ميسون صقر : أرواح الناس تعيش معي

ولدت ميسون صقر القاسمي في الإمارات عام 1958، ثم جاءت إلى مصر مع أسرتها في 1964، حيث درست كل مراحلها التعليمية في القاهرة، وتخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم علوم السياسة عام 1982، بعدها ذهبت للإمارات عام 1989 وعملت حتى 1995 في المجمع الثقافي بأبو ظبي رئيسا للقسم الثقافي ثم لقسم الفنون، ثم قسم الفنون والنشر، كما عملت بوزارة الإعلام والثقافة كمدير للإدارة الثقافية.  

أقامت القاسمي تسعة معارض تشكيلية في القاهرة والإمارات والأردن والبحرين، كما شاركت في معرض الفنانات العربيات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تزال تواصل تجربتها التشكيلية الموازية للشعر، وقد صدر لها تسع مجموعات شعرية هي: «هكذا أسمي الأشياء»، «الريهقان»، «جريان في مادة الجسد»،«البيت»، «الآخر في عتمته»، «مكان آخر»، «السرد على هيئته»، «تشكيل الأذى»، وأخيراً «رجل مجنون لا يحبني».. كما أصدرت ديوانين باللهجة العامية المصرية هما «عامل نفسه ماشي» و«مخبية في هدومها الدلع»، وقد نالت عام 2014 جائزة كفافيس في الشعر، وفي عام 2003 اخترقت مجال الكتابة الروائية مع روايتها «ريحانة».

«ومضت أيام اللؤلؤ».. هكذا أسمي إحسان عبد القدوس روايته التي كتبها عام 1984، لكن اللؤلؤ عند ميسون لن تمضي أيامه أبداً، رغم انحيازها الدائم للتطور والمستقبل، إلا أنه جزء من التاريخ وسيظل في الذاكرة دائماً، ظلت لتسع سنوات تنقب عنه وتتساءل، وفي النهاية؛ خطّت لنا ما خلصت إليه في روايتها «في فمي لؤلؤة» التي صدرت مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية، وتتناول فيها عالم صيد اللؤلؤ وحياة الغواصين على مراكب الصيد، وترصد المفارقة بين بريق اللؤلؤ الذي يشع من أعناق النساء وظلمة المغاصات وبؤس حياة جالبيه، وحولها يدور حوارنا معها.

مرت 13 عاما منذ كتابة روايتك الأولى «ريحانة». لماذا هذا الانقطاع؟

أنا في الأساس أترك فترة طويلة بين كل شيء والآخر، خاصة أنني متنوعة بين الشعر والرسم والكتابة، لذا أقوم بفعل شيء مختلف بين فترة والأخرى، كما أنني لست روائية متخصصة بمعني أن أكتب رواية ثم أفكر فيما ستليها، وإنما تعن لي فكرة ما ثم ابدأ العمل عليها، فريحانة جاءت بالصدفة ولم تكن مقصودة، حيث كانت والدتي مريضة وأنا معها في غرفة إنعاش لمدة سبعة أشهر لا أفعل شيئا سوى الكتابة، فنتج عن ذلك الرواية الأولى، أما هذه المرة فكانت فكرة البحر لافتة لنظري، وما يميزه في الإمارات عنه في دول أخرى، وكذا التجارب التي تمر على الصيادين والمراكب التي تختلف بدورها من مكان لآخر.

كما أنني خلال هذه السنوات ال13 بعد ريحانة لم أتوقف، حيث أصدرت ديوانين وأقمت معرضا، إضافة إلى أن الفترة السابقة تضمنت الثورة بكل أحداثها، فلم أستطع العمل بقدر البحث، خاصة وأن تلك الرواية شملت كثيرا من المعرفة التي وجب الإطلاع عليها، والقراءة في سير الرحالة والصيادين، ومن ثم الكتابة.

من تستهدفين بروايتك؟ لأنه يبدو في الرواية أنك تكتبين للقارئ المجتهد الذي ندر وجوده حاليا في الوطن العربي.

لا أحد يستهدف فئة عندما يكتب، وإنما تأتي الفكرة ثم يتبعها العمل عليها. وهذه طبيعة كتابتي، لا يمكنني أن أتحول منها لكتابة أخرى لكي تكون سهلة على القارئ، فأنا أكتب ثم انتظر آراء النقاد والقراء. لا يعني ذلك تعاليا على الوسط أو المثقف، وإنما تلك رؤية للحياة كلها، فعند الكتابة يكتب المرء نفسه وما هو عليه. كما أن هذه الرواية تتقاطع مع كتابات وأفلام عن البحر مهمة جدا، وحين أكتب لا يصح أن أكون أقل منها، فالكتابة وراءها عدة أفكار؛ منها الحب والعلاقات الكثيرة غير المكتملة، والجرأة، وجميعها موجودة في التاريخ، فهو به كل الأشياء التي نقول أنها لا يمكن حدوثها وحدثت بالفعل.

كيف بدأتِ التفكير في الرواية؟

كنت في البداية أكتب عن البحر ثم توسعت الفكرة إلى مراكب الصيد ثم إلى اللؤلؤ والغواصين، لأنه لم يُكتَب عنهم إلا في الخليج فقط وفي منطقة محددة، لكن لا أحد تعمق في الحالة، ثم بدأت هذه اللؤلؤة تستدير وتشعب الأمر إلى الحديث عن الاستعمار الذي انشأ فكرة اللؤلؤ، فتطورت الفكرة من شيء صغير داخل البحر إلى استعمار تستفيد منه تلك الدول، وعندما ظهر اللؤلؤ المصنوع أنهوا تلك الفكرة واتجهوا للبترول، فالاستعمار يبحث عن مصادر لتغذيته.

هل هناك أمل في استعادة زمن اللؤلؤ؟

مستحيل؛ الماضي لا يعود، لأن الاستعمار هو من انشأ الفكرة في منطقة الشرق الأوسط ليستفيد، وهذا ما أتحدث عنه، فعندما ظهر البترول بدأوا يطالبون بترسيم الحدود ووجود دولة وتنظيم المعاملات، اليوم يغيرون تلك الحدود وترسيمها وشكل الدول من أجل  أيضا فكرة أخرى في ذهنهم، فالواقع نفسه يتكرر كل فترة، لذلك عرضت الرواية في شكل متتاليات في متاهة، لأننا كلما ننتهي من دائرة ندخل في أخرى سواء في التاريخ أو الاستعمار أو الاستفادات.

هل تجدين في الانتقال من زمن اللؤلؤ إلى الزيت تطورا أم تدهورا ثقافيا؟

وجود الزيت لا يعني أن السابق أفضل، على العكس؛ لقد كانت هناك تفرقة عنصرية وعبودية وفقر، وفي رأيي؛ الآن هناك أشياء أفضل كثيرا، والمتفائل يرى دائما أن المستقبل أفضل من الماضي، يمكننا بالطبع الاستفادة من الماضي ولكن بدون أن نقف عنده، هذه طبيعة الكون، وأنا مع التقدم والرؤية إلى الأمام، فهذا العصر أفضل كثيرا من العصور السابقة لكن نحن من أصبحنا اسوأ، لأننا في ظل كل ما يحدث لم ننتبه لما هو هام بالنسبة لحياتنا سواء سياسيا أو ثقافيا، فكل شيء له عيوبه ومميزاته، والزيت كذلك، إلا أنه رغم كل شيء صنع دولة ونظام وأنهي العبودية وتجارة الأسلحة وسيطرة الإنسان. فالمستعمر هو من انشأ فكرة اللؤلؤ لأسباب أخرى تتعلق بالخزائن والاستثمار وغيره، وحيكت حولها الكثير من الأساطير، وحين انتهت اختفي كل ذلك، كأنها مبنية على قش وليست حقيقة، رغم أن الأديان كلها سواء السماوية أو الأرضية كالبوذية وغيرها، خلدت اللؤلؤ وقيمته.

ما الذي فقده الخليج بالتحول من الحياة البدوية للحياة المدنية؟

أي شيء به تطور يأخذ ويعطي، الحياة البدوية قد تكون معتمدة على الشهامة والدفاع والاعتماد على النفس لكنها حياة متقشفة وغير آمنة للناس، والتطور طبيعة بشرية موجودة في كل بلد، ولابد للناس أن يمتزجونا مع بعضهم.

مزج الكاتب بين البحث والكتابة. ألا يؤثر أحيانا على الطبيعة الروائية ويجعل الكاتب يتطرف عنها بفضوله البحثي؟

هناك أنواع من الكتابات وكل شخص يختار كتابة ما، وعند الكتابة عن شيء غريب تحاولين العمل على الفكرة أكثر، فتلك ليست رواية تاريخ أو معرفة أو أساطير، هي مزيج من كل ذلك، أحاول خلالها كتابة عمل يتسم بالجدية وليس بحثي، في سياق سردي روائي يمكن الاستمتاع به.

ألم تخشي أن يؤثر حجم الكتاب على قرائيته؟

لم أخش ذلك إطلاقا، علي العكس؛ رأيت في ذلك اكتفاء، فالرواية بها معلومات وتاريخ وسرد وبناء ومشهدية، هذا يكفيني وأشبعني، وأنا سعيدة به.

لماذا اخترت مارلين مونرو عند تصميمك لغلاف روايتك؟

لأنني كتبت عنها مرتين داخل الرواية؛ الأولى حينما أهداها زوجها الثاني «أرثر ميلر» العقد، والثانية في المعرض حينما وضعوها كأيقونة لفكرة الجمال والغواية وكانت تلبس العقد نفسه، فهي من الأوائل الذين استخدموا اللؤلؤ المزروع، ومن حينها سقط صيد اللؤلؤ الحقيقي والبحث عنه، لذا وجودها على الغلاف يكمل فكرة الاستدارة أو التكرار، أما اليشمك ففيه خريطة تضم «الخليج العربي» الذي كان يسمى حينها «ساحل اللؤلؤ».

ما نسبة الواقع إلى الخيال في روايتك؟ حكاياتها وشخصياتها؟

لم أسرد أحداثا حقيقية، لكنني استفدت من مذكرات الرحالة والحكايات، مثل قصة الأميرة سلمى العمانية التي أحبت جنديا على سفينة ألمانية وذهبت إلى ألمانيا ثم عادت لتقيم علاقات بين زنجبار وألمانيا، فاستخدمت ذلك في قصة «آمنة» التي ذهبت للبحث عن شخص تحبه، وكذلك قصة سيدات البرتغال اللاتي كن يقصصن شعورهن قديما ويلتحقن بالحربية ليصبحن قائدات سفن وحينما يعلمون بأمرهن يقتلوهن ولا يضعوهن في التعداد، فتلك فكرة قاتلة للمرأة، وقد ذكرتها من خلال قصة «كاثرين»، وغير ذلك. فطبيعة الرواية هي الاستفادة من جميع الأشياء.

إلى جانب أنني تقابلت مع غواصين وأجريت معهم حوارات، وذهبت لمركز التراث الشعبي، ومركز الشعر الشعبي الذي قرأت به قصائد ووضعت بعضا منها في الرواية، كما استفدت من فكرة مصر والإمارات، التي تعد جزءا خاصا بي أحرص على وضعه دائما، فليس عيبا أن يستفيد المرء من فكرة في الحياة ويعمل عليها.

ألا تعتقدين أن الاهتمام بالاقتصاد والمال في الإمارات حاليا يأتي على حساب الثقافة، وظهر ذلك جليا في إغلاق بعض المجلات؟

أي مكان يحتاج لمنبر؛ مجلة أو جريدة أو برنامج، لأن هذه هي الأدوات الحديثة للوصول إلى الناس، وإن كانت الجرائد تقوم مقام المجلة أحيانا، لكن ذلك لا ينفي أهمية وجود مجلة متخصصة، وفي الإمارات هناك احتياج لذلك، لأن كل المجلات التي صدرت لم تنجح، فلا توجد تجربة قوية مستمرة كالعربي الكويتية مثلا وإن كانت تعاني هي الأخرى من مشكلات، كما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الثقافة بديلا لتلك المجلات وأخذت جزءا كبيرا من الثقافة والجهد الورقي. لكن في النهاية؛ الثقافة تكمن في الإنسان والبشرية، وتنبع من الداخل وليس من الحكومات أو المؤسسات، ففي فترة الغوص لم تكن هناك دول وإنما قبائل تتحارب مع بعضها، ومع ذلك كان هناك شعر وسير نستفيد منها اليوم، حاليا هناك الكثير من الروافد، ولكن الفكرة في كيفية استفادة الإنسان منها.

ترسمين اللوحات وتكتبين الشعر والرواية. كيف أثر كل فن على الآخر؟

العالم أصبح أكثر اقترابا، اليوم، وعندي في البيت كانت هناك مكتبة وشعراء يزورون أبي كأحمد رامي وحسن الصرفي وهناك كذلك من يرسم بالزيت، فقد نشأت في هذا المناخ، ومن يملك أدوات الشيء يمكنه فعله، يتبقى فقط وجود الفنية من عدمه. أنا أجرب الشيء ثم أحاول عمله فإذا نجحت استمر وإن لم أنجح أمزقه وانتهى الأمر. لأنني في النهاية متخصصة في كتابة الشعر، بعد ذلك تتداخل الفنون الأخرى وتمتزج فأجربها.

في رأيك وبعد التجربة؛ الانتماء لعائلة بها شعراء كبار. نعمة أم نقمة؟

الاثنان معا؛ نعمة لأنني لا أفعل شيئا جديدا، فأنا نشأت في هذا العالم ويمثل جزء من كياني، ونقمة لأنه دوما ما تكون هناك مقارنات معهم، خاصة وأن والدي من أهم شعراء الإمارات، لذا حينما أكون ابنة الشعر التقليدي وأكتب قصيدة النثر تكون تلك مصيبة. لكن تلك النقمة تجعلني جادة في الكتابة وأحسن في عملي دائما.

ما المشروع الذي تعملين عليه الآن؟

بدأت الأيام الماضية مشروع رسم عن كيفية تحديث الأفكار التقليدية، قد يستغرق من عام إلى عامين لأقيم معرضاً، لأنني دائما اعتمد على فكرة المعرفة عندما أعمل على أي شيء ولا آتي من فراغ، لذا استغرق وقتا طويلا. وتلك متعة وحدها؛ فالنتيجة التي تخرج مفردة يدخل مقابل لها عشرة مفردات في تكويني.

كما أفكر في عمل سيرة عن فكرة خروجي من الإمارات ومجيئي لمصر والبيوت التي دخلتها والأشخاص الذين قابلتهم، لأن كل بيت دخلته له حقيقة، فجميعها قديمة وأشعر دائما أن أرواح الناس تعيش معي لأنني لست أول من يعيش في هذا المكان أو يستخدمه. فأحد البيوت مثلا كانت تعيش فيه امرأة، أثناء حركتها داخله ترك كعب حذائها آثار حفر على خشب أرضيته، هي ماتت منذ زمن ولكن بقيت تلك العلامات موجودة.

Comments