فتوش.. الباحثة عن السكينة

«أحب الشروق لأنه رمز التفاؤل والأمل، أما الغروب فيعني الوداع والرحيل والنهاية». كان ذلك إحساس شادية وإيمانها الدائم، والذي تحقق مع مغيب شمس الأربعاء الماضي، حيث رحلت عن عالمنا، وودعت دنيانا، ووُضِعت كلمة النهاية لحياتها العامرة، التي تجاوزت 86 عامًا، دون أن تشعر بها. ظلت «فاطمة أحمد شاكر» على اقتناع بأنها وُلدت لتشقى، وتيقنت بعد بلوغها الخمسين من عمرها أن سعادتها ليست على سطح البسيطة، فقررت أن تبذل الأعوام المتبقية لها في سبيل خلاص روحها، لتظفر بما تمنته من الحياة الأولى ولم تحصل عليه.  

نشأة دافئة لـ «ابنة أبيها»

عاشت «فاطمة» طفولة مليئة بالحب والدفء، في أحضان أسرة راقية بسلوكها وتعاملاتها، تضم بنتين – بخلافها – وولدين آخرين، ترعرعوا في كنف أبوين متآلفين غمروهم بالحنان، وسط الطبيعة الساحرة في مدينة أنشاص بالدقهلية، حيث عمل والدها كمهندس زراعي.

تأثرت بأبيها كثيرًا، حيث رأت فيه الزوج المثالي في رقة تعامله مع والدتها، وكانت تتظاهر بالنوم لكي «تتنصت» على أحاديثهما، فسمعت منه أجمل كلمات يمكن أن يطرب بها رجل مسامع امرأته، وامتزج ذلك بقوة الشخصية، والصوت الجميل الذي أخذته عنه.

بتبص لي كده ليه.. الأغنية الكاشفة

في السنوات العشر الأولى في حياتها الدراسية، كانت فتوش «فاطمة بالتركية» تلميذة «بليدة»، ولم تكن تنجح سوى في مادة المحفوظات لأن المُدرِّسة كانت معجبة بصوتها، وانتقل ذلك للناظرة، التي أحبتها أيضًا، وظلت تطلبها خصيصا لتستمع إلى غنائها، وعلى أثر ذلك لم تعد فاطمة تهتم باستذكار دروسها، فهي صديقة الناظرة. حتى جاءت نهاية العام وكانت الطالبة الوحيدة الراسبة في كل المواد رغم كل تلك الأغاني التي شدَت بها.

أول فيلم شاهدته فاطمة كان «ليلى» بطولة حسين صدقي وليلى مراد، فتأثرت به بشدة، وظلت تقف بالساعات أمام المرآة لتقلدها وتغني مثلها، منتظرة أن يلتفت أحدا لصوتها ويشجعها، لكن هذا لم يحدث، لأن أختها عفاف سبقتها إلى ذلك وكانت هي مطربة العائلة، إلى أن سمعتها «تيزة حكمت» التركية، إحدي قريباتها التي تجيد العزف على العود، فجمعت نساء العائلة ذات يوم وجعلتها تغني أمامهم، وكانت تلك اللحظة اكتشافها الحقيقي، مع أغنية «بتبص لي كده ليه» لليلى مراد.

كانت الخطوة الأصعب في طريقها هي إقناع والدها برغبتها في العمل بالفن، فاستخدمت الحيلة من أجل ذلك، واستغلت وجود صديقه المطرب التركي «منير نور» وغنت أمامه، وتحقق لها ما أرادت، حيث أُعجِب بصوتها، ومن ثم اعترف أبيها بموهبتها ومنحها دعمه، وأحضر لها مدرِّس موسيقى ليعلّمها العود والصولفيج، فاستهلت طريقها وهي في عمر السادسة عشر.

الفن شريك حياتي

قبل ثلاث سنوات من اعتراف والدها بصوتها، تقدم لفاطمة أول عريس؛ مهندس طيران في الثانية والعشرين من عمره، وافق عليه أبويها وتمت خطبتها له، ومعه انهارت أحلامها الفنية في الغناء والتمثيل وأن تكون مثل ليلى مراد أو أسمهان، لكن شرودها الدائم جعل ذلك الخطيب يذهب بلا عودة بعد ثلاثة شهور، عندما شعر بانصرافها عنه.

وبعد عامين جاءها العريس الثاني، عندما بلغت سن الخامسة عشرة. يعمل مدرسًا. لكن هذه المرة لم تكن مجرد خطبة، وإنما عقد قران. أي لم يعد يفصلها عن عش الزوجية سوى خطوات قليلة، خاصة أن هذا الزوج لم يتأثر بعدم اهتمامها أو صمتها، مما جعلها تفكر في خطة بديلة، فهددت والديها بالانتحار إن اكتملت هذه الزيجة. نجحت الخطة، وحصلت على الطلاق بعد بضعة أشهر، ولم يعد أحدا يحدثها عن الزواج داخل العائلة، خاصة بعد طلاق أختها عفاف.

لعبت الصدفة دورها مع فتوش، وحالفها الحظ لتقترب من حلمها، حيث كان مدرِّس الموسيقى صديقا للمخرج أحمد بدرخان، فقدمها له، وحصلت على أول ظهور في دور «كومبارس» بفيلم «أزهار وأشواك» تحت اسم هدى. لم يرض القدر بذلك، فدفع بالحظ ليغازلها مرة أخرى، وكانت النتيجة حصولها على دور البطولة في فيلم «العقل في أجازة» أمام مطربها المفضل محمد فوزي، من إخراج حلمي رفلة؛ الذي أطلق عليها اسم «شادية».

رجل تتلاشى أمامه أحلامي

البنت العنيدة التي تحدت الجميع من أجل تحقيق أحلامها الفنية؛ لم يصمد قلبها كثيرًا، فبعد عام من بدء مشوارها السينمائي وقعت عيناها على شاب أسمر صعيدي – في حفل يخص أحد «الجيران» دُعيت له ولم تتمكن من الرفض – ولم تستطع إغماضهما في تلك الليلة، بل وفي ليال لاحقة، حتى وصلها أول خطاب منه يخبرها بأنه طالب في السنة الأخيرة بالكلية الحربية، وتوالت الخطابات، حتى كان ذلك الخطاب الموجه لأبيها، الذي يطلبها فيه زوجة له، ومع تخرجه من الكلية كانت «دبلته» تُزِّين إصبعها، وبدأت أحلام الحياة الزوجية السعيدة تداعب خيالها.

الغريب في الأمر هنا ليس موافقتها على الزواج في بداية طريقها وقبل تحقيق أحلامها، وإنما موافقتها على التخلي عن تلك الأحلام للأبد، حيث طلب منها حبيبها الصعيدي أن تكون ملكًا له وحده وألا تظهر على الشاشة مرة أخرى، فقبلت بطيب خاطر دون تفكير. بل وظلت طوال عمرها، كلما ازدادت نجاحا ونجومية؛ تتمنى لو أن تلك الزيجة اكتملت، وعاشت فيها حياة هادئة وبسيطة ومستقرة.

ومعه أدركت حب مصر

بعد شهور قليلة من الخطبة تحطمت أحلامها، وقلبها، حيث سقط حبيبها شهيدًا في حرب 1948، وسقطت شادية في الأحزان. لم يعد وجهها ضاحكا كما كان، وأصبحت الدموع رفيقة جفونها، وكادت تنسى السينما والفرص التي تتلقاها، لكنها أدركت أن العمل هو منقذها الوحيد، لتهرب من ذكرياتها، فقبلت حفلاً غنائيًا في الإسكندرية.

في عروس البحر المتوسط فقدت فتوش صوتها، وأشار الدكتور على والدها بضرورة سفرها للخارج، وهي الفكرة التي رحب بها، معتقدًا أن ذلك هو العلاج الوحيد لحالة ابنته النفسية المتدهورة. ومن ثم قررت بناء على اقتراح والدتها؛ الذهاب إلى خالها في إسطنبول بتركيا، ومع تحرك الباخرة من ميناء الإسكندرية بدأ قلبها يخفق بعنف وشعرت بحبها الشديد لمصر، وأدركت عشقها لبلدها عندما أخذت الإسكندرية تغيب عن ناظريها، ومع مرور السنوات ازدادت تلك العلاقة عمقًا حتى استحقت لقب «صوت مصر».

حلم الثنائي

قبل دخولها مجال التمثيل، كانت شادية مبهورة بالثنائيات الفنية بين النجوم، وعلى رأسهم «أنور وجدي وليلى مراد»، وتمنت لو تتاح لها فرصة كتلك، وكاد ذلك أن يتحقق مع الفنان محمد فوزي، الذي التقى معها في أكثر من عمل فني، إلا أن الأمر لم يستمر طويلا.

تحققت تلك الأمنية مع ظهور كمال الشناوي، فأصبحا «دويتو» فني ناجحا، وقدما معا سلسلة من الأفلام الغنائية الناجحة على مدار خمس سنوات، مثل «ليلة الحنة»، »في الهوا سوا»، «ارحم حبي»، «عش الغرام»، و«وداع في الفجر»، حتى شعرا بأنهما يكرران أنفسهما ويقدمان نفس الأدوار، فقررا الانفصال فنيا.

الفيلم الذي لم يُكتَب

أراد الشناوي أن يجتمع مع شادية في فيلم جديد يحكي قصة حياتهما، يدور حول »ممثل وممثلة كانا يعملان سويًا أمام الكاميرا، وسارا معًا في طريق النجاح والحياة خطوة خطوة، حتى تزوجا فأبعدهما الزواج وفرق بينهما، وأصبح كل منهما يعمل وحده بعيدًا عن الآخر، ثم شاءت الصدفة أن يلتقيا مرة أخرى ولكن في وسط ظروف جديدة مختلفة عن ظروف العمل في أفلامهما القديمة».

كان ذلك الفيلم مجرد فكرة في مخيلة كمال الشناوي لم تُسنح لها الفرصة للخروج، لأنها لم تجد كاتب سيناريو جيد، إلا أن مضمونها إن تمعنا فيه، سنجده يدلِّل على صحة ما صرح به نجل الشناوي مؤخرا بأن والده كان عاشقا لشادية، لكن خوفه من خسارتها بسبب الزواج جعله يتراجع عن ذلك، بل ويتزوج من شقيقتها عفاف ليبقى قريبا منها. إلا أن تعليق شادية على الأمر في مذكراتها عام 1976 كان »الارتباط الفني الطويل بيني وبين كمال الشناوي صوَّر للكثيرين قصصا وحكايات عن أصل هذه العلاقة الإنسانية والفنية، لقد كانت علاقة حب الفن، ونجاح وكفاح مشترك، علاقة تفاهم ودور عميق».

حلم الاستقرار

وُلدت شادية في عائلة مستقرة، فأدركت معنى ذلك وقدَّرته، وسعت طوال عمرها إلى تحقيق الاستقرار على مستوى حياتها الخاصة، وفي سبيل ذلك تخلت عن حبها تارة، وعن أمنيتها بالجلوس في «الكوشة» وارتداء الفستان الأبيض و«الطرحة» تارة أخرى، بل واندفعت من أجله لترتكب الخطأ الأكبر في تاريخها، الذي دفعت ثمنه من عمرها وسمعتها وابتسامتها.

فتى الشاشة.. بعيدا عن الشاشة

في أحد أيام عام 1952، اتفق عدد من الفنانين والفنانات من بينهم شادية، على الاشتراك في مشروع إنساني خيري اسمه «قطار الرحمة»، متجه إلى أقاصي الصعيد لجمع التبرعات. وسط الإجهاد والعناء شق الحب طريقه إلى قلبها، وأمام بريق عيني عماد حمدي لم تعبأ بفارق السن أو كونها الزوجة الثانية، وإنما اكترثت فقط بحنانه في التعامل معها، وضيقه من أجلها، وخوفه على صحتها. وقعت أسيرة في شباك شخصيته الرزينة وصوته الوقور، وقامته المشدودة وجسده الفارع، فتحول قطارهما إلى «قطار الحب» وليس فقط الرحمة.

لم يستمر حبها سريًا لفترة طويلة، فسرعان ما علم آل الصحافة وأخذوا يؤلفون الحكايات ويضيفون على الوقائع، حتى وصل الأمر إلى التهديد بنشر رسائلهما العاطفية، فكان الزواج هو الحل، إنقاذًا لسمعتهما وكرامتهما. كانت تلك الزيجة هي النهاية السعيدة لقصة حبهما، مثلما تعيشها على الشاشة، لكنها لم ترتد - كالأفلام - ملابس الزفاف أو تجلس وسط «الكوشة» بين المدعوين كما حلمت دائمًا، لأن عماد حمدي كان متزوجًا قبلها، ويصعب عليه أن يفعل ما يفعله الأزواج الجدد، فتزوجته بهدوء وانتقلت معه إلى شقة الزوجية في الجيزة لتحقق حلمها الأسمى والأكبر.

«لقد وُلدت وسط أسرة مترابطة، وهذا هو السبب الذي يجعلني أحب الاستقرار وأميل إليه مع كل زوج يحب زوجته، وهو بالنسبة لها الأب والأم وكل العطف الذي تحتاجه وتعيش عليه».

لكن السعادة لم تكتمل، والاستقرار لم يدم طويلاً. فخلال أربع سنوات، ذاقت حلاوة الحياة ومرارتها، ورغم السعادة التي عاشت فيها لشهور طويلة، والحنان الذي أغدقه عليها «فتى الشاشة»؛ إلا أن غيرته هدمت كل شيء، وبعيدًا عن الشاشة ظهرت العيوب الخفية التي لم ترها شادية وسط الأضواء. تصاعدت الخلافات واستحالت الحياة معها، وكان لابد للقطار أن يتوقف، فوقع الطلاق، وبدأت تشعر بمرارة لقب «مطلقة» في مجتمعنا.

فريد الأطرش.. حب حتى الممات

عقب انفصالها عن عماد حمدي، عاشت شادية أوقاتا عصيبة، لكن المساندة التي تلقتها من أخويها عفاف وطاهر ساعدتها على تجاوز تلك المحنة والوقوف على قدميها مرة أخرى، قبل أن يقتلها اليأس وتضيع في غياهب الأحزان. ووسط هذا الضباب الكثيف وسحابة الكآبة التي غطت حياتها، ظهر فريد الأطرش ليكون حبيبًا وليس جارًا.

كان الأطرش جارها في العمارة الكائن بها شقتها مع عماد حمدي، لكنها لم تكن تحب صوته أو تتحمس للتعامل معه، كانت تجمعها به فقط بعض اللقاءات عن طريق زوجها. عندما أُتيحت لها أول فرصة عمل معه في فيلم «ودعت حبك» للمخرج يوسف شاهين، اكتشفت شخصًا آخر؛ «جنتلمان» يتعامل مع المرأة باحترام، وإنسان طيب وحنون وكريم إلى أبعد الحدود، لا يعرف الخبث. وبدأ حبه يملأ قلبها وحياتها بعد شهور من الدموع أعقبت طلاقها من حمدي، وتمنت لو أن مشهدهما معًا في نهاية الفيلم حقيقة بدون كاميرات وأضواء وممثلين.

خفق قلبها بقوة هذه المرة، لكن حلم الاستقرار لم يكن له وجود في قصة الحب تلك، لأن حياة الأطرش كانت مرهقة، مليئة بالسهر والأصدقاء طوال الوقت، حاولت شادية أن تتقبلها من أجل الفنان الذي أحبته وأحبها، لكنها لم تستطع ذلك، ولم تتمكن من تغييرها وإقناعه بالتخلي عنها، فهربت منه وتزوجت بعزيز فتحي!.

كان قرارا متسرعا، كلَّفها الكثير، وتعلمت معه التأني فيما بعد وعدم الاندفاع. فخلال عشرة أيام كانت في منزل زوجها، لتعيش تسعة أشهر - مدة الزواج - من أتعس الفترات في حياتها، أربعة منهم داخل بيت الزوجية، وخمسة بين أروقة المحاكم، بعد أن طلبها فتحي في «بيت الطاعة»، ووجدت نفسها مضطرة للوقوف أمام القاضي لتدافع عن نفسها وتطلب الإغاثة من العذاب الذي أوقعت نفسها فيه بسبب تهورها.

 بعد الطلاق عادت صداقتها مع فريد الأطرش أقوى مما كانت عليه، وعادت أوقاتهما السعيدة، لكن «المستغلين» من الأصدقاء لم يرضوا بذلك، كانوا يعلمون أن زواجه بشادية سيحرمهم من مزايا كثيرة يحصلون عليها منه، فبدأت محاولات الوقيعة بينهما، التي كادت أن تنجح بسبب طيبته وتصديقه لكل ما يقال له، فعادت تعاني من متاعب «الغيرة» مرة أخرى، وكان صعبا عليها الاستمرار. هربت مجددًا، لكنها لم تتزوج هذه المرة، وإنما وجدت في الابتعاد راحة لهما سويًا.

سافر الأطرش إلى لبنان هربًا من حبه، وبعد غيبة طويلة عاد إلى القاهرة لتصوير فيلمه الأخير «نغم في حياتي»، ولكن بصحة متدهورة، فذهبت شادية إلى بيته بعد سنوات طويلة من الفراق. طلب منها أن تغني معه في لبنان فوافقت واتفقا على اللقاء هناك. في الموعد وقف الأطرش تحت الأمطار الغزيرة يغني بحرارة وانفعال لساعات طويلة، ناسيًا مرضه وتحذيرات الأطباء، وخطر الموت.

في الخامسة صباحًا ترك فريد «الميكروفون» لتصعد شادية إلى الغناء، بعد أن صافحها وطبع على خدها قبلته الأخيرة لها، ولم تره بعدها. عقب عودتها للقاهرة بأيام، استيقظت فلم تجد صحف الصباح التي اعتادت على بدء يومها بها، وفوجئت بأخيها طاهر في البيت - على غير العادة - فعلمت أن هناك أخبارا سيئة، تصف شادية تلك اللحظة «كاد قلبي أن يقفز من بين ضلوعي، وشعرت بألم مفاجئ يسيطر على جسدي كله، ولاحظ أخي طاهر أني ارتعش وانتفض، حاول أن يهدئني ويخفف عني، لكني قرأت الخبر المؤلم في عينيه ونظراته المواسية. صرخت وأنا أكاد أتمزق: ماذا حدث لفريد؟ ورد قائلا: البقية في حياتك.. فريد مات».

 الدلوعة تنضج

«دلوعة الشاشة» كان اللقب الذي اشتهرت به شادية مع سطوع نجمها الفني، حيث تمحورت غالبية أدوارها في سنواتها الأولى على درج النجومية حول البنت الجميلة »الشقية» خفيفة الظل. لم يأتِ ذلك من فراغ، ولم تكن تلك الشخصيات على الشاشة فقط، فقد بدأت شقاوة فتوش منذ الطفولة، إلى حد أنها تجاوزت في ذلك أشقائها الفتيان، فأسموها »العفريتة»، إلا أن أفعالها كانت مغفورة من قبل عائلتها، لأنها «آخر العنقود»، ولأنها - أيضا - لا تتجاوز حدود الأدب والاحترام، فعندما تسببت تلك «الشقاوة» في إصابة أخيها الأكبر بجرح اعتذرت.

مع تصاعد الأحداث في حياة شادية والتطورات التي أصابتها إثر التجارب التي مرت بها؛ لم تعد مهيأة نفسيًا لتقديم الأدوار الخفيفة، ولم تعد تلك «الدلوعة»، حيث بدأت شخصيتها وطريقة تفكيرها تتغير، وبالتالي أدوارها أيضا. كان فيلم «المرأة المجهولة» هو نقطة التحول، حينما قدمت دور امرأة في الستين من عمرها. ترددت قليلا في البداية، ثم قبلت خوض التجربة، وبنجاحه ودَّعت الأفلام الغنائية المرحة إلى الأفلام الدرامية، التي لا تستخدم الغناء إلا في الضرورة كخلفية للأحداث مثل «نحن لا نزرع الشوك».

الكاتب الكبير لم يحبذ الزواج

هذا النضج في التفكير والأدوار؛ صاحبه أيضًا نضج في علاقات شادية الشخصية، فتعرفت في تلك الفترة بالكاتب الكبير نجيب محفوظ، الذي تعتبره مسئولا عن حياتها الجديدة العاقلة، وتلك المرأة الناضجة التي أصبحت تفكر بعقلها قبل قلبها، إلا أن تلك الصداقة لم تكن شأن شخصي كما كانا يعتقدان، بل أصبحت إحدى المسائل العليا في الدولة. ففي أحد الأيام تلقي محفوظ

دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور إحدى حفلات العشاء مع الرئيس عبد الناصر، واندهش من اشتمال الدعوة على اسم زوجته «الفنانة شادية»، وعندما هاتف الرئيس الراحل ليسأله عن مصدر تلك المعلومة فأخبره أنها مخابرات صلاح نصر!

مع محفوظ اكتشفت شادية عالما جديدا لم تعرفه من قبل، وهو أن تجلس مع الكتاب والفنانين والمفكرين أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل وكامل الشناوي وأحمد رجب وموسى صبرى وسعيد سنبل وكمال الملاخ وأنيس منصور وغيرهم، ليتناقشوا في السياسة والأدب والفكاهة، حيث يمثِّل فكر كل منهم آلة موسيقية، تعزف لحنًا على انفراد وأحيانًا يعزفون معا.

تلك الصداقة بين شادية ومحفوظ - التي نتج عنها خمسة أعمال سينمائية هي الأكثر تميزًا في مسيرتهما الفنية والأدبية - أنقذتها من الضياع، ووجدت فيها نفسها التائهة، حيث جعلها تحب الحياة مرة أخرى، لكنه لم يستطع أن يقدم لها أكثر من ذلك، تقول شادية «المرأة تبحث دائما عن الإنسان العاقل، فما قيمة العواطف الملتهبة التي تصدر عن إنسان معتوه؟ أنا لا أريد (مجنون شادية) الذي يهدم حياتي فوق رأسي، وقد جربت من قبل ذلك النوع من الحب المجنون، حب الغيرة والشك وعدم الثقة، لكن الرجل العاقل هو الذي يقدم لي الحب العاقل. العقلاء وحدهم هم الذين يشعرون المرأة بالأمان. لكن للأسف (الصديق العاقل) لم يكن يحبذ فكرة الزواج وكان صعبًا أن أقنعه بالزواج مني. رغم ذلك لم أكن حزينة، فالحب كما يقولون هو العطاء، وهذا الكاتب الكبير أعطاني الكثير. كانت أمنيتي أن أتزوج ويكون لي أولاد، لكني وجدت في ذلك الوقت أن عمله هو بيته وحياته، وأولاده هم الأعمال الأدبية التي يكتبها، فانسحبت لأني أريد بيتًا حقيقيًا وأولادًا حقيقيين وحياة على الأرض».

حلم الأمومة

في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، ارتبط اسم شادية بصلاح ذو الفقار، وكانا مثالاً للثنائي الذي طالما تمنته، في الفن والحياة، بعدما تسللت المشاعر الجارفة إلى قلبيهما وسط الطبيعة بمرسى مطروح أثناء تصوير فيلم «أغلى من حياتي»، لدرجة أن وقف ذو الفقار عند جذع شجرة كبيرة في جزيرة النباتات لكي يحفر الحروف الأولى من اسميهما. ولم يمر شهران على انتهاء التصوير إلا وكانا متزوجين.

لم يكن قرارها هذه المرة - رغم سرعته - مندفعا تحكمه العواطف، وإنما خاضعا لتدابير العقل أيضا، فقبل لقائها مع صلاح ذو الفقار، اتخذت شادية قرارا بأن تصبح أمًا، وفاجأت المنتجين والمخرجين برفض الكثير من الأدوار التي تُعرض عليها. ظنوا في البداية أن السبب هو رغبتها في رفع أجرها، ففعلوا ذلك. لكنها أدهشتهم بالكشف عن نيتها الحقيقية، بأن تعمل فقط لمدة شهرين أو ثلاثة لكي تتفرغ بقية العام لطفلها وبيتها وزوجها.

«مهما نجحت المرأة في عملها، فهي تشعر دائما بأن هذا النجاح لا قيمة له إذا لم تكن قد أنجبت أطفالاً. الأمومة أعظم شيء في حياة المرأة، بل حياتها كلها. وأنا لم أعش هذه التجربة، لذلك ظلت حياتي ناقصة. إنها أمنية بسيطة تحققها كل يوم عشرات الأمهات، لكن حياتي غير المستقرة حرمتني منها».

كان ذو الفقار هو السبيل للاستقرار وتحقيق حلم الأمومة، حيث كان النظام من أهم مميزاته، نظرا لعمله السابق كضابط شرطة. بدأ ينظم لها حياتها المرتبكة، وخاصة مع الضرائب. لم يعبه سوى «صوته العالي» الذي كان كفيلا بإفساد يومها وإصابتها بالتوتر.

حاولت التعايش مع ذلك العيب من أجل عيون طفلها، خاصة بعدما بدأ الجنين يتحرك في أحشائها، ومعه وُلد شعورها بحياة جديدة تنمو داخلها، فنسيت العالم كله وبدأت تعد الأيام والشهور في انتظار مجيئه للوجود بفارغ الصبر، لكنه لم يأت، فقدته بعد سبعة أشهر من الحلم الجميل، الذي تحول إلى كابوس مزعج.

مع مرور الوقت حاولت التماسك والعودة لحياتها الطبيعية، فبدأت تنشغل بمجموعة من الأفلام الكوميدية استهلتها بفيلم «مراتي مدير عام»، حيث كانت تؤدي بصحبة ذو الفقار دور الزوجين في البيت وعلى الشاشة أيضا، لكن مع انتهاء هذه المجموعة المشتركة من الأفلام بدأ كل منهما ينشغل بأدواره الخاصة، وبعد يوم عمل مرهق وطويل يعودان للمنزل بكثير من التوتر، وتجلى بوضوح عدم توافقهما، ففكرت شادية في الانفصال، وترك صلاح المنزل.

بعد فترة قصيرة، تدخلت أختها عفاف لتجمع شملهما من جديد، وكان اللقاء في محطة قطار «باب الحديد»، حيث فوجئت به شادية ولم تنطق بكلمة، وهو أيضًا، فقط فتح ذراعيه، ليعانقها بشوق كبير وسط ذهول كل الركاب الواقفين فوق رصيف المحطة، ثم بدأ يمطرها بالقبلات الحارة، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياتهما الزوجية.

في ليلة العودة عقدا اتفاقًا؛ جاء كنتيجة لساعات طويلة من العتاب، ووعد كل منهما الآخر بمحاولة تجنب الصدام وتحاشي الخلافات، للهروب من المشاكل والبحث عن الاستقرار، لكن هذا الحرص الشديد جعل الحياة تبدو غير طبيعية.

«إنها المرة الثالثة ولابد أن أتمسك بها مهما كانت الظروف. ماذا سيقول الناس عني؟ هل يقولون إني إنسانة أحب المغامرات ولا أسعى للاستقرار، أحب التغيير ولا أطيق الحياة مع رجل واحد. إذا فكروا بهذه الطريقة فإنهم سيظلمونني ظلمًا شديدًا. لقد كان منتهى آمالي أن أستقر وأعيش مع رجل أحبه ويحبي، أثق فيه ويثق فيه. لو أن حبيبي الضابط الشهيد لم يمت، لكنت الآن زوجة سعيدة معه، ولكنا الآن نحتفل بعيد زواجنا الخامس والعشرين مع أولادنا وبناتنا، ولكنت قد انسحبت بعيدا عن الشاشة والأضواء وعشت حياة عادية مثل ألوف الزوجات».

بدأ الملل يتسلل للحياة، ولم يكن تنفيذ الاتفاقية سهلاً، لكن حركة الجنين للمرة الثانية في أحشائها جعلتها تتماسك وتتحمل مرة أخرى، وتسيطر على أعصابها. إلا أنها بعد شهور طويلة ظلت مستلقية فيها على ظهرها؛ فقدت طفلها أيضا، فاقتنعت أن الأمومة ليست مقدرة لها، وضاع الأمل الأخير الذي كان من شأنه إنقاذ هذه الزيجة.

شاءت الأقدار أن ينفصل أخوها طاهر عن زوجته التركية، التي عادت لبلادها وقررت أن تترك ابنها «خالد»  لشادية لترعاه، فكان عوضًا لها ولمشاعرها المكبوتة، وكانت هي عوضًا له عن أمه وحنانها المفقود.

«خالد هو الحب الحقيقي في حياتي، إنه ابني، البسمة المضيئة التي جاءت متأخرة لتزيل بعضا من الأحزان الطويلة، بسمة أم عاشت تحلم بطفل، فأرسلته لها السماء، ليس من أزواجها الثلاثة، بل من أخيها الطيب».

شخصيات أثرت حياتي

على مدار حياتها؛ تعاملت شادية مع أشخاص كثيرين، لكل منهم تأثيره عليها، لكن البعض فقط من كان لهم الأثر الفارق في شخصيتها، ومن حفروا لأنفسهم مكانًا داخل قلبها، وعلى رأسهم سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي أحبت فاطمة، البنت الصغيرة التي أحضرها والدها ليبارك موهبتها أمام كوكب الشرق، فظلت تشملها بالنصيحة والحب حتى وفاتها.

«علمتني كيف أحب عملي، وكيف أكون متواضعة، وكيف أتعامل مع زملائي من الفنانين، وكيف أساعد الجدد إذا كانوا فعلا موهوبين، فقد كانت أم كلثوم تساند كل فنان حقيقي. وتعلمت أيضا احترامي لمواعيد عملي، وحرصي عليه. لقد شعر الألوف والملايين في كل أنحاء الوطن العربي بالحزن الشديد لفراقها وغيابها، لكن حزني عليها يفوق كل أحزان البشر».

بليغ ابن الجيران .. والموجي إنسان

مثلما كوَّنت شادية ثنائيا فنيا مميزا مع الشناوي وذو الفقار؛ فقد شكِّلت مع الموسيقار بليغ حمدي ثنائيًا غنائيًا، حيث قدم لها ما يزيد على 60 لحنًا ناجحًا، لكن هذا التعاون لم يأتِ بشكل مفاجئ بعد بلوغ النجومية، وإنما بدأ في الطفولة، حيث كان بليغ يعيش في حي شبرا، جارًا لشادية، لم يكن يلعب مع الأطفال، وإنما ينهرهم ليبتعدوا عنه، حتى لا يخرجونه من حالة الإلهام التي يعيشها مع عوده منشغلا بالعزف عليه.

أما محمد الموجي، فلم تُعجَب بفنه فقط، وإنما أسرتها إنسانيته، حيث كان الفنان الإنسان، والفلاح الذي لا يعجبه «الحال المايل»، والصديق «الشهم» الذي يظهر معدنه وقت الشدائد.

فطين.. المخلص العاقل

اعتبرته شادية نوعا نادرا من الرجال، حيث كان لها صديقًا مخلصًا منزهًا عن الأخطاء؛ المخرج فطين عبد الوهاب الذي قدم لها أنجح أفلامها الكوميدية، ولم يكن يكف عن المزاح والضحك في الاستوديو، حتى وإن كانت حياته الشخصية في أوج تعاستها. كان يشعر بها دون أن تتحدث ويحاول التخفيف عنها، ولا يلجأ أبدا إلى الصراخ والصياح داخل الاستوديوهات، بل يحاول قدر الإمكان توفير جوًا مريحاً للأعصاب.

«إنه هادئ عاقل، لا يغضب ولا يصرخ، بل يبتسم ويضحك ويملأ جنبات الاستوديو بالتفاؤل والأمل والمرح».

 هل تأخر الاعتزال؟

في السنوات الأولى من السبعينيات، قررت شادية الاعتزال، وهي في قمة نجاحها، قبل أن تنحسر من حولها الأضواء. قررت أن تترك المجال قبل أن يتركها، بعدما اكتشفت أنها تكرر نفسها.

«إنه أصعب وأخطر قرار في حياة الفنان، لذلك يحتاج إلى شجاعة، فالشجاع هو الذي ينسحب في الوقت المناسب، يختفي وهو في قمة القوة والنجاح والمجد، قبل أن يبتعد عنه الجمهور، وحتى لا يضطر هذا الجمهور أن يحييه ويصفق له بدافع الشفقة وليس الإعجاب».

لكنها عدلت عن قرارها وضعفت، عادت مرة أخرى إلى «البلاتوهات» والشاشة والأضواء، وكادت تنسى قرار الاعتزال الذي اتخذته. أعادتها أفلام المخرجين الشباب حينها، مثل حسين كمال وأشرف فهمي. وفي عام 1975 اتخذت القرار مرة أخرى، وعدلت عنه أيضًا، لأنها لا تجد إجابة مقنعة لتساؤلها «ماذا أفعل وحدي في البيت؟ لا زوج أحبه ويحبني، ولا طفل أعطيه كل عطفي ووقتي، ولا شيء سوى الصمت الثقيل والوحدة القاتلة».

بعد سنوات قليلة تحلت شادية بالشجاعة، وتوصلت إلى الإجابة عن سؤالها، بأن «الله» هو العون والرفيق الذي ستعتزل من أجله، وتلوذ بالسكينة في معيته، مثلما كان دائمًا ملجأها في مصائبها، حينما قُتل حبيبها الضابط، وعندما مات رفيق روحها فريد الأطرش، ووقتما فقدت أملها في الأمومة.

«يارب.. هذه حياتي أمامك، بكل حلوها ومرها، فسامحني إذا كنت أخطأت، وساعدني إذا كنت ضللت الطريق، وحقق لي في أيامي القادمة السعادة التي عشت أبحث عنها، يا رب.. يا رب».

 خير خاتمة

في الصغر؛ أثناء لعب شادية مع إخوتها، كانوا يقيمون مسرحًا، حيث يشدون ملاءة وكأنها ستار المسرح، ثم يبدأون في الغناء والتمثيل من ورائها. ومثلما بدأت حياتها الفنية مع «الستار»، أنهتها معه أيضا؛ مع مسرحيتها الوحيدة «ريا وسكينة» التي قدمتها في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي وحققت نجاحًا هائلاً استمر لسنوات، فكانت خير خاتمة.

Comments