طلاب علي مبروك يودعون أستاذهم

ودود، خفيف الظل، متواضع، ذو فكر مختلف، وغيرها من الصفات التي نُعت بها الدكتور على مبروك أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة من قبل طلابه وزملائه ومحبيه. مبروك غيّبه الموت الأسبوع الماضي، وهو في العقد الخامس من عمره، الذي أفناه متتبعا للفكر ومستهدفا التجديد والإصلاح، فشبهه البعض أحيانا كثيرة بنصر حامد أبو زيد، لكنه ظل يؤكد مرارا أن مشروعه مختلف.

حصل مبروك على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية عام 1988، وعلى درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1995، من جامعة القاهرة، وفي عام 2003؛ عمل أستاذا مساعدا للدراسات الإسلامية في قسم الدراسات الدينية، بكلية الإنسانيات في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا. وصدر له منذ عام 1993 وحتى قبيل وفاته بأسبوعين، 12 كتابا، هي: «النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ: محاولة في إعادة بناء العقائد»، «الحداثة بين الباشا والجنرال»، «عن الإمامة والسياسة والخطاب التاريخي في علم العقائد»، «الخطاب السياسي الأشعري»، «ما وراء تأسيس الأصول»، «ثورات العرب وخطاب التأسيس»، «لاهوت الاستبداد والعنف.. والفريضة الغائبة في خطاب التجديد الإسلامي»، «القرآن والشريعة.. صراعات المعنى وارتحالات الدلالة»، «الدين والدولة في مصر.. هل من خلاص؟»، «أفكار مُؤثَمة.. من اللاهوتي إلى الإنساني»، «نصوص حول القرآن.. في السعي وراء القرآن الحي»، وأخيرا «الأزهر وسؤال التجديد» عن دار مصر العربية.

وقد أعلن د.دواق الحاج بعد وفاة د.علي؛ أن هناك كتابا أخيرا تحت الطبع، ويمثل آخر ما كتب مبروك، سيصدر قريبا عن دار مؤمنون بلا حدود والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء بيروت.

وائل الملا؛ صاحب دار مصر العربية للنشر والتوزيع، هو آخر الناشرين الذين استقر معهم د.علي مبروك، حيث أصدر له 5 أعمال في السنتين الأخيرتين، آخرها «الأزهر وسؤال التجديد» الذي لم يمهله القدر للإطلاع عليه بسبب مرضه، يقول الملا: «كنت أعرف د.علي اسما وفكرا قبل تعارفي عليه والتعامل بيننا، وعندما رغب في تغيير الناشر قام بعض الأصدقاء بترشيحنا له، فتقابلنا في معرض القاهرة للكتاب عام 2014 وتحدثنا قليلا، واكتشفت كم هو لطيف وودود ولديه حسن ظن كبير بالناس، ومتواضع؛ فعندما حدثت مشكلة الترقي ورُفضت أبحاثه بالكلية لأن أفكاره كانت أكثر تقدما وتحضرا وشجاعة، ولم يكن يخشى الثوابت، بل اعتمد منهجه على التجديد وفتح آفاق للتفكير، فاصطدمت أفكاره مع عقليات الجامعة والمؤسسات الدينية، علمت بهذا الأمر وأنا في معرض الشارقة وأحرجت أن أتحدث معه في ذلك، فوجدته كتب منشورا على الفيسبوك بأنه يفكر في نشر تلك الأبحاث عندي بالدار ويسألني عن رأيي، فكانت تلك مبادرة بها الكثير من التواضع والود والبساطة».

ويستكمل الملا: «كما أنه كان مرحا جدا، ففي إحدى المرات حكى لنا عن دار نشر أصدرت له كتابا، كان صاحبها يمتلك مصنع صابون، فلم يحصل منه على أي حقوق فكرية بل أعطاه «صابونة» حقيقية من إنتاج مصنعه». وعن تشبيه البعض له بأبو زيد، يقول الملا: «عندما سألته: هل أنت تكمل مشروع نصر حامد أبو زيد؟ أجابني بأن مشروع نصر مهم وكبير، ولكن هناك مشروعين، واحدا لنصر والآخر لعلي مبروك، الذي يملك بدوره مشروعا خاصا ولديه أدواته المختلفة».

أصابت وفاة د.علي مبروك طلابه بحالة من الذهول والصدمة، فوقفوا غير مصدقين أنه رحل، وتوحدوا على دعاء «رحم الله من أهداني علما»، وأخذت تجول في مخيلة كل منهم ذكريات أستاذهم وما اتسم به صفات اعتبروها نادرة الوجود في هذا العصر.

تقول فاطمة المليجي، طالبة بالدراسات العليا في كلية الآداب قسم فلسفة: «د.علي مثال للأخلاق والقيم الرفيعة، لم يكن يكل منا أو يمل، وبالرغم من أن محاضراتنا كانت متأخرة في السادسة مساء بعد يوم عمل طويل له، كان يحضر ويتناقش معنا، فكانت تلك المناقشات هي الأحب إلى قلبه، وقد أصر أن يحصل على درجة الأستاذية رغم وقوف الآخرين ضده، حيث كان مكافحا ومحاربا لا يهزم، كما كان يعطي كتابه مجانا لغير القادرين، موقعا بإهداء جميل، وكان يعتبر نفسه دائما في أول المشوار مازال لديه الكثير، لكن قضاء الله كان أقرب من أحلامه».

وعلى صفحتها على الفيسبوك؛ روت فاطمة آخر كلمات سمعتها منه منذ شهر قبل مرضه وهو يبدو عليه الأسى، بأنه حزين على حال الطلبة وحال الأجيال عموما ويفكر في الاعتزال عن التدريس وربما الحياة أيضا.

نورا الجنايني، طالبة في الدراسات العليا بكلية الآداب قسم فلسفه، تمنت أن تكمل معه رسالة الماجستير، فهو درّس لها في العامين الأخيرين لها بالكلية، وتقول عنه: «كان إنسانا له فكر مختلف جدا، يشرح ويتحدث بخفة ظل، فاستفيد وأنا مستمتعة، ويا ليت كل المحاضرات كانت كمحاضراته، فالدكتور على كان أبا ومعلما، وهو آخر الرجال المحترمين، فكل المناهج كانت مجرد حصر لمعلومات بينما مادته كانت فكرية من عقله وروحه».

ومن جهتها؛ كتبت حنان عباس: «سيظل د.علي مبروك في كل فكرة في عقولنا، خلال أفكاره التي لن تنتهي في عصرنا الحالي، بل ستمتد إلى عصور أخري تحتاج لمفكر تنويري مثله، كان طفرة و مازال إعجازا فكريا في عالم الفكر و الفلسفة، ولا يبقى إلا الشكر له عن كل علم قد خط بقلمه بالرغم من مرضه الذي فتك به قبل أن يرى ثمار أفكاره محفورة بداخل تلاميذه ومفكري المستقبل الذين سيحملون اسمه راية لتأويل جديد متفتح في كل ما يخص العصر والفكر الديني الحديث الذي كافح من أجله هذا الرجل النبيل، لقد كان رجلا يحترم الفكر ويحترم تلاميذه، ولن ننسى أبدا محاضراتنا في الدراسات العليا وإصرار البعض منا على أن يكمل مسيرتك حتى و لو في فكرة من أفكارك الخالدة الذهبية التي على حد تعبيري بكلماتك «أفكار تأسيسية أكثر منها أفكارا إجرائية» ..شكراً أيها الفيلسوف».

ومن جانبه؛ يروي الباحث إسلام سعد - أحد من لازموا د.علي لفترات طويلة - قصة تعارفهما على الفيسبوك، عندما تواصل معه سعد ليخبره باهتمامه بقراءة الخطابات النقدية الجادة في مجال الدراسات الإسلامية فرشح له الكثير منها، ثم انتقل التواصل إلى الهاتف، إلى أن أرسل له مبروك دراسة تتعلق بقراءة إبستيمولوجية لحركة الإخوان المسلمين وتحليل لخطاب حسن البنا، وطلب منه وضع عناوين داخلية للدراسة، ويضيف سعد: «علمت بعد ذلك أنه كان يريد معرفة الكيفية التي اقرأ بها النصوص، باعتبار أن وضع العناوين الداخلية لأي موضوع يستلزم قراءة الموضوع بهدوء وتأنٍ، لا بشكلٍ عابر، وبعد ذلك بأسبوع أخبرني أنه يريدني للعمل معه كباحث ومترجم، مؤكدا أنه رغم دراستي الهندسية العملية، إلا أنني أمتلك ما يؤهلني للتعلم في مجال جديد أهتم به».

عمل سعد مع د.علي لمدة 3 سنوات، وعلى مدارها شهدا كثيرا من المواقف والأحداث، يتذكر منها: «عندما سافرنا معا لأندونيسيا منذ عامين؛ استغرق السفر 25 ساعة متصلة ما بين انتقال من دولة لدولة ومن مطار لمطار، عند وصولنا كنت منهكا بشدة ودخل كل منا غرفته، من جانبي استسلمت للإرهاق تماما إلى أن دوى جرس هاتفي بقوة، حيث طلب مني د.علي الذهاب إليه، وقد فعلت، واندهشت حين وجدته محاطا بالكتب، يرتدي نظارته ويكتب على اللاب توب، وعندما سألته: لما لا يذهب للراحة أجابني قائلا «ورانا شغل لازم ننتهي منه، وبعدين أنا جت لي فكرة ولو مكتبتش هنساها»، ثم ناولني كتاباً لاقرأه ونحن جالسان معا، فصرت أتساءل: لماذا كنت أرغب في النوم من الأساس».

عندما انتقل مسار رحلتهما إلى ريمبانج، انخرطا سويا في النقاش، وفي أحد الأيام طلب د.علي من سعد أن يحضر معه كتب د.نصر حامد أبو زيد التي سيلقي عنها ندوة بالإسكندرية عقب عودته، وسأله عما لا يفهمه، ثم بدأ يشرح له ويربط بين رؤية أبو زيد في الكتاب وينقدها ويوسِّع من آفاق رؤيته، ويستكمل: «بعدها بدأ يحدثني عن ذكريات تجمعه مع نصر أبو زيد، كان يحتاج للحديث وكنت أحتاج لأن أسمع، من أجله ومن أجلي أيضاً، وقبل أن أغادر قال لي: «نصر مشي يا إسلام، وأنا مفتقده جدا»، لقد قالها بنبرة صوت جعلتني أجاهد كي لا أبكي».

Comments