‬محمد بنيس‮: ‬اخترت الثقافة‮ ‬والشعر اختارني

مبدع لا يؤمن بالعفوية. علاقته بالشعر تبادلية، حيث اختار كلٌّ منهما الآخر. التحق بكلية الآداب في فاس عام 1968 لينمي موهبته، لكنه اكتشف أن المستوى الأول من  التعليم الجامعي وحده لا يكفي، وأن عليه استكمال دراسته العليا والحصول على منصب جامعي يكفل له وضعاً اجتماعياً وعائداً مادياً  يمكنانه من التمتع بكامل حريته في الكتابة والتعبير والمغامرة، فانتقل من فاس إلى المحمدية، القريبة من الدار البيضاء والرباط. ومنذ عام 1980 أصبح محمد بنيس أستاذاً للشعر العربي الحديث بكلية الآداب في جامعة محمد الخامس، ليثري الحياة الأدبية والأكاديمية بعدد كبير من المؤلفات، من أبرزها في الشعر: «هبة الفراغ»، «كتاب الحب»، «نهر بين جنازتين»، «نبيذ»، «هناك تبقي»، «سبعة طيور»، «هذا الأزرق». ومن الأعمال النثرية: «شطحات لمنتصف النهر»، «العبور إلى ضفاف زرقاء»، «كلام الجسد»، «يحرقون الحرية». بالإضافة إلى دراسات «كتابة المحو»، «الحداثة المعطوبة»، «الحق في الشعر» وعدد من المترجمات.

ولد محمد بنيس عام 1948، وبدأ رحلته مع الشعر في عمر المراهقة بين عامي 1962 و1963، حيث انتقل مباشرة من قراءة قصص الأطفال إلى اكتشاف الدواوين. وكانت خطوته الأولى مع ديوان «أغاني الحياة» لأبي القاسم الشابي. بعد ذلك تعرف على المتنبي ثم جبران خليل جبران ونيتشه، وشيئاً فشيئاً بدأت دائرة معارفه تتسع لتضم شعراء قدامى كالبحتري وأبو تمام والشعراء الجاهليين. ثم وصل إلى الشعر المعاصر، وكان أول من تأثر به هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، يقول بنيس: «رافقت مراحل مرضه والقصائد التي كتبها. هكذا بدأت الدائرة تتسع وصرت أكتب. ولم أعد أعرف من أين بدأت وإلى أين انتهيت».

أنا الأندلسيّ المقيم بين لذائذ الوصل

وحشرجات البين

أنا الظاهريّ

القرطبيّ

الهاجر لكل وزارةٍ وسلطانْ

انفتح بنيس على عالم الشعر في جميع أركان المعمورة، سواء باللغة العربية أو عن طريق اللغة الفرنسية. أثاره الشعر الألماني والفرنسي آنذاك، كما أثارته نظرية «ت.س.إليوت» في الشعر والموروث واللغة. فمزج في الثقافة بين ما هو عربي وفرنسي وألماني وإنجليزي: «تأثرت كثيرا بإزرا باوند، لأن شعره مفتوح على الثقافة الكونية، وهذا شيء كان يثيرني. وبطبيعة الحال كنت أتتبع التجارب الشعرية الكبرى واقرأها بشغف، مثل رامبو وبودلير ومالارميه والألماني هولدرلين، هؤلاء الكبار هم النموذج الشعري الذي فتح لي الأفق لإعادة قراءة الشعر العربي، سواء الجاهلي من خلال امرؤ القيس أو طرفة بن العبد، ثم قراءة الشعراء العباسيين وفي مقدمتهم أبو نواس والمتنبي وأبو تمام والمعري، ثم شيئاً فشيئاً أخذت أتعرف على الشعر الأندلسي والكتابة الصوفية. هذه هي التجارب والمعارف الشعرية التي أغنت تجربتي عبر عقود من الزمن. لم أكن أعطى اعتباراً في اختياراتي الشعرية والثقافية لما هو جغرافي أو وطني في الكتابة، ما كان يعنيني هو العمل الشعري أولا، ثم تجربتي الداخلية وما أحسه شخصياً في علاقتي مع زمني الثقافي، عربياً وعالمياً. أدركت منذ البداية أن المهم هو أن تكون للشاعر لغته الخاصة وتجربته ورؤيته، ثم الطريق بعد ذلك مفتوح».

وصل بنيس لقناعة داخلية بأن قيمة الشعر لا تتمثل في تقسيمه إلى مراحل تاريخية وإنما يتجسد في تجارب، يتابع: «عندما تأثرت بتجربة امرؤ القيس لم أعتبرها جاهلية، تعاملت معها كأنها شعر اليوم، مع مراعاة أن طريقة الكتابة تعود إلى زمن قديم. أصبحت أشعر بأن كبار الشعراء في العالم كلهم آبائي وبأنهم يشكلون عائلتي. لا أميز بين تاريخ وآخر، عهد قديم وحديث، شاعر قديم ومعاصر. المعيار هو القوة الشعرية وقوة التجربة. أي أنني لا  أنظر إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين باعتبارهم قدامى وأنهم يظلون كذلك. تعلمت أن أنظر إليهم من حيث أنهم مقيمون في المستقبل وقادمون منه أيضاً، وأن قوة شعرهم تخترق الأزمنة. من هنا كان حبي لهؤلاء الشعراء الذين أسميتهم الكبار، من أزمنة وأمكنة متعددة، وبهذا أصبحوا أساتذتي».

يؤمن بنيس بالقوة التي تخترق الزمن في كل شيء وليس الشعر فقط، لذلك فإن أول ما يفكر في فعله كلما أتى إلى مصر هو أن يزور الأهرامات ويذهب عند النيل، ليلقي التحية على بناة هذا الأثر العظيم والخالد حتى الآن رغم مرور كل هذه القرون، وفي كل مرة يتساءل: «كم من الزمن يمكن أن تبقي الأهرامات؟ نحن سنفنى وهي ستظل باقية هنا».

بالقرب من النيل، وداخل المدينة التي تحتضن الخلود، حضر بنيس وكان لنا معه هذا اللقاء.

تشغلك الحضارات وآثارها الخالدة التي تخترق الزمن. هل هذا سبب الحضور الطاغي لمدينة فاس في كتاباتك؟

فاس هي مدينتي التي تربيت فيها ودرست وعشت ما يقرب من 24 عاما حتى غادرتها عام 1972. لكنها أيضا مدينة قديمة جداً. بنيت عام 182 هجرية (808 ميلادية). بل يمكن أن نعتبرها أقدم مدينة موجودة في العالم حتى اليوم كمدينة كاملة. عندما نأتي للقاهرة يمكن أن نذهب إلى خان الخليلي أو السيدة زينب أو حارة من الحارات، أما مدينة فاس فهي بأكملها قائمة وموجودة حتى الآن كما كانت قبل اثنى عشر قرناً. هذه واقعة مدهشة. لقد تعلمت في فاس فن العمارة العظيمة، ثم الفنون والثقافة، والقيم الاجتماعية والأخلاقية والتذوق الفني. لكن علاقتي بها كعلاقتي بالشعر. لا أعتبر فاس قادمة من الماضي، الذي ليس لديَّ حنين العودة إليه. وعلاقتي بفاس ليست رومانسية، لا أعود إليها لأتذكر حبيبة عشقتها في مراهقتي أو لأناجي الآثار. وإنما فاس تتحول لديَّ إلى مدينة قادمة من المستقبل، لذلك تدفعني لأطرح أسئلة: ما معني فاس اليوم في عالم متغير؟ ما معناها في عالم توجد فيه نيويورك أو طوكيو؟ وما علاقتها بالمدن الحديثة في العالم؟ أطرح هذه الأسئلة على نفسي كما أطرحها على نيويورك عندما أكون فيها. تسحرني فاس كثيراً، لأنها قوية بأشباحها ومسكونة بطبقات من التاريخ والتجارب الفنية والفكرية والإنسانية. فاس تتكلم بأصوات على الشاعر أن ينصت إليها.  بهذا المعني تشغلني فاس بقدر ما تشغلني الحضارات.

أتذكر أن جمال الغيطاني أتى عام 1979 إلى مدينة فاس، وعندها أخذته إلى المدينة القديمة وتجولنا فيها. في تلك الزيارة جاءته فكرة كتابة عمله الكبير «كتاب التجليات». وكل من يزور فاس بهذا العمق الفكري والجمالي، وينصت إلى أصواتها المتعددة، يكتشف أنها مكان يثير المبدعين في شتى النواحي، سواء كانوا أدباء أو موسيقيين أو رسامين أو فلاسفة. أما أنا فأترك نفسي حراً في علاقتي بها. للأمكنة قوة بالنسبة لي. أقصد الأمكنة ذات الحمولة الرمزية. لذلك عندما آتي إلى القاهرة أذهب إلى النيل، أقضي ساعات طويلة جالساً أمامه. لا أتكلم ولا أفعل شيئاً. فقط أجلس وأشاهد تلك الأبدية التي تتجسد فيه. النيل مثل الأهرامات، فهما يتكاملان. بعد ذلك أذهب إلى خان الخليلي والسيدة زينب والقلعة وغيرهم، لأرى أثر الأزمنة عبر التاريخ. ألتقي بالناس وأستمتع بأشياء شعبية بسيطة. وأحاول الربط بين هذا الماضي العميق للقاهرة وبين الحياة اليومية للمصريين في زمننا، من خلال الأصوات المتعددة للمدينة التي أنصت إليها وأنا منتبه إلى السرّي والغامض فيها. هذا ما يأسرني في المكان.

لا تميل لتقسيم الشعر إلى مراحل تاريخية، لكن هناك تقسيمات أخرى كالفصحى والعامية التي أحيانا تصاحبها نظرة مغايرة ودونية. ما رأيك ؟

الطريقة التي ينظر بها الرأي العام للشعر وأنواعه معتادة في كل الثقافات، ويجب ألا نُفاجأ بها. فالقصيدة، التي كتبها كبار الشعراء العرب في المشرق، أتى الأندلسيون بعدها بنموذج آخر هو الموشحات، ثم أبدعوا الزجل في مرحلة موالية. هذان النموذجان الشعريان أتيا من الأندلس والمغرب إلى مصر ومنها إلى العراق وسوريا ثم انتشرا عبر العالم العربي. آنذاك، لم يعد المتنبي هو الشاعر الكبير، بل شعراء عصر الموشح والزجل هم الذين صاروا كباراً. كذلك حينما يقال إن الشعر الشعبي أقل قيمة من الفصيح، فهذا حكم عام يستند أحياناً إلى أن ثقافة الشعر الشعبي لا ترقى إلى معرفة الشعر الفصيح، الذي هو أوسع وأغنى من حيث الفنية والعمق الجمالي. لكن هذه الخصيصة الفنية لا تقتصر دائماً على الفصيح، لأن هناك شعراء كتبوا (أو يكتبون) بلغة عامية راقية جداً ولهم أفق شعري واسع.

هذه الوضعية موجودة في بعض الثقافات التي يمكن أن نتعلم منها، ونرى كيف تعيش فيها التجارب الفصيحة والعامية نفس الأوضاع التي تعيشها في ثقافتنا. لكن وضعية الكتابة بالعامية في أوروبا ليست هي نفسها في العالم العربي. الكتابة بالعامية في أوروبا لا توجد إلا على هامش اللغة الأدبية السائدة في دول مثل إيطاليا (المحكيات الإيطالية) أو الهند. بينما يصعب أن نجد ذلك في فرنسا أو أسبانيا بنفس الحضور. فبعد أن طردت أسبانيا كلا من المسلمين واليهود، أصبحت الكتابة بغير اللغة القشتالية ممنوعة، ومن كان يقدم على ذلك كان يحاكم، لأن اللغة القشتالية أصبحت آنذاك بمستوى العقيدة الدينية الكاثوليكية. أما نحن فلم يحصل شيء من ذلك عندنا على امتداد تاريخ ثقافتنا في المغرب والمشرق على السواء، حتى اليوم. دائماً كان هناك شعراء باللغة العربية الفصحى وآخرون بالعامية على امتداد تاريخنا، ولم نسمع في يوم من الأيام أن شاعراً شامياً أو مصرياً أو مغربياً تعرض للمنع من الكتابة باللغة العامية أو حوكم بسببها. بل الأكثر من هذا؛ لدينا شعراء كبار، ابتداء من القرنين الثاني والثالث عشر، كتبوا بالعامية والفصحى معاً، مثل الشاعر أبو الحسن الششتري. فهو شاعر صوفي أندلسي كبير، هاجر من الأندلس إلى مصر عبر المغرب، وكانت له تجربة ذات صدى واسع في الشعر العربي وغير العربي. كان يكتب بالعامية وبالفصحى، وقيمة شعره تتساوي في اللغتين معاً. وما أقوله عن الششتري يصدق على شعراء عديدين، كانت لهم مكانة عليا في زمنهم. ويمكن أن ننظر إلى الوضعية نفسها في زمننا الحديث، بما هي عليه.

تمردت على الشعر التقليدي واتجهت للحداثة. لماذا ؟

لا بد أن أفرق أولاً بين التقليدي والقديم، لأن هناك من يخلط بينهما ولكنهما ليسا نفس الشيء. فالتقليدي يعني فقط أن الشاعر يقلد شاعراً أو نمطاً شعرياً سابقاً في الوجود. بمجرد أن يبدأ الشاعر في القصيدة يستمر في الكلام حتى يتعب ويتوقف. هذه البداهة لا أؤمن بها في الشعر. الأشكال الشعرية لها أزمنتها، فلا يمكن لشكل شعري مضى عليه ألف سنة أن يبقى دائماً هو النموذج الذي يمكن أن نكتب به اليوم، لأن التجربة الشعرية تغيرت ويجب أن تكون هي المصدر في الكتابة، وهنا يكمن الفرق بين التقليدي والقديم، الذي له مفعول لا يتوقف، وأنا لا أتخلى عنه. أما العنصر الآخر، والأهم بالنسبة لي، فيكمن في الذات الشخصية، لأن الشاعر الحقيقي هو الذي يخلق نموذجه الشعري الخاص، سواء في اللغة أو الصورة أو البناء أو التركيب أو الإيقاع. أحيانا يكون هذا النموذج غريباً أو مستعصياً أو مرفوضاً. ليس هذا هو المفيد، وإنما المفيد هو إخلاص الشاعر فيما يفعل ووعيه بالفعل الشعري الذي يقوم به. هذا هو عمق التاريخ الشعري وهذا معنى الحداثة. عندما نقرأ للمتنبي نجد الشعر العربي حاضراً في كل قصائده ولكننا نجد أيضاً ما يتفرد به المتنبي، وهو ما يعطي معنى لتاريخنا الشعري. فالشعر العربي يحتاج دائماً إلى شعراء يعيدون خلقه من جديد ككل، أي أن يستوعبوا تجربته في كليتها ويستأنفوا من جديد تاريخه. التجربة العربية، وعموم التجربة الإنسانية، يتم استخلاصها من خلال الكتابات التي تنجح في الوصول إلى مكانة الذات الشخصية، أي ما يسمى عادة بالفرادة، التي هي سمة الحداثة. هذه هي النماذج الشعرية العليا، لكنها نادرة في جميع اللغات وهي تمثل الحداثة التي أتمنى أن أستحق الانتماء إليها.

لا تؤمن بالبداهة والعفوية. فماذا عن الموهبة؟

الموهبة مثل الإعلان عن ميلاد طفل رضيع، علينا أن نرعاه ليكبر في ظل ثقافة يتربى عليها من اليوم الأول. لذلك لا أؤمن بالموهبة وحدها، فهي لا تعطي في هذه الحالة شيئاً. هي مثل جذوة تتقد في لحظة، وإذا لم يتم الانتباه إليها ورعايتها فستخبو ثم تنطفئ وتنتهي، وعندها يكون مستحيلاً أن تستمر. الموهبة استعداد فقط، وعلى صاحبها تحديد مصيرها. ذلك ما حدث في جميع الثقافات. حتى الشعراء الذين نظن أنهم عفويون، لا أحد منهم يعتمد على الموهبة وحدها. قد تكون الموهبة قوية أو ضعيفة، غير أنها بمفردها لا يمكن أن تصنع إبداعاً ذا قيمة. وهذا ينطبق على جميع الفنون بلا استثناء، لأن هناك عملاً حقيقياً وهناك دراسة وتكويناً. هذا ما فهمته منذ البداية، أي عليّ أن أتعلم بجدية، وأن هناك أسئلة كبرى لابد أن أبحث فيها ولا أخاف أو أتراجع، رغم أنها أحيانا تتحول إلى كابوس لا يفارقني. هذا  بالنسبة لي  هو طريق العمل الشعري والإبداعي.

في رأيك؛ ما أزمة الحركة الشعرية في الوطن العربي؟

أزمتنا الشعرية متعددة الرؤوس. هناك أولاً اختزال تعدد التجربة الشعرية في نموذج يكاد يتحول إلى نموذج معمم. هذا الاختزال برأيي صادر عن تقلص الثقافة الشعرية لدى الشاعر اليوم، مقارنة بالاتساع الذي كان الشعراء السابقون يحرصون عليه، في تكوينهم وفي معرفتهم بالحركة الشعرية في العالم. فإمكانيات التعرف على الشعر اليوم في العالم أصبحت متوافرة بصورة أفضل مما كان في السابق، لكن الرغبة في المعرفة تقلصت.

هناك، أيضاً، رؤيتنا إلى الواقع الشعري في العالم العربي. نحن لازلنا نفكر أن الشعر لا يوجد إلا في المشرق. أنا لا يهمني جنسية الشاعر، وإنما العمل الشعري. فلكي نكون «عارفين بالشعر» علينا أن نطلع على ما يكتب في أي مكان عبر العالم العربي. العالم يسير ونحن نظن أننا وحدنا فيه، ولا أحد من العرب في المشرق يريد أن يري شعراً خارج حدوده. إذا عدنا إلى الثلاثينيات من القرن الماضي سنجد أن طه حسين كتب عن الشعر السعودي، لأن طه حسين كان منفتحاً. لماذا ننتقل من زمن الانفتاح إلى زمن الرؤية الثابتة الجامدة؟ الناقد الكبير ليس هو من يعرف الكثير (أو الجديد) من المدارس والمصطلحات، وإنما هو من يملك الحساسية الفنية، المكتسبة بواسطة قراءته الشعرية والاطلاع على الإبداعات الفنية في مجالات مختلفة، والقدرة على توظيف معرفته النظرية وحساسيته الشخصية في اكتشاف الشعراء الكبار حتى وهم شباب أو في منطقة غير التي هو متعود على قراءة أعمال شعرائها. عليه أن يكون نسراً بعينين ثاقبتين. تكوين الناقد، بهذا المعنى، يماثل تكوين الشاعر.

ثم إن المؤسسة الثقافية في معظم المناطق العربية لا تستوعب معني الزمن الثقافي، لذلك لا تفاجأ إذا رأيت أننا فشلنا في حركة التحديث بالعالم العربي كله، أن الذي يسيطر على العقول هو العقل الديني. الدين هو الذي يسيطر، أما الثقافة الدنيوية، ومنها الأدب والفنون والفكر، فليس لها مكان في حياتنا. حتى الذين يعملون في المجال الثقافي آفاقهم محدودة جداً، ولم تتفتح أعينهم بعد على الثقافة الكونية. لذلك أعتزّ بجمال الغيطاني وبغيره من أصدقائي بمصر كصنع الله إبراهيم وعبد المنعم رمضان وسعيد الكفراوي ومحمد عفيفي مطر وإبراهيم عبد المجيد، هؤلاء أعتبرهم كباراً، لأنهم استوعبوا زمنهم الثقافي ولم يظلوا منغلقين في نماذج محلية.

ذلك يعني أن الحداثة أيضا تعاني من أزمة كبرى؟

نعم، تعاني أزمة ربما كنا لا نريد أن نراها. نحن، مثلاً، منفصلون عن الشعر وعن الثقافة في العالم. فلكي نلتقي بالعالم وننفتح عليه، لابد أن يكون لثقافته مكانة في حياتنا وأن نبدأ في التعرف عليها ابتداء من المدرسة. إذا لم نربط بين الثقافة والتعليم فلن نصل إلى بناء نموذج مواطن حديث، منفتح على نفسه وعلي غيره، وعلي الأفكار والعالم. وللأسف أيضا؛ التعليم في العالم العربي يهيمن عليه إلى الآن الفكر المغلق، الديني وغير الديني، الذي لن يسمح لنا على الإطلاق بأن نكون منفتحين على العالم. لأن العقلية المنغلقة هي التي تجعل هذا الفكر أحادياً وليس متعدد الأبعاد. ولن يصبح الفكر الديني منفتحاً، أي متسامحاً، ينبذ التعصب والعنف، إلا إذا تفاعل مع الثقافة بجميع فروعها، من أدب وفنون وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وأنثروبولوجيا. حينها يمكن للثقافة أن تسهم في بناء فرد يستوعب الرهان الحضاري، ويمكن أن نتحدث عن مواطن حديث، يعرف مكانته في المجتمع ويستوعب حقوقه ويحسن التصرف مع العالم الجديد الذي يعيش فيه.

العالم الآن يعرف تحولات عميقة جداً، كما أن الزمن السياسي الذي نعيشه اليوم زمن محافظ، يتخلى عن مكتسبات عصر الأنوار التي كافحت الإنسانية من أجل الوصول إليها. والذي انتصر عبر العالم العربي في العقول والأفكار والأذواق  ـــ حتى وإن لم ينتصر في الوصول إلى السلطة أحياناً  ــــ هو الفكر الديني المنغلق الذي يلغي نهائيا كل ما له علاقة بالعرب والعروبة والثقافة العربية، من أجل استنبات نموذج لا تاريخي اسمه النموذج الإسلامي، الذي لم نعرفه في التاريخ العربي سواء في المشرق أو المغرب. هذا النموذج  للأسف  هو الذي يسيطر الآن، حتى وإن اعتقدنا أنه لم يعد له وجود في الحياة السياسية، لكن الأخطر من ذلك هو وجوده في وجدان المجتمع وفي العقلية الجماعية والمنظور السائد إلى الحياة والموت.

لذلك تراجعت الثقافة الحديثة عن التأثير في المجتمع كما تراجعت فكرة الحداثة. وبالتالي تراجعت فكرة الحرية، بحيث لم يعد لها ذلك المكان المركزي الذي كان يمثل المطلب الأساسي لجميع الشعوب العربية، عندما قامت ضد الاستعمار منذ العشرينيات من القرن الماضي، واستمر المطلب قائماً لخمسين عاماً، ثم بدأت الفكرة تغيب شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا إلى مرحلة انتكاسات، تبعها ما نحن عليه اليوم.

هل تلك الانتكاسات هي السبب الحقيقي لأزمة العالم العربي؟

المشكلة اليوم ليست هي وحدها هذه الانتكاسات أو الإخفاق الذي تعيشه فكرة الحرية، بل الأخطر هو أنه لم يعد هناك من ينصت إلى الكلام عن الحرية أو الديمقراطية أو الثقافة بصفة عامة. لهذا اختتمت مقالاتي التي جمعتها في كتاب «يحرقون الحرية»، عن الربيع العربي والمراحل التي تلت هذا الحدث التاريخي، الذي عاشته المنطقة العربية من المغرب إلى المشرق، بما سميته «في الهواء الطلق». استفدت في استعمال هذه العبارة من كتاب برتغاليين. ففي القرن السابع عشر كان بعض الإصلاحيين البرتغاليين يرون أن هناك فساداً في الحياة البرتغالية ولكنهم لم يعرفوا لمن يتوجهون بالكلام، فنشأ أدب سُمي بـ«رسالة إلى السمك»، حيث كان هؤلاء الإصلاحيون يصعدون فوق هضبة تطل على المحيط الأطلسي ويقرأون بأعلى صوتهم رسالة، ليست موجهة للناس لأنهم يائسون منهم، وإنما للسمك فقط. ولأنني أعرف أن كثيراً من المناطق العربية لا يوجد بها بحر، تكلمت مع الهواء الطلق. كنت أعرف أن لا أحد سيسمع ما أقول لكني كتبته ونشرته.

بعد نحو ست سنوات من إصداركم كمثقفين مغاربة لـ«بيان الديمقراطية»، هل تحقق ما أردتم؟

كنا مجموعة من المثقفين، لا ننتمي لأحزاب أو مؤسسات ثقافية. ما جمع بيننا فقط هو العمل الثقافي الذي نقوم به وإحساسنا الجماعي بأننا نلتقي في المبادئ الكبرى وندافع عنها. أردنا أن نعبر، كمثقفين، عن وجهة نظرنا في كتابة الدستور الجديد لعام 2011، وفي المبادئ التي يجب أن يسير عليها. لم نكن نتكلم كقوة سياسية ضاغطة بقدر ما أردنا أن نوجه رسالة تعني أننا مهتمون بالشأن الوطني والعام، ومتشبثون بمبادئ، تأتي في مقدمتها الديمقراطية والحرية، فهما الموجهان للمستقبل. وقد تحقق بعض مما كنا ندعو إليه في الصيغة الجديدة للدستور المغربي، سواء من ناحية تحديد الصلاحيات أو تعيين المكتسبات. فالدستور المغربي الجديد متقدم جداً بالمقارنة مع الدساتير التي كانت موجودة من قبل، حيث قدم للمغاربة إمكانية للتصالح مع أنفسهم وحل الخلافات بينهم بطريقة سلمية، ورسم، في الوقت نفسه، أفقاً اجتماعياً منفتحاً على جميع الفئات والقضايا، حيث يصبح صوت الشعب حاضراً في الاختيارات الكبرى للدولة وفي التوجهات العامة لحياة المواطنين. فالعمل الذي قمنا به رمزي، وكان له مفعول هادئ. ومطلبنا سيبقى دائماً مطلباً مفتوحاً، لأن الديمقراطية ليست نهائية وإنما في حالة سيرورة دائمة.

هل مازال لديك ما تطمح إليه ولم تحققه بعد؟

أنا لا أحتاج إلى شيء ولا أطلب أيّ شيء. أرى أنني اخترت الثقافة واختارني الشعر من أجل أشياء عميقة. ليس من أجل امتياز أو تصفيق أو مناصب أو أي غاية تتعدى غاية الكتابة. هذه كلها لا تعنينى على الإطلاق، ولذلك لن تجديني في أيّ منها. لهذا لا أتنازل عن اختياراتي، وأقول ما أفكر فيه بصوت عال، لأنني أعتبر نفسي حفيد الكبار من طه حسين والمتنبي وغيرهما، بطريقتي الشخصية، لا أقلد أحداً ولا أدعي أنني أفضل من أي أحد. من حسن حظي ومما سعدت به في حياتي هو أنني عشت في زمن الكبار ورافقت بعضهم، سواء أكانوا من العرب أو من الأجانب، من الغربيين ومن سواهم. تعلمت من الكبار وخالطت بعضهم في تفاصيل الحياة اليومية وفي الكتابة والأفكار، وفي النشر والمهرجانات والندوات واللقاءات. كل هذه الأشياء تعلمت وأتعلم منها وتجعلني أتمسك أكثر باختياراتي . وما أطمح إلى تحقيقه هو أن أظل وفياً لهذه الاختيارات، وألا أتعرض لما يمكن أن يجبرني على التخلي عن أي منها.

عملت بالتدريس وأصبحت أستاذا جامعيا لتنال الحرية كاملة. ألا تؤثر أفكارك على عملك إن لم ترق للبعض؟

لا يمكن لأي طرف في المغرب أن يتدخل في عمل الأستاذ الجامعي. التدخل في عمله، أو في أفكاره التي يتداولها مع الطلبة، لا أعرف أنه حدث لا معي ولا مع غيري، مهما كانت أفكار الأستاذ الجامعي. لا أحد في يوم من الأيام اعترض على حرف واحد مما أدرس. نحن في المغرب لدينا تقاليد راسخة بأن مضمون وكيفية تدريس الأستاذ اختيار شخصي وعلني. وأظن أن الازدهار الذي تعرفه الثقافة المغربية، اليوم، يرجع إلى كون حرية التعبير متوفرة بشكل عام وجيد. فأنا لا أعرف مثقفاً مغربياً يعاني من المنع في التعبير أو الحد منه. فكل من يدرس في الجامعة أو يكتب له مسئولية علمية وأخلاقية يعمل وفقاً لها ولا أحد من السلطة أو الإدارة يجادله فيها. إضافة إلى أنني أبتعد عن أي مكان لا أشعر فيه بالحرية.

قلت عن نوبل من قبل إنها جائزة سياسية. هل مازالت رؤيتك قائمة؟ خاصة بعد فوز بوب ديلان بها عام 2016.

نعم، في السنوات الأخيرة صارت نوبل جائزة سياسية. ولهذا منحت لأسماء ليست هي النماذج العليا في الأدب الموجود الآن بالعالم. والعرب للأسف هم من بين ضحايا هذا التوجه السياسي. جائزة نوبل لا تعطي للشخص وحده وإنما لثقافة ولغة. وأتمنى في المستقبل أن يتم تجاوز هذا التوجه الذي ساد منذ سنوات. أما بوب ديلان؛ فأنا كنت أحبه في السبعينيات، وهو مغنٍ كبير، لكني لم أقتنع بمنحه هذه الجائزة، أعتبر هذا غير مصيب. خاصة أن الأدب في العالم حالياً مهدد، ومن الأجدى للجوائز العالمية ـــ وفي مقدمتها نوبل  ـــ أن تدعم مكانة الأدب في حياتنا، وتبقي وفية للمبادئ التي أنشئت من أجلها.

ما موقع الجوائز بالنسبة لك؟

لم أتقدم في حياتي لأي جائزة رغم أني حصلت على العديد منها. أؤمن بأن الجائزة لا يتقدم إليها الكاتب، وإنما هي مسألة تهم المؤسسات التي تمنح الجائزة.

ما الجديد المنتظر عندك خلال هذه الفترة؟

لديَّ ورشة عمل. فأنا دائماً لا أشتغل على عمل واحد وإنما على أعمال متعددة. هذه الأيام تصدر أعمالي النثرية في خمسة مجلدات، تضم أغلب ما كتبته نثريا منذ 1981 حتى اليوم. وهناك كتاب «أندلس الشعراء» الذي عملت عليه لسنوات طويلة، وهو أنطولوجيا من نوع خاص جداً عن الأندلس من خلال شعرائها وكتابها رجالاً ونساء وبتعدد أشكالها الكتابية، أتمنى أن يصدر هذا العام، حيث أحببت له أن يصدر في طبعة تليق بالأندلس. هناك أيضا ديوان «كتاب الحب» الذي يصدر هذه الأيام بالإسبانية بعد ثلاثة دواوين صدرت في إسبانيا، ثم ديوان «هبة الفراغ» الذي سيصدر في تركيا. كما سيصدر ديوان «الهايكو» باليابانية والعربية والفرنسية في طوكيو، لأنه تم اختياري مؤخراً مديراً مستشاراً شرفياً للمركز العالمي للشعر في طوكيو، وبهذه المناسبة تهيئ الجمعية العالمية للهايكو ديواناً بقصائد الهايكو التي أنشرها لحد الساعة في اليابان بترجمتها باليابانية. وفي مصر؛ هناك ديوان «ضوء العتمات»، الذي هو عبارة عن مختارات شعرية سيصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

Comments