براءة ريا وسكينة .. مواجهة جديدة بين السينما والتاريخ بعد 90 عامًا على إعدامهما

أحمد عاشور، سيناريست شاب، اتفق مع شركة فرنسية لعمل فيلم وثائقي عن ريا وسكينة، ولكن لكي يتم قبوله كان لابد أن يتضمن فيلمه شيئا جديدا وحقائق لم تذكر من قبل، فنزل إلى منطقة اللبان للبحث، وذهب لمكتبة الإسكندرية للحصول على الأرشيف الصحفي وملف القضية، وتمكن من الوصول إلى أحفاد بعض ورثة المتهمين كعبد الرازق وعرابي حسان، وأحفاد لمن كانوا معاصرين لريا وسكينة، وحفيد الملازم الشاب أحمد أحمد عبدالله، الذي تولى القضية قبل إبراهيم حمدي ثم توفى، وبدأ في جمع خيوط ليتمكن من الخروج بحقائق لم تذكر من قبل في أي مكان لخصها في أن «ريا وسكينة لم تقتلا أحدا»، وأن تلك الجرائم تم تلفيقها لهما من قبل الإنجليز. ثم قرر أن يلغي مشروعه مع الشركة الفرنسية ليقدم بحثه كعمل سينمائي روائي.

مجددا تتقابل الرؤية الفنية مع التاريخ، لكن هذه المرة في واحدة من أشهر القضايا الاجتماعية التي شغلت مصر لفترات زمنية غير قصيرة . «ريا وسكينة لم تقتلا أحداً» هذه ليست الحقيقة التاريخية المثبتة، ولكن صناع فيلم «براءة ريا وسكينة» سيحاولون توثيقها سينمائيا ليؤكدوا أنها الحقيقة التي حدثت منذ أكثر من 90 عاما وتم طمسها. رغم أنه على مدار سنوات طويلة، سعي كثير من الأدباء والصحفيين خلال القرن العشرين وحتى الآن، إلى العثور على شيء جديد في تلك القضية ولكنهم لم يجدوا سوى ما يدين تلك العصابة ويؤكد جرائمها، وعلى رأسهم أستاذة الأدب الإنجليزي والروائية لطيفة الزيات، والأديب عبد الرحمن الشرقاوي، ثم جاء كتاب «رجال ريا وسكينة» للكاتب الصحفي صلاح عيسى ليكون الأقرب تاريخيا لما حدث.

وجهة نظر جديدة

يقول صاحب الفيلم السيناريست الشاب أحمد عاشور: أردنا تقديم وجهة نظر جديدة في القضية من خلال بحث ميداني، يختلف عما قدمه المبدعون من قبل، فهم لم يستطيعوا الوصول للحقيقة الكاملة، فأثناء بحثي بدأت تظهر لي بعض الشكوك من خلال عدد من المواقف التي حدثت، بعدها اكتشفت هذه الحقيقة وأنهم لم يقتلوا أحدا، كما أخذنا في الاعتبار الظروف المحيطة بالقضية وثورة 1919، فبدأنا نبحث عن وثائق تجيب عن بعض الأسئلة التي شككنا فيها من البداية وأجبنا عنها بالكامل ثم وضعناها داخل الفيلم حتى نعرضها للرأي العام ليحكم في النهاية أي وجهة نظر يمكنه الاقتناع بها.

تتمثل وثائق أحمد عاشور - كما يقول - في أوراق رسمية من ملف القضية وأخرى عرفية ورواة، رفض عرضها للنشر ووعد بوضع كل ذلك في «تترات» الفيلم! فتلك الوثائق هي التي أقنع بها الرقابة للحصول على تصريح بعدما تم رفض العمل في البداية بحجة أنه يغير حقائق تاريخية وبسبب الخوف من بعض الإسقاطات السياسية بالطعن في القضاء أو السلطة التنفيذية، لكن مع المناقشات أوضح لهم المؤلف أن هذا غير صحيح، لأن الحكم كان في فترة احتلال، فقد سيطر الاحتلال الإنجليزي وقتها على كل مفاصل الدولة، وقبلها بعشر سنوات وقعت حادثة دنشواي التي حكم فيها القاضي المصري «فتحي زغلول» شقيق سعد زغلول ظلما، لذلك الطعن في أحكام القضاء في ذلك الوقت جائز بأن يكون فيها شبهة تدخل لصالح الاحتلال الإنجليزي، فيقول عبد الستار فتحي، رئيس الرقابة على المصنفات الفنية: لقد اتفق أصحاب العمل مع الرقابة على صيغة معينة، وتم توضيح الأمور، وبناء على ذلك أجيز الفيلم في إطار قوانين رقابية.

ويؤكد عاشور: قضية ريا وسكينة إذا عرضت بملفها هذا حاليا على أي قاض مصري في ظل دولة حرة، فإنه بالتأكيد سيحكم ببراءتهما، وفي النهاية من حق أي مبدع أن يطرح وجهة نظره، لأن التاريخ في كتابته عبارة عن وجهة نظر، كل شخص يكتبه من الزاوية التي يراها، أهم شيء أن الحقائق التاريخية لا خلاف عليها؛ بأن كانت هناك جريمة وقتلى ومحكمة وأناس أعدموا، هذا بالطبع لا أنكره تماما، أما ما أطعن فيه فهو كيفية تلفيق التهمة لهؤلاء ولماذا هم تحديدا، لقد أجبت عن أي سؤال يمكن أن يطرحه المشاهد لنفسه خلال الفيلم، ولعبت دور الشيطان مع نفسي أوقات كثيرة، فكنت أحاول طرح أسئلة ليست موجودة، لذلك لن يخرج المشاهد من العرض بأي أسئلة أو شيء غير مفهوم.

ضد المنع

ولأن الرقابة تتبع المجلس الأعلى للثقافة، فقد أكد الدكتور محمد عفيفي من جانبه أن المجلس ضد أي منع، وهو شخصيا من أنصار النقاش الحر، ويوضح: المشكلة أننا في مجتمع لا يقرأ التاريخ، وللأسف يمكن أن يستقبل مثل هذه الأعمال على أنها التاريخ، مثل فيلم «رد قلبي»، 95٪ من المصريين تقريبا استقوا معلوماتهم عن فترة ما قبل ثورة 1952 من هذا الفيلم، وبالتالي عندما ظهرت أي أعمال أخرى بدأت حالة من الحيرة تصيبهم، هذه الحالات تحدث في أوروبا، ولكن تم تجاوزها بشكل كبير، لأن الناس تقرأ وهناك حركة نقدية، لكن إن منعته الرقابة سيصنع له شهرة وضجة بلا داع، فالأفضل إثبات إن كان العمل تجاريا ويلعب على استفزاز الناس، وبعد قليل من الوقت سيتوقف الجمهور عن متابعته، وتقف الإعلانات، ولن تخرج مثله أعمال أخرى، لأن المنتجين سيعلموا أن هناك حركة نقدية، ولكن هذا للأسف ضعيف في مصر، ولذلك استقرينا بعد مسلسلات رمضان العام الماضي أن لا نلجأ إلى المنع، ولكن سنناقش الأمور في ندوات لخلق رأي عام.

أما عن القضية نفسها فيقول عفيفي: في الحقيقة أهم دراسة كتبت كانت لصلاح عيسى، وهذه ليست مجاملة، فهي كتاريخ اجتماعي رائعة، وأنا كمؤرخ أغير منها مهنيا، فهي وضحت الحقيقة، لكن دائما تكون هناك اختلافات بين التاريخ الحقيقي والصورة عندما تنتج بأشكال مختلفة، وقد أنتج أكثر من فيلم عن ريا وسكينة ليس لها علاقة بالقصة الحقيقية، بداية من فيلم أنور وجدي وزوزو نبيل، وحتى فيلم شريهان ويونس شلبي، بالإضافة لمسلسل إذاعي باسم «عودة ريا وسكينة» تابعناه ونحن أطفال، دائما ما تكون هناك اختلافات وإبداعات بأشكال متعددة، فحتى أدهم الشرقاوي، القصة الأصلية أنه قاطع طريق مثل روبن هود وهكذا، لكن المخيلة الشعبية حولته إلى بطل، لذلك يمكن اعتبار تلك التجربة نوعا من الإبداع، وأتصور هنا أنه يتبع طريقة أدهم الشرقاوي وكيفية تحويله إلى بطل قومي يقاوم الإنجليز.

معايير تاريخية

هذا إن كان العمل إبداعيا فقط، أما عندما يحاول أصحابه إثبات أنها الحقيقة التاريخية فالوضع يختلف، يستطرد عفيفي: عندما يمتلك شخص ثروة بهذه القوة ودلائل كتلك لابد أن ينشرها، فإلى أن تظهر تلك الوثائق ويثبتها المؤلف يظل كتاب «رجال ريا وسكينة» هو الأصح، فالتاريخ وجهات نظر حقا ولكن عند تقديم رؤية مخالفة لابد أن يعتمد ذلك على وثائق جديدة ومدخل مختلف، هناك معايير علمية لإعادة قراءة التاريخ، إما تستند لوثائق أو إعادة تحليل للشخص أو الفترة، وأنا كمؤرخ أميل لكتاب صلاح عيسى وما سرده، بحكم خبرتي التاريخية ومعرفتي واطلاعي على المادة التي استخدمها، فهي لم يكتب شيء مثلها، كما أن المصادر التي رجع لها حتى الآن هي الأوثق.

وحتى ينهي الأمر بخصوص شهادة الرواة، يؤكد عفيفي في النهاية: أما المشكلة الأخرى، فهي أن الشهادات التاريخية بعد فترة من الزمن تكون شهادات تبريرية، لذلك يجب أن نفرق بين شيئين، الذكريات والمذكرات، فالزعيم التاريخي الذي يكتب مذكرات يومية أو شبه يومية هو أصدق ممن يكتب ذكريات ويطلق عليها مذكرات وينشرها بعد انقضاء الحدث بعشرين عاما، لأنها يشوبها نوع من التبرير، وعند تذكر الحدث لا يكون كما حدث وإنما الصورة المستعادة.

وعندما نتحدث عن تاريخ ريا وسكينة، لا يمكن أن نغفل الكاتب الصحفي والمؤرخ «صلاح عيسى» وكتابه «رجال ريا وسكينة»، تلك الدراسة الاجتماعية التي سعى فيها إلى البحث عن الأسباب التي حولت «ابنتي على همام» من واقع إلى رمز، ومن طفلتين بلا ذكرى أو ملامح إلى تجسيد لذلك الشر المستطير الذي أضفته عليهما مرويات السيرة الشعبية، فيؤكد عيسى أن كل الأعمال الفنية والأدبية باستثناء «مسلسل ريا وسكينة» المأخوذ عن كتابه وأعد له السيناريو والحوار مصطفى محرم، فهي أعمال صلتها بالحقائق التاريخية كلها بعيدة.

دراما ريا وسكينة

هناك ستة أعمال درامية أنتجت عن ريا وسكينة، أولها كانت مسرحية كتبها نجيب الريحاني وبديع خيري بعنوان «ريا وسكينة»، مثلت في العشرينيات، في أعقاب الحادثة مباشرة، وكانت العمل التراجيدي الوحيد الذي قدمه نجيب الريحاني في تلك المرحلة، وطبقا لما يقوله الريحاني في مذكراته هي لم تنجح، وقد استقت حوادثها من واقعة واحدة هي الضحية الأخيرة لعصابة ريا وسكينة، التي كانت فتاة عشيقة لجندي بريطاني اسمه جولدن، كان موجودا في الحامية البريطانية التي تواجدت في ذلك الحين بالإسكندرية، صيغت دراميا بأن هذه ابنة حسب الله وريا، وفي النهاية يقوم أبوها بنفسه باغتيالها، فكانت الفكرة هي الأب المجرم الذي تقوده الظروف إلى أن يقتل ابنته وعندما يعلم ذلك يندم، قائمة على طبيعة التفكير السيكولوجي.

بعد ذلك جاء الفيلم الشهير لصلاح أبو سيف عام 1951 «ريا وسكينة»، واعتمد فيه على الملف الصحفي الذي أعده محرر جنائي بالأهرام وقتها، وكتب له السيناريو والحوار السيد بدير بالاشتراك مع نجيب محفوظ، وهو أيضا لا علاقة له بالحقيقة التاريخية على الإطلاق، فهو فيلم حاول فيه المنتج والمخرج وكتاب السيناريو أن يقدموا «أكشن» على الطريقة الأمريكية، يقوم على مطاردة يتنكر فيها الضابط في زي بائع سجائر ويدس نفسه وسط أفراد العصابة ليقبض عليهم، ويذكر عيسى في ذلك: بعد نشر كتابي، هاتفني ابن لواء سابق بالشرطة ليقول لي إن ما ذكرته لا علاقة له بالتاريخ وأن والده من قبض على العصابة وأنه تنكر وطاردهم وهكذا، وعندما سألته عن مصدر معلوماته أخبرني أنه سمع ذلك في طفولته من الأسرة، فأخبرته أن ذلك أخذوه من فيلم أنور وجدي وإنما الحقيقة تختلف، وأن هذه الجرائم تم اكتشافها بالصدفة المحضة، فلم تكن الشرطة تعلم شيئا عن تلك الجرائم، إلى أن خرج السكان من البيت الذي تسكن فيه سكينة وجاء أحد الأجانب لاستئجاره، فقرر توصيله بالمجاري وإجراء تعديلات فيه، وبدأ أصحاب البيت يحفرون في أرضية الغرفة السفلية التي كانت تسكنها سكينة، وأثناء حفرهم عثروا على الجثث، ومن هنا بدأت التحقيقات ونشطت الشرطة وعثروا على بقية الجثث في البيوت الأخرى، فالفيلم لا علاقة له بالوقائع التاريخية، هو فيلم حركة ينتمي لعالم نجيب محفوظ الأول في السينما، لا يتضمن روحا اجتماعية أو تفسيرا اجتماعيا للظاهرة، مجرد مطاردات.

الفيلم الثالث «إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة» عام 1955، وهو فيلم كوميدي خالص، كان يحاول أن يقلد مجموعة من الأفلام الأمريكية التي انتشرت في ذلك الوقت، تقوم كلها على فكرة شخصية كوميدية تلتقي بعصابة أو فرقة من المجرمين.

ثم أرادت بعد ذلك المرحومة نجمة إبراهيم التي كانت متزوجة من المخرج المسرحي عباس يونس، استثمار نجاح دورها في «ريا وسكينة»، فقدمت مسرحية «سر السفاحة ريا» عام 1955 وكتبها زوجها، بنيت أيضا على فكرة التحليل السيكولوجي لشخصية ريا، وبها بعض الاقتباس من مسرحية الريحاني، وقد استمرت فترة قصيرة ولم تلق نجاحا كبيرا.

إلى أن جاءت المسرحية الأخيرة «ريا وسكينة» لشادية وسهير البابلي عام 1983، التي تأثرت بنفس الفكرة، ولذلك بنيت على أساس أن الضحية الأخيرة هي ابنة ريا التي أخذها منها أبوها ابن الباشوات، فكل ما روي عن طبيعة الشخصيات لا أساس له من الصحة، بأن يكون عبد العال بالشرطة وهو في الحقيقة كان يعمل في محلج للنسيج ويشارك في الجرائم التي ارتكبتها العصابة، وشخصية حسب الله الكوميدية، وأن ريا كانت خادمة في أسرة بكوات وأخذوا منها ابنتها وطردوها، وأن العقدة كانت في زوجة أبيهما التي يقتلانها.

ثم الفيلم الأخير «ريا وسكينة» عام 1983 ليونس شلبي وشريهان، اللذين يقابلان فيه ريا وسكينة، وهو كوميدي أيضا.

ماذا يروي الحفيد الآن؟!

يستطرد عيسى: كلها أعمال تستوحي أحداثها من الواقعة في شكل فانتازيا تاريخية، ولكن المشكلة الحديثة أن مؤلفي فيلم البراءة يصنعون تاريخ نضال وطني لريا وسكينة، يقولون إنهم بحثوا وحصلوا على وثائق جديدة والتقوا بأناس جدد، رغم أنه من الصعب الآن أن نجد شخصا عاصر ريا وسكينة، فقد مر 90 عاماً!، والقول بأن هناك وثائق تاريخية جديدة غير صحيح، لا أعلم من أين جاءوا بذلك؟ فأقارب الشخصيات التاريخية وخاصة إذا كانوا من أجيال تالية يكون لديهم تاريخ أسطوري تتبادلهالأسر، فلا تروي الحقائق التاريخية بشكل كامل، ما لم تكن لديهم وثائق حقيقية، ولابد أن تكون مطابقة ومرتبطة بالوثائق الرسمية الموجودة، فلا يصح أن يكون ملف القضية يضم تلك المعلومات عن الشخصيات ثم يأتي أحد ويقول أنها ليست صحيحة، فإذا كانت لديهم وثائق جديدة حقا فليعرضوها، ولكن الحفيد ماذا يستطيع أن يروي الآن؟َ!، كما أن التحقيق في القضية كان سرا وكل ما كانتتنشره الصحف عبارة عن تسريبات إما يقولها المتهمون أو أقاربهم أو جيرانهم أو كتبة التحقيق، وكلها غير حقيقية.

كما يؤكد عيسى أن الوقائع التاريخية فيها بالطبع مساحة للخيال، ولكن في حدود التفاصيل الفرعية، إنما الحقائق الأساسية لا ينبغي تغييرها، فهناك ضوابط لاستخدام التاريخ، لا يصح أن يكون فيلم عن سعد زغلول مثلا ويظهره كبائع مخللات، ولم يكن يجوز كذلك تحويل شخصية عبد العال في المسرحية من مجرم إلى «صول» في الشرطة، هذا يسمى تزويرا للتاريخ، لأن وجهات النظر تكون في تفسير الوقائع ولكن ليس في تأليفها، كما لا يصح أيضا إغفال العامل السياسي والاجتماعي في الأمر، حيث كان رجال ريا وسكينة يعملون في السلطة، فهذا هو العمود الفقري الذي أقام عليه تحليله للحوادث، حيث كانت السلطة البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولي عبارة عن جيوش الحلفاء، اكتشفوا أنهم يستخدمون عددا كبيرا من جنودهم للعمل خلف الخطوط لحفر خنادق وتركيب تليفونات وفي الخدمة الطبية والفنادق والمطاعم ....إلخ، وفطنوا إلى أنهم في حاجة لهؤلاء الجنود لكي يحاربوا بالجبهة، وأنهم لابد أن يستبدلوهم بآخرين، فنشأت في البداية فكرة طلب متطوعين مصريين ومن البلاد الأخرى التي كانوا يغزونها، لخدمة الخطوط الخلفية وتوفير الجنود للعمل العسكري المباشر، فبدأ آلاف من المصريين يتطوعون للذهاب إلى هناك، ومن بينهم عبد العال وحسب الله وعبد الرازق وعرابي.

عاش هؤلاء المصريون حالتين متناقضتين، الأولى هي حياة «الجنتلمان» التي تعودوا عليها في عملهم بالسلطة، والثانية هي الحرب التي خلقت لديهم قسوة بالقلب، فهانت عندهم فكرة الموت، وكان النظام أن يعملوا لمدة ستة أشهر ثم يعودوا لحياتهم ويمكن استدعاؤهم مرة أخرى بعد فترة من الزمن، فعندما كان رجال ريا وسكينة يعودون ومعهم نقود يصرفونها، وبعد عدة شهور يضطرو للعودة إلى حياتهم الأولى بمستواها الاجتماعي، بالإضافة للظروف الاجتماعية الضاغطة التي تواجدت في مصر وقت الحرب العالمية الأولى من ارتفاع الأسعار والفوضي الأخلاقية التي حولت المستورات وربات البيوت إلى محترفات للبغاء ووجود البغاء الرسمي وتنظيمه، وهو ما كان يفرض على المحترفة أن تخضع للكشف الطبي كل أسبوع للتأكد من أنها لم تصب بأحد الأمراض السرية التي كانت منتشرة جدا بمصر وقتها وهي «السيلان» و«الزهري»، فقد كانت وقتها أمراض قاتلة وغير قابلة للعلاج، لذا كان البغاء السري لبعضهن أسهل.

الاحتقار الشعبي

لم يكن ذلك تبريرا من عيسى لأفعال ريا وسكينة، ولكن لابد من وجود تفسير، لأن جميع ما أنتج عنهما وتمت روايته والأساطير التي حيكت حولهما صورتهما كنموذج للشر المجرد الذي لا يوجد أي ظروف اجتماعية دفعتهما لارتكاب ذلك، فهذا نوع من التفكير شاع في الأعمال الدرامية التي استلهمت من قصتهما، ويستطرد: الوجه الآخر للموضوع هو الاحتفاء الذي لقيه أدهم الشرقاوي، الذي كان زعيم عصابة، فبعدما كان ابن «ذوات» مدللا، اختلف مع عمه على الميراث، وحاول أن يقتله وهرب، فحكم عليه بالسجن ثم هرب أثناء ثورة 1919 عند الهجوم على السجون المصرية، وذهب إلى البحيرة حيث كون عصابته وأخذوا يقطعون الطرق ويسرقون الناس، ولكن دائما كانت هناك في كل الشعوب ومن بينها المصري فكرة اللص الشريف، تقديس المجرم لمجرد أنه شق عصا الطاعة للسلطة الظالمة، فهذا موجود في كل الأدبيات العالمية، بينما ما لاحظته أن معاصري ريا وسكينة لم يحترمهم أحد، ولم يُكتب فيهم موال مثلما كتب في أدهم الشرقاوي، ولم يعتبرهم أحد يقومون بعمل مجيد، رغم أنهم في أعماقهم وأثناء دفاعهم عن أنفسهم في التحقيق كانوا يعتبرون ما يقومون به عملا شريفا؛ وهو تخليص البشرية من هؤلاء السيدات الخائنات الفاجرات اللاتي يبعن أعراضهن، فعلى العكس، المصريون شاع لديهم نوع من الاحتقار لتاريخ هاتين الشخصيتين، ولذلك صورة أنهم مجرد كائنات وحشية هاربة من الغابة لا يوجد أي ظروف بشرية جعلتهم يفعلون ذلك هي الصورة التي سادت، في حين أنه تم تأليف حكايات ودوافع لأدهم الشرقاوي.

يرجع عيسى سبب ذلك إلى أن المصريين كانوا يحترمون علاقة العيش والملح، وكل ضحايا ريا وسكينة كانوا من فئات اجتماعية «غلبانة» جدا، بنات شارع وزوجات مضطهدات وفقيرات أجبرتهن الظروف على بيع أجسادهن وأخريات تُبن ووجدن من يتزوجهن ويستر عليهن، فقد كان ستر البغايا فضيلة دينية في ذلك الحين عند المصريين، لذلك احتقروا الطريقة التي تعاملت بها ريا وسكينة وعصابتهما مع هؤلاء الضحايا، فهم يأكلون ويشربون معهم يوميا ويعملون معهم وفقراء مثلهم، لا مبرر لقتلهم، ويضيف عيسى: هاجمني البعض عند عرض المسلسل وقالوا أنني أبرر لهم أفعالهم، لكن هذا ليس صحيحا، فأنا كنت فقط أضع متهمين آخرين معهم في القفص، هم قتلوا وأيا كانت الظروف الاجتماعية ليست تبريرا للقتل، ولكن يمكن أن يكون معهم متهمون آخرين، مثل ملك إنجلترا وإمبراطور ألمانيا وكل من أدخلونا في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وإن كانت الحياة أكثر رخاء وعدلا في ذلك الزمن ربما ما كانوا ارتادوا هذا الطريق الصعب، فهم مجموعة من الجنوبيين الذين قاموا بتغريبة طويلة جدا قطعوا فيها طرق من أقصي جنوب مصر في أسوان إلى أقصى شمالها بالإسكندرية للبحث عن مصدر رزق.

أسئلة بلا إجابات

ويستكمل عيسى: ريا وسكينة لم تقتلا بأيديهما، كانتا تسحبان الضحايا والرجال الأربعة يقتلون، ثم تخرجان لبيع المصوغات التي يسرقونها منهم، وقد اعترفتا بذلك في المحاضر الرسمية، وسكينة وقفت في المحكمة وتحت حبل «المشنقة» وأقرت بعدد قتلاهم، فكل ما يقال بعد ذلك عن براءتهم يخالف العقل والمنطق والتفكير السليم، أتحدى أن تكون هناك أي وثيقة من أي نوع يمكنها إثبات ذلك، كما أن القضية كان فيها عدد كبير من المحامين، فإذا كان هناك شيء كهذا لما فات على دفاع المتهمين، وفي النهاية البينة على من ادعى، المرويات الشفوية يمكن أن تكون أحد مصادر التاريخ بشرط أن تكون قريبة من وقت الحدث، وأن يكون لدينا شاهد رؤية، وهو يختلف عن شاهد السماع لدي المحكمة، فمن غير المنطقي الاستشهاد بشخص بعد 90 عاما لم يشاهد شيئا وإنما سمع عن آخر سمع أيضا ولم يشاهد.

وينهي عيسى حديثه بالتساؤل: إن كان الإنجليز من يقتلون، فلماذا؟ وكيف كانت تلك العصابة تناضل ضد الإنجليز إن كانوا يعملون مع الجيش الإنجليزي، هم يمكن أن يكونوا ضحايا الحرب العالمية الأولى والفقر والمرض والجوع وغيره مما تسببت فيه، ولكن نضالهم الوطني هذا أبعد ما يكون عن حقيقتهم، هذا يمكن أن نصفه بالفانتازيا التاريخية، بأن يستوحي المؤلف من الشخصيات الحقيقية ويغير فيها، ولكن لا يطلق عليها تاريخ، كما أن القضية عمل فيها فريق كامل من المحققين، سواء على القضية الرئيسية أو القضايا الفرعية، ولم يمس متهم منهم أو يضربه أحد قلما واحدا، والجثث وجدت في غرفة سكينة، والعدد الأكبر وجد في غرفة ريا التي تسكنها، بالإضافة إلى عدد محدود وجد في غرفة بالبيت الذي كانتا تديرانه للدعارة، وغرفة أخرى بها جثة أو اثنان، فكيف دفنهم الإنجليز هكذا؟ ولماذا كانت تشعل ريا البخور باستمرار بهذه الكثافة؟ وما دورهم الوطني؟ هل النضال بتنظيم الدعارة السرية؟!!.

اعتمد عيسى في كتابه «رجال ريا وسكينة» الذي تعدت صفحاته 670 صفحة على الأوراق الرسمية التي بلغت 2220 صفحة من قطع الفلوسكاب والمقسمة إلى أربعة أجزاء: الأول منها يخص الأوراق الشرطية من محاضر تحقيقات وتفتيش، أما الثاني فيتضمن تحقيقات النيابة التي كانت تجري بالتوازي وما تتضمنه من معاينة بمعرفة النيابة العامة وتقارير فنية وأخرى طبية، والثالث يختص بما دار في جلسات المحاكمة أمام قاضي الإحالة ثم أمام محكمة الجنايات ومنطوق الحكم وحيثياته ثم وقائع الطعن عليه أمام محكمة النقض وصولا إلى تنفيذه، بينما تضمن الجزء الأخير المستندات والأحراز المضبوطة في القضية والمكاتبات والمراسلات المتعلقة بها، وتضمنت المصادر أيضا كل ما تناولته الصحف المصرية المعاصرة للوقائع ومقارنتها بغيرها للوقوف عند الحقيقي منه فيما يتعلق بشخصيات القتلي أو الضحايا واتجاهات الرأي العام نحو هؤلاء وأولئك؛ اليومية منها والأسبوعية، خاصة ما كان يصدر في الإسكندرية بحكم أنها كانت أقرب إلى موقع الحدث، وكذلك الأحداث المحيطة والمتعلقة بالحرب العالمية الأولى لاستكمال البحث عن الخلفية الاجتماعية، وأيضا ما تناولته الصحف على مدى السنوات التالية عن هذه القضية من قريب أو بعيد، ويضاف إلى ذلك بعض المراجع والدراسات المتعلقة بأوضاع مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي.

Comments