قاص القرية سعيد الكفراوي: أعيش الموت كل يوم

في إحدى ليالي شهر يناير عام 1939، دوت بقرية حجازي في محافظة الغربية؛ صرخة ميلاد، أتي معها واحد من علامات فن القصة القصيرة بمصر فيما بعد، الذي نهل من تلك القرية، ثم سعى منها حتى التقى بجيل من الكتاب والشعراء أواخر الستينيات.. عاش «سعيد الكفراوي» مع تلك الكوكبة التي أعطت ولم تأخذ شيئًا؛ إلا مجد الكتابة الصالحة، رحل منهم من رحل، وبقي من بقي، يحملون كل المعاني الجميلة التي انشغلوا بها ولا تنفصل تجاربهم عن تلك المتغيرات التي جرت عبر 60 عاماً.

جاء الكفراوي إلى المدينة، عاش فيها ولكن قلبه ظل معلقا بقرية قديمة تنطوي تجربتها على عمقها الخاص، بخلاف ذلك العالم الذي يتهدده المحو، فأمضى عمره مشغولا بجدليات القرية والمدينة والمكان والزمان والصبي والكهولة والحياة والموت، استمد أحداث نصوصه من واقع عاشه، ومن بشر كان منهم، وبإخلاص وصبر أفنى عمره في كتابة القصة القصيرة، فكانت المحصلة 12 مجموعة قصصية هي: بيت للعابرين، شفق ورجل عجوز وصبي، حكايات عن ناس طيبين، مدينة الموت الجميل، مجرى العيون، أيام الأنتيكا، يا قلب مين يشتريك، كشك الموسيقى، البغدادية، دوائر من حنين، سدرة المنتهى، ستر العورة، وله قيد النشر «قمر في حجر الغلام».. ترجمت أعماله إلى عدد من اللغات كالإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، التركية، السويدية والدنماركية، فصدر عن «الجامعة الأمريكية للنشر» مجموعة «تلة الغجر» بالإنجليزية، وعن دار «أكت سود» مجموعة «كشك الموسيقى» بالفرنسية.

في نهاية العام الفائت، صدر للقاص سعيد الكفراوي عن الدار المصرية اللبنانية؛ كتاب «زبيدة والوحش»، الذي يضم 6 مجموعات هي: سدرة المنتهى، ستر العورة، مجرى العيون، بيت للعابرين، مدينة الموت الجميل، ودوائر من حنين، برؤية بصرية لابنه الفنان «عمرو الكفراوي»، وهو ما اعتبره الكفراوي الأب «عطية الابن لأبيه الشيخ»، واعتبرناه نحن تتويجا لمشوار مبدع؛ أكمل منذ أيام عامه ال77، فذهبنا إليه لنحاوره حول تجربته القصصية.

بدأ حوارنا مع صاحب «مدينة الموت الجميل»؛ بقصة من الباب الضيق لشخصه، وبصمته على الرافد الذي اختاره، ومفرداته، وانتهى بمشهد عام يحتاج لرؤية متفحصة ودقيقة لإدراكه وفهم تلابيبه؛ لكنه يجبرك على الصمت طويلا بعد لحظات من محاولة وصفه.

إذا شرعت في كتابة قصة سعيد الكفراوي. من أين ستبدأ؟

من هناك؛ عند أول حافة للدنيا، من الميلاد الأول، من الطين والمكان الذي فتحت عيني عليه، من عند الناس الذين عرفتهم وعشت بينهم، والمنزل الذي يقبع في قرية قديمة كانت تقام بها الأفراح، فأسمع دق الطبول وموسيقى فرقة مؤجرة، فهناك رأيت تحت نور الكلوبات «عالمة» تغني وترقص شديدة البهاء والبياض، فظلت في ذاكرتي طوال السنوات، وفي الساحة نفسها كان المآل للكبار، يجلسون على المصاطب ودكك مقهى قديم بائس، يحكون عن عوالم غريبة وأساطير، وأنا مفتح العين بالدهشة.

وفي الجوار كان دكان الإسكافي، كتبت عنه في قصة «سنوات الفصول الأربعة»، حيث كان يجالس جماعة لها إيقاع خاص في الحكي، أغراب وأولاد بلد، وكان بينهم من يحكي ألف ليلة وليلة، أذكره؛ ذلك الغريب، بتلفيعته حول رقبته وطاقيته الصوف ولمعة عينيه الخاطفة، فاستعيد نبرة صوته يحكي من الليالي.. فضاء أقام بداخلي إيقاعه، وأمضيت حتى آخر العمر أكتب به ما كتبته من قصص، فكانت بداية تتواصل مع بدايات أخرى كثيرة لاحقة شكلت الوعي والتجربة.

لماذا القصة القصيرة؟

الحقيقة أنا لا اعرف، لم أجرب شكلا آخر للكتابة يجذبني إلى أرضه، رحل من كتبت معهم إلى زمن الرواية وتركوني هنا؛ محمد المخزنجي وأنا نمارس كتابة هذا الشكل بصبر غير اليائسين، فذات مرة نويت أن أكتب رواية؛ لم تكتب، لا أذكر أن أحدا دخل إلى محراب الكتابة بتلك النية البائسة، فالكتابة أرزاق كما يقول عمنا كبير المقام إبراهيم فتحي، والقصة في النهاية هي الجنس الأدبي شديد الخصوصية الذي ساعدني عبر بنائه ولغته وإيقاعه على التعبير عن التجربة الإنسانية التي عشتها. تجربتي جعلتني طوال الوقت من المؤمنين أن كاتب القصص الجيد يختار موضوعاته مما يعرفه عن أحوال الناس، وأن عليه إن كان صاحب موهبة حقيقية أن يحول ذلك العادي من حياتهم والمألوف من طبائعهم إلى فن حقيقي، هل تذكرين قصة «الأمهري» ذلك الرجل الذي بيع طفلا في أسواق الإسكندرية، حيث غيروا دينه بعد أن جاء من بعيد ولكنه لم ينس أبدا تلك الترانيم المسيحية التي كان يسمعها، وظل يردد حتى مات أن تغيير دين الآدمي شيء صعب جداً، أنا أعشق هذه القصة لأنها في نهاية الأمر حاسمة ومصيرية، وتشبه في معناها وشكلها ما كتبه المعلم أنطوان تشيكوف.

كما أنني من المؤمنين بأن قصة جيدة تساوي رواية جيدة، بل وفي بعض الأحوال، تكون القصة - في رأيي - أكثر تواصلاً مع الإنسان، لأنها على نحو مبدع وبإيقاع شديد الندرة تكون أكثر إنسانية، فليرحم الله أستاذي إدوار الخراط الذي قال يوما: «القصة تسعى إلى المعرفة وتجابه أحوال الحياة والموت».

فضاء الكتابة فيما تكتبه؛ غالباً فضاء قروي، المكان والزمان أكاد أطلق عليهما نفس الوصف. لماذا اخترت المشهد القروي/الريفي لتجسد فيه الكثير من عوالمك؟ ولماذا لم ترغب في التعبير عن عوالم أخرى؟

تستمد التجربة توغلها من هذا العالم؛ حيث الميلاد وربما الموت، وإن كان لهذه التجربة عمقها الخاص فبفضل تأمل قضايا هذا العالم وأحواله، ثقافة الكاتب كما تعرفين استمدها من تلك الانشغالات التي تعني الإنسان، وتهم الكاتب أيضاً، فالهوية هي التي تكوّن الضمير، والانتماء يتفاعل مع حياة الإنسان، بالذات الحياة في ماضيه حيث عاش فترات التكوين الأولى.

أنا أمضيت حياتي وبصدق منتميا لانشغالات لم تفارقني حتى اليوم؛ جماعة أخلصتُ لها وقضيت عمري كله وفيا لها، ومكان ما تزال أشباحه حتى اليوم تقلق مضاجعي، ومصير إنساني اقترب من نهايته حيث الرقدة الأخيرة في مقبرة على حافة أبدية هذا العالم.. سنوات طويلة من العمر انشغل فيها الإنسان بجدليات هذا الفضاء الريفي، الذي يبدو للبعض محدودا إلا أنه عميق مثل بئر، وكلما أوغلت فيه اكتشفت كم أنت تعيش على الشطآن البعيدة له.

بتجرد؛ وبعيدا عن تجربتك الشخصية، هل أنت مع التنوع في أشكال الكتابة حسب حالة الكاتب وما يعتقده ويتراءى له أم أنت مع التخصص؟

أعتقد أنه مع الكتابة الجيدة لا يحدث مثل هذا الشيء، فأحدهم قال ذات مرة ان الشاعر تنطوي تجربته على الإصغاء لأنين الوجود، وأن الشاعر الموهوب هو الذي ينزل إلى طبقات الموت ثم يعود ليحكي عن سفره محولا الجحيم إلى غناء، هذا شعر لا يعرف التخصص، وينبذه.

ما أقصده هو أن أي كاتب يمارس فعل الكتابة لأنه في الأول والآخر يحاول القبض على إيقاع يضبط به الأحداث، وكما تعرفين لا توجد قواعد ثابتة للكتابة، فالبعض يمارس كل أشكال التعبير والبعض الآخر يعيش ليكتب عن تراكم تجاربه، ويمارس إبداعه من خلال شكل واحد عرف به وأمضى عمره خادما في محرابه، في النهاية لا شيء يحكم الكتابة إلا النتيجة، تلك النتيجة التي تسفر عن النجاح أو الفشل، التخصص يكون في مهن العلم ذات النتائج الحاسمة، أما الأدب فيقوم على الاحتمالات وإجاباته مفتوحة على تلك الاحتمالات.

ثمة عناصر شكلت وعيك وساهمت في تكوين إخلاصك للكتابة وظلت ملازمة لك طوال تجربتك الأدبية، حدثنا عن تلك العناصر.

لابد أن أعترف بأن أي كاتب يمارس الكتابة هو ذات خاضعة لشروط وتاريخ عاش بهما، يتمثلان في مشاغل واهتمامات حاضرة في وعي الكاتب، تمثل بالضرورة مكونات معارفه، فأنا وأي كاتب في مصر؛ عشنا وقرأنا تاريخ هذا البلد، وبحكم العمر عشت الظلال الأخيرة للحقبة الملكية، وتعلمت وعشت زمن حركة يوليو 52، وزمن هزيمة 67 ونتائجها المروعة، ثم الانفتاح الاقتصادي ومرحلة الفساد المرعب حتى ثورة 25 يناير التاريخية، ما أدركته طوال عمري أنني أنتمي لشعب من المحرومين، يعيشون نقائضهم في التعليم وهمّ الحياة، ومجابهة المظالم، وسطوة السلطان، وقرأت تاريخه فوجدته شعبا عاش عبر زمنه ذل تلك المظالم، وتواتر الأمم على حكمه من كل الملل والنحل، هؤلاء الذين كانت حرفتهم الحرب والنزال والفتوح، فيما هو لا يجيد إلا فعل صناعة الحضارة وبناء المساجد والأضرحة، وصناعة التحف وزراعة الأرض.

كانت معرفتي بهذا التاريخ هي العناصرالأولى التي شكلت وعيي وما أرى، وما أحكم به من موازين، كانت الحياة في القرية بكل طقوسها عاملا أساسيا وعنصرا مهما في تكوين رؤيتي للدنيا، والمعيار الأساسي للقيم: الظلم والعدل، الاستبداد والحرية، العادة والأسطورة، وأسئلة المصير: الموت والحياة، وكذلك المكان والزمان، الكهولة والطفولة، ثم ما أدركته منذ الطفولة الأولى من قراءة وحسن الإصغاء لأصوات الآخرين.. كثير من المعاني عرفتها من الحياة، وانطوت عليها تجربة الكاتب؛ تلك التجربة التي يبحث عن ثقافة تماثلها، سواء في النظر إلى الحياة أو في كتابة قصة من القصص.

زمن المحلة الكبرى؛ الزمن الأول للخطوة الأولى وتكوين الجماعة، ثم الرحيل إلى القاهرة. ما هي تأثيرات تلك الفترة عليك؟ وما هي ملامح زمنها الماضي؟

ينبع من الماضي صوت الشعر، فتتردد في القلب المعاني؛ «يا من تعود من الجبال كان عليك أن تهبط البلد/ قل لي كم أقحوانة أزهرت تحت نوافذ منزلي؟/ بين المحلة وكفر حجازي نهر من الماء الجاري والأحلام/ والزمن موغل في ذاته إلا أنه حي في الذاكرة/ تجمعهم الظروف والسكك وعشق الكلام»، والزمن أول الستينيات حيث الصوت القومي يهدر في جنبات الوطن الكبير بالتحرر ومحاربة الاستعمار والقضاء على الإقطاع والبتر الكامل لزمن ماض كانت محاسنه أكثر من مساوئه، فترة التكوين الأول والبحث عن ملاذ في الكتابة ومحاولة النفاذ إلى عالم خاص والتشبث بالخروج من ظروف عيش محاصرة إلى زمن آخر، اجتمعنا حول القصة، حيث تأتينا أصداؤها من القاهرة عبر أصوات جديدة منفردة، والشعر؛ حيث كان الإمام محمد عفيفي مطر يجاورنا بكفر الشيخ ويتهيأ لدوره الفاعل في الشعر المصري، كما زارنا ذلك الحين يحيى الطاهر عبدالله وخليل كلفت وجميل عطية إبراهيم، وقبلهم الراحل الكبير إدوار الخراط الذي أمضى معنا أياما لا تنسى، هؤلاء الزائرين كانوا صوتا هيأنا للرحيل باستثناء الصديق «جار النبي الحلو» الذي أحسن المكان ضيافته وكذلك البشر فآثر المكوث هناك.

كنا في ذلك الوقت نعيش بعض الأسئلة منها القديم والحديث، وكانت مشاغلنا كيف تكتب كتابة مختلفة تسعى للجديد وتدافع عن أحوال الحياة؟ كنا نتحاور ونختلف، وتتم عملية النقد بيننا بسن القلم الدامي سعياً لتحقيق الأجود والأجمل في الفن الذي نكتبه ونراقب ما يحدث من متغيرات الدنيا في الخارج والداخل ونجدد ثقافتنا كل يوم، أذكر أنني كتبت في ذلك الوقت قصة اسمها «الرحلة» ناقشها د.جابر عصفور الشاب حينئذ ووقع عليها الخلاف، وأذكر تلك الأيام عندما دخل محمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو قاعة الندوة، مازلت أتذكر الدهشة على وجهيهما والفرحة بأول اكتشاف، ومن يومها لم نفترق، فتحية لتلك الرفقة، تحية لهم في آخر العمر، الباقي منهم ومن رحل؛ لنصر أبو زيد ومحمد صالح ورمضان جميل، لمحمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وجابر عصفور وفريد أبو سعدة وجار النبي الحلو، رفقة الزمن الطيب وسنوات التكوين التي لا تنسى، وأنا أودعهم بما قاله كازنتزاكيس «أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل، خيم الظلام وقد انتهى عمل النهار، أعود كالخلد إلى بيتي؛ الأرض، ليس لأنني تعبت وعجزت عن العمل؛ فأنا لم أتعب، لكن الشمس قد غربت».

الحدث في قصصك يقوم على ما شهدته في الواقع أم على المسموع، أم على ما تشغله مخيلة الكاتب؟

ينبني الحدث من كل تلك المشاهد، كلها تشكل ملكة الكاتب وتساعده على تكوين الرؤية عنده، فقد كان بورخيس يكتب بثقافته لذا أطلقوا عليه «رجل أدب»، وما ذكرتيه بالإضافة إلى ذاكرة الكاتب يمثل مصيره الذي يماهي الأدب ويتقاطع معه، فالواقع فضاء للحدث نكتب به ما تجود الذاكرة، والذاكرة كما أفاضت يوما أستاذتي د.سيزا قاسم - متعها الله بطول العمر - «توأم الخيال».

كيف تصف مشروع السرد الخاص بك؟

هو من يأخذ بيدي لأكتب القصص، أستعين بكل موروثي من الحكي لأنشيء كونا صغيرا من الدهشة، حين أعثر على الجملة الأولى التي عادة ما تكون حاسمة في تشكيل النص؛ عندها يستقيم البناء وتشتعل الكتابة ويعرف العمل حدوده.

الطفل أبو الرجل، وارتباطك بالطفولة وزمنها شاهدان على أن أغلب القصص يجتاحها الأطفال. هل هو الحنين للذي مضى أم للماضي وأهله ، أم لتلك الحقب البعيدة من العمر؟

انشغلت بالطفولة وزمنها، كما انشغلت بالزمن والموت والمصير، وكانت الكتابة عن الطفولة محاولة لفهم الغامض والمحير، والتعبير عن الظلم، والشغف بالقبض على المدهش، يقول كامي «أي طفل لا يكون شيئا بذاته»، هل هي نبرة نتعب للحصول على نغمتها للتعبير عن أحوالنا؟ هل الطفل باب أدخل منه لذلك النص الصعب الذي يستهويني، النص المهموم بالمصير الإنساني، وسؤال الأبدية، لقد كنت أنصتُ لهم وأنا طفل، انغرس في عباءة واحد من أصدقاء أبي وأسمعهم يحكون الحكايات ويقصون القصص، وكان يغلبني النوم على صوت ركض الجياد، وأصوات النداهات وترانيم الموتى، وأهل السكك الذين يجوبون الآفاق.

هل تذكرين قصة «الجمل يا عبد المولى الجمل»؟؛ حيث يطارد في الحلم جمل الدار الطفل في المنام، فيما تصرخ الجدة «الجمل شيخ يسعى لندره»، وهو في أسر المخاوف في الصحو ينتصر على مخاوفه ويقبض على حزام الجمل ويبركه!، الجميل أن كثيرين هم الأطفال الذين يحملون مصائرهم في قصص كتبتها عن الحياة في مصر، كما في القصة الطويلة «قمر معلق فوق الماء»، عندما يواجه ذلك الطفل المدينة ويعشق إحدى البنات فينكسر قلبه، ويسمع صوت أمه قادما من بعيد.. يختلط على الأمر كلما عشت أزمنة هؤلاء، والقصة آخر الأمر شكل يعبر عن لحظة من زمن يبدو كأنه كل الأزمنة.

هل تحبذ تصنيفك كاتبا للريف؟

لا أنا لا أحب أي تصنيف للكاتب، لأنني من المؤمنين بأن كل كاتب يكتب ما كتبه الآخرون ولكن بشكل آخر، فلا جديد في الكتابة وإنما الجديد هو الكاتب نفسه، وأعتقد أنني أنجزت بعض الكتابة الجيدة من القصص الجيدة عن المدينة وأهلها كقصة «لابورصا نوفا» عن ريفي ضائع في مدينة لا تعرف الرحمة، لقد كتبت هذه أواخر الستينيات، حينما كانت هزيمة يونيو 1967 تمثل الكارثة بين الجيل الذي أنتمي إليه، وكان بطل القصة يجوس في شوارع القاهرة في الليل عندما لمح صورة العذراء مريم في محل أنتيكات فصرخ بصوت غطى المدينة «كرياليسون.. كيرياليسون.. يا رب ارحم.. يا رب ارحم» وكانت صرخة وسط ليل أسود وهزيمة مروعة!.

لماذا صوت الموت دائما يتردد في الكثير من القصص؟ وأي موت تعني؟ وبأي فهم ترى هذا الموت الفاجع؟

أعتقد أن الموت في عقائد المصريين ليس نهاية للحياة، ليس هو العدم والفناء في الأبدية، لماذا أقام هؤلاء تلك الأبنية البهيجة من أهرام وأضرحة ومقامات ليأوى إليها الراحلون، أظن أن الأمر يتعلق بفهم المصريين للخلود، والموت في عرف المصري يتحول في الدنيا إلى مجاز آخر يتقاطع مع الحياة، وأنا كما تعرفين رجل أعيش الآن بقدم في الدنيا وأخرى في الآخرة، طال الزمن وباخت الأيام، وقد رحل من كنت أحسن الحديث معهم، هؤلاء الذين آثروا أن يرحلوا كاملين جسدا وروحاً دون ضراعة أو لوعة العليل الحزينة، فهذا ما سطره بورخيس شعرا في وداع جده، ومن يستطيع أن ينسى قصة «شرف الدم» عن الذي رأى جسوم أهله بعد موتهم حينما كانوا يقيمون مقبرة جديدة، فعرف أمه وأخته وأقربائه وكان وحده هو الذي رأى أهله بعد الموت.

هناك صوت يعمر الروح بصدى من أبدية تتهيأ للانقضاض!، وصدقيني أنا واحد ممن يعيشون موتهم كل يوم، لكني أعتقد أنني أهرب من مطاردته في أحيان كثيرة بالكتابة عنه والجدل معه، وبذلك الشوق الدائم لمن ماتوا موتا عجباً.

لماذا تختفي العلاقات الدالة على زمن الأحداث في غالبية قصصك؟ وما مفهومك للزمن فيما تكتبه؟

من الذين كتبوا عن قصصي - طيب الذكر - أستاذي د.شكري عياد، وكانت دراسة ألهمتني الكثير من الصواب، قبض فيها على كثير من جدليات ما كتبت عنه، وضمنها الكثير من المعارف وانشغالات تنظر إلى دور الكاتب ومعني الكتابة الجيدة، والموت والتآكل وأسباب العيش، ومن ضمن ما ذكره ما اكتشفه في قصصي من معنى الزمن، فيقول عن مجموعة «سدرة المنتهى»: «الزمن عند الكفراوي كتلة واحدة لا يتميز فيها الماضي عن الحاضر أو المستقبل، والقصة تتحول إلى تمثال حين يتحول الزمن إلى زمن بئر، فتتقطر فيه تجارب البشرية التي لا تختلف في جوهرها بين إنسان عاش منذ آلاف السنين وإنسان يولد اليوم أو يموت في قرية مصرية، فالولادة والموت أيضا لا فرق بينهما في الزمن البئر، والزمن البئر هو مفهوم الفنان للخلود والروح والحضارة وتاريخ الإنسان». يحيرني حقا ما أكتبه وأسعى إليه، وتدهشني العلاقة بين الجد والغلام وكأنها علاقة بين زمنين!.

«زبيدة والوحش». كيف تولدت فكرتها؟

القصة كُتبت في الثمانينيات ونشرت في مجلة «الكرمل» أيام عز مجدها؛ حين كان يرأسها الشاعر الراحل محمود درويش، وهي قصة عن الخصوبة والموت، وعن الوطن، أما الكتاب الذي أنجزه «عمرو» ليقدمه عطية لأبيه الشيخ فكانت العطية فوق التصور؛ إنجازا وإبداعا وقيمة تسبق القصص بمسافات!، وجاء الكتاب في مجمله خير تعبير عن ضمير الكاتب وبعض أحلامه وشواغله، فشكرا لدار النشر المصرية اللبنانية التي أنتجت هذه التحفة.

ما هو الوقت الأكثر تفضيلا لديك؛ عندما تكون كاتبا أم قارئا؟

هناك مرض نفسي اسمه «الخوف من الكتابة»، وأنا مريض بهذا المرض، وتستطيعين باطمئنان أن تقولي أنني لم أملك طوال حياتي زمنا للكتابة، إنها تأتي صدفة وعلى غير موعد، وفي كثير من الأحيان أفر منها مثل المهزوم في ميدان، أما القراءة فلها كل الزمن، تلتهم الوقت بلا رحمة، وهي آخر الأمر عوضاً عن الخسران وأيام اليأس، ومسافة الحنين لزمن قد ولى، ومهما كانت الكتابة حاضرة لا تستطيع انتزاعي من التواصل مع كتاب جيد أقرأه.

هل سعيت لترجمة أعمالك أم المبادرة جاءت من الخارج؟

أنا مع من كتبت معهم لم نسع إلى شيء، كل ما في الأمر أن مستعربا طيبا هو الأستاذ دينيس جونسون ديفيز - أمد الله في عمره - تعرف علينا على طولات المقاهي، وأحب ما نكتب فبادر بترجمته، وبالمثل عرفنا الآخرون فكانت الترجمة التي شرفونا بها، أما المؤسسات فلا واحدة منها تبنت ما نكتب أو حتى ساعدت المترجم الكريم بشراء عدد من النسخ، ورغم أهمية مشروع ديفيز، إلا أنه ولا مؤسسة أشادت به، رغم أن هو من ساهم في وصول أستاذنا نجيب محفوظ إلى العالمية.

ما البصمة التي يريد أن يتركها سعيد الكفراوي؟

في لحظة يسترجع الإنسان عمره ويعثر على نفسه ويواجه السؤال، أما أنا فتغيب عني الإجابة عندما استعرض ما كان؛ عمر مضى، وزمن ضاع، ومصر في قبضة الشروط الخانقة، وسلطة الستين عاماً التي تمثل أكبر محنة مر بها الوطن، لا بصمة هناك، ولا شئ يعلو على حرية الوطن، والبحث دائم عن حقوق المواطنة وأفق من الحرية ينفتح على الاحتمالات، وأنا بين الماضي والحاضر أنتظر خاتمة رحيمة تأتي بعد ما عشته من تفجر موت الأصدقاء الطيبين الذين أذكرهم كل يوم وأرسل لهم نداء مفتوحاً يصلهم بعد أن تركوا هذه الوحشة وهذا الفراغ.

هل قرأت مؤخرا كتابات تعبر - من وجهة نظرك - عن 25 يناير؟

في المحصلة النهائية لم أقرأ في كل ما صدر ما يعبر حقيقة عن الوعي الحر بثورة 25 يناير؛ تلك الثورة التي حلمنا من خلالها بتحقيق الحرية والعدل وكرامة الإنسان، قرأت حكايات إبراهيم عبد المجيد وأحببتها، ولكن جاءت الريح بغير ما تشتهي السفن، حيث تاهت الأحلام والأمنيات، وكلما تذكرت ليالي الميدان المفتوحة على الأمل اشتدت فداحة الحزن، وشعرت بقيمة ما فقدناه وبقسوة النهاية التي كانت مفتتحا للكثير من الخسارات.

كيف ترى المشهد الثقافي حاليا؟

عندما أنظر لواقع الثقافة العربية أتذكر مسرحية «انظر خلفك في غضب» لكاتب المسرح البريطاني «جون أوزبرن»، مشهد عام يتسم بقلة القيمة ويعيش مشاكل الفشل السياسي الذي تتعاطاه المنطقة، لتتأمل المعارك الصغيرة للمثقفين، والمشاريع الثقافية التي لا تكتمل بنياتها، لتتأمل وسط دعاوي التنوير والخروج من سطوة الماضي زمن الفتاوي التي تتمسح بالدين، وتكفير المخالفين، وتهميش الإبداع الجيد؛ بل ومصادرته في بعض الأحيان، وغياب حريات التعبير، واقتصار دور الثقافة الرسمية في فرض رؤيتها المعبرة عن سلطة الحكم.

أجد حصارا من قبل كتب الخرافات، وتهديدا بسلاح الدين ضد حلم المثقف بابتعاث دولة مدنية تقوم على الفصل بين السلطات، مع احترامها للدستور وحرية التعبير وحرية الإبداع، فعندما نتأمل ما يجري في حقل الإعلام - مثلا -، نجد أفرادا من مقدمي البرامج يسودون وجه وطن: الصبي والبلطجي وربيب الأمن، يصرخون طوال الليل، وينطقون بالقضايا التي تجسد الكراهية والفرقة بين الأوطان، ويتاجرون بالفضائح مثل تجار النخاسة، فأنا أكرههم جميعا.

Comments