مترجم الأردية المجبر على العمل كأخصائي صحافة.. هاني السعيد: الترجمة الرديئة جريمة

بدأ هاني السعيد بحثه عن المعرفة مع دروس الأدب العربي، والاستماع إلى الإذاعة في عصر عمر بطيشة ونادية صالح، وبدأ أول اهتمامه بالترجمة ربما بدون وعي، مع حبه للغة الإنجليزية وترجمة بعض السطور القصيرة جداً أثناء سنوات الدراسة الثانوية، أما الترجمة من الأردية فقد بدأها من خلال التدريبات في مادة الترجمة أثناء الدراسة الجامعية، والتي كانت مكثفة جدًا في السنة النهائية، حيث كان يُطلب من كل طالب ترجمة مقال صحفي طويل كل أسبوع.

بعد تخرجه مباشرة بدأ في الترجمة الحرة، حيث طلب من أحد أساتذته ترشيح قصص له لترجمتها، فرشح له مجموعة من القصص ترجم منها قصة بعنوان «الملاك» لأشهر كتاب القصة الأُردية في الهند والباكستان «سعادت حسن منتو»، وحين عرضها على أستاذه أشاد بالترجمة وشجعه على الاستمرار: «أكد لي حينها أن ترجمتي مبشرة جدًا، بل وغبطني عليها، وقد نشرت هذه القصة فيما بعد في مجلة (أدب ونقد)، ولكن بعد ذلك ومع مواجهة الحياة الحقيقية خارج أسوار الجامعة تعرضت لمشاكل وظروف كثيرة، فكنت ما ألبث أن أبتعد عن الترجمة حتى أعود إليها، واضطررت إلى الترجمة لغيري تحت ضغوط ما، ثم سرعان ما توقفت عن ذلك، وكانت أخبار الأدب - حين كان يدير تحريرها الأستاذ عزت القمحاوي - لها الفضل في نشر أول قصيدة من ترجمتي عنوانها (وحدة)، ولكن للأسف كنت أجبر على التوقف لفترات ثم أعود فأترجم شيئًا وأنشره، إلى جانب المجلة والجريدة؛ في موقع «دروب»، وكنت ألقي تحيات طيبة من القائمين عليه مثل الأستاذ كمال العيادي أو المساهمين فيه مثل الأستاذة آسية السخيري».

لم يختر السعيد دراسة اللغة الأُردية بكامل إرادته عند الالتحاق بالجامعة؛ إلى درجة أنه لم يكن يعرف - مثل أغلب الناس - ما هي تلك اللغة وأي البلاد تتحدث بها، غير أن التنسيق الداخلي بين أقسام كلية اللغات والترجمة هو الذي دفعه لدراستها: «ولكن بمجرد أن التحقت بهذا القسم نويت أن أجتهد قدر استطاعتي كي أتمكن من اللغة وأتفوق فيها، وكنت كلما زدت حبًا فيها، أجدها تبوح لي ببعض أسرارها، وتتفتح أكمامها، فتحولت دراستي لها إلى عشق من نوع خاص، وسرعان ما أصبحت محور حياتي كلها».

ولأنها لغة نادرة، فلابد أن بها صعوبات ليست قليلة، ويؤكد هاني ذلك قائلا: «الترجمة من الأردية كلها مشكلات تقريبًا؛ فبداية من اختيار النص الأردي الجدير بالترجمة حتى وصوله إلى مرحلة النشر توجد عقبات كثيرة، منها الانعدام التام للكتب الأُردية في جميع مكتبات بيع الكتب في مصر، وغالبًا في العالم العربي كله، لا يتبقي بعد ذلك إلا الكتب المتوافرة في مكتبات الجامعات التي تدرس فيها الأُردية، وهي فضلًا عن أن ما بها من كتب قديمة ومحدودة، فهي أيضًا لا تسمح بالاستعارة إلا لأعضاء هيئة التدريس، ولذلك ظللت فترة طويلة امتدت لسنوات أعاني من عدم توافر النصوص الحديثة والمعاصرة حتى أفادني الانترنت كثيرًا في حل جزء كبير من هذه المسألة، وبدأت أتعرف على كتابات أردية معاصرة ومهمة جدًا».

يستطرد السعيد: «ولكن تظل هناك مشكلة أخرى؛ وهي عدم وجود دافع قوي لنشر ترجمة عن الأردية، حيث اعتاد الناشرون؛ بل ومديرو تحرير أغلب الصحف والمجلات أن ينشروا ترجمات عن كتاب معروفين عالميًا وحاصلين على جوائز مرموقة مثل نوبل أو المان بوكر أو البوليتزر وغيرها، ولأن أسماء كبار كتاب الأردية وحتى الحاصلون منهم على جوائز مرموقة في بلادهم غير معروفين هم وجوائزهم هنا، يظل النشر عن الأردية مغامرة كبيرة، وإن حدث يكون بنسبة ضئيلة على سبيل التنويع فقط».

تلك مشكلات النشر والتوزيع، أما المشكلة الفعلية أثناء الترجمة نفسها فتتمثل في عدم وجود معاجم معتمدة كافية من الأردية إلى العربية مثلما يتوفر في أغلب اللغات الأكثر رواجًا: «يضطرني ذلك إلى بذل مجهودًا مضاعفًا في الوصول إلى المعنى المطلوب، كما أنه وباستثناء أعمال معدودة، لا يوجد تراث ترجمي كبير متميز من الأردية إلى العربية يمكن الاستعانة به في تقدير المعاني واعتباره نموذجًا يحتذي كما هو الحال مثلا في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية».

بما أن هذا هو حال السعيد مع العمل بالترجمة، فلا شك أن استمراره فيها مقرون بالحب والشغف وعشق اللغة الأُردية، ومن ثم فإن اختيار النص مرتبط بذلك من ناحية ما: «ولكن تظل هناك معايير معروفة مثل شهرة النص في لغته، حصوله أو حصول صاحبه على جائزة أو جوائز، أو مشاركته في مهرجان أو مؤتمر كبير، وهكذا، كما أن هناك معيارا مهما جدًا بالنسبة لي؛ وهو ترشيح المثقفين من الأدباء والكتاب هناك، ومع ذلك كله هناك نصوص ترشح نفسها بعد ترجمتي لها».

ومن النصوص المترجمة له، يتضح ميله إلى الترجمة الأدبية، ويوضح هاني أسباب ذلك: «ببساطة لأنني أحب الأدب جدًا، ومتخصص في الشعر الأردي الحديث، والسبب الآخر أن اللغة الأُردية بطبيعتها كلغة شرقية في مجتمع نام ليست فريدة بالعلوم العلمية، وتراثها الأعظم والأهم يتمثل في بعض العلوم الإنسانية والدراسات الإسلامية، وأعتقد أن أهم ما يستحق ترجمته عن هذه اللغة هو أدبها وشعرها، ثم يليه في الأهمية بعض الدراسات والكتابات الصوفية فضلًا عن بعض الكتب التاريخية والحضارية، وقد ترجمت سابقًا في مجالي الدراسات الإسلامية والتاريخ».

من كتاب اللغة الأردية، يفضل السعيد كتابات الشاعر الباكستاني ثروت حسين: «إنه جميل جدا، يأتي بالنسبة لي في المرتبة الأولى فنيًا وجماليًا حاليًا، يليه الشاعر الكبير المعاصر أفضال أحمد سيد الذي يعتبر علامة بارزة في قصيدة النثر الأردية، والشاعر ن. م. راشد وغيرهم كثيرون لا يعرفهم القراء العرب جيدًا حتى الآن، وأعتبر من مهمتي التعريف بهم بالشكل اللائق قدر المستطاع».

يرى هاني أن التدخل أثناء ترجمة نص لا يكون إلا لصالحه، فالمترجم الأدبي أقرب ما يكون إلى الممثل المسرحي، تدخله في النص له مساحة مقبولة إن زادت اعتبرت خروجًا على النص: «لذلك أحاول قدر استطاعتي تقمص روح المؤلف وحالته أثناء كتابة العمل، قد أنجح أحيانًا، وأحيانًا أخرى لا أوفق في ذلك والفيصل هو القارئ الخبير المتذوق للشعر أو الأدب المترجم».

لم يتعامل هاني السعيد مع النشر الخاص لسمعته السابقة له، أما المركز القومي للترجمة فكانت له تجربة وحيدة معه، يعدها محاولة بائسة لم يكررها حتى الآن: «فكرة أن أتوجه بمفردي إلى هناك دون توصية من أحد لا تعني إلا أنني ساذج أكثر من اللازم، وأنني أصدق الوعود الحكومية الكاذبة، فحين رشحت لهم كتابًا بعنوان «تاريخ الثقافة أو الحضارة في الباكستان»، رفضوه دون إبداء أسباب أدركت المسألة، وأكاد أوقن أن نفس الكتاب لو قدمه لهم أستاذ أكاديمي سيرحبون به، فأهمية العمل وحدها لا تكفي، وإنما شهرة أو أكاديمية المتقدم هي معيار الرفض أو القبول على ما يبدو، ومع ذلك أقدم مبادرة من خلالكم؛ حيث أعرض إعدادي لورشة ترجمة مجانية تمامًا تختتم بترجمة كتاب يساهم فيها كل المشتركين في الورشة، على أن يختار المركز عنوان الكتاب من بين عدة عناوين أقترحها».

رغم تفوقه دراسيا وحصوله على درجة الماجستير بامتياز، إلا أنه لم يجد فرصة للعمل بمؤهله إلا كأخصائي صحافة في مدرسة إعدادية!، وهي الوظيفة التي يراها السعيد في حد ذاتها لا تشوبها شائبة إن توافرت لها الوسائل والمتطلبات اللازمة، ويستطرد: «بل هو عمل مهم جدًا، لكنه مثل أشياء كثيرة لا يُطبق على أرض الواقع بالصورة الصحيحة، ولا تتوافر له المستلزمات الكافية في أغلب المدارس، مع أن المفترض فيه أن يشكل نواة الغرس الأولى للثقافة والمعرفة في نفوس الطلبة، ومنوط به اكتشاف جميع أنواع المواهب الإعلامية، بل والفنية أيضًا والعمل على تنميتها ورعايتها، أما بالنسبة لي فأنا لست أخصائي صحافة حقيقيا، لأن هذا ليس تخصصي، ومهما تقدمت فيه فلن أتقنه، إنه ببساطة ليس عملي بالمرة والحكومة هي التي أجبرتني على قبوله عندما لم أجد حلًا آخر أمامي، ومع ذلك أجتهد قدر الإمكان في إفادة الطالبات باعتبارها مسئولية خلقية في المقام الأول، ومن أول يوم بدأت اقرأ الكتب المتخصصة في الإعلام التربوي حتى أفهم طبيعة المهمة الموكلة إليّ».

أجبرته الدولة على العمل فيما لا يناسبه، وهي أيضا المسئولة عن حركة الترجمة ولكن: «الترجمة تعاني من افتقاد الكيان المؤسسي المحترم والمُدار بشكل واضح وشفاف، المفترض إن عمل المركز القومي للترجمة لكي يستحق هذه الصفة يبدأ من التدريب على الترجمة إلى وصول الكتاب ليد القارئ، ولا بد أن يطبق ذلك على جميع اللغات، كما أن الإعلام بكل أشكاله لا يعطي الترجمة حقها ومساحتها الكافية، وهذا يؤدي إلى مزيد من انعدام الوعي بالترجمة وأهميتها، حتى أن هناك الكثيرين ممن يعتبرون الترجمة والمترجمين في منطقة أدنى من الإبداع، كما يتحيز بعضهم لترجمة المبدعين عن غيرهم متناسيًا أن هناك فئة من المترجمين الرائعين من غير المبدعين لقدرتهم على التذوق مثل الكثير من النقاد من غير المبدعين، الترجمة الأدبية تحديدًا طريقة أخرى للإبداع، وأقرب ما تكون إلى فن التمثيل الذي يبدع فيه الممثل بأدائه لأفكار وكلمات المؤلف، فلماذا لا يضاف مثلًا فرع للترجمة من جميع اللغات إلى جوائز الإبداع الأدبية والثقافية، الحكومية منها والأهلية، على غرار جائزة الدولة التشجعية (فرع الترجمة)؟! جائزة ساويرس مثلًا ينقصها هذا الفرع، أظن لو حدث ذلك سيتغير الكثير في مصير الترجمة».

يشوب مجال الترجمة كثير من السلبيات، ولكن في رأي السعيد أن مطالعة كتاب مترجم غير صالح للقراءة بالمرة، وقد تم الإنفاق عليه من أموال دافعي الضرائب، فهذا هو أبرز موقف سلبي محدد يمكن أن يراه: «لابد أن يُحال إلى التحقيق كل من تسبب في ذلك، هناك ترجمات مشوهة بالكامل صدرت عن مؤسسات في الدولة هكذا، والمفارقة أن هناك كتبا مترجمة جيدًا يتم رفضها، فالترجمة الرديئة جريمة مزدوجة في حق المؤلف والقارئ على السواء، والمسئولية في مثل هذه الأمور مشتركة، لا يمكن أن تُسأل عنها جهة محددة؛ فالمؤسسات والأفراد مسئولون كل في موقعه، ولكن يأتي المركز القومي للترجمة في المقام الأول، فهو المؤسسة المنوط بها مسئولية تحسين أوضاع الترجمة والمترجمين، يجب أن تكون له خطة واضحة معلنة وموضحة للجميع، والأهم أن تُطبق بحذافيرها، وللتغلب على مشكلات الترجمة يجب أن تُعامل جميع الاقتراحات بالجدية اللازمة».

وفي النهاية، تبقى أمنية هاني السعيد هي ترجمة كتاب «جماليات مولانا الرومي» لمؤلفه شكيل الرحمن: «إنه من المشاريع المعطلة لعدم تفرغي؛ فهو يحتاج إلى تحضير وإعداد أكثر من الترجمة، ولكي أتم ترجمته أفضلُ دراسة الرومي وما كتب عنه جيدًا؛ فالترجمة عندي ليست مجرد نقل محض، بل يلزمها استعداد علمي وقراءات مستفيضة حول الموضوع المترجم، أما حاليًا فأنا أحاول الموازنة بين متطلبات الحياة الضرورية، وممارسة الترجمة، وأتمكن بالكاد من استقطاع والتقاط وقت للقراءة والاختيار والترجمة، وأعمل على مشروعين متوازيين؛ الأول ترجمة مختارات من القصائد النثرية الكاملة لأفضال أحمد سيد، والثاني مختارات من القصائد النثرية عمومًا، كما أن هناك الكثير من المشاريع المؤجلة».

Comments