نهى حقي لأبيها في ذكرى مولده الخامس والعشرين: أفتقدك.. ولم أجد إنسانًا في حياتي مثلك

كثيرا ما يطرق مسامعنا المثل القائل «البعيد عن العين بعيد عن القلب». يُصدِّق فيه البعض، ولا يؤمن به آخرون. لكن يحيى حقي دلَّل على عدم صحته، وأيَّد قول الحلاج: «العَيْنُ تُبصِرُ مَن تَهْوَى وتَفقده/ ونَاظِرُ القَلْبِ لا يَخْلُو مِن الـنَظَر/ إن كَانَ لَيْسَ مَعْي فَالذِكرُ مِنهُ مَعْي/ يَرَاهُ قَلْبِي وإنّ غَابَ عَنْ بَصَرِي»، حيث كانت العلاقات الأكثر عمقا ومتانة في حياته يشوبها قدر كبير من الغياب عن النظر، بحكم عمله في السلك الدبلوماسي لفترة طويلة أو لظروف الحياة، التي جعلته يبتعد عن ابنته (نهى) غالبا وعن زوجته (جان ميري) أحيانا.

حتى أسابيع قليلة مضت، لم أكن أعرف نهى حقي، ولم أكن على دراية بمدى تقبلها لطلبي باللقاء لنتحدث عن والدها، فربما أصابها الفتور ولم تعد قادرة على الحكي مجددا، وربما نفد ما لديها خلال الخمسة وعشرين عاما الأخيرة – منذ وفاة حقي –، لكني وجدت منها ترحابا يفوق ما لم أتوقعه، ودَعتني لزيارتها قائلة: «أهلا بكل من يهتم بيحيى حقي والحديث عنه».

لم يكن الوصول للمنزل يسيرا بدرجة كبيرة، إلا أنني مع الخطوة الأولى إلى داخله نسيت كل عناء، وحملتني أجواؤه إلى زمان ومكان آخرين. شعرت أن روح يحيى حقي وثقافته تغلف كل شيء، بدءا من اللوحات المعلقة على الجدران وانتهاء بالمكتبة الكبيرة القائمة في الدور العلوي، رغم أن حقي لم يعش يوما في هذا المكان، بل وابنته انتقلت إليه حديثا.

أبوة تجاوزت المسافات

لم تعرف نهي أباها في الصغر، حيث توفت والدتها وهي ما تزال في طور الرضاعة، وقبل أن تتم عامها الثاني كان والدها خارج البلاد، سافر إلى فرنسا في إطار عمله كسفير، وعاشت هي مع جدتها في «فيلا المعادي». بعد أربع سنوات عاد يحيى حقي ليلتقي بابنته، لم تألفه في البداية، لكنه سريعا ما ظفر بحبها وثقتها، فكان يزورها ويحضر لها الألعاب، ومنه حصلت على أول «عجلة» في حياتها.

لم يقتصر الأمر على الزيارات، بل اصطحبها حقي معه إلى أماكن كثيرة، وكان أولها «السيرك» لتكتسب الألفة مع الحيوانات، ولذلك اشترى لها كلبا. وبعض تلك الأماكن كانت أكبر من سنها في ذلك الحين، مثل ندوة «الفيلم المختار» التي لم تكن تفهم منها شيئا، لكنها قابلت فيها أسماء كبيرة تركت داخلها أثرا ظهر فيما بعد.

بدأت نهى القراءة على يد والدها، حيث كان يعطيها كتب الجيب الصغيرة والجاذبة. وشاهدت معه أول فيلم عربي وهو «لحن الوفاء». كما ذهبت بصحبته إلى مسرح «العرائس». لكن الخروجة المفضلة لها كانت حضور عروض لفرقة رضا.

في تلك الفترة، كان حقي قد تزوج للمرة الثانية من الفنانة الفرنسية «جان ميري»، لكنها لم تستقر معه في مصر حينها، لأن أبناءها كانوا في حاجتها بفرنسا، ولذلك جاء اللقاء الأول بينها وبين نهى متأخرا، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. تقول عنها: «لم تكن زوجة أب بالنسبة لي، بل كنا صديقتين، كل منا تعرف حدودها ومكانة الأخرى لدى حقي. كانت امرأة قوية، نظرا لجذورها الممتدة إلى ريف فرنسا، وهذا ما كان يلزم أبي، لأنه كان بوهيميا تماما، لا يحسب لشيء، فكانت هي من تنظم له يومه، وفي المقابل كان هو يحبها ويحترمها جدا، ولا أتذكر أنه أحزنها أبدا، لذلك لم تتحمل فراقه ورحلت عن الدنيا بعد وفاته بعام وشهرين، في يوم مولده».

عاد يحيى حقي للسفر مجددا، واعتادت معه نهى على الغياب، جسدا لا روحا. ومنذ ذلك الحين أصبح «التليغراف» هو الجسر الواصل بينهما. رسالة مظروفة تحمل الكثير من المشاعر، التي لم تتغير بمرور الأعوام. الأسلوب والإحساس في كلماته لها وهي ابنة سبعة أعوام، هي نفسها بعدما تجاوز عمرها الأربعين. تتذكر: «من أجمل الأشياء التي قالها لي حينما كنت أخاطبه برسائلي من البحرين في منتصف السبعينيات، وأعنونها بـ«والدي العزيز يحيى حقي»، أنني لو لم أكتب اسمه أو العنوان واكتفيت بوالدي العزيز ستصله الرسالة، لأن لا أحد يملك مثل هذا الفيض من المشاعر مثلنا».

رغم دروب الحياة التي باعدت بين الأب وابنته طوال عمره تقريبا، إلا أنه لم يمر عام بدون لقائهما مرة على الأقل، حيث كانت نهي حريصة دائما على التواجد مع حقي في يوم مولده (17 يناير)، بالإضافة إلى أوقات متفرقة جمعتهما من حين لآخر، حينما كانت تسافر زوجته فينتقل للمكوث معها، وعندئذ يصطحبها إلى أماكن لم تذهب إليها من قبل في السيدة زينب والحسين والحلمية ليستعيد ذكرياته ويتناول الأطعمة التي يحبها مثل «لحمة الرأس». أو حينما يقرر زيارتها في البحرين، أو تسافر هي لرؤيته في رحلة إلى فرنسا. تصف نهي: «الرحلة مع أبي مختلفة تماما. ففي صغري ذهبت إلى فرنسا مع جدتي كثيرا، لكني عندما كبرت شاهدت صورة أخرى لها بصحبته. تعرفت على فرنسا الفنية. زرت متحف «الإنسان» الذي يقع بجوار برج إيفل ويضم قصة الحضارة الإنسانية. ورأيت متحف اللوفر بعيون يحيى حقي، حيث كان يقف أمام كل لوحة ويشرح لي قصتها، ومن ثم أصبحت لديَّ اليوم الخلفية الفنية التي تجعلني أتذوق وأحكم على أي معرض أدخله».

ميراث لا يثَّمَن

لم يكن مألوفا في الأدب العربي الحديث نشر رسائل خاصة بين كاتب وأحد أفراد أسرته أو محبيه، لكن في الغرب كان أمرا مستساغا. ولأن الأدب الفرنسي كان صاحب الأثر الأكبر في تكوين نهى حقي، فقد انتبهت إلى الكتاب الأشهر هناك في تلك النوعية وهو «رسائل فارسية» للكاتب مونت سكيو، الذي يضم رسائله مع صديق له في بلاد فارس، يحكي له عن طبيعة الحياة في تلك البلاد، ومن ثم يعقد مقارنات بينها وبين فرنسا.

وجدت نهى في رسائل والدها ثروة هائلة، وأبت أن تخفيها عن جمهور يحيى حقي، فهي تحمل في طياتها الكثير من الدفء والصدق والإبداع، فجمعتهم في كتاب نُشر منذ سنوات بعنوان «رسائل يحيى حقي إلى ابنته»، فيما عدا واحدة لم تفضل نشرها، ولا تنوي ذلك، لأن حالته النفسية كانت سيئة فيها، ربما بسبب مرض زوجته أو شيء آخر، لا تعلم بالضبط. وأكملت هذا الكتاب بآخر عنوانه «ذكريات مطوية» ضم حكايات سجلتها لوالدها قبل وفاته، يروي فيها عن سنواته في مدرسة الحقوق وزميل دفعته الفيلسوف توفيق الحكيم، الذي تجلت عليه علامات النبوغ مبكرا، وكذا لقاءاته مع الملك فؤاد والملك فاروق وجمال عبد الناصر ومحمد نجيب وأنور السادات، وموسوليني في إيطاليا وأتاتورك في تركيا.

وخارج التسجيلات، استرجعت نهى ذكريات والدها الحزينة في مدرسته الابتدائية بجوار سبيل أم عباس في السيدة زينب، تلك الفترة التي ظلت عالقة في ذهنه طويلا، وتركت أثرا غائرا في روحه، لما لقاه فيها من قسوة وإهانة، وجعلته من أشد المناهضين للضرب في المدرسة، مؤمنا بأهمية وجود الثقة بين الأستاذ وتلميذه.

تلك الصدمة في سنوات عمره الأولى كان يمكن أن تؤثر فيه بصورة سيئة، وربما حرمتنا من مفكرين آخرين لم يستطيعوا تجاوزها، إلا أن حقي كان لديه الداعم لتخطي ذلك، المتمثل في أسرته، بدءا من والدته صاحبة الأثر الطاغي في حياته وأخوته، ثم عمه «طاهر حقي» الذي يعد من أوائل من كتبوا الرواية المصرية، وكان يقيم صالونا ثقافيا بشكل دوري، فأتيح لحقي وهو في الخامسة عشر من عمره أن يقابل أحمد بك شوقي وغيره من كبار الكتاب. تضيف نهي: «كان بيت حقي كله عاشقا للقراءة، ويحترمون بشدة اللغة العربية والقرآن الكريم. فالأم درست في كتّاب القرية وكانت على قدر من العلم والثقافة مكناها من تذوق شعر شوقي، والأب رغم عدم وجوده بشكل واضح في حياة يحيى حقي، إلا أن بائعو الكتب كلهم كانوا يعرفونه، حسبما حكى لي والدي. ربما أثره غير واضح لوفاته مبكرا، أو ربما هناك سبب آخر، فأنا لم يخطر في بالي أن أسئله عن ذلك يوما».

مصري أصيل

أتاح عمل يحيى حقي في السلك الدبلوماسي الفرصة له ليزور بلاد كثيرة، لكن تظل الرحلة الأقرب إلى قلبه، هي الأولى التي سافر فيها إلى بلاد الحجاز. وفي ظني هذا حال الكثيرين، فالسفر كشأن أي شيء، التجربة الأولي منه تحمل مشاعر ومواقف لا تُنسى. كما كانت تلك أكبر فرصة لحقي لكي يقابل أنماط مختلفة من البشر، عندما أدى فريضة الحج عام 1928 على ظهر الجمل.

تلك الرحلات أمدَّت حقي بالعلم والثقافة، وكانت بمثابة المادة الخام التي شكلت وجدانه، من خلال اتصاله بالناس، إلى جانب إيمانه بضرورة تسلحه بالدين، لكنه لم ينسلخ يوما من جذوره المصرية، وكان دائما يقول لنهى: «عندما أذهب لأي بلد ذات حضارة مثل روما وفرنسا وغيرهما، أدخل في تلك الحضارات وأتسلح بها، لكنني لا أذوب فيها، لأني أمتلك حضارة أعمق وأعرق، تتضمن مزيج من حضارات فرعونية وقبطية وإسلامية، فأنا آتٍ من جذور كبيرة ولا يمكن أن أذوب».

خفة ظل تأسر القلوب

لا تخفى روح الدعابة التي تمتع بها يحيى حقي عن أحد من قرائه، التي تظهر جليا بين سطور قصصه، إلا أنه خارج تلك السطور كانت تكمن روح أكثر خفة، ومشاعر طاغية تتغلغل في نسيج أي إنسان يقابله، حتى وإن لم يكن من بني وطنه، وهذا كان سر تميزه في رأي ابنته نهى، وتتذكر ضاحكة: «أول مرة تعلم فيها أبي القيادة كانت بروما وحينها اشترى سيارة صغيرة، لم يكن يعرف الطرق أو كيف يعود لبيته، فكان ينتظر أتوبيس معين ويسير خلفه حتى لا يتوه، وذات مرة كانت هناك مشكلة بالأتوبيس فلم يكمل الطريق وذهب للجراج، سار وراءه وانتظر حتى يخرج أتوبيس آخر ليقتفي خط سيره ويعود للمنزل».

أما أثره الذي لا ينمحي فتقول عنه: «عندما كنت في البحرين جاء أبي لزيارتي، كنت حينها أعمل بالتليفزيون البحريني وزوجي في مجلس الوزراء، لذا كنا نخرج يوميا وهو يظل في المنزل، كان يجلس في الحديقة، التي يتواجد فيها الرجل المسئول عن رعايتها، وهو رجل بحريني كبير في السن، فيجلسان ليتحدثا، ويتطرقان إلى الذكريات وتقاليد وتاريخ البحرين وغيرها من المواضيع. بعدما ذهب يحيي حقي صار الرجل كلما رآني يسألني عنه وإن كان سيأتي مجددا. لقد تركت تلك الزيارة أثرا عميقا في هذا الرجل، وعندما لم يجد أملا في اللقاء به مجددا، بعث له معي هدية تحوي فاكهة الـ«شيكو» المهجنة التي يحبها أبي، وكان يكاد يبكي وهو يبلغني تحياته».

عرفت أبي بعد رحيله

اعتادت نهى حقي على القراءة منذ طفولتها، وتعرفت خلال سنواتها الأولى على العديد من الأدباء، كان ذلك يسعد والدها، إلا أن ما ظل يؤرقه، أن كتاباته كانت خارج اهتمامها، وهو ما حمله لسؤالها أكثر من مرة قائلا «لماذا لا تقرأي لي يا نهي؟ ألست مثل الأستاذ إحسان والأستاذ يوسف السباعي والأستاذ نجيب محفوظ؟» فكانت تخبره أن سبب ذلك هو كونه والدها، ولذلك هي ليست بحاجة لقراءته. لكنها تقول الآن: «أنا متأسفة ومتندمة بشدة حيال ذلك، لم أهتم بقراءة أبي أثناء حياته، وأغلب مؤلفاته طالعتها بعد رحيله، وفيها اكتشفته اكتشافا عميقا ومختلفا، فما كتبه يحيى حقي من أفكار في الخمسينيات والستينيات، إذا تمت قرائتها من جديد سيتبين أن كلها معاصرة، سواء في الأسلوب أو الموضوع. فهو ليس فقط «قنديل أم هاشم» و«البوسطجي» وإنما أعمال كثيرة. ومن أروع ما كتب في نظري قصة «عنتر وجولييت» التي يظهر فيها الاختلاف بين بولاق والزمالك من خلال كلب وكلبة صغار، والتي تأثرت بها زوجته كثيرا فنحتت تمثال لعنتر وجولييت».

إلا أن الاكتشاف الحقيقي والأكبر لنهى كانت مقالات والدها في المجلات الثقافية المختلفة – وخاصة «المجلة» التي رأس تحريرها لسنوات – التي أعادت قراءتها مؤخرا وقررت طباعتها في كتاب يصدر قريبا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في محاولة منها لإخباره بافتقادها له، قائلة: «لم أجد إنسان في حياتي مثل هذا الرجل. كان يحتوي كل الناس، فهو شخصية تشع مشاعر ومحبة وثقافة دون أن يدعي أنه مثقف، ولم يمر في حياة أحدا مرور الكرام دون ترك بصمته، فما بالك أنا؟!».

مقتنيات حقي في منزل ابنته

في أواخر الثمانينيات عادت نهى حقي إلى مصر لتستقر، لكن القدر لم يمهلها سوى ثلاث سنوات تتشبع فيهم من أبيها، حيث رحل في ديسمبر عام 1992، تاركا لها إرثا من الإبداع، الروحي والحسي، فإلى جانب كتاباته وقصصه ترك لها مقتنيات نفيسة اختارها بعناية، مثل الـ«فوتيه» الذي جلبه من فرنسا ويزين مدخل الصالون في منزلها، حيث كان يعتز به جدا ويتعامل معه بحب. بالإضافة إلى لوحتين معلقتين على الجدران، تحمل كل منهما رسمة لشاب صعيدي داكن اللون.

أما مكتبتها، فخصصت ركن بها لكتب يحيى حقي، واحتفظت في أحد الأدراج بعدد من كتب الفن المكتوبة بالفرنسية التي اهتم والدها باقتنائها، والتي تنوي إهدائها لمكتبة الإسكندرية، من بينها «سيكولوجية الفن» لأندريه موروا، «الفن المعاصر في مصر» من تقديم حامد سعيد، «باليه فرنسا من القرن الخامس عشر حتى الآن»، وكتاب «متحف القاهرة» الذي يحمل إهداء موجه لحقي بالفرنسية، يقول – كما ترجمته ابنته نهى – «أخي يحيى حقي، حب من القلب».

بينما تظل الهدية الأكبر لنهى هي كلماته التي أهداها لها على كتابه «خطوات في النقد» ويقول فيها «هدية إلى بنتي العزيزة مع نبضات قلبي ودعاء لا ينتهي، يا نهى، أن يصونك المولى ويسعدك ويجعل أيامك كلها حلوة تنعمين فيها بالسكينة ولذة الإيمان بربك الكريم، أبوك».

Comments