إلى أين يذهب الأدباء في المرض؟

لا يخفى على أحد في الوسط الثقافي ما وصلت إليه حالة الكاتب محمد جبريل، فقد امتلأت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن حاجته للعلاج على نفقة الدولة في الخارج، ولكن كل ما تم هو إصدار قرار بمساهمة في العلاج لا تتعدى ثلث التكلفة، فإذا كان هذا هو الحال مع قامة كبيرة مثل محمد جبريل، فماذا يحدث مع من هم أقل شهرة وتأثيرا؟، وماذا إن كان شابا في مقتبل العمر؟

أكدت د.زينب العسال تدهور حالة محمد جبريل، فرغم كل ما كتب ليس هناك جديد، كما قدمت الشكر لكل الأدباء والمثقفين والمفكرين الذين وقفوا بجانبهم سواء بالتليفون أو القلم من خلال الصحف ومواقع الأخبار والبوابات، لكن المسئولين لم يتم شيء من جهتهم على الإطلاق: «لا اتحاد الكتاب ولا نقابة الصحفيين لهما دور ملموس، ورغم أن ملف جبريل ذهب لنقيب الصحفيين منذ شهر ونصف؛ لكن لا استجابة، في اتحاد الكتاب عرضوا أن يتم إرسال وفد لرئاسة الجمهورية ولكن محمد جبريل رفض، المشكلة أنه بالفعل في الوزارة السابقة، اتصل بنا المتحدث الإعلامي وأخبرنا أن المهندس إبراهيم محلب مهتم بالقضية ومرض جبريل وسلامته، وطلب منا إرسال التقرير وصورة من البطاقة الشخصية وبعدها أرسلوا لنا القرار، لكن الأزمة في القرار أنه بمساهمة الدولة بمبلغ 12 ألف يورو للعلاج، وهذه المساهمة تشمل أيضا الإقامة والتذاكر للمريض والمرافق لأنه لا يتحرك، بينما العلاج مبلغ كبير يفوق 45 ألف يورو، وقد أنفق جبريل أمواله على العلاج من قبل ولم يأخذ جنيها من أي جهة حكومية أو غير حكومية في العملية الأولى التي فشلت والعلاج الطبيعي، وبالتالي لم يعد في استطاعتنا سوى انتظار قرار بعلاجه على نفقة الدولة، ففي وزارة الصحة يلحون لأنهم أرسلوا ال12 ألفا، ولكن ماذا سنفعل بهم؟، كيف سنتابع العلاج إذا سافرنا؟، سنعود وكأننا لم نفعل شيئا».

وواصلت العسال: «أنا أناشد رئيس الجمهورية، لأن رئيس الوزراء لا يسأل فينا، فمحمد جبريل قيمة أدبية وفكرية، إضافة لدوره في الحياة الثقافية، وأجيال من الأدباء والمفكرين والمبدعين تخرجوا على يديه ومع ذلك الدولة تضن حتى أن تسأل عنه، فوزير الثقافة الأستاذ حلمي النمنم، رغم الصلة الطيبة التي تربطنا به، لكنه لم يتصل للاطمئنان على إنسان مثقف ولا الأستاذ يحيى قلاش نقيب الصحفيين، لذا أطالب الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن يأمر بالعلاج، لا نريد شيئا أكثر من ذلك، فالوضع لم تعد به رفاهية أن أحاول الاستعانة بمن يساعد لحل المشكلة، أرجوكم أنقذوا حياة محمد جبريل، فهي في خطر كبير وتبعات مرضه ونومه تزيد من خطورة حالته».

ومن لجنة الإعانات والمعاشات بالاتحاد، أوضح ربيع مفتاح أن مصاريف علاج الأدباء والكتاب المنتمين للاتحاد تأتي من ريع العائد لمبلغ العشرة ملايين نصف المبلغ الذي خصصه القاسمي سلطان الشارقة للاتحاد من قبل ، وهو ما يعني أن الكاتب الذي لا يتمتع بعضوية اتحاد الكتاب ليس له الحق في أي معونة من صندوق الإعانات والمعاشات، فالمشكلة أن اللائحة الداخلية للصندوق مقننة، بمعنى أن حالات العلاج المزمن مثلا يحصل العضو فيها على 3 آلاف جنيه سنويا، والحالات الحرجة إذا دخل العضو مستشفي من المستشفيات التي يتعاقد معها الاتحاد يصرف 50٪ من التكلفة أو العملية، ولكن فيما عدا ذلك لا يجوز للعضو أن يتعدى مبلغ 10 آلاف جنيه خلال العام من حيث العلاج أو العملية، ولذلك في مثل حالة الكاتب الكبير محمد جبريل، يقف الاتحاد عاجزا عن تلبية متطلبات الحالة الصحية، لأنه يحتاج إلى السفر لألمانيا، وهو ما يكلف 100 ألف يورو تقريبا أي ما يقرب من مليون جنيها، وهناك أيضا بعض الأمراض الخطيرة مثل الفشل الكلوي والكبد وغيرها التي تستدعي علاجا مستمرا ما يفوق العشرة آلاف خلال العام ولا يستطيع الاتحاد تلبيتها. يستطرد: «طلبنا في الجمعية العمومية السابقة بأنه لابد من إعادة النظر في صيغة أخرى للرعاية الصحية للأدباء والكتاب، لأن الكاتب دائما ما يكون في مهن أخرى، إما صحفيا أو محاسبا أو محاميا وغيره، في تلك الحالة إذا حصل من النقابة التابع لها على جزء من تكلفة العلاج أو العملية تطرح من المبلغ المستحق له بالاتحاد، لكني أرى أنه لابد من التأمين الصحي بالفعل، وقد علمت مؤخرا من الدكتور علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد في جلسة مجلس الإدارة الأخيرة أن هناك ما يسمى اتحاد النقابات الفنية، بصدد مشروع تأمين صحي متكامل، لأنه كلما كثر العدد قدم التأمين خدمة أفضل بتكلفة أقل».

ويتساءل مفتاح: «ما بال هؤلاء الكتاب والأدباء الذين لا ينتمون لنقابة بعينها، ما حالهم؟، لقد رفعنا خطابا إلى القوات المسلحة بأن يعامل حامل القلم مثل حامل البندقية، وأن تفتح مستشفيات القوات المسلحة للكتاب والأدباء، لكن البعض يرى في ذلك تمييزا، لذا نحن بصدد التأمين الصحي لكل مواطني مصر، لأن هناك أمراضا كثيرة انتشرت بشكل كبير، وهذا أمر خطير ويتصل بأهم ما يملك الإنسان وهو صحته، ثم إن الأديب أو الكاتب بصفة خاصة يستنزف من دمه وأعصابه وجهده وصحته الكثير، وهذا يجعله أكثر عرضة للأمراض، وقد لاحظنا أدباء أصيبوا بأمراض فتاكة في عمر الشباب ومنهم من توفى، ولم يجدوا من يقف بجانبهم من أجل المساعدة لتخطي أزمتهم، فالأمر أكبر من اتحاد كتاب مصر وصندوق الإعانات والمعاشات».

أما بالنسبة له ككاتب، فقد أدرك مفتاح الأمر منذ البداية، لذلك هو لم يحترف الكتابة كعامل مادي أو للارتزاق، فأسس مشروعا خاصا به ليحمي نفسه من أشياء كثيرة وليس المرض فقط، ويوفر الحياة الكريمة، ولكنه يستطرد: «مثل حالتي هذه قد لا توجد كثيرا، والرعاية الصحية والتأمين الصحي هما معيار لأي دولة متقدمة، والصحة والتعليم عنصران رئيسيان لنهضة الوطن، عندما يتمتع الإنسان بصحة جيدة ويحصل الجميع على تعليم جيد، هذا هو الاستثمار البشري والإنساني قبل الاستثمار في المعدات والآلات والأراضي والمشروعات، لكننا مازلنا ننظر للأسف الشديد إلى الصحة والتعليم كوزارات خدمية، فتحصل على أقل القليل، لأنها من وجهة نظر المشرعين عبء على كاهل الدولة لأنها أموال تنفق بلا عائد، ولكن الحقيقة غير ذلك، فلابد من نظرة أكثر عمقا بعيدا عن السطحية، لأن صحة المصريين والتعليم المصري في خطر، ونحن أمة في خطر».

بينما د.شيرين العدوي، أستاذة جامعية لديها رعاية صحية من الجامعة لكن يحز في نفسها أن يصل الحال مع الأديب الكبير محمد جبريل إلى ذلك، وهو الذي أعطى الكثير من عمره وحياته للحركة الأدبية في مصر، فعلي يديه تخرجت أجيال كثيرة وقدم للمجتمع الثقافي زهرة عمره في الكتابة، فتقول: «لابد أن يكون للأدباء والكتاب رعاية أكثر من ذلك، فاتحاد الكتاب يقدم شيئا هزيلا جدا بالنسبة لما يبدعه الأدباء وكأنهم خارج خارطة الحياة، غير معقول أنه كلما يمرض أديب لا نستطيع علاجه، وكثيرا ما يصاب الكتاب بأمراض نتيجة احتراقهم في الإبداع، فهذا ليس سهلا، يستهلك من أعصابهم وروحهم وجسدهم، ولا أقل من أن يرد هذا لهم في مرحلة المرض أو الكبر، فالرعاية الصحية لابد أن تكون أقوى من ذلك، ولابد أن تتدخل الدولة أيضا بشكل رسمي وقوي لحماية هؤلاء المبدعين من رموز مصر، فإذا كان الرئيس يتحدث عن القوي الناعمة وأنها التي تربط مصر بالعالم العربي والعالم أجمع، من باب أولى الاهتمام بالكتاب، فهؤلاء هم الشمعة التي تحترق من أجل الوطن، وهناك كتاب لا يملكون إلا القلم، هل معنى ذلك أن يجني عليهم؟».

ومن وجهة نظر العدوي: «أرى أن الأطباء لابد أن يكون لهم دور في ذلك، بأن يفرد سرير لكل أديب في كل مستشفى بمصر على الأقل، حجرة خاصة بالكتاب، بكرامة وليس كنوع من المن عليهم، في أي وقت يمرضون ، ومن يحتاج منهم السفر للخارج على الدولة أن تتحمل هذا».

ويتحدث الكاتب والفنان التشكيلي عبد العزيز السماحي مستاءاً: «الفنان أو الكاتب في مصر لا يربح من عمله ما يكفي لأن يقتات به على الأقل، إلا لو حصل على جوائز مثلا، فهناك كتاب كثيرون في مصر أصدروا كثيرا من الكتب بلغت 7 أو 8 ولم يكسبوا منها، فبالتالي لن يستطيعوا أن يصرفوا على علاجهم من الأدب إن مرضوا، وعدم علاج محمد جبريل حتى الآن يعد إخفاقا من نقابة الصحفيين وإدارة اتحاد الكتاب».

رصد السماحي في روايته الأولى «جريدة على ظهر قارب»، حالة مشابهة لذلك، وهي حالة الكاتب يوسف أبو رية، الذي توفى ولم يستطيعوا علاجه بسبب الإجراءات الروتينية، فتوفى بالكبد نتيجة عسر في الإجراءات والتعنت، رغم أن المال كان موجودا. يقول: «للأسف هذه أزمة إدارة، ولو أن الدولة تعتني بهم من قبل مرضهم ويتمتعون بنفس مكانة الممثل أو لاعب الكرة لما احتاجوا لذلك ولاستطاعوا استكمال إبداعهم، كما أن المرض ليس به تفريق بين الناس، وأي مصري له الحق في الرعاية والعلاج، خاصة إذا أفنى فترة كبيرة من عمره في الإبداع، فهو صوت لمصر في الداخل والخارج، وهناك كثيرون توقفوا عن الكتابة نتيجة اليأس وسوء التقدير والإهمال».

ويرصد السماحي عدة نماذج لحالات الإهمال، أولها علاء الأسواني، فيقول: «لقد شاهدته في برنامج منذ عشر سنوات وقال إنه يسعى للهجرة لأنه أصدر 6 أو 7 كتب ولا شيء تحقق له، ذلك قبل تحويل روايته عمارة يعقوبيان لفيلم سينمائي، وأيضا جمال السجيني النحات والفنان الكبير الذي وصل به اليأس بأن يلقي تماثيله من أعلى كوبري قصر النيل في المياه، رغم أن اليوم ليست هناك مطبوعات عالمية تتحدث عن تاريخ الفن المصري إلا وبها اسمه، ونعمات البحيري التي توفيت بالسرطان نتيجة إخفاق الاتحاد في التصدي لتكاليف علاجها، رغم أن هذا أبسط شيء تقدمه الدولة لمبدعيها، فهم عدد قليل جدا ولن يرهقوها».

Comments