واسيني الأعرج: الجزائر طفولتي ودمشق ذاكرتي، وباريس مدينتي

أستاذ بجامعتي الجزائر المركزية والسوربون الفرنسية، وروائي جزائري، ولد عام 1954 بقرية سيدي بوجنان في تلمسان، ويعيش في باريس، يعد من أهم الأصوات الروائية في الوطن العربي، تميل أعماله الروائية إلى التجريب، حيث لا تستقر على شكل واحد، بل تبحث دائما عن سبلها التعبيرية في العمل الجاد على اللغة، فاللغة عنده ليست معطي جاهزا ولكنها بحث دائم ومستمر، إنه «واسيني الأعرج».

اختيرت روايته حارسة الظلال (دون كيشوت في الجزائر) ضمن أفضل خمس روايات صدرت بفرنسا، ونشرت في أكثر من خمس طبعات متتالية بما فيها طبعة الجيب الشعبية، قبل أن تنشر في طبعة خاصة ضمت الأعمال الخمسة، حصل عام 2001 على جائزة الرواية الجزائرية عن مجمل أعماله، وفي 2007 على جائزة الشيخ زايد للآداب، ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية من بينها: الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، السويدية، الدنمركية، العبرية، الإنجليزية والإسبانية، من أهم كتاباته: «طوق الياسمين»، «مملكة الفراشة»، «أنثى السراب»، «أصابع لوليتا»، «البيت الأندلسي»، «رماد مريم»، وأخيرا «سيرة المنتهى».

حضر إلى القاهرة للمشاركة في فعاليات الملتقى الدولي السادس للرواية العربية، تحدثنا إليه، فعبر عن سعادته البالغة بإعادة تنشيط هذا المؤتمر، لأنه مكسب حقيقي، فهو يجمع بين الكتاب والنقاد والمبدعين: إنه فرصة لا تعوض ولا تأتي دائما، مرة في الزمن، ثم أنه انعقد منه خمس دورات وتلك السادسة، مما كّون تراكما، وشيء مؤسف أن يضيع هذا التراكم بسهولة، لذلك أنا سعيد بأن الدكتور جابر عصفور استدرك الأمر وأتمنى أن يستمر، فهو هام جدا لمصر من ناحية ثقافية وحضارية في ظل تلك الأوضاع المعقدة، وقيمة ثقافية كذلك للعرب، لأن مصر تظل بلداً أساسياً في حضارتنا ونتحسس دائما الأشياء التي تأتي منها، ووجود هذا الملتقى هو حالة نبض نتدارس من خلالها وضعية الثقافة والرواية والنقد...إلخ.

فن الرواية في الجزائر مثل بقية الوطن العربي، بدأ بنصوص خفيفة لا ترقى للشكل الروائي كرواية «غادة أم القرى» للكاتب الجزائري رضا حوحو التي نشرها عام 1947، ولذلك يقول: دائما الروايات الأولى تكون حالة تجربة وتحسس مع جنس أدبي لم يكن موجودا في ثقافتنا، فهو جنس غربي، لكنه تطور عبر حقب زمنية من خلال أسماء حملوا على عاتقهم هذا النوع، بعدهم أتي جيل آخر رسخ لهذا الفن الروائي بشكل نهائي، لم يعد فناً أجنبياً ولكنه ارتبط بمحلية عميقة عند كتاب معروفين، ثم جاء الجيل الجديد الذي ارتبط بالقضايا المحلية في تفاصيلها الصغيرة، فلم تعد الرواية عمومية تناقش قضايا موسعة كالاستعمار والصراع اللغوي والمرأة، أصبحت تلك النصوص تدخل في عمق الإنسان العربي ومشاكله اليوم، كما أن هذا الجيل تنبه أيضا لقضايا إنسانية، وارتبط بكل ما يمس الإنسان، وهذا ما يعطي طابعاً استمرارياً لهذه النصوص ويضعها في أفق آدمي وليس محلياً والعربية لا تعاني قلة إنتاج، بل على العكس، أحيانا تعاني من وفرة في الإنتاج، لأن هناك إبداعات وكتاب متميزين، وهناك تراتبية في الأجيال وإنتاجهم الأدبي، لكن في الوقت نفسه، الإنتاج الأدبي الذي أوصل نجيب محفوظ لجائزة نوبل توقف عند هذه اللحظة ولم يستمر طويلا، من حيث الاعتراف الدولي، بقي أدبا محليا قوميا، أظن أن المشكلة ليست في الأدب وإنما في المؤسسات الإعلامية العربية، التي لم تعرف كيف توصل أدبها إلى الآخر، إلى اليوم لاتزال هذه المؤسسات عاجزة عن إيصال هذا الجانب إلى المستوى الدولي، لأن الأمر يحتاج إلى إعلان ومؤسسات فاعلة ودعاية كافية، ووضع هذا الأدب في أفقه الصحيح والطبيعي، فهو منتج محلي ولكن يلزمه دعاية تروج له وتوصله إلى الآخر، من خلال الترجمة والاهتمام به، فمؤسساتنا للأسف لا تقوم بأي شيء من هذه الأدوار.

ليس عنده أفضلية لكاتب معين، وإنما لتجارب، فهناك تجارب عربية تكرر تجربة نجيب محفوظ في مصر أو طاهر وطار بالجزائر، وغيرهما من الكتاب العرب المؤسسين للرواية، هي تجارب كلاسيكية جيدة ولكن في الوقت نفسه لا يعتقد أنها تفيد، لأنها تكرر ما أنتج، بينما الأدب في جوهره لديه طبيعة داخلية بالرغبة في التجدد: ما يكتب لا يكون أدبا ولا يصبح مؤلفوه أجيالاً إلا إذا جدد، لذلك أنا مع المدرسة التجريبية التي يمثلها كثير من الكتاب العرب سواء بمصر أو الجزائر أو تونس أو لبنان أو الأردن وغيرها، هي مجموعات لا تقتنع بالمعطى الثقافي الجاهز وإنما تعمل على اللغة، لأن اللغة مسألة حساسة وأساسية في الأدب، تعمل على البنية الجمالية للنص، وعلى التناصات المختلفة، هذا كله يصنع أدباً تجريبياً غير ثابت.

يتابع كل الكتابات، فمن مصر مثلا يذكر حمدي الجزار، وحيد الطويلة، وكذلك سلوى بكر، ومن الشباب سعد القرش، وكثيرين غيرهم، ومن سوريا لينا الحسن المرشحة لقائمة البوكر القصيرة، ومن الجزائر سمير القاسمي -أحد الحاضرين في المؤتمر-، من الكتاب الجيدين الذي بدأ يفرض نفسه وبدأت تتوجه له الترجمات الفرنسية وهذا دليل أن هناك شباباً بدأوا يخترقون الحاجز: هناك في العالم العربي مشكلة، أن الأدباء الشباب يصطدمون دائما بحاجز الأسماء الكبيرة، فعندما نجد من يخترقه نشعر أن الدنيا مازالت بخير، وأنا أتابع كل ما ينتج عربيا، وأناقش الكتاب في أعمالهم، وعندما يتاح لي بعض الوقت أحيانا أكتب مقالا تدعيما لهم، فلدي زاوية بجريدة القدس العربي بلندن، وعندما أجد شيئاً جميلا اقتسمه مع القراء، إلى جانب الفيسبوك، في اعتقادي ذلك ليس سخاء بقدر ما هو واجب، فلابد للكاتب أن يكون متسامحاً ومحباً للغير.

للسفر مذاق خاص عند واسيني، وهو الذي جاب العالم وكثيراً من بلدانه: السفر شيء مهم للإنسان، لأن أي رحلة هي تفريغ للذاكرة وملؤها بشيء آخر، ورغم أن معظم سفرياتي كانت ثقافية وليست سياحية، إلا أنها مهمة جدا، تدخلك في عالم آخر وتمكنك من التعرف على أناس وثقافات أخرى، ففي النهاية أخرج بعلاقات وصداقات وقراءات مختلفة، وذلك بالنسبة للسفر حول العالم وليس فقط الوطن العربي، فكل رحلة تجدد ذاكرتك بما يدفع بك إلى الأمام.

ولكنه يصعب عليه تحديد رحلة مؤثرة أكثر من غيرها، فعلاقة الشخص مع الرحلة هو من يصنعها، عند الذهاب لبلد، تكون هناك عدة فرص للتعرف على الناس، فكيف يجني من تلك اللقاءات أكبر قدر ممكن للتعرف على هذا الشعب وتلك المدينة، وثقافة البلد من الطعام والشراب والعادات والتقاليد: عندما ذهبت إلى الصين عدت بأشياء مخالفة عن الصور التي في ذهني عن الصينيين، وعندما سافرت لليابان عدت بعقلية مختلفة، وكذلك عندما ذهبت إلى أوروبا الشمالية، وبالتالي كل رحلة مربوطة بخصوصية البلد، فمؤخرا سافرت للسودان لأول مرة، وقد دعيت لها من قبل كثيرا ولكني لم أذهب تخوفا من الأوضاع هناك، لكنني عدت منها سعيدا بشكل لم أتصوره، فعلاقة الإنسان بالناس ليست شكلية وإنما بالداخل أيضا.

ورغم أن رحلاته إلى مصر كانت كثيرة، لكنه بعد الثورة لم يأت إلا مرة واحدة، عندما طبعت له هيئة قصور الثقافة كتابا، عبارة عن فصول من رواياته تحت عنوان «رماد مريم»، ضمن سلسلة إبداع عربي، فيبادر بالتأكيد أن ذلك جاء وفقا للظروف وليس له علاقة بالأحداث: أنا عشت في الجزائر بظروف أشرس من تلك كثيرا.

الجزائر التي يعشقها، ولكنه تركها منذ 21 عاما ليستقر في باريس، بعدما قضى عاماً وهو يعيش في سرية تامة بسبب الإسلاميين، فقد تم تهديده بشكل مباشر بالقتل، وأخرجوا قائمة بأسماء كان من ضمنهم، وقتل كثير من أصدقائه: جميع من قتلوا كانت ابنتي الصغيرة تعرفهم، وأنا صرت أخاف عليها، ثم وصلتني دعوة من جامعة فرنسية، فذهبت ثلاثة أشهر إلى هناك، تلاها ثلاثة أخرى، ثم سنة، وهكذا حتى صاروا الآن 21 عاما، ولكني لا أفضل بلدا على أخر، كل منهما له مكانة في قلبي، الجزائر بلدي وطفولتي، ودمشق ذاكرتي التي عشت بها عشر سنوات تقريبا، وباريس مدينتي؛ مدينة الحرية والحب والمسرح والثقافة.

رغم الجوائز الكثيرة التي حصل عليها، لكنه لم يبحث يوما عن جائزة، فهو يؤمن بأن الجائزة قوس صغير يفتحه الآخرون عندما يبدأ في الكتابة، ولكن لابد له أن يغلقه بنفسه، لأن من يتركه مفتوحا يصاب بالخبل وتضخم الذات: أنا فخور جدا وسعيد بالجوائز التي حصلت عليها، سواء العربية أو الأوروبية، لأنها منحتني فرصا لأن تقرأ أعمالي وتوزع، فأي كاتب يحلم بهذا، ولكن غير ذلك فهي حقا ليست مهمة، أن تكتب وتسعد بأكبر جائزة «القراء» هو أفضل شيء، وبالنسبة لي كانت أجمل جائزة فزت بها، عندما كنت صغيراً بعمر 11 عاما ونجحت في الإعدادية، فأرسلوني لمدينة تلمسان لكي أدرس، لأنها نقلتني من القرية إلى المدينة.

وعن آخر ما يعمل عليه، هو نص روائي خاص بالوضع العربي، عما آلت إليه الثورات، والأوضاع التي وصلنا إليها اليوم، ربما يستغرق منه عاما نظرا لكبر الموضوع، فيمكن أن تصدر بمنتصف عام 2016: لا أعرف إلى أي شيء ستوصلني تلك الرواية، أنا أتساءل في وضعيات معقدة، ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع؟، ولكن روائيا، فأنا لست مؤرخا، على الأقل يمكنها أن تجيب على بعض التساؤلات، ومن يقرؤها يعرف ما حدث خلال العشر سنوات السابقة.

Comments