بعد صدور «لَيلة يَلدا».. غادة العبسي: الرواية تحتاج إلى قارئ صبور وأنا أراهن على ذكاء قارئي

 

تصوير: منى عبد الكريم

  • لم أعرف الهدف منها حتى فقدتُ ابنتي.. وكأنني كنت أكتب رسالة رثاء لنفسي

  • أتمنى الحصول على مترجِم حسَّاس يعشق أعمالي مثلما أحبَّت بيلار «ساراماجو»

  • تعلمتُ اللغة الفارسية لأتعرّف على جرس الحروف التي تُفقَد مع الترجمة في أغلب الحالات

  • لا أحب القيود في الفن إطلاقًا.. لا الغناء ولا الكتابة

  • القصة تمنح الكاتب «فرامل» والمحترف من يصنع توازنًا بين البوح والخيال

  • سيْر التابعين والأولياء كنزٌ عظيم لأي كاتب ومنبع هائل لأي شخص مهتم بالتراث

  • أميل لكلاسيكية طه حسين.. والشعر هو ما يلهمني الكتابة السردية

  • سرد اليوميات ليست «شطارة» ولا يمكن وصفها بالإبداع

  • الكتابة أداة لمعرفة نفسي والعالم.. ونجَّتني من قسوة لحظات الصمت

  • مهنتي واجب إنساني واجتماعي لا يمكن أن أتخلَّى عنه

DSC_9998

قبل 13 قرنًا مضت؛ عاش في شيراز شاعرٌ اسمه شمس الدين محمد - أو حافظ كما عُرِف فيما بعد، يتغَّنى بالحب والجمال. وقع في عشق كلماته كل من قرأ له، بدءًا من أهل الوادي الذين عاصروه ونشأ بينهم، مرورًا بأدباء كبار مثل بوشكين وجوته وإيمرسون ونيتشه، ووصولًا إلى الكاتبة الشابة، الطبيبة والمغنية، غادة العبسي، التي أسرها ديوانه.

بدأت رحلة غادة مع الشيرازي منذ ست سنوات. ذابت خلالها بين أبيات غزلياته، وأيقنت أنها لن تنجو إلا بالكتابة عنه، فبدأت في خط روايتها «لَيلة يَلدا»، الصادرة مطلع هذا العام عن دار «التنوير». لم تكن تعلم الهدف منها أو ما يدفعها نحو ذلك، سوى إحساسها بحافظ وعالمه العامر بالسكينة، لكنها بعد شهر من كتابة آخر سطور الرواية أدركت أنها لم تكن مجرد عمل أدبي تحمَّست له، وإنما رسالة كتبتها لروحها مسبقًا، ساعدتها على التسليم بما أصابها وألهمتها الصبر، لتتقبل فقدان «جميلة»؛ ابنتها التي لم يُكتَب لها القدوم إلى الحياة، فبعَثت لها بإهداء في صدر الرواية، تقول في نهايته: مازلتُ أبحث عنكِ في كل مكان، في الكُتب التي أقرأها والتي أكتبها.. بمجرد مفارقتي للدنيا سيكون بمقدوري أخيرًا أن أزيح الستار لأجدك في انتظاري خلفه تختبئين، أحتضنك ونضحك معًا.. سيكون بمقدورنا أن نفعل ذلك لأول مرة.

DSC_0070

اعتادت غادة منذ مولدها على رؤية الجمال والإحساس بالفن، حيث وُلِدت في مصر الجديدة بمعمارها الفريد، عشقتها وعشقت شوارعها. التحقت بإحدى مدارسها التجريبية الحكومية، وأحبتها بشدة، لدرجة أن غيابها يومًا كان يمثِّل حدثًا جللًا.

الغناء هو أول قرار اتخذته في حياتها، حينما سألت مدرِّسة الموسيقى ذات يوم عمن يريد أن يغني، فرفعت يدها، بشكل فردي واختياري، وهي لا تزال في «كي جي وان». استمَّرت في تنمية موهبتها، التي ورثتها عن جدتيها، وعرفت الطريق إلى ماسبيرو مبكرًا، من خلال برامج الأطفال، ثم شاركت في عدد من ألبومات «الكاسيت»، وخلال ذلك صوَّرت إحدى الأغنيات «فيديو كليب» من إنتاج ART وإخراج هاني لاشين، الذي عرض عليها التمثيل فردَّت بإجابة قاطعة: «أريد الغناء لا التمثيل».

استمرت غادة في الغناء بالفعل، وصارت «صوليست» لإحدى فرق الأوبرا، حتى أنهت المرحلة الثانوية، وأصبح لزامًا عليها أن تتخذ قرارًا حاسمًا لتحافظ على تفوقها الدراسي وطموحها العلمي، لأن كلية الطب لا يصلح معها أي شيء آخر، أو حسبما وصفتها «قاتلة لأي موهبة»، كما أن الغناء أيضًا يحتاج تفرُّغًا وتدريبات ونمط حياة معينًا، فاختارت تركه وهي على وشك توقيع عقد أول ألبوم، لأنها رفضت بنوده القائمة على الاحتكار، بينما مبدؤها أن الفن لا يمكن احتكاره، تقول: «على قدر ما كنت صغيرة، كان لديَّ هذا الوعي، وشعرتُ أنني لا أصلح للعمل في هذا المجال بشروطه حينها، فمن المؤلم أن يُملى على المبدع أو المطرب أن يغني ما يشاءون لا ما يريده. أنا لا أحب القيود في الفن إطلاقًا، لا الغناء ولا الكتابة».

DSC_0013

لا أحد من أفراد المنزل الذي نشأتْ فيه يشتغل بالأدب، فوالدها ضابط سابق، أصيب عام 1973 وبعد فترة قرر تغيير مجاله تمامًا فعمل في وزارة البترول حتى أحيل للمعاش، ووالدتها طبيبة بيطرية. لكنهما حرصا على تكوين مكتبة في البيت، أساسها مشروع مكتبة الأسرة، حيث كان في أوجه حينها، فاقتنوا أفضل وأقيم الكتب ببضع جنيهات. وكان ديوان الإمام علي، هو أول كتاب تختار قراءته بإرادتها الكاملة وهي في عمر العاشرة.

أما التأثير الأكبر في شخصيتها، والذي يتجلى في كل تفاصيلها؛ إبداعها وثقافتها وتفكيرها ومفرداتها وحتى ملابسها وإكسسوارتها، كان لجدتها لأمها، والتي أهدت لها غادة قصتها «شدِّي حالك»، المنشورة في مجموعتها الأخيرة «بيت اللوز» وسبق نشرها من قبل في أخبار الأدب، تلك الجِّدة التي تربَّت معها، وتعلَّمت منها الكثير، خاصة الأنوثة، تقول: «علَّمتني كيف أكون أنثى حقيقية لا شبه أنثى، وتعلمتُ منها الطبخ، والحكمة، رغم أنها كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب».

محطات كثيرة مرَّت بها غادة العبسي لم يدفعها شيء إلى الولوج بداخلها سوى الشغف، بداية من حبها للغناء ورفضها التخلي عنه من أجل التمثيل، ثم اضطرارها لفعل ذلك من أجل استكمال دراستها في كلية الطب، وأخيرًا الكتابة التي أصبحت بمثابة مظلة تمارس من خلالها الحياة وما تهوى، خاصة بعد حصولها على شهادات بالتميز عززت ثقتها بنفسها وبما تكتب، حيث فازت بعددٍ غير قليل - بالنسبة لمشوارها القصير نسبيًا - من الجوائز، والتي تولَّى تحكيمها أسماء لا غبار عليها من المبدعين والنقاد.

أصدرت غادة حتى الآن ثلاث روايات هي «الفيشاوي»، «الإسكافي الأخضر.. فانتازيا الهمس والعقارب» و«لَيلة يَلدا»، ومثلهم من المجموعات القصصية بعنوان «حشيشة الملاك»، «أولاد الحور» و«بيت اللوز». وفي عام 2017 تم اختيارها للحصول على منحة فن الكتابة من جامعة آيوا بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم اختيرت بعد شهور من عودتها لعضوية لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة في دورتها الحالية، وبذلك تكون الكتابة قد أعادتها إلى الأوبرا، لتمُّر من جديد بالمسرحين الكبير والصغير وتسترجع ذكرياتها التي عاشتها في هذا المكان كشريط سينمائي.

بين تلك المحطات وما تخللها من وقفات، دار حوارنا التالي، منطلقًا من النقطة الأخيرة لها حتى الآن.

DSC_0144

كيف بدأتْ قصتك مع حافظ الشيرازي؟

أسرني منذ المرة الأولى التي قرأت فيها ديوانه المترجَم من الفارسية إلى العربية لأمين الشواربي، لدرجة أنني انتهيتُ منه كاملًا خلال أسبوع. شعر حافظ جعلني أتوق لمعرفة المزيد عن حياة هذا الشاعر، وبمجرد أن عرفت البعض اكتشفت أنني سقطتُ في بئر عميقة لن أخرج منها، لأن المعروف عن حياته قليلًا جدًا ومختلطًا بالأساطير. لم يكن هدفي أن أكتب سردًا حقيقيًا لحياته، لأنه سيكون مخالفًا للواقع، لقلة المعلومات حوله، فاتخذتُ الأمر الوسط بالنسبة لي، بأن أختلق رؤيتي الخاصة له من خلال شعره وفهمي لفلسفته، التي لا أدّعِي أنني فهمتها على الوجه الأمثل، لأنه عاش في حقبة زمانية وظروف حياتية مختلفة تمامًا.

هذا يعني أنها رواية متخيَّلة تمامًا وإن كانت تدور حول شخصية حقيقية. أليس كذلك؟

نعم. هذا ما أصر وأؤكد عليه دائمًا عند الحديث عنها، إنها ليست السيرة الحقيقية لحياته، وإنما رجوع إلى التاريخ بشكل أكبر، أقدِّم من خلاله مسحًا لبلاد فارس وما حولها، تلك الثقافة الغامضة على القارئ المصري والعربي، الذي لا يعرف عنها شيئًا سوى الصراعات السياسية، إلا أنها فكريًا وثقافيًا تتداخل كثيرًا مع الثقافة العربية، كما أن المُنجَز الفارسي الذي قُدِّم للحضارة الإسلامية لا يُعَّد ولا يُحصى.

 

DSC_0376

ومتى اتخذتِ قرارك بإمساك القلم لكتابتها؟

في أوائل عام 2016، بعدما انتهيتُ من رواية «الإسكافي الأخضر» التي كانت بمثابة استراحة مُحارِب بين روايتي «الفيشاوي» و«لَيلة يَلدا»، وقد منحتني دفعة قوية للبدء في المشروع المؤجَّل، بالكتابة عن حافظ الشيرازي. لم يكن مدخلي إلى الرواية حاضرًا، وحينما وجدته كتبت، تمثَّل المدخل في قصيدة الهايكو التي ترجمها عباس كيارستمي بعنوان «صُحبة الحُكَّام هي ظلمة لَيلة يَلدا»، حينها قررتُ الكتابة واخترتُ العنوان.

لمَ كانت تلك القصيدة تحديدًا هي السبب؟

لأن حافظ من قالها، وهو الأقدر على ذلك، حيث صاحَب الحُكَّام وحظى بعطاياهم. لم يكن متصوِّفًا أو درويشًا، لكنه نأى عن هذا العالم واتجه للشعر الصوفي، وكأن هناك قوة تستحوذ عليه منذ صغره. وهو الذي سمَّى نفسه حافظ، بعدما أتَّم حفظ القرآن الكريم، رغم صعوبة ذلك البالغة على طفل فارسي.

كم استغرقتِ في بحثك قبل البدء في كتابة الرواية؟

ست سنوات؛ كانت عبارة عن قراءة ومحاولة لفهم الديوان ثم ترجمة هذا نفسيًا وداخليًا وشعوريًا، لأدرك ما يفعله شعره فيّ. أثناء القراءة تشككت في ترجمة بعض المقاطع، فصِرت أبحث عن ترجمات أخرى، واضطررتُ إلى الترجمة من الإنجليزية لأفهم بعض الأجزاء التي لطالما شعرت أنها غير صحيحة، كما بدأت تعلُّم اللغة الفارسية بعض الشيء لأتعرف على جرس الحروف، فالترجمة في أغلب الحالات تفقد العمل موسيقاه. كان ذلك تحديًا بالنسبة لي، حتى أنقذني الشاعر عباس كيارستمي بكتابه «غزليات حافظ الشيرازي» الذي حوَّل فيه بعض الأبيات لقصائد هايكو، وتلك التي استعنت بها في مداخل الفصول، كانت بمثابة رسائل قصيرة ونافذة للقارئ تمنحه فكرة عن سير الأحداث. وأفادتني كذلك ترجمات محمد علي شمس الدين، لأنه ترجم أشعار حافظ إلى العربية المقفاة والموزونة، فاستخدمت بعضها لأطعِّم به فصول الرواية.

DSC_0415

لكنك في تحضيرك للرواية لم تبحثي حول حافظ فقط، وإنما بالضرورة عن ابن عربي وابن الفارض والعطار وغيرهم، لتنسجي حوارات بينهم وبين حافظ مقتبَسة من أقوالهم. كيف تعاملتي مع الأمر؟

حينما كنت أبني شجرة لَيلة يَلدا، تخيلتُ أن حافظ يفارق الحياة، وفي هذه اللحظة ستزوره ملائكة الموت والعشق؛ ملائكة الموت من سيقبضون روحه، أما ملائكة العشق فهم شعراء الصوفية الذين عاشوا في حقب زمنية مختلفة عنه أو مقاربة له. كلهم - بالنسبة لي - كانوا محطات للراحة من سير الأحداث المتشابك في الرواية، لذلك هي تحتاج قارئ صبور. في كل محطة يخاطب حافظ الشاعر أو العاشق الذي يزوره بحاسة من الحواس التي لم تُفقَد بعد، حتى يتحرر في لحظة ما من كل القيود ويتم تخييره بين أن يُكمل حياته أو يموت، فيختار أن يرقص وهنا كانت سيرة الرومي.

تلك الحوارات بين حافظ وبينهم تطلبت - بالطبع - أن أكون على دراية تامة بعوالمهم مثله. لكني سعيدة الحظ؛ لأن تلك ذائقتي في الأساس، فأنا أذوب في الشعر الصوفي وأعتبره الأكمل. لا أدعي أنني متصوفة على الإطلاق، لكني تعجبني مفرداتهم وقراءتهم للعالم ومفهومهم الغامض والكاشف عن الجمال والحب والعشق، وكيف يمكن لمفاهيم أن تطبَّق على كل شيء ويستعان بها في أي منحى من مناحي الحياة، من فرط كونيتها.

لا تريدين ارتياد عالم الصوفية، لكنها تتجلى في أعمالك دائمًا، وفي تلك الرواية بلغت ذورتها. هل أنتِ مدركة لذلك أم أنه ينبع بغير قصد؟

ليس متعمدًا، وإنما نابع من المعايشة، تلك هي حياتي. يرتبط ذلك - ربما - بكوني مصرية، وكون حب آل البيت موجود في دمائنا منذ الصغر، حيث نزور المساجد وبيوت أولياء الله الصالحين. فمن الأشياء التي ألهمتني جدًا مسجد سيدي عمر بن الفارض، المشهور بزيارته من أجل الشفاء من العشق. وهناك من يزورون السيدة نفيسة بقصد الزواج، والسيدة زينب بقصد الشفاء، والشافعي بقصد القصاص أو العدالة. نحن لدينا كنز من سيْر التابعين والأولياء؛ كنز عظيم لأي كاتب، ومنبع هائل لأي شخص مهتم بالتراث.

وأنا شخصيًا؛ أتمنى زيارة كل مركز وكل قرية في مصر لأعرف ماذا يقولون ويلبسون ويخبزون. هذا في رأيي أكبر إسهام حقيقي، أن نغذي هويتنا بتوثيق تاريخ الأشخاص والأماكن وسيْرهم قبل أن يختفي ذلك.

DSC_0447

بعد ست سنوات قضيتها في البحث. كم من الوقت استغرقتِ في الكتابة؟

ثمانية شهور. كانت تجربة إلهية، لم أعرف الهدف منها حتى اللحظة التي فقدتُ فيها ابنتي، وكأنني كنت أكتب رسالة رثاء لنفسي. وظروف نشرها كانت أيضًا فارقة، فلم يخطر بمخيلتي أن تختارها دار التنوير، لأنهم ينتقون الأعمال بحزم شديد ولديهم كبار الكُتَّاب، وذائقتهم صعبة.

أعتقد أن لغتك، التي تميل إلى الكلاسيكية غالبًا، سببًا في انحياز ذائقة كبار الكُتَّاب إليكِ، سواء في دور النشر أو الجوائز. لكنها تتسم بالشعرية كذلك، هل تشير تلك اللغة إلى تجارب شعرية سابقة لكِ؟

لا أنكر أن اللغة لها مذاق خاص عندي، وأعتز بهذا جدًا، فأنا أميل لكلاسيكية طه حسين. أما الشعر فهو ما يلهمني الكتابة السردية، أكثر من قراءة السرد، لكنني لا أدعي أنني شاعرة أو حاولت الخوض في هذا المجال، أنا فقط متذوقة له. الغناء هو ما فتح لي الباب لحب الشعر والكتابة، جعلني أميل للسماع أكثر من أي شيء آخر، وبالتالي أعتاد على كتابة ما أستطيع قراءته، إن لم أستطع قراءة ما كتبته أشعر بالارتباك وأعيد صياغة الجملة. الموسيقى تجعل الكاتب أكثر وعيًا بالتقطيع وتكنيك الكتابة.

DSC_0176

ذكرتِ قبل قليل أنك اخترتِ العنوان منذ اللحظة الأولى، قبل البدء في الكتابة. ألم تفكري في لحظات تالية أن تغيريه؟

لا. على الأقل بالنسبة لي. كانت هناك اقتراحات بعناوين فرعية تشير لحافظ، كوسيلة ترويجية، لكني - دائمًا - لست مع الحلول التسويقية. أحداث الرواية وروحها هي لَيلة يَلدا، أطول ليلة من ليالي العام، التي لازالوا يحتفلون بها في بلاد فارس حتى الآن، ينتظرون ولادة الشمس الجديدة بأن يستقدموا اللون الأحمر على موائدهم، وطقس أساسي في هذا اليوم أن يقرأوا من شعر حافظ والأسرة مجتمعة، من الجد إلى الحفيد. أحببت أن يكون اسم الرواية هكذا، لأنه أثر حقيقي لوجود حافظ إلى الآن في بلاد فارس.

لكن إصراري على العنوان كانت تقابله مرونة في جوانب أخرى، فأنا أكِّن كل التقدير لناشري حسن ياغي الذي أجرى تحريرًا ممتازًا للرواية، واقترح عليَّ أشياء وافقتُ عليها، كحذف فصل كامل وجد أنه خارج سياق الأحداث، فصارت الرواية 29 فصلًا بدلًا من 30. أنا مرنة بمقدار، طالما أن التغيير لن يخل بالمعنى الذي أريده.

الرواية مليئة بالمصطلحات والأسماء الغريبة، والتي حاولتي توضيحها أحيانًا بوضع شرح لها في الهوامش. ألم تخشِ من أن يشتت ذلك القارئ ويجعل الأمر أكثر صعوبة؟

هذا في حد ذاته كان من أهدافي أثناء الكتابة، أن أضع بعض المفردات الفارسية كنوع من التعريف للقارئ بهذه البلاد التي لا نعرف عنها شيئًا. بعض الكلمات سنجد لها مقابلًا بالعربية، وبعضها الآخر جديد تمامًا. رأيتُ أنه من العدل، والإنصاف لحافظ في المقام الأول، أن أطعِّم الرواية ببعض الألفاظ التي تعبِّر عن البلد. اهتمامي ليس بالمفردة وإنما بالظروف والطقوس والحياة الاجتماعية التي أوجدت هذه اللغة.

وضعتِ مقطعًا شعريًا في مستهل كل فصل، مجموعها 29، بخلاف الأبيات المختارة داخل النص. ما المعايير التي اعتمدتِ عليها في الاختيار؟

معاييري هي كم المناسبة بينها وبين أحداث الفصل نفسه، وهذا لم يكن سهلًا أبدًا، أن أختار من شِعره ما يوافق ما أكتبه. استغرق الأمر حوالي شهرين. كثيرون يخافون من فكرة مفتتح الفصول، حيث يرى البعض أنها تعرقل السرد، والبعض الآخر يخشى ألا يفهمها القارئ، لكني أراهن على ذكاء قارئي. كما حاولتُ ألا أختار مقاطع صعبة، وإنما ملهمة تفتح له خيال قبل أن يبدأ في الفصل. أشعر أنها استراحة من السرد المتدفق وتشويق.

DSC_0267

***

الأحداث التي مرَّت في حياة غادة أحاطت «لَيلة يَلدا» بشيء من الاستثناء والخصوصية، لكن تقنية العمل فيها تنطبق على سواها، كالبحث طويلًا بدون أي نِيَّة للكتابة، يكفيها فقط أن تطرأ الفكرة على مخيلتها لتبدأ في رحلتها البحثية، حتى تتشبع بالمعلومات حول عالم تلك الفكرة، حينها فقط تقرر ما إن كانت مستعدة لالتقاط قلمها والكتابة عنه أم لا. وإن كانت الإجابة نعم، تطلق العنان تمامًا لخيالها.

جزء من البحث لديها يكون حول الجغرافيا والأزياء والطعام وغيرها، مما جعلني أسألها حول ميلها للرواية التاريخية، خاصة وأن روايتها الأخيرة اعتمدت على شخصيات وأحداث حقيقية. وأضفتُ:

بعض الكُتَّاب ممن يبحثون في التاريخ قبل الكتابة يقعون في مشكلة السرد المبالغ للتفاصيل والأحداث ويتحوَّل العمل معهم لمرجع تاريخي بدلًا من عمل إبداعي. هل تنتبهين لذلك؟

لا شك أن الرواية التاريخية تحدٍ كبير، لكني لا أستطيع قول إن «لَيلة يَلدا» تاريخية، فأنا أحاول الانتباه بالفعل، لأن السرد والحكي مغريان جدًا؛ فكرة الكتابة والبوح في حد ذاتها حتى ولو لم يكن في إطار تاريخي. الكاتب المحترف - ولا أزعم على الإطلاق أنني هكذا - لابد أن يصنع ذلك التوازن، وأن يبوح بمقدار، يعرف متى يكتب ومتى يترك الفرصة لخيال القارئ. تعلمتُ ذلك من القصة، ولحسن حظي أني بدأت منها؛ فالقصة تمنح الكاتب «فرامل».

معظم الأدباء الآن يفضِّلون الكتابة عما يعرفونه، وأنتِ تكتبين عن أشخاص وأماكن وأزمان لا تعرفينها. لماذا؟

الكتابة بالنسبة لي أداة لمعرفة العالم. أعرف نفسي وأعرف العالم عن طريقها. قد لا أضيف أبدًا لها كغادة، لكنها بالفعل أضافت لي الكثير، لذلك أنا حريصة على ارتياد العوالم التي لا أعرفها من خلال الكتابة. أحاول اقتراض عيون وحواس طفل صغير في معرفة العالم، فالأدب هو أنت في عيون الآخرين. ليس بالضرورة أن أكون فتاة ليل أو أشرب خمور لأكتب عن ذلك.

كما أنني لستُ مع الكتابة الذاتية بصورتها الحالية الفجة، لأن موهبة الأديب جزء كبير منها يكمن في قدرته على التخيل، أما سرد يومياتي كما حدثت معي فيمكن تسميتها بشيء آخر سوى أنها كتابة إبداعية، تلك ليست «شطارة». الكتابة جهد كبير، والأدب يتطلب أن تكون ملِّمًا بعوالم ما ستكتب عنه وظروفه المختلفة، لا يكفي الخيال وحده ولا المعلومات فقط، وإنما لابد من وجود جناس بينهما.

DSC_0373.jpg

نشرتِ أول عمل لكِ في 2013 وخلال سنوات قليلة صنعتِ اسمًا. أين كنتِ من الكتابة قبل ذلك وما سبب التأخير؟

ليس تأخيرًا بقدر ما هو تخمير. كانت محاولاتي كلها في الكتابة مدرسية، كتابة مبتدئة. كتبتُ وأنا في الكلية، ولكن على استحياء، أما الكتابة بشكل جدي فبدأت بعد الثورة. أحسب أنني مررت في تلك الفترة بمحنة قوية، جعلتني أقرر الكتابة، فالشخص أحيانًا يمر بلحظات صاخبة في حياته، يشعر معها أنه لو لم يكتب سيختل توازنه أو سيحدث شيء في جهازه العصبي. بعد ذلك شعرت أن الكتابة وسيلة لاكتشاف نفسي بشكل أفضل في العالم، لا أطلق عليها كتابة علاجية، ولكنها بلا شك نجَّتني، لأن لحظات الصمت عند الكاتب تكون قاسية جدًا.

وعندما بدأتُ الكتابة لم تكن لديَّ الجرأة كذلك لنشر ما أكتبه، وإنما أكتب مع نفسي، وكان لديَّ عدد من الأصدقاء أعترف بفضلهم، حينما أردت أن أفهم، هل ما أكتبه صالح للنشر أم لا، شجَّعوني على النشر، والتغلب على مخاوفي؛ من كوني امرأة تعيش في مجتمع شرقي سيربط - في الغالب - بين ما تكتبه وبين حياتها الشخصية. تلك المخاوف أيضًا ما جعلتني أتقدَّم للمسابقات، لأنها تضم نقادًا يمكنهم الحكم على ما أكتبه وتقييمه، فكنت أتفاجأ بفوزي في كل مرة، مما شكَّل حافزًا كبيرًا لي.

لكن الجوائز ليست حليفة الموهوبين دائمًا. كيف ربطتِ مصيرك الأدبي بها؟

الجوائز تكتسب ثقلها من ثقل المحكمين فيها لا من اسمها أو قيمتها المادية، وفي مصر لدينا عدد من المسابقات النزيهة، أكثر من المسابقات العربية، التي تشوبها انتقادات عديدة بسبب كِبر قيمتها المادية وما يحدث حولها من تصارع وتنافس. لذلك أعتز جدًا بجائزة هيئة قصور الثقافة لأنها رغم ضآلة قيمتها المادية ضمَّت في لجنة التحكيم كبار الأدباء والنقاد في مصر والوطن العربي، ومثلها جائزتا أخبار الأدب، ونازك الملائكة التي فُزت بها عام 2014 عن قصة «مانوليا» المنشورة لأول مرة في مجموعة بيت اللوز، وقد أصرُّوا حينها على استضافتنا في بغداد رغم ما يمرُّون به، وكانوا كرامًا وهم في أمَّس الحاجة. هذه الزيارة أثَّرت في جدًا، وحاليًا أكتب عنها وعن زيارتي لآيوا، بصفتهما مدينتا أدب، وما قد يجمع بلدين مثلهما يبدوان كأنهما عدوتين، أكتب عن المشترك بينهما من منظوري الخاص.

DSC_0115

الحصول على مِنح في الكتابة مثل «آيوا» واحتكاكك بالثقافات الأخرى وتجارب الترجمة نافذة قد تجعلك تتطلعين للعالمية ذات يوم. هل تطمحين لذلك؟

رغم أن الطموح كلمة يساء فهمها دائمًا، إلا أنني أطمح بلا شك أن تصل الكلمة التي أكتبها لأبعد مكان ممكن، سأفرح بالتأكيد، والأهم أن تكون كتاباتي في قلب القارئ لا مكانه فقط. لكني لا أود قول إنني آمل ذلك، لأن هذا ليس هدفي، وإنما هدفي الإنسان. لو استطعت الحصول على هذا المترجم الحسَّاس، الذي يعشق أعمالي ويكون لديه حرص على ترجمتها إلى لغات أخرى، مثلما أحبَّت بيلار «ساراماجو» وترجمت له كل كتاباته، حينها سأكون قد اكتسبت قارئًا يشعر بي وبعملي ويحبه، هذا المكسب الأول. ومن جهة أخرى سأحظى بترجمة جيدة جدًا، لأن الاحترافية في الترجمة ليست كافية، وإنما لابد للمترجم أن يحِّب العمل، بحيث لا تقل ترجمته إبداعًا عن العمل الأصلي.

هل قابلتِ هذا المترجم أم مازالتِ تبحثين؟

أحسب أنني قابلته بالفعل. هي صديقة تونسية اسمها «أميرة»، جاءت لي خصيصًا يوم عرفت أن لديَّ قراءة في أحد الأماكن بالقاهرة، وقالت لي إنها اطلعت على الفصل الذي ترجمه صديقي الكاتب والمترجم محمد إمبابي من رواية «الإسكافي الأخضر»، كجواز للتقديم في منحة آيوا، وتفاجأتُ بها تطلب مني أن تترجم الرواية كاملة للإنجليزية. هذا المشروع مازال قائمًا، لكنها تُنهي دراستها أولًا.

DSC_0025

هل هناك مشاريع ترجمة أخرى؟

نعم. هناك معهد «دراما بلا حدود» في ألمانيا، وهو مؤسسة خدمية ترعى الأدب والإبداع، قرأت مديرته د.دلال مقار، الفلسطينية الأصل، رواية «الإسكافي الأخضر» أيضًا وأخبرتني بأنها تريد تقديمها ضمن الأعمال التي سترعاها في المعهد ليتم ترجمتها إلى الألمانية.

صدر لكِ حتى الآن ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية. إلى أيهما تنتمين بشكل أساسي، أو تميلين؟

الرواية أكتبها بدون قصدية، يأخذني إليها الموضوع. أما القصة فعالمها أرحب بالنسبة لي. لكن لا أستطيع الجزم بأنني أميل لأحدهما عن الآخر، فكل عمل يمثِّل مرحلة معينة من حياتي ومستواي في الكتابة، وبمجرد طباعته أنساه وأفكِّر فيما يليه. لستُ ممن يعودون للوراء، ويتابعون أعمالهم ويروّجون لها، تمامًا مثلما كان يقول ساراماجو «لا أستطيع فعل شيء سوى الكتابة». رغم ذلك تنال بعض كتاباتي ما تستحق من القراءة والدرس والنقد، وفي هذا الجانب الروايات أكثر حظًا من المجموعات القصصية. ربما يعود ذلك لقِصر الفترة بين نشر الأعمال، فيأخذ أحدهم من حق الآخر، مثلما حدث مع «بيت اللوز» و«لَيلة يَلدا»، وكذلك «الإسكافي الأخضر» و«الفيشاوي». لكني - الحمد لله - كل عام على موعد مع عمل جديد، وهذا ناتج عن أني أحاول دائمًا أن آخذ من فراغي لانشغالي، وأن أكون سابقة بخطوة، هذا يريحني نفسيًا.

DSC_0060

قُلتِ قبل قليل إن الغناء هو ما فتح لكِ الباب لحب الشعر والكتابة، ماذا عن الطب؟ كيف أثّر فيكِ ككاتبة؟

تعلمتُ من المرضى المثابرة والصبر على اكتمال العمل. لم يلهموني حكايات بقدر ما ألهموني أخلاقيات وقيم يعيشون من أجلها، وكتبت عنهم بشكل ربما لو قرأوه هم لن يتعرفوا على أنفسهم. الواقع للأسف لو سردته سيكون أقسى على القارئ، وقد لا يصدِّقه الناس من شدة درامية الأحداث.

وهل تأثر عملك - في المقابل - بكونك كاتبة؟

بلا شك. الفنان أو الكاتب يكون لديه بعض الأحاسيس الفياضة عن الطبيب، ولذلك خدمت الكتابة عملي كطبيبة، فلم أستطع اعتياد المرض أو الموت، ومازلت أتأثر جدًا عندما أرى شخصًا وأتفاجأ بوفاته في اليوم التالي، رغم أن ذلك يبدو روتينًا، لكني أتضرر جدًا، خاصة عندما تظهر أمامي خلايا خبيثة تحت «الميكروسكوب» وأكون مضطرة لإخبار صاحبها بذلك. وقد كان ذلك محور حديثي في جامعة آيوا، تحت عنوان «كيف تحولتُ إلى بومة؟»، فلو اعتبرنا أن المرض ظلام دامس والبومة ترى في الظلام، سأجد أنني أحاول طوال الوقت أن أستعير عيون البومة لأرى في الظلام المرض المجهول، ودائمًا أطارد الخلايا الخبيثة وأستمتع باصطيادها، لأن اصطياد خلية خبيثة واحدة تنقذ حياة مريض.

هذا ما أضافته كل مهنة أو موهبة إلى الأخرى. هل أخذت أي منها أكثر مما ينبغي؟

بالطبع. الطب أخذ من كل شيء. لو كان لديَّ وقت أكثر لمارستُ الغناء بشكل أفضل، وحاليًا تأتيني عروض كثيرة، منذ بدأتُ نشر مقاطع صوتية وفيديوهات لي، لكني لستُ متحمِّسة للشهرة، ربما لأنني جرَّبتها من قبل وأرى أنها عالم خانق. لم أوهم بهذه الحالة ولا أحب عالم الأضواء، وأظن أن أي إنسان سَوى سيكره الأضواء. لا أستطيع أن أبدع في ظل ذلك.

DSC_9988

البعض يتفرَّغ للإبداع عند مرحلة معينة ويتخلَّى عما سواها. هل يمكن أن تفعلي ذلك يومًا؟

لا. لا يمكن أن أتخلى عن مهنتي، لأنها واجب إنساني واجتماعي، وزكاة عن العلم الذي منحني إياه الله، لو تخليتُ عنها سأصبح مقصِّرة. كما أن الناس هكذا في العالم كله، وحينما سافرتُ إلى أمريكا لم أكن نموذجًا غريبًا.

ما الجديد لديكِ؟

انتهيتُ من مجموعة «انفلونزا» لكنها لم تُنشر بعد. هي كتابة جديدة عليّ تمامًا، عبارة عن يوم واحد في حياة طبيبة مصرية، يمكن أن نقول متتالية تضم 15 قصة، أقرب للكوميديا السوداء، بالفصحى كاملة إلا بعض القصص، أشعر أنها مجموعة كنت أحتاج إلى كتابتها، وشعرتُ براحة كبيرة حينما فعلت ذلك. لم أتعاقد عليها بعد، لأن «بيت اللوز» صدرت مؤخرًا وأريد أن تأخذ حقها من القراءة.

وأكتب حاليًا «كوتسيكا»، التي تتناول عالم صناعة البيرة من خلال الصانع ومن يعملون معه في المصنع، والحكايات المختبئة في «البار» الذي يضم أناس من مختلف الديانات، ونظرة المجتمع للعاملين فيه، واختيار الناس للسُكْر والتغيب بعد إخفاق ثورة 19، حيث كانوا يريدون الهروب من العالم المرير والتخلي عن حلم الجلاء الذي لم يكن يتحقق، وكيف كان لأم كلثوم دور، بداية من أواخر العشرينيات وازدهارها في الثلاثينيات، وكيف استردت الناس من هذا الغياب المتعمد إلى الوعي بالفنون. هذا كله من خلال سرد متشابك لشخصيات كثيرة، عائلات العاملين لدى الخواجة كوتسيكا، وامتزاج الثقافتين المصرية واليونانية.

وهناك أيضًا مشروع لترجمة كتابات بيتهوفن، بدأتُ فيه من خلال المقال الذي نشرته في أخبار الأدب، وأريد استكماله، لأنه بالنسبة لي عالم ساحر، فقد وقعت في حبه مرة أخرى حينما قرأت كتابته.

DSC_9950

Comments