في ذكرى وفاته الـ11: زيارة لمتحف نجيب محفوظ

منذ 11 عامًا؛ أصدر وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، قرارًا بتخصيص تكية محمد أبو الدهب لتكون مركزًا ومتحفًا للأديب الراحل نجيب محفوظ، لكن المشروع - الذي تم إسناده لصندوق التنمية الثقافية - تعطل وطواه النسيان، خاصة بعد انفصال وزارتي الآثار والثقافة، إلى أن أعلن د.ممدوح الدماطي، وزير الآثار السابق، في عام 2015؛ تخصيص الطابقين الأرضي والأول من التكية ليكونا مقرا لمتحف الأديب العالمي، بالاتفاق مع د.عبد الواحد النبوي، وزير الثقافة حينها.

على مدار العامين السابقين، ظل الأمر مبهما، سوى من بعض التصريحات التي تصدر بين الحين والآخر عن موعد افتتاحه، ولا جديد. لكن؛ تغيرت الوجوه، فأصبح د.خالد العناني وزيرا للآثار خلفا للدماطي، وتولى حقيبة وزارة الثقافة الكاتب الصحفي حلمي النمنم، وتعاقب على صندوق التنمية الثقافية عدد من الرؤساء آخرهم د.أحمد عواض، الذي أعلن مؤخرًا أن العمل في المتحف يسير على أكمل وجه استعدادا لافتتاحه قريبا، وأن الموقع متاح للزيارة في أي وقت لمن يريد رؤية أعمال الترميم التي تتم.

جولة أثرية وثرية

لم يكن وصولي للتكية سهلاً، فرغم أن المبنى معلوم ويعلن عن نفسه، لكن إيجاد باب الدخول ليس باليسير، حيث تطلب الأمر الولوج بين جنبات سوق «الخضار» بشارع محمد عبده، واتباع دوران الأسوار الحجرية للمبني، حتى وجدت أمامي المدخل، وظهرت لي السلالم الخشبية التي ستقودني لأغوار المكان، فوقها لوحة عريضة مكتوب عليها «مشروع تكية أبو الدهب (مركز إبداع ومتحف للأديب العالمي الراحل/ نجيب محفوظ) تنفيذ المقاولون العرب».

دلفت مسرعة لاكتشاف ما تم من تجهيزات للمتحف، لكن الحارس استوقفني، وأمرني بالحصول على تذكرة الدخول أولا، ثم نهض ليصطحبني في جولة يريني خلالها معالم المكان. أخبرته أنني أريد الاطلاع على تجهيزات المتحف، لكنه لم يستمع لي، وأصَّر على إكمال مهمته حسبما خطط لها، وحسنا فعل.

ذهبنا لبوابة المسجد المغلقة بجنزير صغير و«قِفل»، ففتحها. تلك المرة الأولى التي أدخل فيها إلى «مسجد محمد بك أبو الدهب»، أبهرني جماله، كما يحدث لي دائما عند رؤية مكان أثري لأول مرة ـــ وخاصة المساجد ـــ لكني صُدِمت للحالة التي تُرك عليها، تكسوه الأتربة وتضيع ملامحه بسبب الإهمال، وعلمت أنه على هذا الحال منذ أكثر من خمسين عامًا لأنه في حاجة للترميم!

محمد بك أبو الدهب؛ أحد ولاة مصر من المماليك، الذي اشتراه على بك الكبير عام 1175هـ/1761م، وتدرج في المناصب حتى سيطر على زمام الأمور، وتولى منصب الخازندار (المسئول عن خزانة الدولة)، ومن فرط سعادته بهذا المنصب الكبير قام بتوزيع الهبات والعطايا الذهبية على الفقراء والعامة ومن هنا لُقب بأبي الذهب. وعندما بدأ على بك الكبير استعداداته للاستقلال عن الدولة العثمانية، غدر به أبو الذهب، وتحالف مع العثمانيين، ومن ثم أصبح واليا على مصر.

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتحديدا عام 1774؛ شيّد «محمد أبو الدهب» المسجد، أحد أهم المساجد المعلقة التي بُنيت في مصر، يتكون من ثلاثة طوابق، بالإضافة إلى حوض وسبيل ملحقين به من الناحية الجنوبية، وهو رابع مسجد يوضع تصميمه على طراز الجوامع العثمانية، حيث تغطيه قبة مركزية، وله مئذنة، وثلاثة أبواب تنفذ إلى الأروقة الثلاثة المحيطة بجوانبه، والتي تغطيها قباب محمولة على عقود ترتكز على أكتاف من الحجر وأعمدة من الرخام.

ومن المسجد، اتجهنا للضريح؛ في نهاية الرواق البحري، داخل مقصورة من النحاس وجدران مكسوة بالقيشاني المزخرف، يجاورها خزانة الكتب الخاصة به، لكنها محملة بالأتربة.

بعد انتهاء هذه الجولة السريعة والثرية، فارقني الحارس عند سلم التكية، التي شيَّدها أبو الدهب لتكون مدرسة تساعد الأزهر في رسالته العلمية، وهي تتكون من صحن أوسط مكشوف، به حديقة ونافورة، وحول الصحن قاعات مقسمة على ثلاثة طوابق، وبأسفل هذه الطوابق ميضأة، كانت تمتلئ من نافورة تستمد ماءها من بئر حفرها أبو الدهب، يتميز بمذاق عذب على عكس باقي الآبار الأثرية التي غالبا ما يخرج ماؤها بنسب ملوحة عالية.

المتحف يستكمل رحلته

في العام الماضي؛ قبيل الذكرى العاشرة لوفاة أديب نوبل، كثرت الوعود بأن افتتاح المتحف سيتزامن مع تلك الذكرى، وعندما مر الموعد بلا تطورات، تجدد الوعد بأنه سيوافق ذكرى ميلاده في ديسمبر الماضي، وهو ما لم يحدث أيضا. منذ أسابيع قليلة ترددت أقاويل بأن المتحف سيتم افتتاحه في ذكرى وفاة محفوظ هذا العام ــ الأربعاء الماضي ـــ لكن سرعان ما كذّب د.أحمد عواض ذلك، مؤكدا أن التجهيزات تحتاج وقتا طويلا!

أكد عواض ذلك، رغم أن العاملين في المشروع بأيديهم أكدوا ـــ أيضا ـــ أن عملهم يمكن أن ينتهي خلال أسبوع لو جاءهم قرار بذلك، فهم اعتادوا على تلك الأمور مع شركة «المقاولون العرب»، التي رسا عليها «العطاء» في مقايسة أجريت عام 2014، رغم أن أعمال الترميم لم تبدأ فعليا سوى من شهر واحد.

يوضح ذلك أن أسباب التأخير روتينية، فالمبنى أثري، لا يمكن دق «مُسمار» فيه سوى بعد موافقة وزارة الآثار، وعلى الرغم من أن الأمر تم في 2014، أي منذ ثلاث سنوات، وكان متفقًا عليه قبل ذلك بسنوات أخرى، إلا أنه مازال خاضعا للدراسة داخل لجان الوزارة، فتم عرضه على لجنة ثلاثية أولاً، رفعت توصياتها للجنة أخرى خماسية، التي أرسلتها بدورها إلى اللجنة الدائمة لاعتمادها، لكنها لم ترسل خطابها بالموافقة رسميا إلى وزارة الثقافة حتى الآن! حيث بدأ العمل منذ شهر اعتمادا على تسريبات شفوية بأن اللجنة وافقت وجاري المخاطبة.

يتم الآن الانتهاء من أعمال الكهرباء في كامل المبنى، لتركيب المكيفات في الغرف، وأجهزة الإنذار؛ فعلى كل شباك أو باب سيتواجد إنذار ضد السرقة، وفي كل غرفة إنذارًا للحريق، بالإضافة إلى كاميرات المراقبة. كما ستُغطَي الحوائط بين الغرف من الخارج بلوحات و«بانرات» تحمل صوراً مختلفة لمحفوظ وإشارات عما تحويه الغرفة المجاورة.

بمجرد إنهاء تلك التركيبات الداخلية، سيتم طلاء الجدران بمادة «دراي ميكس» ذات المواد المماثلة للأصلية، وباللون الأقرب لها، ثم سيعاد تركيب «الشبابيك» التي فُكِكَّت بغرض ترميمها.

ترميم ومقتنيات

فيما يخص الادعاءات التي أثيرت قبل شهور بأن المبنى آيل للسقوط، فقد أدحضتها مكاتب الهندسة الاستشارية التي تتابع الأمر من بدايته، مؤكدين أنه لم يمر عشرون عاما منذ تم ترميم التكية بالكامل، لصيانتها وتطويرها، وقد شملت تلك العمليةــ التي استمرت لستة أعوام ــ أعمال ترميم دقيقة للآثار، وإنشاء وحدات إضاءة على هيئة مشكاوات تلائم العصر العثماني مأخوذة من النموذج الموجود بمسجد محمد على بالقلعة، كما تمت إزالة التعديات والإشغالات والحوائط والمحلات الملاصقة، بالإضافـة إلى فـك الأرضيــة وإعــادة تركيبـهـا وتنظيــف الحـوائط مـن التراكمـات ومعالجة زخارف القبة وإظهارها، واستكمال الأجزاء المفقودة من شبابيك المسجد على نفس النمط الأثري القديم، إلى جانب معالجة الشروخ الموجودة بالقباب الضحلة من دون اللجوء لأدوات الطلاء الحديثة، وترميم وتثبيت الأشكال الهندسية بالأرضية الرخامية وإعادة بناء الدرابزين، أو السور المحيط بالمئذنة وشرفتها على نفس نمط السور المحيط بالمسجد.

أما أعمال الترميم الجارية حاليا؛ فتشمل إعداد الطوابق الثلاثة، بحيث يكون الأرضي والأول للمتحف، والثاني للمكاتب الإدارية الخاصة بالمبنى كله.

في الدور الأرضي؛ سيزيّن المدخل الرئيسي للمتحف ـــ من جهة سوق الخضار ـــ  صورة كبيرة لنجيب محفوظ، ثم الأمن والاستقبال. إذا سار الزائر مباشرة سيجد مكاتب مدراء المركز وصالونًا، يقابله مخزن، بجانبه قاعتان؛ تضم إحداهما مؤلفات محفوظ، والأخرى تراجمها. أما إذا استدار الزائر يمينا فيمكنه الاطلاع على المكتبة السمع بصرية، أو الاشتراك في الفصول الخاصة بدراسة السيناريو والكتابة الإبداعية. بينما يضم الدور الأول قاعة مكتبة، وأخرى لعرض صور نادرة من حياة محفوظ، وقاعتين بهما ما كُتب عنه بالعربية والإنجليزية، بالإضافة إلى قاعة ندوات، وأخرى لمقتنيات محفوظ الشخصية، وثالثة بها الأعمال المتحفية التي صُنعت له سواء صوراً أو لوحات أو تماثيل. وفي الجهة المقابلة مكتبتان لطلبة الفنون والآداب، وقاعة تتضمن بانوراما لصور وأفيشات نجيب محفوظ.

ومن المتوقع أن يضم المتحف المقتنيات التي سلمتها أسرة الأديب الراحل لوزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، وتتضمن حوالي ألف كتاب، والجوائز التي حصل عليها محفوظ طيلة حياته، والمكتب الخاص به، وصورًا فوتوغرافية، وكذلك «قبعته»، والأوسمة والنياشين التي حصل عليها، وقصة الحصول على كل وسام منها.

لعلهم يصدقون!

في الأيام الأخيرة تصدرت أخبار الصحف والمواقع المختلفة تصريحات السيد وزير الثقافة التي يؤكد فيها أن الافتتاح سيتم خلال هذا العام، إما في شهر أكتوبر تزامنا مع ذكرى حصول محفوظ على نوبل، أو شهر ديسمبر في ذكرى وفاته. في جميع الأحوال؛ يفصلنا ثلاثة أشهر على بدء العام الجديد، حينها سنعرف إن كان ذلك قد تحقق، أم سنستمر مع سلسلة جديدة من الوعود التي لا تُنفَذ، على غرار المتحف الكبير الذي مر على موعد افتتاحه خمس سنوات ولم ينته العمل فيه!

Comments