المبدع الكيميائي المهووس بسحر كيمياء الكتابة سعيد سالم: الأدب هو السحر الحلال

وُلِد سعيد محمود سالم بالإسكندرية عام 1943، وبدأت رحلته مع الكتابة مبكرا، بدأها لنفسه - دون أن يعلم أحد- وهو لا يزال صبيا في المرحلة الإعدادية، كانت كتاباته حينها في صورة تساؤلات بريئة عن مسائل غامضة بالنسبة له كيتيم - واليتيم بطبعه شخصية تأملية - ليس له من مرشد للإجابة على مثل هذه الأسئلة سوى الأم، والتي لعبت دورا جوهريا في حياته، كان يتساءل عن معنى السعادة والفقر والغنى والحب والجريمة والعبادة والكون وخالقه، تساؤلاته كانت تأتي في صورة سرد، وأحيانا في صورة أبيات كان يحسبها في ذلك الحين شعرا لا يعلى عليه ، فيتذكر : «وجدت نفسي مدفوعا إلى الكتابة من قبل أن أتخصص في أي شيء على سبيل الحوار الداخلي مع النفس، وبتطور الكتابة عرفت القصة والرواية وانجذبت إليهما بشدة باعتبارهما مجالا خصبا للتنفيس عن كل ما أنطوي عليه عقلي الباطن من حيرة وجودية».

المبدع الكيميائي

في سن الخامسة والعشرين حصل على ماجستير الهندسة الكيميائية، تدرج في المناصب حتى وصل إلى منصب رئيس قطاع بشركة الورق الأهلية بالإسكندرية إلى أن أحيل للمعاش؛ فتفرغ لأدبه، الذي تأثر بقوة ووضوح بتخصصه كما يؤكد: «الهندسة الكيميائية تحليل وتركيب وتكثيف وتركيز وتفاعل، والرواية تحليل شخصيات وتركيب أحداث وتكثيف للغة السرد وتركيز في عرض الفكرة دون إسهاب، وتفاعل بين المواقف والشخصيات في بعدي الزمان والمكان، وبوجه عام فإن لأسلوب التفكير العلمي أثره القوي والفعال على مستوى العمل الأدبي، والذي يجعل صاحبه متميزا عمن يكتبون في غياب تلك الخلفية الهامة، الأدب هو السحر الحلال والكيمياء هي سحر العلم، و«المبدع الكيميائي» مهووس بسحر كيمياء الكتابة».

كتب سالم 16 رواية منها: جلامبو، بوابة مورو، عمالقة أكتوبر، آلهة من طين، الشرخ، الأزمنة، عاليها واطيها، حالة مستعصية، كف مريم، الشيء الآخر، المقلب، الفصل والوصل، و11 مجموعة قصصية من بينها: قبلة الملكة، رجل مختلف، الممنوع والمسموح، أقاصيص من السويد، قانون الحب، الكشف، رحيق الروح، والمعضلة الكبرى، إلى جانب كتاب نقدي بعنوان «الإسكندرية قبل25 يناير.. فيض من الإبداع المتألق»، بخلاف مقالاته النقدية العديدة في الصحف والمجلات الثقافية، وكتاب آخر عن «نجيب محفوظ الإنسان».

الرقابة في مجتمعاتنا

لم تتوقف إبداعات صاحب «كف مريم» على ما سبق ، فكتب أيضا للمسرح «الجبلاية» التي ستنشر في أعداد مجلة «أدب ونقد» القادمة قريبا، و«الدكتور مخالف»، إلى جانب عدد من الأعمال الدرامية الإذاعية والتليفزيونية، فضلا عن العديد من السهرات الكوميدية وبرنامج عالم القصة، والمسلسل الكوميدي التليفزيوني «عاليها واطيها»، وله قيد التنفيذ تليفزيونيا مسلسل «المقلب»، أما السينما؛ فيقول عنها: «كتبت فيلما سينمائيا كوميديا بعنوان «ممنوع اللمس»، وفكرته مأخوذة من قصة لي بعنوان «قانون منع الخلوة» نشرت في أخبار الأدب في 12/3/1995، وقد اتفقت أولا مع المخرج هاني لاشين على إخراجه وكان شديد الإعجاب بفكرته لولا أن الرقابة طلبت بعض التعديلات التي رأيت أنها ستفقد العمل جوهره، وقد وافقني هو الآخر على ذلك وكان ساخطا أشد السخط على سلطة الرقابة في مجتمعاتنا المتخلفة، ومن بعده اتفقت مع المخرجة إيناس الدغيدي على إنتاجه من قبل روتانا، لولا أن حدثت ظروف خاصة بالشركة حالت دون تنفيذ الفكرة، والسيناريو مازال موجودا عندي كما كتبته دون تعديل، فكرته هي العكس تماما من فكرة فيلم «النوم في العسل» لعادل إمام، والذي لم يكن قد عرض حتى ذلك الحين، عن حالة خصوبة غير عادية تصيب الرجال والنساء، فتكتظ الشوارع بالأطفال، وتنشأ وزارة خاصة لتحديد النسل بقوانين صارمة تمنع لقاء الرجال بزوجاتهم، ويتولى هذه الوزارة رجل عنين كاره للمرأة، ويتحايل المصريون كعادتهم على القانون ليلتقي الأزواج ببعضهم .... إلى آخر أحداث القصة».

قراءة تأملية وليس نقدا

تتعدد مجالات إبداعاته، ولكن تبقى الرواية هي أقرب الفنون الأدبية تعبيرا عنه، ولولاها - كما يؤكد - لأصبح مجنونا يجري في الطرقات، ومع ذلك التنوع لم يجد سالم صعوبة على الإطلاق في الجمع بين كل هذه الفنون، خاصة النقد الأدبي للأعمال الروائية والقصصية، حيث أنه واحد من كتابها، فيقول: «أنا لا أكتب شيئا ما لم أحبه، كما أن لكل مضمون شكلا هو الأنسب للتعبير الفني الناجح عنه والمناسب تماما له، فهناك مضمون لا تصلح له إلا القصة القصيرة وآخر تناسبه التمثيلية الإذاعية، والشيء الوحيد الذي ينبغي أن يجمع بين كل شكل ومضمونه هو الصدق الفني، أما عن كتاباتي النقدية؛ فبداخل كل كاتب روائي ناقد أدبي متيقظ يعمل بوعي ودون وعي من الكاتب في خدمة النص، لضمان كونه فنا راقيا بعيدا عن المباشرة وغيرها من العيوب الفنية المعروفة، كما أنني يستحيل أن أتناول عملا أدبيا بالنقد دون أن أكون قد وقعت في غرامه، وبذلك لا يكون نقدي أكاديميا - كالنقد الاحترافي الذي يقدمه الدكتور أحمد المصري على سبيل المثال - بقدر كونه إعادة صياغة إبداعية للنص من وجهة نظري، غالبا ما أنشره تحت عنوان: (قراءة انطباعية في.....) أو (قراءة تأملية في.....)».

يقول بروك: «لن يكون النقد مكتملا إلا إذا عاش الناقد التجربة»، ولكن ما يعتقده سالم مختلف: «ليس بالضرورة أن يعيش الناقد التجربة التي عاناها الكاتب بالضبط، فقد يستحيل ذلك تماما، ولكن الناقد البارع هو الذي ينجح في التعايش مع هذه التجربة حتى يكاد يتطابق تماما مع من عاشها وربما يتجاوزه في ذلك، فالمقولة صحيحة نظريا فقط، وبطبيعة الحال لا يستطيع ناقد أن يتعرض لعمل رومانسي محلق بينما لم يكن قد عرف الحب في حياته وسعد بحلاوته وعانى من مرارته».

نقاط تحول

عاش سعيد سالم حقبا مختلفة مرت بها مصر، لكنه يجد في فترة الستينيات بلا شك المناخ الثقافي الأفضل ، وهي الحقبة ذاتها التي شهدت تألق عدد من رموز الأدب مثل نجيب محفوظ؛ الذي مثل في حياة سالم نقطة تحول في مسيرته الأدبية عندما كتب عنه مشيدا بروايته الثانية «بوابة مورو»، فيتذكر: «كنت لا أزال في بداية حياتي الأدبية ولم يكن يعرفني أو التقيت به، أصابني ذلك الشعور بمسئولية الكتابة برعب شديد، إذ أدركت فداحة مسئولية أن أكتب للناس، وإلى جانب محفوظ كان الأديب محمد الراوي الذي يعيش بالسويس شفاه الله وعافاه عندما لفت نظري إلى أهمية القراءة في التصوف والصوفية، وقد أحببت هذا الجو بجنون وأثر كثيرا في أعمالي بعد ذلك، وعندما تفرغت لفترة زمنية تقارب العام لدراسة إحياء علوم الدين أحببت الإمام أبو حامد الغزالي وتعلمت منه ما ساهم في تغيير حياتي الشخصية إلى الأفضل رغم رفضي لبعض اتجاهاته، لكنه كان أكثر من نجح في إقناعي بمفاهيم دينية عديدة كنت أجهلها أو أسيء فهمها، وبالتالي فقد انعكس ذلك على بعض أعمالي بوضوح بعد أن اتسمت بمزيج شديد الخصوصية من ثقافة الغرب وتراث الشرق، بالإضافة إلى ذلك؛ هناك أحداث أخرى على المستوى الحياتي الشخصي قد أثرت كثيرا على كتاباتي مثل تنوع تجارب الحب التي مررت بها على مدى العمر وحتى اليوم».

إبداع الإسكندرية قبل 25 يناير

يقول سالم في مقدمة كتابه «الإسكندرية قبل 25 يناير.. فيض من الإبداع المتألق» أنه تحول من كاتب قديم فقد شهيته للكتابة إلى ناقد هاو يقرأ بشراهة تعويضا عما حدث له، قصد في ذلك الظروف الصحية التي مر بها، ولكنها لم تكن السبب الوحيد: «بصدق شديد لقد شعرت بعد نجاح ثورة 25 يناير - التي كانت بمثابة معجزة ربانية بالنسبة لي؛ أمضيت عمري كله أكتب لأجل أن أحث عليها وأحرض على قيامها وكان أملي ضعيفا في انفجارها - أنه لم يعد هناك داع لأن أكتب شيئا بعد أن تحقق حلمي الغالي والمقدس، وبالفعل امتنعت الأفكار تماما عن عقلي وخيالي واستسلمت للسكينة والهدوء متحررا تماما من حالة التوتر العصبي الخلاق الملازم لحالة الإبداع، كما ابتعدت تماما عن الأوساط والمنتديات الأدبية لما يقرب من عامين وساعد مرضي على ذلك، والحق أنني لم أستطع تحمل الفراغ الذي أوقعت نفسي فيه، حين نجح أحد الأصدقاء في إقناعي بعد مقاومة عنيفة بكتابة مقدمة لكتاب زوجته علية أبو شنب «الأشياء والأشخاص والأماكن»، وفي ندوة بنادي سبورتنج عن هذا الكتاب كان أول لقاء لي بعالم الأدب والأدباء، حيث أثر صدق ترحيبهم بي وتعاطفهم معي - عقب الانفلات من أسر المرض - تأثيرا بالغا على روحي، فضلا عن أنهم أمطروني بوابل من إنتاجهم الذي انعزلت عنه، طالبين أن أقول لهم رأيي، ولكن دون أن يتوقع أحدهم أو أتوقع أنا نفسي أن أكرس عاما كاملا من وقتي للكتابة عن هذه الأعمال، وقد عرضت على الأستاذ صلاح عيسى الذي كان رئيسا لتحرير جريدة القاهرة في ذلك الوقت أن ينشر لي مقالاتي عن هذه الأعمال على حلقات، فنصحني بتجميعها في كتاب وطلب مني ملخصا شاملا لها، فكان أن كتبت ملخصا والذي هو مقدمة الكتاب ثم سعيت في تنفيذ فكرته بجدية وحماس، حتى تحققت على يد الأستاذ الدكتور خالد عزب مدير الإعلام بمكتبة الإسكندرية ومساعده الصحفي القدير حسام عبد القادر الذي تولى الإشراف الكامل على إخراج الكتاب، بأن ظهر كتابي «الإسكندرية قبل25 يناير..طوفان من الإبداع المتميز» إلى النور، وقد قرر الدكتور خالد عدم بيع الكتاب وأمر بتوزيعه مجانا على الأدباء وقصور الثقافة بالمدينة فكان ذلك موقفا رائعا من المكتبة في خدمة الثقافة والمثقفين».

ارتبطت كثير من المؤلفات الثقافية في الفترة الأخيرة بعبارة «بعد ثورة 25 يناير»، لكن سالم اختار ما قبل 25 يناير، والسبب كما يوضح: «الأعمال كتبت جميعها قبل الثورة، وهي بلا استثناء كانت تحض وتحرض عليها وأحيانا تتنبأ بها، دون أن يشعر أحد بمعاناة كتابها لمجرد أنهم يبعدون بمواقعهم عن العاصمة بعدة كيلومترات، ومن المضحك أن العشرات من كتاب العاصمة راحوا يتبارون في المبالغة بأن أعمالهم قد تنبأت بالثورة قبل وقوعها، ليجدوا استجابة شديدة من وسائل الإعلام في ترويج أكذوبتهم، والتي لم تكن في واقع الأمر أكذوبة بالنسبة لكتاب الإسكندرية الذين تناولتهم في كتابي، والذين اعتادوا تجاهل وسائل الإعلام لهم عبر السنين باعتبار أن العاصمة وحدها هي المنتجة للأدب والنقد دون سواها من الأقاليم، وأحب أن أؤكد هنا أن كثيرين من كتاب الإسكندرية لا يتألمون لهذا التجاهل وإنما لا يعبأون به ويقابلونه بتجاهل مماثل».

عقدة اسمها كتّاب الأقاليم

ومن كتاب الإسكندرية هؤلاء؛ النماذج التي تناول سالم أعمالهم بالنقد في كتابه، فهم بالطبع لم يحصلوا على الاهتمام الكافي، وهو ما يرجعه إلى عقدة مصرية كريهة اسمها كتّاب الأقاليم، رغم أن الكاتب السكندري من وجهة نظر المهندس سعيد يتميز بصفات تجعله متفردا عن غيره، فيقول: «من الناحية الشخصية يتمتع الكاتب السكندري بصفات أهل السواحل بوجه عام، فهو ودود محب للناس في وطنه وفي سائر الأوطان، منفتح على العالم محب للحياة، صدره رحب وصاحب نكتة وبديهة حاضرة، يتمتع بروح مرحة حتى في أحلك الظروف، ولا مانع عنده من أن يسخر من نفسه في بعض الأحيان، نظرته للدين نظرة وسطية معتدلة متسامحة لا تنكر الآخر، سياسي من الطراز الجيد ويكره الحاكم المستبد ويتفنن في سبه والاعتراض على أفعاله بجرأة، أما من الناحية الأدبية فلا شيء غير تأثير البحر يميز أعمال الكاتب السكندري عن غيره، وفيما عدا ذلك فأنا غير مقتنع على الإطلاق بمقولة أن هذا كاتب سكندري وهذا فيومي وذاك قاهري، فتأثير المكان لا علاقة له بقوة الموهبة وارتفاع المستوى الفني للكاتب».

وبذلك؛ يرى سالم أن الإسكندرية كانت ضحية للقاهرة دائما، ويدلل: «سأضرب مثالين محددين يؤكدان على ذلك، فطالما طلب مني الحضور إلى القاهرة لتسجيل لقاءات تليفزيونية ولم أستطع التلبية من ناحيتي، أما من ناحيتهم فإنهم لا يفكرون أبدا في أن يحضروا هم إلى بدلا من أن أذهب إليهم، وبذلك لا تتساوى فرصتي مع فرصة أديب مثلي يعيش في القاهرة ويظهر في العديد من البرامج مما يساعد على ترويج أعماله بينما أحرم أنا من هذه الفرصة المستحقة، المثال الثاني حين اتصل بي الكاتب الكبير يوسف القعيد ليخبرني بتعييني عضوا بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة وقد اعتذرت لنفس السبب، فصحتي لا تحتمل السفر أسبوعيا للقاهرة والعودة في نفس اليوم، كما أن مزاجي الخاص لم يعد يقبل ذلك في هذه المرحلة من العمر، كانت عضويتي بلا شك ستيسر لي كثيرا من الأمور لولا وجودي بالإسكندرية».

إلى من يذهب الاهتمام؟

هذا من ناحية الجغرافيا والابتعاد عن العاصمة، بينما قلة الاهتمام المستحق لم يفرق بين من هم بالإسكندرية أو خارجها، فيقول سالم: «كثيرون من أبناء جيلي لم يحصلوا على الاهتمام الذي يستحقونه، وأنا أخص بالذكر صديقي الراحل محمد الجمل الذي قدم للمكتبة العربية أعمالا متنوعة بين الإبداع والنقد، لكنه لم يلق الاهتمام الذي كان يستحقه، أما خارج الإسكندرية فهناك سمير المنزلاوي ابن مطوبس المبدع الرائع والمثقف الكبير الذي لم يلق هو الآخر حظه المناسب من الاهتمام».

وجد سالم ما يقع في غرامه في كتابات ما قبل 25 يناير فكتب عنها، أما ما بعدها فلم يكّون عنها رؤية مميزة، ويوضح السبب: «لست أدعي أنني تابعت جيدا معظم هذا الإنتاج، ولكني تابعت أعمال بعض الكتاب الجدد ودهشت للرواج الشديد لأعمالهم وإعادة طباعتها رغم أنها لا ترقى بأي شكل من الأشكال إلى كونها أدبا جيدا، إنني أعتبرهم الإفراز الحقيقي لعصرهم الفوضوي الشديد في غرابته».

الفن خلاص الروح

يقول سعيد سالم أيضا: «أرى في الفن سبيلا راقيا لتحقيق التصالح والتناغم بين الإنسان ونفسه من جهة، وبينه وبين الحياة والكون وخالقه من جهة أخرى، كما أرى فيه خلاصا شجيا يصل الإنسان بالأرض والسماء في حب لاحدود له»، وتلك ليست المرة الأولى، فدائما ما يؤكد على دور الفن بأنه ينير عقولنا

ويمتع وجداننا ويحرك مشاعرنا نحو الحق والخير والجمال، ولكن بطريقة مغايرة: «يختلف الفن عن الفكر بأنه لا يخاطب العقل مباشرة وإنما من خلال مخاطبة الوجدان، الفن الحقيقي المثمر الفعال هو ذلك الذي ينجح في إعادة صياغة الوجدان الإنساني وفق رؤية الفنان، بما يحقق للإنسانية سعادة قوامها ذلك التصالح الذي أشرت إليه، إنه شهوة سرية تنبعث من داخل الذات وخارج الزمن، وأنا أجتهد كي أكون فنانا حقيقيا ألا أحشو عقلي بالأفكار والمعلومات والصيغ، وإنما أملأ روحي وضميري ووجداني بما تشف عنه هذه الأشياء من معان خصبة جليلة تثمر في النهاية عما أريد إبداعه من فن حقيقي، ولأن خلاصي الأرضي كان في الحب وخلاصي السماوي في الإيمان، فإن الفن عندي هو الجسر الذي يصل بين الخلاصين».

استمع صاحب «المقلب» إلى تعبير «الرواية البريئة» لأول مرة من الناقد الدكتور أحمد صبرة خلال تناوله لأحد الأعمال الأدبية بالإسكندرية منذ عدة سنوات، وأعجبه كثيرا، فاستدعاه عندما قرأ رواية رشاد بلال «كله تمام يا فندم» ورأى أنه ينطبق عليها من حيث أنه عمله الروائي الأول الذي كانت تنقصه الخبرة التي تتطلب زمنا طويلا من التجربة في الكتابة، ويستطرد: «هذا لايعيبه في شيء على الإطلاق، فالموهبة متوافرة تماما واللغة جيدة، لكن البراءة هنا تعود إلى حسن نية الكاتب حين انطلق يسرد تفاصيل طويلة جدا كان يمكن الاستغناء عنها ليصبح العمل أكثر جودة، هذا ما قصدته بتلك العبارة، والذي يؤكد ما قصدت إليه أن أعمال رشاد بلال قد تطورت بعد ذلك وتخلصت تماما من تلك الهنات التي لا يخلو منها عمل أدبي أول لأي كاتب مهما كانت موهبته».

كثيرا ما ارتبطت ذروة الإبداع بأقصى درجات المعاناة، كما نبغ طه حسين ونجيب محفوظ والعقاد وعائشة عبد الرحمن وغيرهم، فالرخاء والإبداع في أغلب الأحيان على طرفي النقيض، ولكن سالم لا يجد في الإبداع قواعد: «عملية الإبداع بسيكولوجيتها المعقدة ليس لها قاعدة على الإطلاق، ولقد أطلعت على دراسات علمية أكاديمية عديدة تؤكد مقولتي، والدليل على ذلك أن مكسيم جوركي قدم إبداعات إنسانية رائعة وهو يعاني من الفقر الشديد، بينما يقول جابرييل جارسيا ماركيز أنه كتب أعظم أعماله بعد أن تيسرت أحواله المادية وأن أعماله الأدبية قبل أن يعيش حياة الرخاء لم تكن على نفس المستوى، أنا شخصيا كتبت في الحالتين ولا أستطيع أن أجزم أن كتابتي بعد أن تيسرت أحوالي المادية أفضل من أعمالي التي كتبتها وأنا أعاني الفقر والظلم والشعور بالمهانة كمواطن مقهور في دولة يحكمها نظام مستبد، إن الكتابة عندي شهوة، والشهوة لا تعرف الرخاء أو المعاناة».

محظوظ رغم كل شيء

حصل سعيد سالم على عدد من الجوائز منها: الجائزة الأولى عن رواية «الأزمنة» في مسابقة إحسان عبد القدوس للرواية 1990، جائزة الدولة التشجيعية في القصة لعام 1994 عن مجموعة «الموظفون»،جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية لعام 2001 عن «كف مريم»، جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية لعام 2010 عن «المقلب»، جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2012، وأخيرا وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 2013، وقد فرح سالم بالطبع بهم جميعا، ويرى أنه ربما كان محظوظا بالمقارنة مع أنداده لحصوله على كل تلك الجوائز، والسبب: «لأنني أعرف أن هناك إشكاليات عديدة تحول في كثير من الأحيان عن وصول الجائزة إلى مستحقها الحقيقي، خاصة لو كان لا يجيد سبل الاتصالات والبروباجاندا، حالتي تعتبر استثنائية تماما؛ فأنا أنشر أعمالي بسهولة في دور نشر قاهرية كبرى متعددة، حكومية وخاصة، كما لو كنت مقيما بالقاهرة، رغم أني أبعث بمعظمها إليهم بالبريد الإلكتروني دون أن أتحرك من مكتبي بالمنزل، وكذلك أفاجأ دائما بحصولي على الجوائز دون أن أتوقعها وإن كنت أتمناها، طبعا كانت فرحتي بوسام الجمهورية كبيرة جدا وكنت أعتقد أنني سأجني من ورائها مكاسب مادية عظيمة، ولكن خاب أملي عندما عرفت أنها جائزة معنوية فقط، وقد شبعنا نحن معشر الأدباء من المعنويات الخالية من الجنيهات، ولكن الحمد لله على كل شيء».

كانت جائزة إحسان عبد القدوس في بداية حياته فأسعدته كثيرا لكونها نابعة من قلب حياته الأدبية، كما أسعده كلمة الدكتور يوسف إدريس عن أعماله في تلك الاحتفالية، ولكن وسام الجمهورية كان له مكانة خاصة: «لقد اعتبرته بمثابة تقدير من الدولة التي أعتز بالانتماء إليها لدرجة الجنون».

أمنية مستحيلة

ولأنه يتمنى الفوز دائما كحال أي مبدع متميز فمن المؤكد أن نوبل راودت حلمه في بعض الأوقات، ولكن ذلك يقع عنده في باب المستحيلات: «كنت أتمنى أن أتمنى الحصول عليها، ولكن عدم ترجمة أعمالي تجعل هذا النوع من التمني أقرب إلى الخيال، لقد قال نجيب محفوظ بنص العبارة في أحد مجالسه: «لولا الجامعة الأمريكية ترجمت لي كنت رحت في داهية»، وقد نشرت نص هذا التصريح في كتابي «نجيب محفوظ الإنسان» الصادر عن هيئة الكتاب عام 2011»، ولم يستطع سالم أن يحدد اسما يستحق الحصول على تلك الجائزة من المعاصرين، لأنه ليس ملما بما فيه الكفاية بأعمال العشرات من الكتاب العظام المستحقين لنوبل حتى يعطي لنفسه الحق في مثل هذا التقييم.

ينتظر الروائي والقاص والمهندس الكيميائي سعيد سالم؛ صدور مجموعة قصصية بعنوان «المعضلة الكبرى» خلال أيام، ضمن سلسلة «مختارات قصصية» عن مطبوعات هيئة قصور الثقافة، كما ستصدر له قريبا رواية عن هيئة الكتاب بعنوان «استرسال».

Comments