صلاح عيسى: السجن تجربة جميلة

ولد صلاح عيسى يوم 4 أكتوبر عام 1939 في قرية «بشلا» بمحافظة الدقهلية، لأسرة تنتمي للشريحة المتوسطة من الطبقة الوسطي المصرية في الريف، ومع حلول عامي 1948 و1949، تعرضت أسرته لكارثة اقتصادية هبطت بهم إلى حافة الهاوية، مما سبب له نوعا من القلقلة الاجتماعية، التي انعكست عليه وخلقت لديه تعاطفا مع الفئات الشعبية والفقيرة، ومن هنا بدأت عينيه تتفتح على مفهوم التباين الاجتماعي.

كانت أمه سيدة ريفية؛ متدينة، وتحفظ قدرا كبيرا من الأمثال العامية والمواويل والأهازيج الشعبية، فاجتذبته إليها منذ الطفولة، ورغم أميتها؛ إلا أنها اهتمت بجمع الكتب الدينية لكي يقرأها لها صلاح، فعندما ذهب للمدرسة وبدأ التعلم طلبت منه ذلك، مما خلق لديه عادة القراءة.

أما والده فكان «أفندي» عصريا، ليبراليا بالفطرة، ووفديا حتى النخاع رغم اضطراره فيما بعد - بسبب وظيفته - أن ينضم للسعديين بلسانه، في حين كان عمه عضوا في «مصر الفتاة»، وكان ابن عم والده نائب شعبة الإخوان المسلمين في البلدة، مما جعل منزله عامرا باستمرار بالصحف المتنوعة والخلافات النقاشية، فامتلأ عقله بالاهتمام بالشأن العام، وكان أول ما جذبه في تلك الجرائد؛ صفحات الأدب والفن، وتحديدا رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، التي بدأ نشرها بجريدة المصري عام 1953 .

الكتابة الإبداعية

خلق هذا المناخ لديه اهتمامات مبكرة بقراءة القصص والروايات، وشجعه على ذلك والده الذي كان يعطيه نقودا - بخلاف المصروف - لشراء الكتب التي يريدها، وبذلك عرف الطريق إلى طه حسين والمنفلوطي وغيرهما، وبدأت آفاق قراءاته تتوسع، وقبيل التحاقه بالمدرسة الإعدادية في القاهرة، أراد والده أن يختبر مستواه في الكتابة والقراءة، فأعطاه مجلة «روزاليوسف» ليقرأ منها صفحة، ثم نسيها معه، فأخذ يقلب فيها وسُحر بمحتواها، ووقع في غرامها.

بدأ عيسى مشواره بكتابة القصة القصيرة، حيث كانت مزدهرة جدا بين أبناء جيله، لكنه توقف بعد عدة محاولات بسبب عمله السياسي بمنظمة يسارية، فقد جعلته حملة الاعتقالات للكتاب والأدباء ما بين عامي 1959 و1964 يتيقن من أن العمل السياسي المباشر هو الذي يغير العالم وليست القصص أو الروايات وغيره، يستطرد: «كان ذلك بمثابة رد فعل إزاء تصور جزئي لجيلنا بأن كتابة القصص هي التي ستغير العالم، لكن قسما آخر - وأنا واحد منه - وجد في هذا التصور مبالغة، لذلك توقفت عن كتابة القصص والإبداع».

على طريق الصحافة

التحق صلاح عيسى في أواخر الخمسينيات بكلية الخدمة الاجتماعية، وأثناء ذلك كانت تصدر مجلة «المجتمع العربي» عام 1960، وحينها كانت بدايته مع الصحافة، فيقول: «كان لنا أستاذ يهتم لأمرنا، وهو من أرسلني مع صديق لي بكارت منه إلى رئيس تحرير المجلة، فرحب بنا وسألنا عما نريد فعله، وما شجعني أننا تقاضينا 5 جنيهات مقابل التحقيق، وكان ذلك مبلغا كبيرا في حينه، ثم بدأت خطوة بخطوة اهتم بالصحف والمجلات الآتية من الخارج، وتعرفنا في ذلك الوقت على الرجل الذي أعطى جيلنا كله فرصته؛ المرحوم عبد الفتاح الجمل، مشرف الملحق الأدبي والفني بجريدة المساء، حيث كان رجلا لا يرد الموهبة».

لم يكن الجمل يرد موهبة، لكن عيسى كان خجولا جدا، فلم يذهب للقائه، وإنما كتب مقالا وألقاه بين فتحات درج مكتبه المغلق بصالة تحرير المساء، وغادر، حيث اختار يوم إجازة الجمل، بعدها وجد المقال منشورا وعليه اسمه، فاستمر في فعل ذلك، حتى وجد شخصا في إحدى المرات يناديه ويسأله عما يفعله، وحين أخبره قال «أنا قاعد لك مخصوص، أنت مش عايز تعرفني ولا إيه؟»، فقد انتظره عبد الفتاح الجمل ليتعرف عليه، ومنذ ذلك الحين تصادقا وصار يكتب بشكل منتظم.

اعتقالات

كان عمره 26 عاما حين تم اعتقاله أول مرة عام 1965، بسبب كتابته لمجموعة مقالات في جريدة «الحرية» اللبنانية، عنوانها «الثورة بين المسير والمصير»، كانت تنطوي على نقد لثورة 23 يوليو، كما كان عضوا في تنظيم شيوعي سري، فأصدر الرئيس عبد الناصر أمرا بالقبض على أعضائه ومن بينهم سيد حجاب، جمال الغيطاني، غالي شكري، محمود عزمي، رؤوف نظمي، محمود عمر، إبراهيم فتحي، وعدد آخر من المثقفين، أما عيسى فكان الأمر الخاص به أن «يُعتقل ويُفصل»، اندهش في البداية قليلا، لكنه يظن: «السجن تجربة جميلة، حتى أنني تمنيت بعد ذلك أن تعتقلني الحكومة كل عام شهرا ونصف أو شهرين، ليكون بمثابة فرصة للتأمل، لكن لمدة محددة وبدون تعذيب، فالمثير للقلق في الاعتقال أنه غير محدد المدة، مما يعطل التفكير في أي مشروعات».

رغم توقفه عن أي محاولة للكتابة الإبداعية؛ إلا أنه عاد إليها مرة أخرى في أواخر الستينيات أثناء فترة اعتقاله، فكتب مجموعة قصص أسماها «جنرالات بلا جنود»، كما كتب روايته الوحيدة «مجموعة شهادات ووثائق في خدمة تاريخ زماننا»، إلى جانب كتابه الشهير «الثورة العرابية»؛ أول ما نُشر له بعد خروجه عام 1972 .

باحث في التاريخ

مع أوائل الثمانينيات كانت بداية المرحلة التي مزج فيها بين الاتجاهين الصحفي والاجتماعي، وتمثل ذلك في سلسلة «حكايات من دفتر الوطن»، التي اختصت بكتابة التاريخ المصري بأسلوب أدبي يعتمد على الدراما الطبيعية الموجودة في التاريخ، ويسعى إلى إعادة تخليق الواقعة التاريخية كأقرب ما يكون للشكل الذي حدثت به، اعتمادا على الحقائق التي وردت في المصادر التاريخية المختلفة، يؤكد عيسى: «كانت الفكرة الأساسية عندي متعلقة بإحياء الذاكرة الوطنية، لأننا نشأنا في جيل مدرسته الإعلامية في الكتابة التاريخية؛ تكتب التاريخ من وجهة نظر منحازة وغير علمية، وتسعى إلى تشويه كل ما سبق ثورة 23 يوليو، وتنطلق من رؤية خاطئة - من وجهة نظري -، وهي أن تاريخ مصر بدأ منذ الثورة، وبالتالي كل ما سبق ذلك لا قيمة له، وفي رأيي؛ ذلك كان يشوه الثورة نفسها، ويجعلها حدثا تاريخيا لا يوجد ما يبرره لأنه لم ينشأ نتيجة لتراكمات موجودة في الواقع، فبدأت أفكر في كتابة هذه السلسلة التي تنطبق عليها جميع شروط الكتابة التاريخية من حيث دقة الوقائع وصحتها ومقارنتها ببعضها البعض والترجيح فيما بينها».

يعود انجذاب صلاح عيسى لهذا النوع من الكتابة، إلى انجذابه له أساسا - كقارئ، وتحديدا كتاب أحمد بهاء الدين «أيام لها تاريخ» الذي صدر عام 1954، وما كاد يقرأه حتى أعجبته الطريقة وجذبه لقراءة مصادر التاريخ الأصلية سواء كانت مذكرات أو وثائق أو دراسات أو أبحاثا، ويقول: «هذا ما شكل وعيي الوطني والسياسي، لذلك تصورت أنه من واجبي أن أكمل تلك المجموعة التي بدأها بهاء والدور الذي لم يتمكن من إنجازه، وشاءت الظروف أن الأستاذ رجاء النقاش كان رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون آنذاك، فدعاني للكتابة بالمجلة عام 1971، وعندما عرضت عليه المشروع - قبل أن ابدأ في كتابته -، رحب به، فكتبت أول حلقة وفوجئت بها في العدد التالي منشورة، ثم أخذ يلح على ويطاردني لكي أواصل كتابة ونشر بقية الحلقات، وبالفعل؛ استمرت تلك الحكايات إلى أن حدثت ثورة 15 مايو وترك النقاش المجلة، فتوقف المشروع».

أثارت أعماله اهتماما بالغا من قبل المؤرخين، لكنه يعتبر نفسه باحثا في التاريخ وليس مؤرخا، مؤكدا أنه حاول التحلي بالحيادية في تفسيره وتحقيقه للوقائع التاريخية، يوضح السبب: «كان جزء من قراءاتي وتكوين ثقافتي هي تلك المدارس التاريخية، التي تختص كل منها برؤية مختلفة في تفسير التاريخ، ومن هنا كنت أجمع الوقائع وأحققها وأقارن فيما بينها، لكن تفسيرها كان ينطوي على وجهة نظر أتبناها، وأحيانا أبحث عن التفاصيل لكي أتثبت من صحة هذا الاستخلاص الذي وصلت إليه وليس مجرد إطلاق أحكام على الوقائع التاريخية، وقد ساعدني في ذلك أنني درست علوم النفس والاجتماع التي مكنتني من تحليل الشخصيات والجانب الذاتي في تاريخ الأبطال».

منع وفصل وإضراب

عندما خرج من المعتقل عام 1967، كان صلاح مفصولا من عمله، وظل هكذا لمدة عام، لكن خلال تلك الفترة، حاول الكثيرون مساعدته، كالمرحوم فاروق خورشيد، رئيس إذاعة الشعب حينها، والمرحوم إسماعيل عدلي، الذي اقترح عليه إعداد البرنامج الذي يقدمه سعد التاجي، وبسبب اعتراض وزارة الداخلية على اسمه؛ جرى الاتفاق بأن يعمل دون ذكر اسمه، إلى أن تم اعتقاله مرة أخرى.

خرج في المرة الثانية عام 1971، فتم منعه من العودة للعمل الاجتماعي أو أي احتكاك بالجماهير، لكن لم يكن هناك اعتراض على عمله بالصحافة، فذهب لمحمود أمين العالم، وسانده مفيد شهاب، وزير الشباب وقتها، ولكن بسبب الأجواء الملتبسة بعد بدء إرهاصات 15 مايو، تردد فتحي غانم، رئيس مجلس إدارة الجمهورية حينذاك، وظل هكذا حتى رحل وجاء مصطفى بهجت بدوي، وبعد تكرار المحاولة، أصدر بدوي قرارا بتعيينه عام 1972، وبعد 3 سنوات اشتعلت المظاهرات، فتم إلقاء القبض عليه رغم أنه كان متواجدا بالجريدة، ووجهت له تهمة المشاركة في تنظيم سري ومناهضة وزارة الثقافة.

تم تجميده عن الكتابة، لكنه فوجئ رغم ذلك - مع أحداث 18 و19 يناير؛ بالباب يدق في السادسة فجرا للقبض عليه، فلم يفتحه، وعندما غادروا هرب، وظل هكذا تسعة أشهر إلى أن تم القبض عليه، وخلال تلك الفترة تم فصله من جريدة الجمهورية في أواخر عام 1977 .

في عام 1979 قُدم للمدعي الاشتراكي ومعه محمد حسنين هيكل وفريدة النقاش وأحمد فؤاد نجم ومحمد سيد أحمد ومحمد حمروش، بتهمة نشر مقالات خارج مصر تنطوي على إهانة للشعب المصري، وفي عام 1981 اعتقل مرتين، إحداهما في أول العام بسبب مشاركته في المظاهرة المناهضة لوجود جناح إسرائيل في معرض الكتاب، والثانية خلال حملة سبتمبر.

عادت جريدة الأهالي عام 1982 في إصدارها الثاني، ورغم أن ظروفها لم تلائمه في إصدارها الأول، إلا أنه عمل بها حين عرضت عليه مرة أخرى في الفترة من 1982 إلى 1986، وحين ازداد عليه الخناق فيها واشتدت الصراعات الحزبية، أضرب عن الطعام في نقابة الصحفيين مطالباً بحقه في العودة إلى الجمهورية، فجميع من فُصلوا في عهد السادات عادوا ماعدا عيسى ورياض سيف النصر، وقد عاد بالفعل، ولكن مع تعليمات بأن يحصل على مرتبه دون أن يعمل أو يكتب.

الوعي الثقافي

رغم تلك المعاناة، إلا أن صلاح عيسى لم يندم قط عن شيء قاله أو قام به، وله في ذلك فلسفته الخاصة: «كل شخص تصبح آراءه مع الزمن أكثر نضجا، لكن في النهاية ما كان ممكنا إلا الذي كان، ففي هذا السن الصغيرة، لم يكن ممكنا أن أحقق وعيا يساعدني على اتخاذ آراء مختلفة، وعلى أي الأحوال؛ الطريق الذي بدأت فيه أخذني إلى وعي مختلف جذريا عن أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، ووجدت فيه تحقيقا للنشوات العليا ونوعا من الرضا عن النفس، فأسهل شيء أن يعيش الإنسان في قوقعة أنانيته لتحقيق صعود فردي، ولكن العمل لأجل الآخرين يحقق إنسانية الإنسان».

شهد عيسى على عدد من الحقب المختلفة، لكن الأفضل ثقافيا من وجهة نظره في عهد عبد الناصر، والسبب: «رغم الانتقاد الموجه إليه بأنه يضّيق على الحريات العامة، إلا أن عهده كان من عهود ازدهار الثقافة، لأنه أول رئيس لمصر يستجيب لإلحاح المثقفين بتحويل الثقافة إلى خدمة عامة، كما أن تضييق نطاق الحريات كان مقصورا على التنظيم والفكر السياسيين، لكنه لم يشمل الإبداع الأدبي والفني، أما عهد السادات فشهد تدهورا ثقافيا، حيث لم يكن يحب المثقفين، ويسميهم الرزلاء والأفنديات، وكانت ثقافته بها بساطة ريفية تنحو إلى الرجوع إلى الخلف، بينما حسني مبارك فاستجاب لضغوط من قبل وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني جعلته يهتم نسبيا».

واحد من الأحلام التي تحققت

عقب تولى فاروق حسني وزارة الثقافة في أواسط التسعينيات؛ طرح رجاء النقاش فكرة إصدار مطبوعة ثقافية بقطع الجريدة الأسبوعية، تخرج من نطاق الشكل التقليدي للكتب الثقافية الشهرية، وظلت الفكرة تتأرجح بين التنفيذ والإيقاف، إلى أن طلب حسني من صلاح عيسى تقديم مشروع حول هذه المطبوعة، وعلى هذا الأساس، في إبريل عام 2000 صدرت جريدة «القاهرة» الأسبوعية، التي تجمع مختلف الأشكال الصحفية ما بين الخبر والتحقيق والمقال والكاريكاتير والصورة، وكذلك كل أنواع الثقافة، من أدب وموسيقى وفنون تشكيلية وتاريخ وفكر سياسي واجتماعي، وتنطلق من رؤية ليبرالية واضحة، بأنها ليست منبرا تتفاعل به وزارة الثقافة مع المثقفين، ولكنه منبر - أيضا - لكي تتفاعل به الفصائل الثقافية المختلفة مع بعضها البعض، ومن هنا؛ كان الشعار الموجود على صفحتها الأولى حتى اليوم، لجملة قاسم أمين الشهيرة «الحرية الحقيقية تحتمل إبداء أي رأي وترويج أي فكر ونشر أي مذهب».

وعن تفاصيل الفكرة؛ يوضح عيسى: «كانت الجريدة موجهة بالدرجة الأولى إلى القارئ العام والمثقف المتوسط، وخاصة الشباب، حيث تصورنا أن القارئ المهتم بأحد فروع الثقافة، عندما يشتري الجريدة ويقّلب في صفحاتها سيجد موضوعات أخرى تثير اهتمامه، ومن ثم تقوده تلك لمطبوعات أخرى أكثر تخصصا، وهي الجريدة الثقافية الوحيدة التي صدرت عن وزارة الثقافة المصرية واستمرت لهذا العمر المتصل منتظمة أسبوعيا، رغم أن ظروف المطبوعات الثقافية الآن لم تعد مريحة كما كانت منذ سنوات مضت».

حققت القاهرة كثيرا من الأهداف التي تطلع إليها عيسى، وأهمها هو التغلب على فكرة التخندق التي تجعل الجماعة الثقافية غير قادرة على التوصل لمشتركات فيما بينها تخص الثقافة الوطنية، فيقول: «فوجئت في الفترة الأولى أثناء إعدادنا للجريدة، أن البعض يرفض الكتابة في الجريدة لأن هناك آخر لا يريد أن يكتب معه في نفس المكان، لأننا عندما اخترنا كتاب الأعمدة، كان كل منهم يمثل تيارا ثقافيا وفكريا مختلفا، بما في ذلك التيار الديني، فتلك الأعمدة كانت عصب الجريدة، ووزارة الثقافة لا تعبر عن تيار بعينه، وإنما تدير الحوار بين التيارات المختلفة وتخلق مساحات للمناقشة فيما بينها، وأظن أننا نجحنا إلى حد ما في هذا، رغم ما تلقيناه من متاعب، فالمثقفون في كل الأحوال متعبون» .

كأي صحفي يهوى الصحافة ويحبها، كان لدى عيسى مشروعات صحفية كثيرة ومتنوعة، و«القاهرة» واحدا منها، حلم به وحققه، لكنه أسهم كذلك في إصدار مجلة «الثقافة الوطنية» مع فريد زهران، وفي عام 1989، عندما كان عضوا بمجلس نقابة الصحفيين في عهد النقيب مكرم محمد أحمد، أصدر مجلة «الصحفيين»، كمحاولة لتقديم مجلة تتبنى قضية حرية الصحافة.

حين كان عضوا في لجنة النشر بالهيئة العامة للكتاب منذ عدة سنوات، أثناء رئاسة د.محمد صابر عرب لها، وكان نائبه الوزير الحالي حلمي النمنم؛ كُلف بإعداد دراسة عن المجلات الثقافية التي تصدرها الهيئة وتقديم مقترح بشأن تطويرها، وهو ما فعله، لكن المقترح مازال حتى الآن حبيس الأدراج ولم ينفذ، يوضح عيسى: «كانت الفكرة الأساسية أن تصدر هيئة الكتاب 4 مطبوعات رئيسية تتوجه جميعها للقارئ العام؛ جريدة ثقافية عامة تتناول كل ألوان الفن والثقافة، ومجلة فكرية تحل محل مجلة الفكر المعاصر وتلعب دورها في تجديد الخطاب الديني والأصالة والمعاصرة، ومجلة شهرية للسينما والمسرح، وأخيرا؛ اقتراح كان لديَّ ولم يتحقق حتى الآن - أشعر بالحزن من أجله وهو مجلة باسم «تواريخ»، تهتم بتقديم التاريخ بأسلوب صحفي جذاب والدفاع عن الذاكرة الوطنية المصرية، كانت تلك رباعية المجلات الثقافية التي ينبغي أن تصدر عن الهيئة، أما المجلات الأكاديمية المحضة فليست من مهامها، وإنما تصدر إما عن المراكز المتخصصة أو الجامعات».

المجلات الثقافية.. مشكلات وحلول

المجلات الثقافية كانت دائما مشروعات غير مربحة، بخلاف تجارب «الرسالة» و«الرواية» أو «الأدب» أو «الرسالة الجديدة» التي حققت أرباحا لفترة زمنية ثم لقت جميعها مصرعها، ويرجع عيسى الأزمة إلى: «المطبوعة الثقافية - بشكل عام - بدأت تتراجع وراء ارتفاع نفقات المعيشة، ووراء اتجاه الصحف اليومية إلى عمل صفحات ثقافية داخلها، فأصبحت الخدمة التي تقدمها المجلات موجودة ومتوافرة، ومع تواصل الأزمات الاقتصادية؛ وصلنا الآن إلى مرحلة أنه لا يمكن أن تكون هناك مطبوعة ثقافية تصدر بعيدا عن دعم الدولة وإنفاقها لأنها مشروع صحفي غير مربح ولا يجلب إعلانات، ولذلك لم يبق منها موجود الآن سوى «أخبار الأدب» و«القاهرة»، إلى جانب منافسة المجلات الثقافية التي صدرت عن الدول النفطية الغنية وكان أولها وأهمها مجلة «العربي» الكويتية التي أصدرها د.أحمد زكي، بالإضافة لمنافسة المواقع الإلكترونية، أما رجال الأعمال فلا يوجد منهم الآن من يفكر في إصدار صحيفة أو مجلة ثقافية، لأنه مشروع غير مربح».

وعن الحلول يقترح عيسى: «لحل المشكلات المادية، يمكن أن نعيد إحياء التقليد الذي كانت تعتمد عليه الصحف الثقافية في بداية عصر ازدهارها، وهو الاشتراكات؛ الذي كان يتيح لكل مجلة أن يكون لها قراء من كل البلدان، وعلى ضوء ذلك يمكنها تقدير عدد قرائها بدقة لتطبع العدد الملائم من النسخ، والفكرة الثانية هي الاشتراكات الإلكترونية، بأن تكون النسخة الإلكترونية من الجريدة مشفرة وتتاح فرصة للاشتراك فيها، مما يمكنها من الوصول في أي مكان للقارئ الذي يريدها».

المهنية الصحفية

تعاني الصحافة الآن عددا من المشكلات المهنية، التي جعلت عيسى يفضل أن تعود دراستها إلى ما بدأت به في مصر؛ وهي معاهد الصحافة، ويقول: «كان المعهد العالي للصحافة يلتحق به الطلاب الحاصلون على درجة البكالوريوس أو الليسانس من الجامعة، طبيب أو ضابط أو مهندس أو غيره، يدرسون لمدة عامين المهن الصحفية لكي يتخصصوا فيما درسوه في مرحلة البكالوريوس أو الليسانس، لكن فكرة تدريس الصحافة باعتبارها مرحلة ليسانس أضرتها وهبطت بمستوى التخصص المطلوب للصحفيين، بالإضافة إلى المواقع الاجتماعية كالفيسبوك وتويتر وغيره، فهذه نسميها «صحافة القارئ» لأنها غير مهنية، ومن يكتبون أو ينشرون فيها لم يتلقوا أي شكل من أشكال التدريب المهني الذي يعلّمهم أن الحصول على الخبر له مهارات معينة وأن التثبت من صحته قبل نشره جزءا من أدبيات المهنة وشروطها الأساسية، فيما عدا ذلك؛ الصحافة شيء مهم ولابد أن تتمتع بأوسع درجة من الحرية وكذلك أوسع درجة ممكنة من المسئولية الاجتماعية والوطنية، إلى جانب الالتزام الشديد بأدبيات المهنة وتقاليدها، فهذه الثلاثية هي التي تقدم إعلاما مهنيا محترما يستطيع أن يدير الحوار الوطني بين كل التيارات، ويستطيع أن يقدم للمواطن حقه في الحصول على المعلومات الصحيحة، ومختلف الآراء والاتجاهات».

حرية الصحافة في الدستور

يعتقد عيسى أن مصر وضعت أقدامها على الطريق الصحيح من خلال نصوص التعديلات الدستورية لعام 2014 بشأن حرية الصحافة والإعلام، لأنها نصوص غير مسبوقة في أي دستور مصري أو في دساتير المنطقة بأكملها، أو حتى دساتير بعض البلاد العريقة في الديمقراطية، ويفسر: «الدستور يتضمن 6 مواد أساسية، ثلاث منهم تضمن الحريات، وثلاث أخرى تشير إلى المجالس المتخصصة التي تدير الصحافة والإعلام، أما مواد الحريات فتطلق حق الشخصيات الطبيعية والاعتبارية العامة والخاصة في إصدار وتملك الصحف ووسائل الإعلام، وهذا الحق كان قد ألغى منذ عام 1980 واقتصر إصدار الصحف الورقية على الشركات العامة والخاصة، كما تتيح المادة حرية إصدار الصحف بالإخطار وليس بالترخيص، وتحظر مصادرة الصحف ووسائل الإعلام أو تعطيلها أو إغلاقها بأي وجه، ومن أي جهة، بالإضافة إلى أن المادة حظرت توقيع عقوبات سالبة للحرية في جرائم النشر باستثناء 3 جرائم هي التحريض على العنف والطعن في أعراض الأفراد والحض على التمييز، كما حلّت المواد إشكالية ما يسمى بالصحف القومية وماسبيرو، حيث جعلت أجهزة الإعلام المملوكة للدولة ملكية خاصة مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية وعن كل الأحزاب، وساحة للحوار بين كل التيارات والمصالح الاجتماعية».

أما المواد الخاصة بالتنظيم؛ فتوصي بإنشاء 3 مجالس تتولى ضمان الحقوق التي ذكرتها مواد الحريات، الأول هو «المجلس الأعلى للصحافة وتنظيم الإعلام»، المسئول عن تنظيم أوضاع الصحف ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والإلكترونية، سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص، ومن مهامه إصدار تراخيص فتح القنوات والمحطات، وتحديد شروطها العامة والعقوبات التي تطبق عليها إذا خالفتها، ويضمن عدم احتكار وسائل الإعلام ويتلقى إخطارات الصحف، أما المجلسان الثاني والثالث، فهما صغيران يتوليان إدارة وسائل الإعلام المملوكة للدولة فقط، أحدهما يتعلق بالصحف القومية، والثاني بالإعلام المرئي والمسموع.

للنقابة دور آخر

في ظل هذه المجالس، تحتفظ النقابة بدورها، الذي يتعلق بإصدار تراخيص مزاولة العمل الصحفي طبقا لشروط قانونها، والدفاع عن حقوق الصحفيين والإعلاميين وحرياتهم، كما تتولى وضع ميثاق الشرف الصحفي أو الإعلامي الذي يلتزمون به، وهي الوحيدة صاحبة الحق طبقا للدستور في تأديب الصحفيين ومحاسبتهم على مخالفة هذا الميثاق، فإذا ثبت إدانة الإعلامي توقع عليه عقوبة تبدأ بالإنذار وتتدرج إلى الغرامة، وتتصعد إلى المنع من مزاولة المهنة لعدة أشهر، ويمكن أن تصل إلى حد الفصل من النقابة وسحب رخصة الاشتغال في المهنة، وتطبيقا لهذه المنظومة جهز الإعلاميون مشروع نقابة لهم موجودا في مجلس الوزراء بالفعل، يستطرد عيسى: «نحن في المجلس الأعلى للصحافة بالتعاون مع نقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين تحت التأسيس؛ شكلنا «لجنة خمسين» وضعت التشريعات والقوانين التي تطبق مواد الحريات وتلغي الموجودة في القوانين القديمة، وهي تأتي في قانونين أساسيين؛ الأول؛ قانون تنظيم الصحافة والإعلام، وفي نهايته 3 أبواب تختص بالثلاثة مجالس الذين أشرنا إليهم وكيفية تشكيلهم وعملهم، وهذا القانون يضم 230 مادة، أما الثاني؛ فيتعلق بإلغاء العقوبات السالبة للحريات في جرائم النشر، ويشمل 5 مواد تلغي جميع العقوبات السالبة للحرية الموجودة في قانون العقوبات أو أي قانون آخر، ويستبدل هذه العقوبات بغرامة الحد الأدنى لها 2000 جنيه ولا حد أقصى لها، حيث يُترك الحق للقاضي في تقدير الغرامة للتهمة حسب مدى جسامتها، وأظن أن هناك اتجاها داخل الحكومة بأن تبدأ بإصدار القوانين الخاصة بتشكيل المجالس، والحريات عندما يشاء الله».

تلك المواد والقوانين لا تغني عن الإحالة للمحاكمة التأديبية من قبل النقابة، ويوضح عيسى: «يجب على الصحفيين أن يدركوا أن الحرية تقف أمام حقوق الآخرين، فلا يستسهلون الطعن في أعراض الناس أو اتهام آخرين بجرائم لم يرتكبوها أو العدوان على المجتمع، ولكن دائما الصحفيين للأسف الشديد لا يريدون أن يعاقبوا».

على طريق الديمقراطية

كتب عيسى منذ سنوات طويلة؛ كتابه «دستور في صندوق القمامة» الذي يتناول دستور 1954، حيث يعتبره الأفضل على الإطلاق في تاريخ مصر، ويؤكد أنه تم الاستعانة بكثير من مواده خلال صياغة الدستور الأخير وتعديلاته، يشرح: «كان هذا الدستور يقوم على أساس جمهورية برلمانية صرف، فالنظام المصري في عهد الملك فاروق كان ملكيا دستوريا وهو أقرب للجمهورية البرلمانية، في عام 1956 تحول النظام إلى جمهورية رئاسية في عهد الرئيس عبد الناصر، ثم عام 1964 بعد الانفصال عن سوريا، أخذنا بنظام الجمهورية المختلطة مع جنوح للجمهورية الرئاسية، مع دستور 1971 استمر هذا الوضع، ولذلك سمي نظاما شبه رئاسي، أما في تعديلات 2012 و2014؛ بدأ الأمر يتجه نحو شبه برلمان، أي جمهورية مختلطة، ولكن تتوازن سلطات البرلمان بعض الشيء مع سلطات الرئيس، وفي رأيي؛ النظام السياسي المصري لابد أن يقوم على جمهورية برلمانية نقية، وهذا ما دفعني لتأييد تعديلات 2012، لأنها خطوة مهمة تقربنا تدريجيا نحو تلك الجمهورية، وآمل بعد فترة من الزمن 10 أو 15 عاما في أول تغيير جذري للدستور القائم نصل مرة أخرى إلى فكرة الجمهورية البرلمانية النقية، لأنها الأكثر ديمقراطية، ربما ظروف البلد لا تسمح بها الآن، لكنني أعتقد أن التطور الديمقراطي خلال 10 سنوات سيجعلنا مهيئين للانتقال لها، فالشعوب لا بد أن تجّرب وتكتسب خبرة، وكل دول العالم المتقدمة مرت بتلك المرحلة».

3 كتب تستعد للنشر

عن آخر أعماله التي انتهى منها، يقول عيسى: «أقوم بتنقيح مخطوطات كتاب «الصحافة المصرية في معركة الديمقراطية» لأعيد نشره، وهو يحتوي على 800 صفحة، يؤرخ للمعركة التي ظهرت بين الأحزاب السياسية وفقهاء القانون الدستوري والقصر الملكي، حول ما سمي بذيل المادة 15 من دستور 1923، التي كانت تنص على أن «الصحافة حرة لا يجوز مصادرتها أو تعطيلها أو إغلاقها بالطرق الإدارية، إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي»، وحول ذلك دارت معركة كبيرة في البرلمان المصري وكواليس السياسة المصرية حول استخدام هذا الذيل، وتساءلوا؛ ما هو النظام الاجتماعي، وكيف نقيه، وما هي الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها، لأن بعض الأنظمة كانت تتجه إلى الاستناد لهذا الذيل لتلغي تراخيص الصحف بطرق إدارية».

وإلى جانبه؛ هناك كتابان آخران يستعدان ليلحقا به؛ هما «الموت في تشريفة الحليف الوطني»، اللذان ينقص كل منهما 3 فصول لينتهيا، ويأمل أن ينجزهما بعدما ينتهي من كتاب حرية الصحافة، يستطرد: «أحدهما خاص بمقتل شهدي عطية الشافعي المناضل الشيوعي الذي قُتل تحت التعذيب عام 1960 في المعتقلات المصرية بالقاهرة، والثاني عن مناضل شيوعي آخر هو فرج الله الحلو، سكرتير عام الحزب الشيوعي السوري اللبناني، الذي اعتقل خلال عهد الوحدة بين مصر وسوريا، وقتل أثناء التعذيب ثم أذيب جسده في الأحماض ودُفن، والكتابان محاولة لتقييم الآثار السلبية للخلاف بين عبد الناصر والشيوعيين على مسار حركة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات».

Comments