالان كاريكاتير، وما هي أخبار أو أحدث أخبار الوسط الأدبي؟..

وطبعا يهمني كثيرًا معرفة رأيك في مخطوط «نجيب محفوظ: سيرة فنية»..

أما بالنسبة لي فقد وصلنا واشنطن بعد رحلة شاقة في الطيران استغرقت ما يقرب من 18 ساعة ما بين الهبوط في مطار فرانكفورت والتأخير في بدء الرحلة الجديدة إلى واشنطن لسوء الأحوال الجوية. وقد وجدنا مندوبا في انتظارنا سهل لنا الأمر، وقضينا في فندق اسمه «كارليل سويت» ثمانية أيام حتى انتقلنا إلى سكن قريب جدا من جامعة جورج واشنطن. وأعتقد أن هذه بداية الاستقرار.

بدأنا الدراسة أيضًا في الجامعة أمس مساءً.

بطبيعة الحال، أنتظر سؤالك الهام حول انطباعي الأول عن الحياة الأمريكية..

بدأنا الدراسة أيضًا في الجامعة أمس مساءً.

بطبيعة الحال، أنتظر سؤالك الهام حول انطباعي الأول عن الحياة الأمريكية..

لاشك أن الأمريكيين يعيشون حياتهم ببساطة وتلقائية دون تعقيد، وينعكس هذا على أسلوب معيشتهم.. وسأضرب لك مثالًا واحد هو ارتداء الفتيات والسيدات للشورت في هذا الموسم وهذا ما تجده في غالبية الشوارع سواء للسائرات منهن أو من تجري. أما في الجامعة فالحرية كاملة، وفي الفصل الدراسي الذي ندرس به.. أكثر من فتاة ترتدي الشورت وتضع ساقًا على أخرى أو تضع ساقها بحذائها على الكرسي وتثني ساقها الأخرى تحتها.. والدكتور يشرح.. والأمر بسيط..

حضارة أخرى.. عالم آخر مختلف.. وبطبيعة الحال تستولى حملة بوش الانتخابية وكلينتون على الأخبار.. ولكن هذا لا يمنع أنني شاهدت أكثر من مناقشة صريحة لنظام التعليم في التليفزيون بمناسبة بدء العام الدراسي»

ثم كتب عنوان سكنه ورقم غرفته قبل أن ينهي «أنتظر خطاباتك حتى يطمئن قلبي. مع أطيب تحياتي وتمنياتي القلبية لك بدوام الصحة والسعادة والتوفيق، أخوك حسين عيد»

وبعد خمس سنوات أصدر عيد كتابه «نجيب محفوظ: سيرة ذاتية وأدبية» عن الدار المصرية اللبنانية عام 1997، والذي أعطى مخطوطه لعبدالفتاح الجمل لمعرفة رأيه، لكنه لم يستطع منحه إياه في نسخة مطبوعة.

5

في النصف الثاني من عام 1993، كان الفنان الدكتور فاروق بسيوني (1951-1998) يعمل بقسم التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، وبعث من هناك برسالتين إلى عبدالفتاح الجمل – صديقه وابن محافظته دمياط – لكنه لم يتلق ردًا، وفور إرساله للثالثة، وقبل وصولها إلى مصر، جاءه رد الجمل؛ الذي كان قد عاد لتوه من دمياط إلى القاهرة فوجد الرسالتين، ثم جلس يكتب خطابه أكثر من مرة ويعيد صياغته كليًا، حتى استقر على تلك الصيغة:

«طبعًا زمانتك كفرت بالصداقة والصدِّيقين ما عدا أبا بكر طبعًا. ولكن ما حيلتي وقد آليت على نفسي ألا أكتب إليك إلا بعد تعليق صورتيك. وصحبتهما معي إلى دمياط. وهناك وجدت نفسي فاضيًا خليًا. لماذا لا أذهب إلى دكتور العيون الذي حرّك الدورة المجنونة التي انتهت بلندن منذ ست سنوات، لأعمل عنده كشف نظارة، وأرى هل يذكر؟! وذهبت ورأيته يذكر تفاصيل التفاصيل. وبعد كشف النظارة الآلي واليدوي زيادة في الإكرام. قال: هل تسمح لي برؤية قاع العين لمجرد حب الاستطلاع، ولن أكلفك شيئًا؟ ومجنون من لا يقبل. قال: بداية متاعب، وعلاجي هو 3 أقراص يوميًا، القرص بجنيه، لا أقول مدى الحياة، بل ست شهور وأشوفك.

وفي الصباح الباكر، والناس نيام، قلَّعت إلى القاهرة تاركًا بالطبع لوحتيك كما هما، ولكن ما يرضيك ويشفي غليلك أن خطابيك أمامي من أول وصولهما، فوق المكتب يخرجان لي لسانهما، ويجريان السبابة على المناخير، ولن أرفعهما إلا بعد أن أنقلهما من المكتب.

المهم أن لغة هذه المرة أعتى وأعنف، كانت البداية عند واحد أخذ يؤنبني، لأنني تركت نفسي للمبتدئين يعبثون في عيني. ثم وهو الأهم، كيف تذهب وأنت لم تشكُ شيئًا؟! وكشف قاع عين، ثم قال: مفيش، ولكي نقطع الشك باليقين لابد من التصوير. كام، 150ج، تفضل. وهات يا تصوير مع العبث والعربدة بالأضواء في قاع العين. ثم وأنا خارج قالت لي ممرضته: عايزين منك مِيت جنيه. ولم أكن في وعيي، فدفعت رفيقتي من شنطتها، وعند ظهور الصور قال: الحالة خطيرة جدًا، في أي وقت ممكن أن يزحف الخطر القابع على فوهة الشبكية ليضلّم الكلوب.

ونزلت لأجد العربة مضروبة. واحدة حلوة تتعلم. واتجه السهم إلى الأطباء الآخرين. في دوامات داخل التيار دون أن أفيق. وكم جلست لأكتب الأزعرينة، ولكنها الصخرة الصماء الخرساء.

وأخيرًا قلت لنفسي: قم يا هذا واكتب لصديقك لعل الزَمتة تفّك»

كتب الجمل هذا الخطاب بعد يوم 31 أكتوبر 1993، إذ كان يحكي في المسودة الأولى عن مقاله الأخير – حينها – بجريدة أخبار الأدب «الجهالة في شؤون من الفور»، الذي نُشر في اليوم المذكور، لكنه في النسخة النهائية حذف تلك الفقرة واكتفى بقوله: (كم جلست لأكتب الأزعرينة، ولكنها الصخرة الصماء الخرساء) تعبيرًا عن المشقة التي يتكبدها في كتابة مقال العدد التالي بتاريخ 7 نوفمبر، وهو اليوم نفسه الذي جلس فيه د.فاروق ليكتب بقلمه الأزرق خطابًا رابعًا لصديقه بعدما تلقى رده السابق، لكنه لم ينهه قبل خمسة أيام! وبدأه قائلًا:

«الحبيب الغالي.. أولًا وحشتني     

وثانيًا كالهبيان تلقيت خطابك وبشغف فتحته وقرأته واسترحت لأنني اطمأنت عليك»

وأوضح له في أسفل الورقة: (كانت أمي تقول عن الجائع المقبل على الطعام دون روية أنه هَبْيان ولست أدري أهي فصيحة أم أنها حلمنتيشي).

ثم لعن البعاد، واستكمل:

«كنت أرسلت لك من قبل ثلاثة خطابات.. وقبل خطابك توترت لعدم الرد، والغريب أنني لم أغضب، فقط شعرت بتوتر شديد، ثم فجأة ومنذ ثلاثة أسابيع فوجئت بجرنال أخبار الأدب في المكتبة التي أشتري منها جرائدي ومجلاتي، فخطفته ونظرت في الصفحة قبل الأخيرة ووجدت الأزعرينة ففرحت وعُدت لمنزلي لأجلس أقرأ وأنا سعيد جدًا بأنك معي... كان عنوانها «مغامرات خوجاية في شارعنا» وكنت قد نشرتها في صوت العرب ولم تُنشَر في نفس الوقت، لأنها ساعتها لم يقرأها أحد وبالتالي لازم تنشر كل ما تراه مناسبًا مما نشر سريًا من قبل، لأن العمل الفني يظل نصفًا ما دام لم يتعامل مع الناس، فنحن لا نكتب لأنفسنا فحسب كما يدعي بعض المدعين وإنما نكتب للناس وبدونهم يصبح الفن معطل...

طبعًا اشتريت خمس نسخ من الجرنال ووزعتها علي بعض الجيدين من الزملاء وأنا أقول لهم اقرأوا أزعرينة الجمل صديقي... بفخر طبعًا...»

ثم يمازحه بإشارة أخرى في نفس الورقة قائلًا: (خد بالك أن الجرنال هنا بثلاثة جنيهات دمياطي معتبرة.. أراك تضحك)، قبل أن يستفيض في مناقشة بقية محتويات العدد ومقالات الجمل التالية التي يسرد فيها بعض ذكريات الزملاء في جريدة الجمهورية، ويستطرد مستعرضًا سمات صديقه الجيدة من قناعة وعدم عوز وحب الهدوء:

«المهم إنك وحشتني جدًا ووحشني الحوار الرائع معك ووحشتني إنسانيتك الفياضة ووحشني ما تتميز به من «شبع» وعدم عوز وقناعة وهي سمات الإنسان الجيد بكل مقاييس الإنسانية وهي ذاتها الأسباب التي جعلت منك عبدالفتاح الجمل شخصيًا.

أنا هنا في حالة تفرغ للعمل حيث أقرأ كثيرًا وأكتب كثيرًا وأشاهد أقلامًا جيدة كثيرًا وأيضًا أتعب كثيرًا.. وبعد الانتقال إلى الفيلا الجديدة أقوم بزراعة حديقتها، وقد زرعت جرجيرًا وفجلًا – على قدي طبعًا وكنت أتمنى أن تكون معي هنا لأن الهدوء الشديد وقفل الباب في وجه المتطفلين والسخفاء والنمامين أمر مريح ويعطينا وقتًا كافيًا للعمل على نار هادئة ومية بيضاء وهو ما أتصور أنك تفعله تمامًا.

لن أنهي الخطاب الآن وإنما سأنتظر حتى بعد غد كي أقرأ الأزعرينة القادمة ثم أرسل لك الخطاب»

وضع د.فاروق قلمه وانتظر وصول العدد الجديد من «أخبار الأدب» إلى عمان، بعد يومين من صدوره في مصر، لكنه لم يجد «أزعرينة» الجمل، وبدلًا من ذلك وجد خطابًا آخر من صديقه يخبره فيه بتطورات وضعه الصحي، قائلًا:

«يا فاروق الدكتور منذ شهرين بالضبط قال لي القدر على لسان الطبيب بالحرف الواحد: عينك (الوحيدة) مهددة في أي لحظة وليس لها علاج. والمذهل أن العين تستجيب في الحال، وتقفل شيشها. شهران والشيش مغلوق.

ثم ذهبتُ إلى آخر طبيب، قيل أنه متخصص في خلفية العين. وجدته لطيفًا صغيرًا، ينّش تمامًا، في ظهره ظل حدبة، كلماته قليلة مبرمجة، وبعد ساعة من الفحص بكل ما عنده من أجهزة، وكل ما حملت إليه من صور حديثة وقديمة وتقرير من لندن. قال: الحالة ثابتة مطمئنة، بس أنا محتاج شوية تحليلات. فحملته كالطفل وبُسته. وأوصلوني إلى بيتي وعيني خربة بالطبع من قطرة التوسيع ومن الأضواء المعربدة. ونمت لأول مرة.

لم يكن في مقدوري أن أكتب إليك إلا اليوم. أصحو فيه على الدنيا ملء العين، بعد أن انفتح مني شيشها. ولعل هذا يغريني على أن أكتب قصة هذه العين يومًا»

ثم أخبره الجمل باقتضاب عن قراره بعدم الكتابة ثانية لدى الغيطاني في «أخبار الأدب»، فالتقط د.فاروق قلمًا أسود اللون وأضاف لرسالته:

«عزيزي الحبيب..

اليوم اشتريت أخبار الأدب وبلهفة فتحت صفحة الأزعرينة فلم أجدها فتضايقت جدًا وأعدت الجرنال وأخذت بدلًا منه جرنالًا آخر لأنني لم أرغب في تصفحه بعدما وجدت بابه مغلقًا.. وبابه عندي هو الأزعرينة...

طبعًا أنا زعلان جدًا.. ولا أستطيع أن أبدي رأيي دون معرفة أسباب قرارك بعدم الكتابة هناك ثانية كما أخبرتني في خطابك.. ولكن لي رأي في هذا الأمر أنت تعرفه، بل أنت أكثر الناس معرفة به، وهو ظروف الجرنال.. أي جرنال بدءًا من نوع الورق والمصححين وحتى رئيس التحرير... وأنه لابد أن يكون هناك بعض السقطات أو السلبيات، ولكن إن كان حاصل جمع الأمر كله هو تحقيق 75% من الأمر يبقى أواصل العمل لأن هذه نسبة جيدة جدًا بلغة الجامعة وهي نتيجة طيبة جدًا.. وأنا أرى أن نشر مقالاتك هنا تحقق أكثر من 75% وأنه إذا كان هناك بعض الأخطاء سواء كانت سلوكية أو مطبعية من أول رئيس التحرير وحتى أصغر جَمْيع فإن ذلك لا يعني أن أترك الأمر برمته، لأن في ذلك عدة أمور هامة هي:

* أولًا: أن في مواصلة الكتابة تجديدا للدماء وتنشيط للذات وشعور بالحياة وبخاصة لديك أنت شخصيًا كما أعرفك، حيث تتحول إلى فتى شديد الحيوية والنشاط أثناء الكتابة.

* وثانيًا: أن ترك الساحة للأنصاف والأرباع ليس أمرًا طيبًا وهذا هو ما يريدونه.

* وثالثًا: المثالية الشديدة في مجتمعنا هي «هَبَلْ» لأنها تزيح الجيدين بأيديهم من سكة الكلاب وأنت لا ترضى بذلك.

* ورابعًا: لو سألت أي امرأة طيبة ولكنها لم تلد هل ترضين بطفل أعرج لقالت على الفور أو من الفور نعم نعم نعم.

* وخامسًا: أعتقد أن مقالاتك قد أحدثت أزعرينة بالفعل في الوسط الأدبي والفني وصدى إيجابي، وهو ما يلزمك بالمواصلة.

* وسادسًا: وهو أمر شخصي، أرجوك لا تتركني هنا وحيدًا، فمقالاتك الأسبوعية تجعلني أشعر أنك معي، أتسلح بها ضد الوحدة الموحشة بين كل هذا الجمع من المتأستذين وهم «مُدّرِبِيِنْ» فحسب. يستطيع المعظم منهم التمييز بين القلم والألم، أو بين ستندال وسكندال – والأخيرة بالإنجيلزي.

وبعد.. معذرة إن كنت «غِلِسْ» في كلامي ولكني أكتبه من قلبي وبحب شديد لك ربما لا تعرف مقداره وقد زاد عندي بشدة بعد لقاءاتنا الأخيرة بمصر... فاروق 9/11/93»

واعتزم د.فاروق كتابة العنوان، لكنه تراجع و«شَطَب» على الكلمة، موضحًا:

«كنت هااكتب العنوان بس لقيت حتة كبيرة فاضية في الجواب فقلت في عقل بالي ليه لا أكتب فيها وتركت القلم على أن أعود للكتابة إليك ثانية..»

وبعد أربعة أيام عاد د.فاروق لخطابه من أجل إنهائه، قائلًا:

«عمنا الحبيب الغالي..

طبعًا تلاقيك بتقول في نفسك شوف الواد الدمياطي موش هاين عليه يكتب جواب جديد.. وإن كنت متأكد أنك ستقول إن هذا أمر عملي.. أما أنا فأقول أنني أكتب إليك كما أتحدث وأفكر ونفسي أشعر أنني أجلس معك.. وكل شوية أقوم أعمل قهوة أو أعود لمنزلي لأعود إليك ثانية وهكذا...»

وبعد سرد بعض التفاصيل عن يومه وحالته الصحية، وافتقاده للزيني – الفنان زكريا الزيني الذي توفي في يوليو 1993 –  اختتم بتلك الوصية:

«خد بالك من نفسك.. وبلغ تحياتي للأمير العطار ولإيهاب شاكر ولمحمد البساطي الذي قرأت له مؤخرًا قصة جميلة جدًا بجريدة الحياة..

سلم لي أيضًا على إبراهيم أصلان ويا ريت تسأله هل أبعث إليه بمقالات للحياة أم أبعث بها إلى المكتب الرئيسي بلندن.. طبعًا يا ريت أبعث بها إليه أفضل.

أنا أحبك كثيرًا جدًا جدًا جدًا. فاروق بسيوني 13/11/93»

ويبدو أن التدهور السريع في حالة عبدالفتاح الجمل لم يسعفه للرد على د.فاروق بسيوني، ولم يمهله القدر كذلك لاستكمال علاجه ومقابلة الطبيب بعد ستة شهور، أو كتابة قصة عينه كما أراد.

6

قبل أن يتخذ عبدالفتاح الجمل قرارًا بالتوقف عن الكتابة في «أخبار الأدب» انشغل تفكيره بمدى قبول القراء لما يكتبه من مقالات مسلسلة عن جريدة الجمهورية وذكرياته فيها، متضمنة «بورتريهات» عن زملائه يكتفي فيها بذكر الحرف الأول من أسمائهم أو استبدال ذلك بكلمتي «بلا حرف».

كان الجمل يتبين الإقبال من المكالمات التي ترد إليه بعد كل مقال، إلى أن مرَّ عليه أسبوع دون رنة واحدة لهاتفه، فقرر إعادة النظر، إذ يقول:

«كل صباح سبت، وهو موعد ظهور (أخبار الأدب) أكون قد نسقت بضاعتي، وعرضتها في المشنة بالحارة الأخيرة من المجلة، وغالبًا ما تكون في الحائط النهائي لها. وأمام المشنة أجلس منتظرًا على فيض الكريم الزبون، مع مراعاة أن بعض الكلمات في سطور المشنة يضرب كما تضرب حبة التفاح أو الكمثرى أو الجريب. وهذه الفاكهة المضروبة هي الكلمات التي وقع عليها الخطأ، فلا يعرف حتى المؤلف نفسه صاحب البضاعة أن يقرأها هو.

لقد انصرف الزبون وكسدت البضاعة. والموضوع الجاهز لابد أن أبتلعه أنا دون أن أعرضه.

هذه سلسلة عن الجريدة وناسها الذين يصدرونها، أي الكواليس، كواليس جريدة. هل تسلل الملل. هل أقطع هذه السلسلة وأبحث عن شيء آخر.

المهم أن بعض البضاعة تنهال الزبائن عليها وترّن من أجلها أجراس التليفونات. والبعض مثل موضوع (الخواء الأعظم) ولا زبون واحد يوحد الله.. يهل الكساد الأعظم. وكلما تقدم اليوم دون جرس تلعب الفيران في العب.

وفي آخر الليل أحمل مشنتي كما هي أعيد بضاعتها إلى الثلاجة. ماذا أفعل بالسلسلة التالية منها وقد كتبت وأوشكت أن أسلمها. لابد من إعادة النظر»

7

أما رسالتا د.فاروق بسيوني اللتان لم يرد عليهما الجمل، والمُشار إليهما قبل قليل، فقد كانتا في شهر أغسطس 1993، يفصلهما أسبوعان؛ الأولى يوم (1) يبدأها بسيوني بمنح صفة «آخر المحترمين» لعبدالفتاح الجمل ويخبره عن اشتياقه إليه، قبل أن يسهب في الحديث عن كتابات الجمل، ومزجها بين الأدب والموسيقى وفنون التشكيل، فتصبح مقروءة مسموعة مرئية معًا.

وبعد شكوته من شدة حرارة الجو في سلطنة عمان، يخبر بسيوني صديقه عن جديته في العمل على كتابه، وهو نفسه الذي صدر بعد عامين من الرسالة بعنوان «قراءة اللوحة في الفن الحديث.. دراسة تطبيقية في أعمال بيكاسو» عن دار الشروق 1995، إذ يقول:

«أعمل بجد في كتابي تاريخ الفن في مصر الحديثة، وكلما كتبت فَرَدَ لي ذراعيه وفتح آفاقًا جديدة.. العمل ممتع بس لو الدنيا تبرّد شويه..

أصابعي آلمتني من كثرة ما أكتب، فخرجت لشراء قلم حبر، واشتريت واحد «باركر» وزجاجة حبر زي زمان، وقد تضايقت في البداية لأنه كان مرتفع الثمن جدًا هنا، ولكني الآن أشعر وأنا أكتب أنني أكاد ألمس السطح به دون جهد، وكأنما أكتب بالحرير فذهب الإحساس بارتفاع ثمنه وأصبح كأنه ببلاش، شوف يا أخي تقدير قيمة الأشياء يرتبط بدرجة نفعها»

ولأن د. فاروق يجيد تقدير القيمة، فقد كانت رؤيته للرقص الشرقي تعكس ما كان يحتله هذا الفن من مكانة في تلك الحقبة، لدرجة أن يكون أحد محاور رسالته الذي يناقشه مع صديقه قائلًا:

«كلما وجدت شريط فيديو لراقصة شرقية أشتريه، منذ ثلاث سنوات وأنا أفعل هذا.. وكان يشاركني في ذلك الزيني رحمه الله وممدوح عمار، وقد اشتريت أمس شريطا لسهير زكي.. واكتشفت أنها «ألذ» واحدة فيهم، لأن أنوثتها واضحة برقة، وفي رقصها قدر كبير من «........» لذيذ جدًا.

إن كنت عاوز شريط قولي في خطابك.. أنا شخصيًا باحب أشاهد وأقارن بينهن، وطبعًا حتى الآن الست سهير تكسب. ثمة قيمة أخرى لها هي أنها أوضحت لي سبب ومبرر للمقدمات الموسيقية المطولة – وليست الطويلة – التي وضعها عبدالوهاب لأغاني أم كلثوم في الستينات»

بينما جاءت الرسالة الثانية بتاريخ 16 أغسطس، يدعوه فيها د.فاروق بـ «الحبيب الغالي أبو محب»، ومحورها هو صدق عبدالفتاح الجمل، الذي لم يجد بسيوني مثيلًا له عدا أبيه، إذ يقول له:

«وحشتني جدًا.. ووحشني أيضًا أنك أبدًا لا تكذب وهو أمر صعب يحتاج قدر من القناعة والشبع وعدم «العوز» لم أجده مثلما وجدته عندك أنت وأبي الله يرحمه.

معي زميل هنا ظل يحكي لي عن بطولاته وأهميته ودوره الحيوي واحترام الناس له و... و.. و.. ثم جاء زميل آخر من نفس كليته ليخبرني عفوًا بأن هذا البطل اسمه في الإسكندرية «النتن» لأنه عكس كل ما حكاه لي تمامًا...!!

وزميل آخر أخبرني العام الماضي بأنه كان فقيرًا، وكان يعمل «نفرًا» في جمع الدودة مع عمال التراحيل هو وأبيه وإخوته، وأردف بأن الفقر موش عيب.. ثم عاد هذا العام وقد نسي ما حكاه لي وأخذ يحكي لي من جديد عن أراضيهم الزراعية وبطاريات التفريخ وبامتلاكهم مزرعة خيول – تصور مزرعة خيول – وبأن أبيه – الله يرحمه – كان يوظف لديه محامي وطبيب ومهندس زراعي وأربعين رجل مدججين بالسلاح لحمايته!!

طبعًا احترت في الأول.. ثم ابتسمت وواصلت الاستماع إليه كحالة مسلية.

زميل ثالث ظل ينصحني بأهمية مراعاة الضمير والخوف من الله والسلوك المستقيم.. ثم عرفت بعد أن أنهوا عقده وطردوه من هنا أنه حرامي، وأنه قد تزوج من امرأة صديقه في أعمال منافية للآداب وأن له قضية اغتصاب لأخت زوجته السابقة وعمرها ثلاثة عشر عامًا...»

وبعد عبارات تفيد تعجبه مما يرى ويسمع، يؤكد بسيوني للجمل أن مثل هؤلاء بحاجة إلى (بنجو بيه) ليضربهم، وهو إحدى الشخصيات التي كتب عنها الجمل في مقالاته، ويصفه بأنه «أسطى أسطوات وزارة الأشغال».

عندما دقَّ القلب

في شتاء عام 1966 قضى عبدالفتاح الجمل ثمانية أيام بالساحل الشمالي الغربي، عاد بعدها إلى وادي النيل وخطَّ كتاب في أدب الرحلات بعنوان «الحائط المثقوب»، لكنه أصبح عند الطبع عام 1974 «آمون وطواحين الصمت»، ووضع الجمل في مقدمته بيتين شعريين لابن عروس، يقول الثاني منهما: مسكين من يعشق الناس.. ويريد من لا يريده.

لم يكن ذلك تقديمًا بقدر ما كان إشارة، أحسَّ بها بهاء طاهر وكتب عنها (عبدالفتاح الجمل.. عاشق الناس والوطن، مجلة الهلال، مايو 1994): «كنا نسمع ضحكاتك دائمًا وتعليقاتك اللاذعة على كل ما يحيط بك، بل من يحيط بك، ولكننا لم نكن نرى لحظات حزنك، ومع ذلك فقد كنت تترك لنا إشارات، علامات يجب أن نتدبرها ونفهمها، وإلا فما معنى هذين البيتين لابن عروس تقدّم بهما لعملك النادر (آمون وطواحين الصمت)».

ذلك البيت الشعري لم يختره عبدالفتاح الجمل من الفراغ، وإنما ذهب إليه مدفوعًا بأوجاع قلبه الذي عشق من لا يريده، ذلك العشق الذي أخبرني عنه أكثر من صديق للجمل، والذي شهدت جريدة المساء مولده وانقضاءه.

بين ليلة وضحاها لم تعد القصة مجرد كلمات أسمعها، بل ظهرت أمامي ملامحها بخط يد المحِّب عبدالفتاح، في أوراق ظل محتفظًا بها لما يزيد على ثلاثين عامًا، وتجاوز عمرها الآن الستين عامًا، ما بين مذكرات ورسائل متبادلة، وصورة للحبيبة.

اسمها ملك، ومما تكشفه الأوراق؛ هي إعلامية شهيرة من الرعيل الأول في التليفزيون المصري، بدأت علاقتها بالجمل عام 1959، منذ كانت طالبة في قسم الصحافة بكلية الآداب، إذ كانت تعِّد أبحاثًا خاصة بالكلية في جريدتي المساء والجمهورية، ثم صارت تكتب تقارير في باب «يوميات شعب».

•••

بعد شهور قليلة من تعارفهما، بعث عبدالفتاح الجمل بخطاب إلى ملك في 1 مارس 1960، تكسوه الكثير من مشاعر الغيرة، التي حاول كبرياؤه أن يداريها بتوجيه النصائح، مع طلب أخير بالابتعاد و«رزع الباب»، إذ يقول لها:

«ملك

كنت أود أن أقول لك هذه الكلمات، ولكن خشيت أن تخونني الكلمات.. أشفقت عليك وعلى نفسي.

من أجل هذا لجأت إلى الكتابة، كالمراهق، لأنني حين أكتب أعني ما أقول.

لست بالأعمى، ولكنني أحس بكل ما يدور، أرى النشاط المتزايد من بعضهم، هذا النشاط الذي لا يخلقه إلا إثارة منك.. طبعا.

يا ستي.. لسنا في مباراة ولا في معركة، تفوزين انت فيها بتدعيم الذات والانتصار، ولست من المتهافتين المتهالكين.

كلما نظرت إلى ما يدور.. أشعر بالقرف والتقزز والغثيان لا مؤاخذة.

لا أحب للعلاقات من أي نوع إلا أن تكون نظيفة مضيئة. أما سياسة الازدواج والزوايا والظلام والوشوشات، فلا أطيق الوقوف فيها طويلا.

إن سياسة إمساك كل الناس بكلمة أو بنظرة، لا تعجبني.. فأنا لا أعرف إلا فتح الباب على مصراعيه ورزعه.

ماذا قلتِ لبعضهم، وكيف كان العتاب؟ إنني أقول كل شيء وأمام بلد.. لا أحب اللبخ لأنه يصيبني بالرذاذ.

أحب أن أطهر صدري دائما.. كل إحساس يخطر لا بد أن يخرج وفي الحال.

فعلا أنت من صنف وجيل غير صنفي وجيلي.

طبعي يا ستي حامي، عواطفي محتدمة دائما.. أقصى الحب وأقصى الكره.. لا أعرف الوسط.

نصيحتي لك كأخ كبير – عرفتيه في يوم ما واختفى – وأنت مقبلة على حياة ومستقبل.. أن تحددي نفسك، وتعرفي ماذا تريدين، وأن تسيري رأسا.

نشأت مدللة.. لم تسمعي إلا كلمات الحب والإطراء والرقة. ليس هذا بعيب، ولكن العيب أن تعملي على خلقه والاحتفاظ به دائما.. وهناك في الحياة ما هو أعمق من هذا وأمتع ألف مرة.

حددي علاقاتك بالناس، علاقات قاطعة ماضية مشرقة.. لئلا تسيئي إلى سمعتك ومستقبلك.

أنت فتاة تتوفر فيها ما لا يتوفر في عشر فتيات.. فخسارة يا أختي.

اجعلي تصرفات «الأنثى» فيك في المرتبة الثانية، وأفسحي الطريق لـ «ملك» تتصرف.

ثم.. لي رجاء

أن تبتعدي عن طريقي.. أما أنا فقد نفضت يدي وانتهيت.. لن أذكرك على لساني، أما الخواطر والذكريات فأنا لها أعرف كيف أمحوها.

ابتعدي عني الله يسترك يا بنتي.. لست منك ولست مني، لسنا متفقين في شيء.. أريد أن أعيش في هدوء.

لن أتبعك ولن أتتبع أخبارك.. سأمضي في طريقي، وإن قابلتك فلن أراك.

ستحدثك «الأنثى» فيك أن تهدمي كل ما بنيت، ولكنني أكون قد مضيت.

وقبل أن أرزع الباب.. أتمنى لك السعادة في حياتك وفي مستقبلك»

لكن القصة لم تنتهِ، والباب لم يُرزَع، وبعد أكثر من تسعة شهور، جلس عبدالفتاح الجمل بنفس القدر من التوتر والوجع يدوِّن تفاصيل الحال الذي آلت إليه علاقتهما، إذ كتب يوم 16 نوفمبر 1960 «اليوم كنا في مفترق الطرق.. كنا نحمل أحاسيس سنة كاملة.. علاقة حائرة ملتاعة لا تدري أين تتجه».

وتبع تلك الجملة حوار طويل يتبادلان فيه الأسئلة والإجابات. يطالب عبدالفتاح بالغد وتكتفي ملك باليوم. يدركان أن قصتهما لن تستمر لكن وضع كلمة النهاية فعل لا يملكان الجرأة للإقدام عليه.

وخلال خمسة شهور أخرى زادت الأمور تعقيدًا وقسوة، فترسل ملك خطابًا طويلًا شديد اللهجة يعصف بكل المشاعر والعلاقات الطيبة، ويرّد عليها عبدالفتاح الجمل برسالة قصيرة يقول فيها:

«لأول مرة في حياتي، أطعن في أعز ما أملك.. وأنا طبعا المسئول الأول والأخير.. رغم كل شيء.

كنت بالفعل أحس بكل هذا وأعانيه بشكل غامض مدمر، وينعكس على تصرفاتي.. ولكن لم تكن لديّ الشجاعة على مواجهته وحسم الموقف.

أشكر لك شجاعتك وهذا الدرس القيم.

إنني لا أستجدي العواطف.. ولكنني سأعرف كيف أمضي من جديد في الطريق وحدي.. حتى لا أصبح أكبر من ألعوبة.

أتمنى لك من قلبي التوفيق والسعادة في حياتك»

•••

أنهت ملك اختباراتها في الكلية وغادرت الجريدة لتلتحق بالعمل في التليفزيون، وظل عبدالفتاح الجمل يصارع مشاعره المتأججة والمتخبطة في آن، بعدما فقد إيمانه بالحب، الذي بذل فيه كل شيء ولم يحصد سوى الوجع، الذي أفرغه على أوراق من «الدشت» يقول فيها:

«حقل تجارب.. أصبحت حقلا للتجارب، لا للأمصال والعقاقير الجديدة والاكتشافات.. بل للحب.. تأتي البنت تجرب نفسها عندي، وترى مدى قوة عاطفتها واتجاهاتها وإمكانياتها، وتضبط عداداتها كلها ثم تمضي.. العواطف اليوم كالبن تصنع.. تعمل لها بروفات عندي كالترزي.. ترزي عواطف.. لماذا لا أحترف؟ فكرة.. «مركز لحقل تجارب عاطفية».

أعطيتها كل شيء.. لم أترك شيئا وأخذت هي كل شيء.. أقبلت على كل شيء في نهم.. أخذته كما تأخذ البلوزة الجديدة.. فرحة الحياة ونشوتها.. ثم تضاف إلى المجموعة.. تعلقها إلى جانب أخوات لها وأخوات.

.. وتركت لي .. البلاط تكشطه الريح.. والسقف والحيطان.. وأنا!

قصة تتكرر دائما.. هذه هي الرابعة ولا جديد.. بنظرتها وشحوبها، بنبرتها وروحها وأسلوبها.. لا جديد.. لا إضافات.. الوقوف والموت.

إذا كان موت في نهاية كل شوط، فلماذا نبدأ ونعيد؟!

حول كامل.. الفصول الأربعة كلها.. وكلما سألتها قالت: ادحنا بندرس بعض.

ــ طيب بس انتي وصلتي لصفحة كام؟ يا سيدتي.. كتابي مفتوح يقرأه الأمي والكفيف، ويزعق على قاعة كل طريق.. فإذا لم تكوني قد استوعبته خلال عام، فرديه.. لن تفهميه.. الله لا يجعلك تفهميه.

لن ينفعك عام ولا قرن.. ولا حتى قرنان! تريدين أن آخذ بيدك.. إذن فكتابك ككتب إحسان.. هل قرأت كتب إحسان؟! تترددين وتفكرين؟ ليس عندي طلبك.. فحل عني أيها الطاووس البراق.. لست أنا والله العظيم.. أنا بريء.

كلما حسمت أمري.. دارت الرسل وسعت الوفود لنبدأ من قديم، وننتهي من قديم!

الغرائز.. التي دفنتها من زمان.. بدأت تستيقظ.. أيقظتها الأنثى فيها.

والحب عند الناس يبني ويشيد.. والحب عندي يمزق ويحطم.

الغيرة والتفاهة.. نعم غريزة التفاهة والسطحية رأيتها تطفو على السطح..

.. والإناء البلوري الذي كنت أحتسي فيه خمر الحب.. وكم لثمته وأنا أكرع الشراب.. الإناء اليوم انشرخ.. الخلافات الصغيرة كانت تقوى وتربط.. إنني أرصد اليوم عواطفي.. الحب وهو يتزحزح.. لا أعرف الوسط.

لم أكن أحبها.. وإنما كنت أعبدها.. كانت إلهي وشيطاني.

هل لو عادت لي اليوم أحصي أنفاسها كما كنت أحصي.. هل أوشوشها بترانيم العبادة وجأرات النهم كما كنت أوشوش.. هل يصطبغ وجهها بخمر الحب كما كان يصطبغ؟!

لا.. لا تعودي إلى أسلوبك في الخصام يا حبيبتي.. إنك تلعبين بالنار.

وقفت بالأمس تثيرين غيرتي.. كانت الأنثى تتحرك فيك.. تنظرين إلى هناك من يميني ويساري.. رأيت حيرتك والهستيرية التي كانت تضج في صدرك.. رأيت الأنثى فيك.. فأيقنت ساعتها أنك تحبين.. تحبينني.

لا تعودي إلى مثل أسلوب في الخصام.. إنك تلعبين بالنار.. لا بل عودي!!»

لم تكن ملك الأولى، لكنها التجربة التي جعلت عبدالفتاح الجمل يقرر المضي وحيدًا، إلى أن صار – كما أجمع إخوته – من الصعب عليه تقبُّل وجود شخص معه تحت سقف واحد، ولم يعد مستعدًا لأي قيد أو مسئولية.

أسرار «محب» المخطوطة

  • ظَفَر الفصل الأول بالقدر الأكبر من التعديلات.. سواء قبل النشر أو بعده
  • نشر الجمل بعضًا من عناوين الفصلين الثاني والثالث كقصص قصيرة في الصحف والمجلات

سافرتُ قبل عام إلى دمياط لزيارة الأرض التي شهدت سنوات عبدالفتاح الجمل الأولى ومثواه الأخير، وهناك قابلتُ عائلته واستمعتُ منهم لبعض ذكرياتهم معه، وحينما وصل الحديث إلى الأوراق والمخطوطات التي وجدوها في شقته عقب رحيله لم أجد ردًا مرضيًا، ولم يبد أن أحدًا يعرف مصيرها، خاصة بعد ربع قرن من الوفاة.

في الأوراق التي تمكنتُ من الوصول إليها ـ وتُنشر للمرة الأولى ـ لمستُ حِرص الجمل على الاحتفاظ بكل أقصوصة، ووجدتُ صفحات مخطوطة لبعض أعماله، ونسخة منقَّحة من روايته الأهم والأكثر شهرة «محب» في طبعتها الأولى الصادرة عن دار الهلال عام 1994، أجرى عليها تعديلات بالقلم الرصاص وأضاف إليها سطورًا، وأصلح أخطائها اللغوية التي نتجت عن الجمع، لربما يأتي يوم ويُعاد طبعها بتلك الصورة النهائية، وهو ما لم يحدث عند إصدار طبعة ثانية منها عام 2009 عن دار الشروق.

انشغلتُ بتصفح الرواية ومطالعة تعديلاتها، لكني توقفتُ بعد وقتِ قصير وهمستُ لنفسي متسائلة «أين مخطوطها؟ أيعقل أن يحتفظ الجمل بكل هذه الأوراق دون مخطوط محب؟َ!».

دفعني التساؤل إلى البحث عن النصف الآخر من الأوراق، ليس فقط المخطوطات، وإنما بقية مذكراته ورسائله التي تكمل الناقص مما لديَّ. وبعد عدة مغامرات صحفية وشهور من تتبع الآثار أصبحت «محب» معي، بخط يد عبدالفتاح الجمل، وقلمه الأسود، وأوراق الدشت التي اعتاد الكتابة عليها بحكم عمله في الصحافة.

•••

كيف يكتب الجمل؟

لم تكن إجابة هذا السؤال هي هدفي من مطالعة المخطوط، فما سبقه من أوراق أتاح لي معرفة ذلك، إذ يكتب الجمل من الورقة الواحدة أكثر من نسخة ـ قد تصل لأربع أو خمس ـ ليعدِّل فيها بعض سطور أو كلمات، ويستمر في المراجعة حتى يدفع بالعمل للنشر، وما بعده.

ما أردت معرفته هو حجم التغيير الذي طرأ على أيقونة الجمل «محب»، وهل شكلها النهائي هو ما خطّه منذ البداية أو يقترب منه مثل رواية «الخوف»، أم أنها خضعت لاستبدال تام في تكوينها كما حدث مع رواية «آمون وطواحين الصمت».

•••

ظهر الاختلاف مبكرًا، منذ الصفحة الأولى التي تتضمن إهداء منه لأخيه الحاج عبده، إذ جُمِعت علامات الترقيم بشكل خاطئ، واستُبدلت جميع النقاط بـ«فاصلات»، فاختفت معها الوقَفات وارتبك المعنى بعض الشيء.

وفي الجملة الأخيرة من الإهداء استبدل الجمل كلمة «جحافلها» لتصبح «قطعانها»، إذ تشير الأولى إلى كثرة العدد بينما تزيد الثانية على الكثرة صفة الانسياق دون عقل. كما أضاف بين كلمتي «الزلط» و«الإيقاع» فاصلتين تتوسطهما «من محب»، وقد كان الإهداء في صورته الأولى كالتالي:

«إلى أخي الحاج علي.. أهدي هذا العمل. منذ أن أسعفتني ذاكرته في القريب من الأحداث. أما البعيد الموغل، فهو لي. منذ أن جنحت مني الملعونة، وحرَنت في الخط هناك. وقد زحفت بأظلاف جحافلها المدينة، والتهمت في معدتها الزلط، الإيقاع والملامح والنفَس والنكهة»

بينما جاء المنشور، بأخطائه وتعديلاته، كالتالي:

«إلى أخي الحاج علي.. أهدي هذا العمل، منذ أن اسعفتني ذاكرته في القريب من الاحداث، اما البعيد الموغل فهو لي، منذ أن جَنحتْ مني الملعونة وحرَنت، ونامت في الخط هناك، وقد زحفت بأظلاف قطعانها المدينة، والتهمت في معدتها الزلطِ، من محب، الإِيقاعَ والملامح والنفَس والنكهة»

•••

تنقسم رواية «محب» إلى ثلاثة فصول أو ثلاث «محبيات» كما أسماها الجمل، يسرد من خلالها سيرة قريته وسكانها من بشر وحيوانات ونباتات وجماد، وتزفر «محبيات 1» بالنصيب الأوفر من الحذف والإضافة، سواء قبل الطبع أو بعده.

السمة الأبرز في الفصل والمتجلية بمجرد التصفح، هي استغناء عبدالفتاح الجمل عن 85 ٪ من عناوينه الفرعية، والاكتفاء عند الطبع بستة فقط من أصل أربعين عنوان، هي «في سيرة محب»، «ياسين الفران»، «زَرّْ»، «وتريات الغاب»، «مابَّسش» و«مسك الختام». لكنه أضاف إليهم عنوان سابع بخط يده في النسخة المطبوعة، يحمل كلمة «تأجيج»، كان في المخطوط «ردّاحة محب» وتم حذفه.

ولم ينتبه الجمل إلى أنه لم يحذف عنوان «الابتداع والاتّباع» بل سقط سهوًا أثناء الجمع، مثلما سقطت كل علامات التشكيل تقريبًا. أما بقية العناوين التي حذفها، فهي: طه أبو إسماعيل، الحصن، سر الخلود، جاموسة الجلّادي، ذكر البط، نكاية (1)، نكاية (2)، الجنانوة، متحف القرية، المزين الصموت، أم قرشين، شايلة قفة، قنطرة الانتخابات، سابقة، كلما زنّ الكيف، أبو النوم وأبو رياح، البياض المقلي، الحمارة والشال، بلحة، إطفاء المطفأ، الحدث الأكبر، زرزور، ما علينا، عسل وطحينة، علي الكسار، سر التوتة، المزراب المعطوب، نورة، أصل ربنا ما أرادش، النبتة الجارحة، الرجل الذي نجاه زناد عقله، والشَّمَلْتِيَّة.

•••

في الثُلث الأول يرسم عبدالفتاح الجمل بورتريهات لأفراد قريته، ممن اصطفاهم ليصبحوا شخصيات الرواية، وبين كل بورتريه وآخر ترك مسافة فاصلة.

من شخصياته «عمّ رخا الخفير» الذي وصفه قائلًا: «يخاف هو الخفير المسلح، ويصطك جسمه كله، وشعر رأسه يقف، حتى سمَّوه عم رخا القُنفد»، وقد جاءت الجملة الأخيرة بديلًا لجملة «كأنه رجل القنفذ»، ليدلل على أن صفة «القنفذ» تعدت التشبيه إلى التسمية والاشتهار بذلك بين أبناء القرية.

وفي واحدة من الجُمل الحوارية يقول أحدهم لفتاة «ايوه ياختي ايوه. هو الملعوب ده يخيل عليّ. كان غيرك أشطر» ثم استبدل الكلمات الثلاث الأخيرة بجملة «اشَّخلعي لي ياخْتي اشّخلعي» لكنها كُتبت دون أي علامات تشكيل.

•••

يميل عبدالفتاح الجمل في أحيان كثيرة إلى التخفف من الكلمات الزائدة التي لا تضيف إلى المعنى، مثل أن يصف كرسي بأنه «غالي مذهب» ثم يحذف كلمة «غالي» لأن «مذهب» تفيد المعنيين.

وفي جملة أخرى تحدَّث عن القمر فكتب أنه «مقياسنا للشهور العربية لأنه صانعها، وأهم شهورنا بالطبع رمضان» لكنه حذف كلمة العربية، باعتبار أن «نا» تعود عليه وعلى قرائه من العرب، كما أن ذِكر شهر رمضان قد أوضح المقصود بالشهور دون زيادة.

•••

وأحيانًا يكون الاستبدال أو الحذف لاكتشافه أن الكلمات لا تؤدي المعنى المطلوب، كتلك الجملة «وفجأة أحسا بالحائط بثقله وعرضه يهوى عليهما» إذ استبدل فيها كلمة «عرضه» بـ «سُمكه» لأنها المناسبة والأكثر ارتباطًا بالثقل، وقبلها بسطور قليلة استبدل نفس الكلمة من جملة تصف الجدار بأنه يناهز المتر سُمكًا بدلًا من عرضًا.

وفي أحد تشبيهاته لطبقات الناس ومعادنهم، تحدَّث عن المعدن الكرومي الأبيض الطويل الفارع، قائلًا: «يعتلي جسور الترع العذبة الحادة المقددة، تمسك أقدامه الجسر المنحدر» ثم حذف كلمة «المقددة» لأنه وضعها كوصف للجسور، لكن موضعها بالجملة بعد العذبة الحادة جعلها صفة للترع، فقرر الاستغناء عنها.

•••

وبعض التغييرات تكون بمثابة إشارة إلى سمات في شخصية عبدالفتاح الجمل، كاستبداله لكلمتي «سنة الكون» في تساؤل أحد سكان القرية «أم تريد أن تغير من سنة الكون؟» لتصبح «سنة الله في كونه»، وهو استبدال يشير إلى النزعة الإيمانية الموجودة لديه وتظهر أحيانًا في كتاباته منذ كان شابًا، ولم يفقدها حتى أيامه الأخيرة.

وهناك اختلافات تحدث بالخطأ عند الجمع لكن نتيجتها تكون تغييرًا في المعنى، ومنها هذه الفقرة التي يقول فيها «اللعبة الانتخابية لا شأن للبلد بها إلا زعزعة أحلامها» والأصل هو «زغزغة أحلامها» بمعنى الدغدغة، وتلك لم ينتبه لها الجمل، لكنه انتبه لأخطاء أخرى مثل «شفَّت» التي أصبحت «شغت عن التهديد»، و«غطيان حللهن المجنزرة» التي كُتبت بالخطأ «غيطان».

•••

وعلى عكس المتن الذي طغا الحذف على تغييراته، فإن السطوة في الهوامش كانت للإضافة، فيما عدا هامشًا وحدًا كان يوضِّح فيه معنى كلمة «الماصَّة» بأنهم مصاصو القصب، ثم قام بشطبه، وهامش آخر لكلمة «نغرِّهولك» بمعنى «نثبته بالغراء» سقط من الجمع، أما البقية فتباينت بين هوامش في النسخة المطبوعة لم تكن موجودة في المخطوط، أو هوامش مكتوبة بالقلم الرصاص في الكتاب المطبوع.

نجد مثلًا؛ رقم أعلى كلمة «اللمبة الصاروخ» في المخطوط، لكن أسفل الصفحة لا يوجد هامش، وإنما تضمنه الكتاب المطبوع، بترقيم خاطئ ـ وهي سمة منتشرة على طول الهوامش ـ إذ جاء الهامش برقم (1) بينما ما يسبقه رقمه (5)، ويفسِّر الصاروخ بأنه «زجاجة صغيرة بها وقود، وبفوهتها لبوس من صفيح، يتخلله فتيل، يوقد ليخرج صاروخ الشعلة».

وفي موضع آخر لم يكتب الجمل لكلمة «يُشَنكله» توضيحًا في المخطوط، لكنه عرَّفها في الكتاب المطبوع بأنها «يعرقله بقدمه ليقع»، بينما يضع تعريفًا مختلف لها في سياق آخر «يشنكل بابها» أي «يقفل بابها بالشنكل الكبير، وتسميه محب الغراب»، ومثلها كلمة «فَلْفِلي الرز» التي وضَّح معناها في الكتاب بأنها «أنضجيه حتى لا يتعجن أو تتلزق حباته وتلتصق، بل يبدو متفردا كحبات الفلفل».

وكذلك كلمات «الشرشوحة» بمعنى «ذات اللسان الفالت المقذع»، «وقِدَّة» التي يحاذي بها الطوب عند البناء، «بكيب» وهو منسوج البردي والكيب أحنى من السدة التي من الغاب الريحي، «شوَّري» أى جهزيه بمتاع بيته، «التحاريق» ومعناها شتاء حين تنحسر مياه النيل، «برد العجوزة» وهي الأيام الثمانية الأولى من شهر أمشير القبطي والعجائز أكثر تأثرًا بها، و«البتاو» وتعريفه هو «رغيف مرحرح واسع جدًا وهش، تضاف الذرة إلى قمحه لتقطع عرقه، فلا يعلو ولا يشغل حيزا، بعض المحافظات تستبدل بالقمح وعرقه البامية الجافة مع الذرة وبعضها تضيف الحلبة».

أما الهوامش التي أضيفت بالقلم الرصاص ولم تُطبع إلى اليوم، فمنها «القُزْعة» ومعناها «قليل الشعر في وسط الرأس وفي العامية القصير الضئيل»، و«الفسكرية» التي كتب في توضيحها «هكذا تنسب محب إلى فارسكور المركز، بالاستغناء عن خدمات الراء الأولى والواو الأولى وهو إجراء سليم».

•••

في الفصلين الثاني والثالث اختلف نهج الكتابة، إذ ظهرت العناوين بوفرة؛ رئيسية وفرعية، وهي نفسها الموجودة في المخطوط بدون تغيير، لكن ما تبين أن كل عنوان رئيسي كتبه عبدالفتاح الجمل اعتبره قصة منفصلة، حتى أنه وضع توقيعه في نهاية كل منها، وهو ما يفسِّر وصف بدر الديب لـ«محب» في الصفحة الأخيرة، إذ كتب: «تنتمي السيرة التي كتبها المؤلف لقريته إلى فن القصة القصيرة أو الرواية».

لم يكتفِ الجمل بكتابتها كقصص، وإنما بدأ منذ أوائل التسعينيات في نشرها هكذا أيضًا، كل منها قائمة بذاتها، مثل «من كَفَنِه خَرَج» التي نُشرت في مجلة نصف الدنيا و«حكمة.. يطارد عزرائيل» بجريدة الجمهورية، وربما لذلك لم يطرأ عليهما تغيير ملحوظ في المخطوط، وإن كانت القصة الثانية قد أضيف إليها بعد الطبع ثلاث كلمات بالقلم الرصاص، في إحدى الجُمل الحوارية على لسان البطل يقول فيها «مفيش عدل ولا أصول؟» فشطَب عبدالفتاح الجمل على كلمة أصول، وجعل الجملة «مفيش عدل ولا إنصاف؟ مافيش أصول؟».

•••

من أبرز المحذوفات في الفصلين؛ وصفه لشخصية في قصة «زفاف الملائكة» قائلًا: «الله وحده أعلم بما تحمله بذرته، كما تحمل النواة أدق ملامح النخلة» إذ حذف الجملة الأخيرة وتوقف عند كلمة «بذرته».

والاختلاف الأكبر بين المخطوط والكتاب المطبوع ظهر في قصة «الحدق يفهم» رغم قِصرها، إذ عجَّت باستبدال كلمات وجُمل حتى نهايتها، أولها تغيير كلمة «الإنسان» مرتين؛ ووضع كلمة «الآدمي» بدلًا من الأولى و«ابن آدم» بدلًا من الثانية، وسبب ذلك أن كلمة إنسان تحمل معنى لا ينطبق على ما يُذكر بجانبها من صفات التعذيب والسجن والصراخ، فكل بشري هو ابن آدم، لكن الإنسانية صفة لا تتوفر لدى الجميع.

وفي الفقرة التالية استبدل الجمل كلمات «الدين والأخلاق والتقاليد والحرية والعدالة» بكلمة واحدة هي «مقدسات»، فكتب أن السجن أبشع ما أقامه ابن آدم على الأرض من بنيان «يزج فيه باسم مقدساته كل من يخالفه» وتبع ذلك بجملة طويلة لم تكن موجودة في المخطوط «حتى عمدة محب الأكتع يحول إليه كل من لم يدخل له من زور».

ومن وصف الحضارة الدموية حذف جملة شارحة عنها وهي «المدموغة بالسجن والمعتقَل والمتحفَّظ عليه والمحدد إقامته».

•••

أما هوامش الفصلين فكانت عزيزة في المخطوط، وأضيف إليها المزيد في النسخة المطبوعة، بدءًا من الصفحة الأولى التي وضع الجمل فيها تعريفًا لكلمة «البِربرة» بأنها الأنثى من الدجاج في أول عهدها بالبيض، ليفسِّر كلمتي «ديك البرابر» في مستهل قصته.

وبقلمه الرصاص، أضاف هامشين إلى الفصل الثاني بالكتاب المطبوع، هما «سواري جلبابه» إذ عرَّف السوار بأنه «حلية المعصم وجمعها أسورة وأساور، وتطلق محب الجمع على بداية كم الجلباب أو القميص، الجمع الأول مفردا والآخر جمعا له»، و«الندوة» وهي آفة تصيب الزرع في الندى والرطوبة.


Comments