محمد سليمان‮: ‬المبدع معارض حالم لكنه ليس العدو

طفل صغير وُلد بقرية مليج في محافظة المنوفية، ذهب إلى الكُتاب في سنوات عمره الأولى؛ فحصل على لقب «شيخ»، إلى أن قرر جده أن يدفع به إلى المدرسة مثل أخواله، وحينما وصل للمرحلة الثانوية وبلغ السادسة عشرة من عمره، بدأ يحاكي القصائد التي أحبها من بين قراءاته، ويكتب الشعر، لكن العائلة كانت قد رسمت له طريقا آخر، يبدأ بالالتحاق بكلية الصيدلة في القاهرة ثم العودة إلى القرية لتأسيس صيدلية؛ حيث لم تكن تضم القرية واحدة، فكانت تلك هي الخطوة الأولى في رحلة الشاعر «محمد سليمان» داخل العاصمة.

جاء سليمان إلى القاهرة في منتصف الستينيات، وحينذاك التقى بحركة الشعر الحديث، يتذكر: «كنا في كلية الصيدلة نقيم أمسيات ثقافية، وفي إحداها التقيت بأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح جاهين ويوسف إدريس وسهير القلماوي، وكنت وقتها أكتب القصيدة العمودية، فألقيت واحدة علق عليها حجازي، لكن من شجعني حقا كان صلاح جاهين، ونصحني بأن اقرأ كل ما يكتبه الشعراء الجدد، فذهبت بالفعل أبحث عن شعر عبد الصبور وحجازي وغيرهم من الشباب والمعاصرين، وخلال عامين كنت قد حفظت كل أعمالهم والكثير من قصائد صلاح جاهين في شعر العامية، فأنا محب لهذا النوع من الشعر أيضا».

تخرج من الجامعة ثم كُلف بالعمل في مؤسسة أدوية بمنطقة الجيزة، وعلى بعد خطوات منه كان يقع قصر ثقافة الجيزة في مقره القديم، الذي شهد انطلاقته، حيث يوضح: «التقيت فيه بالعديد من الشعراء كأمل دنقل وأبو سنة وغيرهم، وبدأ دخولي للحركة الشعرية  والأدبية من هذا القصر، لذا أعتبر نفسي ابنا من أبناء الهيئة العامة لقصور الثقافة، فبالإضافة لذلك؛ خمسة من دواويني تم نشرها في الهيئة». ويستطرد: «لكني أعتقد أن دور هذه القصور تدهور في السنوات الأخيرة، حيث كانت مهمة جدا في اكتشاف المواهب وتشجيع الشعراء والكتاب والفنانين الشعبيين، لذا يجب على الهيئة أن تعيد النظر ويتاح لها الميزانيات التي تساعدها على القيام بدورها، فللأسف 85٪ مما يرصد لها يذهب كرواتب، ولا تفيض أموال لتمارس دورها الثقافي».

لي كل يوم وجه

لي كل يوم جسد مختلف

واسم قديم لم يعد يشبهني

أنا الجديد كلما صحوت

هل أبدو لبعضكم في الصبح مألوفا؟

لم يعد سليمان إلى القرية، لكنه أسس فيما بعد صيدلية في القاهرة بعدما ترك العمل في المؤسسة، وكانت مرحلة عمله في الصيدليات ثرية وممتعة جدا، حسبما يؤكد: «عندما يعيش الشاعر في قاع المجتمع، خاصة حينما تكون الصيدلية بحي شعبي  حيث عشت في السيدة زينب  يرى الناس وأحلامهم ومعاناتهم وكل أشكال النشاطات الاجتماعية، بالإضافة إلى الاستمتاع بالبلاغة الشعبية الخاصة بأهالي القرى والأحياء الشعبية، فهم يستخدمون مجازات مبهرة، وكان على أن أستفيد من كل هذه المعطيات، لذا أعتقد أن التجربة الحياتية لديَّ كانت عميقة، وعملي في الصيدلة أثرى تجربتي، لأن الجلوس في المكاتب وشد الكلام من الكلام لا يؤدي إلى تكوين ملامح، فالأهم أن نعيش في الشوارع ونري الناس ونقرض كتبا ونشعل دوائر الحوار، كما أن الشاعر والمبدع والمفكر عليه أن يحاور كل الكتب التي يقرأها، وأن يأخذ ويترك، لكي لا يتحول إلى مكتبة، فالتجربة الثقافية مهمة جدا بالنسبة للشاعر، ولكنها لا تعني كم الكتب التي قرأها وإنما الحوار الدائم بينه وبين الآخر».

بُهر سليمان بشعراء المهجر والمتنبي والمعري، وكان يقلد قصائدهم، حيث قرأ لهم أثناء حصة «المكتبة» كل أسبوع بالمدرسة، يقول: «كان لدينا أساتذة لغة عربية استطاعوا جذبنا إلى الشعر، وأنا أصبحت قارئا لأنني كنت محاطا بمجموعة من الأصدقاء والأقارب الذين يقرأون، وقد أسسوا مكتبة ووضعوها في محل صانع أحذية، كنت حينها صغيرا غير مسموح لي بالاستعارة، وإنما القراءة في المحل، فقرأت للرافعي والعقاد وطه حسين في الخمسينيات، ثم أصبحت القراءة عادة، وعلينا أن نعترف أن الكتاب والجريدة فقط كانا مصدر المعرفة في ذلك الوقت، فلم يكن هناك تليفزيون بهذا الشكل أو فضائيات، فنحن الآن نعيش في عصر الشاشة، الذي يختلف تماما عن الكتاب».

وفي ذلك يتذكر محمد سليمان: «قبل قرن؛ في عام 1916 صدر البيان الثاني للحركة المستقبلية بعنوان «السينما المستقبلية»، وجاء في مقدمته أنه انتهى عصر الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة وبدأ عصر الشاشة، هذه الكلمات في الوقت الذي كانت خلاله الشاشة الوحيدة الموجودة هي شاشة السينما، بينما نحن الآن نعيش في غابة من الشاشات، الشاشة تقود وتوجه وتهيمن وتتغول أيضا، ومن ثم فهناك فنون استفادت منها كفن الرواية، الذي يتحول إلى دراما، وكذلك المسرح، وهناك فنون لم تستفد كالشعر، ولذلك انتشر الحديث حول انحسار الشعر ونسي الناس أن له جمهورا نوعيا محدودا بشكل أو بآخر، خاصة شعر الفصحى، فهو جمهور مسلح بأدوات التعامل مع النص الشعري، يعرف لغة بشكل جيد ويستطيع أن يتعامل مع النص وتحليله وفهمه والخروج منه بانطباع ما، ولا يوجد شاعر في العالم كله وزع مليون نسخة من كل دواوينه، في حين لدينا روائيون وزعوا ملايين النسخ، فالشعر دائما جمهوره محدود».

هل يولد الفرعون فرعونا

بيد تدك.. وبسمة تحيى؟

أم يصنع الفرعون من هابوا

ومن رغبوا.. ومن غابوا؟

كتب سليمان للمسرح الشعري في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات؛ مسرحيتي «العابرون» و«الشعلة»، مُثلت الأولى على مسرح قصور الثقافة، والثانية قُدمت بإحدى المدارس، والاثنتان تناولتا التاريخ الإسلامي، وفكرة السلطة والحرية والعدل والفساد، يقول: «تلك قضايا أساسية بالنسبة لي وللمبدعين بشكل عام، والشاعر وكذلك أرى نفسي دائما في موقع المعارض، لأن المبدع يحلم بالأفضل والأرقي والأجمل، وحتى عندما يحقق النظام بعض هذه المطالب، يظل المبدع يحلم بالأكثر عدلا والأجمل، ويظل دائما هناك ذلك الحلم الجميل بالمجتمع الأجمل والأفضل وبقدر أكبر من الحرية، فالحرية غاية مرفوعة في كل الثورات، لكنها لن تتحقق أبدا، لأنه من المستحيل أن تكون هناك حرية مطلقة، وإنما لابد أن تكون محدودة بقدر مصالح الآخرين والتعايش الاجتماعي. أما الكاتب والمبدع فعليه أن يتحدث ويطالب بدون أن يوضع دائما في موقف العدو، وإنما الحالم والمختلف، لكننا للأسف لا نحتمل الاختلاف ولم نتعلم في بلادنا أن نختلف».

أما عن مستقبل المسرح الشعري، فيستطرد: «المسرح بشكل عام للأسف الشديد تراجع، وحتى السينما والمسلسلات، لدينا حالة تراجع عامة في المجال الثقافي، فالمسرح الآن يحتاج إلى جهد كبير واحتشاد وتفرغ، لإعادته إلى ازدهاره، لأن كتّاب المسرح انصرفوا عن الكتابة له».

قدمه صلاح عبد الصبور عام 1971، لذا كان له التأثير الأكبر على محمد سليمان، وربما هذا السبب وراء تشبيه البعض له في بداياته بعبد الصبور، وعنه يتحدث: «لقد حاول معي كثيرا في السبعينيات لكي أترك مهنة الصيدلة وأعمل معه في الهيئة العامة للكتاب بقسم النشر واعتذرت، وعندما عاد من الهند وأصبح رئيسا للهيئة؛ عرض عليّ مرة أخري واعتذرت أيضا، لأنني كنت أستمتع بمهنة الصيدلة والجماهير العريضة التي أتعامل معها، وكنت أخشي أن أجلس على المقهي وأتعامل في حلقة ضيقة جدا من الكتاب فقط، وأن أكتفي بشد الكلام من الكلام كما قال أبو حيان التوحيدي، بلا تجربة وغيره، فهذا خطر للغاية، حيث يجب أن يكون للشاعر أو المبدع تجربته الخاصة لكي ينجح في تكوين ملامح لوجهه وصوت متميز للغاية».

في رأي محمد سليمان؛ الشاعر لابد أن يكون مطلعا على كل ما يخص جذوره، وأن يلم بالتاريخ والفلسفة وكل المنتج الحضاري لأمته، والعالم إن استطاع، وليس فقط قراءة الأعمال الأدبية، يوضح: «بدون ذلك كيف يمكن أن يشكل تجربة ثقافية حقيقية وكبيرة، فالاطلاع على ما يحدث في العالم مسألة ضرورية».

أنا وحيد القرن

ظلي على الرصيف لم يعد يتبعني

وصيحتي في داخلي ترن

أنا الفتى القديم لست جوربا

وأنت لست قاربا ينسل.. أو أفعى

لكن هذا لا ينفي أن الأعمال الإبداعية حتما تنبع من الذات، التي تمثل مركز العملية الإبداعية بالنسبة لسليمان، ويضع لها 3 أشكال، هي: الذات كما ترى نفسها، الذات كما يراها الآخر، والذات كما هي بالواقع، يستكمل: «الأخيرة عادة ذات غير فنية لا يلجأ إليها المبدع أو الفنان، بينما الذات كما ترى نفسها؛ هناك منها ذات تؤله نفسها أو يتصور الشاعر أنه المنقذ والعظيم كبعض أعمال المتنبي وصلاح عبد الصبور وأدونيس وغيرهم، فتلك ذات تعلو وتضيف إلى نفسها، وهناك ذات تتحدث عن نفسها باعتبارها حشرة مثلما فعل كافكا، وأحيانا تحدث تغيرات كثيرة في الذات وتحولات، فهي عادة إما تضيف إلى نفسها أو تخصم منها، وبالتالي تتحول إلى موضوع».

وكما كان لصلاح عبد الصبور دور في حياة محمد سليمان، كان لأمل دنقل دوره أيضا: «لقد أدخلني ورشته الشعرية وأراني كيف يكتب القصيدة ويعيد الكتابة ويحذف ويختصر وغيره، ثم جرب ذلك على قصيدة لي كانت تتشكل من أربع صفحات، فأصبحت صفحتين ونصفا واكتشفت أنها أقوى وأكثر تماسكا وأجمل، وأخبرني أن محمود حسن إسماعيل هو من علمه ذلك، وكان هذا درسا مهما جدا بالنسبة لي، ففي البدايات الشعرية يظن الشاعر أنه يكتب كتابة مقدسة، لكنه بعد مدة يكتشف أن القصيدة في حاجة دائما إلى مراجعة».

بدأ الجيل الذي ينتمي له سليمان بشكل حقيقي بعد هزيمة 1967، يتذكر: «لقد تم اتهام الشعراء والأدباء حينها بأنهم لا يرون بعيونهم وإنما بعيون غيرهم من الحكام، وبالتالي لم يكونوا مخلصين لتجاربهم، أما على المستوي الشخصي؛ فأنا عشت تجربة أليمة مع الشاعر الكبير الراحل صلاح جاهين، الذي ظل يعتبر نفسه واحدا من المسئولين عن هزيمة 67 بسبب الأغاني والأناشيد التي كتبها في أعياد الثورة، وللأسف كنا نتحدث معه كثيرا لنقنعه أنه لم يكن قائدا أو ذا منصب ليكون مسئولا ولكنه بقى حزينا ومكتئبا، ورغم ذلك ظل ناصريا حتى آخر يوم في عمره».

لكيلا أصير نجيلا هائما في البراري

أو حصانا مسنا

وكيلا يعشش في مقلتي الدخان

ويحبو غدا في كتابي

سأعلن حربا هنا في الورق

وعن جيله السبعيني؛ يقول صاحب (سليمان الملك): «من الصعب أن أتحدث عن جيلي لكي لا أكون مجاملا، لكن يمكن القول أن الشعر السبعيني فتح بابا للتجريب، حيث كانت الراية المرفوعة من الجيل كله هي «نحو قصيدة جديدة»، حتى أن تلك العبارة كانت على مجلة «إضاءة»، ومثلت محورا من محاور عمل جماعة «أصوات»، فالكل يبحث عن القصيدة الجديدة، وبعد ذلك اكتشفت أن كل شاعر حقيقي يبحث عنها أيضا، والشعراء الكبار في العالم العربي هم في الأصل شعراء تجريبيون، لأن الشاعر الموهوب يرفض سلطة الشاعر الآخر، ويرفض سلطة القصيدة الشائعة والسائدة ويحاول أن يكتب قصيدته الخاصة، ومن ثم فهو يتمرد على السائد ويدخل إلى مرحلة التجريب، التي قد تقوده  إلى نتائج جميلة أو إلى اللاشعر، لأن التجريب لا يأتي بقرار وإنما من داخل النص، وتفرضه التجربة نفسها».

وعن مستقبل الشعر، يستكمل: «طوال الوقت نجد شعرا جيدا، لكن البحث عنه مضن إلى حد ما، لأن عادة كل جيل شعري أو حركة شعرية تبدأ بعشرين أو ثلاثين شاعرا ثم تنتهي بشاعرين أو ثلاثة، فالشعر الجيد قليل، وكان أمل دنقل يقول دائما أن الشاعر هو من إذا ذكرت اسمه تذكرت له قصائد وعناوين دواوين ومقاطع، أي أنه شاعر ترك أثرا وله وجه مميز، فهناك كتاب لا وجوه لهم، وأنا أحيانا أستفيد من أشعار متواضعة لكي أعرف سبب ردائتها ولماذا أصبحت رديئة لتجنب ذلك. أما الآن؛ فالشعر للأسف يعاني إلى حد ما، حيث إن جمهوره نوعي ومحدود، وتأثير الشاشة والوضع العام الذي نعيشه واضح جدا عليه، لكن دائما هناك أجيال جديدة، وشعراء نكتشفهم لهم تجارب مميزة ويسعون إلى تشكيل عالم جديد».

يستطرد: «في هذا الجيل هناك عدد من الشعراء الجيدين كمحمد منصور، سلمى فايد، محمد سالم عبادة، وسالم الشهباني الذي حصل على جائزة الدولة التشجيعية، التي اعتبرها الوحيدة الحقيقية في مصر، لأن الكاتب يتقدم بكتاب واحد وتتشكل لجنة وتقرأ وتكتب تقرير وتعطي درجات بدون معرفته، لأنه مازال شابا لا يملك علاقات أو ضغوطا، أما باقي الجوائز فللأسف تدخل فيها مصالح وأهواء ولجان عامة، ففي رأيي؛ يجب أن تشكل لكل الجوائز الأخرى لجان خاصة وبعدها تقوم اللجنة العامة باعتماد النتيجة، ذلك لكي نكون منصفين لأنفسنا ولنساعد الحياة الإبداعية والثقافية العامة في مصر».

بالشاشات ازدحم البيت

وبالشاشات احتفل المقهي

بالشاشات التصقوا

واختصروا معجزة الأفواه ولاذوا

بأحاديث الصمت

تناول في ديوانه «سليمان الملك» عزلة الإنسان، رغم كل المكتسبات الحضارية، واستعار فيه من الصور القرآنية والتوراتية في الوقت نفسه، يستطرد: «التكنولوجيا الآن أيضا قادت الإنسان إلى عزلة واسعة، فإن نظرنا إلى الشاشات مثلا؛ سنجد أن كل شخص أصبح له عالم افتراضي داخل الشاشة، وبذلك هي تساهم في تفكيك المجتمعات والأسر، لذا العزلة دائما تتجدد وتتخذ أشكالا جديدة، وكل مسعانا إلى ردم الفجوة والهوة تجوب بالفشل، فالمقتنيات الحديثة والعصرية لها جوانبها السلبية بالإضافة إلى الجانب الإيجابي».

لسليمان وجهه النبوي

له إشارة عشق

صلّي.. فحطت على كتفه الريح

جاءته مملكة المحار .. وأرغفه البحر

لكن بلقيس ظلت على شفة الغيم

لؤلؤة يشرئب لها القلب

لم يتجنب محمد سليمان التعرض في قصائده للرسل أو الكتابة من وحي قصصهم، كما في «برديات» و«سليمان الملك»، فهو يعتبر كل شيء مباح طالما أنه يتعامل معه بفنية عالية، يقول: «أنا أتعامل مع الأنبياء والرسل وأشياء كثيرة من المقدسات، ولكن لا أدخل إلى مراحل الإسفاف أو الاستفزاز، فالتعامل يكون بشيء من المهارة، لأن من حق الآخر أن أحترمه». ويستطرد: «هناك كتّاب يضعون في اعتبارهم من البداية لفت الأنظار، فيدخلون لتلك المناطق بفجاجة، فقط لكي يتم اتهامهم أو تُصادر كتبهم فيصبحون نجوما، وهذه من المشاكل التي نعاني منها في الحياة الأدبية».

عانى سليمان كبقية جيله من مشكلة النشر، حيث كان أول نشر حقيقي له عام 1990، وهو يقترب من الخامسة والأربعين مع ديوان «سليمان الملك»، بالإضافة إلى أن المجلات أغلقت في السبعينيات وتوقفت الهيئة في الثمانينيات عن النشر للشباب لفترة طويلة، فكان يقدمهم د.عبد القادر القط من خلال مجلة «إبداع»، من خلال باب بعنوان «تجارب»، يقول عنه: «كان ينشر كل النصوص الجيدة، حتى التي لا يتفق معها أيضا، وتلك إحدى فضائل تعيين ناقد مهم رئيسا لتحرير المجلة، فمن الخطر تعيين مبدع، لأنه لن يمرر إلا أشباهه والتيار الذي ينتمي إليه، ودائرته ستكون ضيقة، بينما الناقد أرحب صدرا وقادر على التعامل مع العديد من التيارات الإبداعية».

كالرسل أتى الثوار وذهبوا

كالرسل أضاءوا

واغتسلوا في الساحات وغسلوا

واحتفلوا بنداءات البرق ووأوأة المولود

وطاروا

في عام 2012؛ أصدر سليمان ديوان «كالرسل أتوا»، صاغ فيه رؤيته حول ثورة يناير، والآن بعد مرور 4 سنوات، يؤكد أن رؤيته لم تتغير على الإطلاق: «الثوار جاءوا وذهبوا، هذا حال العالم العربي، ولديَّ ديوان آخر أعده تكملة لذلك، به مرارة شديدة لما يحدث في الواقع العربي كله، حيث أشعر أن أمامنا سنوات لكي نستطيع الخروج من هذا النفق، خاصة وأننا في دائرة نار وحولنا من كل الجهات نيران مشتعلة في ليبيا والعراق وسوريا والسودان، وأسلحة وإرهابيون، فهناك ضغوط ومحاولات كثيرة لخنق مصر».

اختار محمد سليمان من بين أنواع الشعر المختلفة كتابة «قصيدة التفعيلة»، ليجرب بها مزج البحور والتفعيلات مختلفة، فاكتشف: «لقد تركنا في القصيدة العمودية 16 بحرا وحبسنا أنفسنا في ستة بحور، وبالتالي كان عليّ أن أجرب؛ بحثا عن خلق نغميات وتشكيلها، فلابد للشعر أن يكون قادرا على التشكيل، لذا أرفض أن تسيطر كلمة أو جملة على نغمية القصيدة بشكل كامل، وبالتالي فأنا أجرب وأخرج أحيانا إلى أشكال قريبة جدا من قصيدة النثر، لأن من مهام الشاعر أيضا التجريب النغمي الدائم والبحث عن نغميات جديدة وموسيقى للشعر وليس فقط التجريب في المفردات».

في الليل

حين يمزق المطر خيمة الرماد

وتنعتق وردة المباغتة

ينهض الواحد المضيء

يزيح الثلج وأكذوبة النعاس

يلتف بغيمة ويمضي

ورغم تأكيده على أنه شاعر نهاري، حيث لا يكتب إلا نهارا، بعدما يستيقظ في الخامسة أو السادسة صباحا، لكن الليل كأغلب الشعراء كان له تأثيره على كتاباته، يوضح السبب: «لأن به أشياء كثيرة، ويفتح بوابات للتذكر، والذاكرة هي مستودع المبدع».

الشارع أعمي

والصحراء تسوق إلى الساحات عجائز

ينتظرون قدوم الماضي

وعجائز يقترحون لماء النيل خرير السين

وللقاهرة ملامح روما

رغم نشأته في القرية بالمنوفية، إلا أن الصحراء لها التأثير الأكبر في كتاباته، لأن ذلك ما يلمسه في الواقع، الذي تأتي منه  أيضا النبرة الحزينة في أغلب قصائده، فمن الصعب الكتابة عن فرح غير موجود واختراعه، يقول: «أحيانا نري الصحراء في الشوارع، كما نرى ثقافة الصحراء». ويستطرد: «المشكلة التي نعاني منها تتمثل في تيارين؛ تيار الخلافة الإسلامية الذي ينتظر قدوم الماضي السحيق الذي لن يعود ولا يمكن أن يعود، والتيار الآخر الذي يريد مصر قطعة من أوروبا، وينسى الجميع أن الروائي الياباني الحاصل على جائزة نوبل ياسوناري كواباتا انتحر في الشارع احتجاجا على خفوت الروح اليابانية في الثقافة، لأنه رأي الثقافة الأوروبية تسيطر في اليابان واليابانية تتوارى».

غياب الثقافة يوّلد كثيرا من الجهل، الذي قد يقود إلى التطرف، وهو ما يعود من وجهة نظر سليمان  إلى: «هناك مشكلة رهيبة جدا في التعليم، فنحن الآن لدينا مدارس عامة وتجريبية وخاصة وأجنبية، ودينية وإسلامية، وأخرى لا تتابعها الدولة ولا تعرف ما يدرس فيها، فالتعليم بداية زراعة العقل وحشوه وتشكيل المواطن، إذا اهتممنا به وركزنا عليه نستطيع خلال سنوات إعادة تشكيل وعي المواطن، لكي لا يجد المتطرف مددا قادما إليه من أجيال أخرى، وفي رأيي؛ اتهام وزارة الثقافة ظالم إلى حد كبير، لأن وزارة الثقافة لا تستطيع أن تبني على فراغ، حيث يجب أن يقدَم إليها مواطن يعرف القراءة والكتابة جيدا، وتعلم أن يدخل مكتبة في مدرسة ويقرأ كتابا ويعرف اللغة بشكل حقيقي، وهو ما يستوجب توجيه الوزارات الثلاث: التعليم، الثقافة، الإعلام، لأنه عندما نهمل التعليم نفتح الباب للجهل والتطرف والفوضى والضياع، فالتطرف والإرهاب بدأ من السبعينيات عندما بدأت يد الدولة وقبضتها تتراخى في التعليم».

يعد الشاعر محمد سليمان الآن ديوانه «كتاب الماء والمرايا» ويجهزه للنشر، بالإضافة إلى الجزء الثاني من ديوانه «كالرسل أتوا» بعنوان «برديات»، وفي ذلك يفضل أن ينشر أعماله في الهيئة العامة للكتاب: «لأن الأسعار تكون زهيدة وفي متناول يد القارئ، وأظن أن معظم قراء الشعر هم طلبة الجامعات، وبالتالي هم يستحقون الكتاب المدعوم».

Comments