صلاح عيسى.. رحل من وُلِدْتُ صحفيًا بين يديه


«صلاح عيسى توفى». رسالة قصيرة من صديق دقَّ بها هاتفي المحمول في السابعة والنصف مساء الثلاثاء الماضي، جعلتني أتسمر للحظات، لتفصلني عن كل ما حولي وتعود بي للوراء خمس سنوات، إلى 2012، المرة الأولي التي أدركت فيها مشاغب صاحبة الجلالة.

ربما لم تكن تلك مقابلتي الأولى معه، لكني ـ بكل تأكيد ـ لم أدركه قبل ذلك. فبحكم العلاقة التي جمعته بوالدي ـ رحمهما الله ـ منذ سنوات طويلة، عرفته اسمًا منطوقًا. وبحكم رئاسته لتحرير جريدة القاهرة ـ التي لم يخل منزلنا منها أسبوعا ـ عرفت اسمه مكتوبًا. وبحكم قراره بأن يُدخلني إلى مجال الصحافة أدركته أستاذًا وإنسانًا.

عقب تخرجي من الجامعة، لم أفكر يومًا في العمل خارج تخصصي ـ الإذاعة والتليفزيون ـ ولم تكن الكتابة دومًا أكثر من هواية اعتدت ممارستها كواحدة من الصفات الوراثية التي انتقلت لي من والدي. لكن الرياح - غالبا - تأتي بما لا تشتهي السفن، فالواقع العملي لا يمت للآمال والطموحات الطلابية بصلة، وأحيانًا تكون صدماته موجعة لدرجة لا يمكن معها سوى الانسحاب. وعليه؛ اتخذت قرارًا بهجر العمل في مجال الإعلام نهائيًا، والاكتفاء به أكاديميًا.

لم يُرض والدي هذا القرار، وعندما وصل ذلك إلى مسامع صلاح عيسي لم يرض أيضًا. وربما القدر مثلهما، لذا بدأ يحيك خطته. كان الأستاذ بحاجة إلى كُتَّاب من الشباب يزيدون من حيوية جريدة القاهرة، فطلب من أبي، ومن بعده طلب أبي مني، أن أذهب لمقابلته، فربما يروق لي الوضع وأتراجع عن قراري.

كنت حينها في السنة التمهيدية للماجستير، فمررت إليه ظهرًا قبل موعد محاضراتي. أخبرني بما يريد مني كتابته، وسألني إن كنت سأحضر ندوة أو مؤتمرًا ثقافيًا في القريب. لم يكن في جدولي بتلك اللحظة سوى مؤتمر عن الإعلام تمت دعوتي لحضوره بحكم الدراسة، ففوجئت به يقول: «ممتاز. فلتكن تلك البداية».

لم أكن أعرف ضوابط النشر في الجريدة، فعلاقتي مع الصحافة قبل ذلك لم تتعد «مجلة الجامعة»، والأمر فيها مختلف جذريًا. كتبت أول موضوع لي، وساعدني أخي جمال المراغي، بحكم خبرته السابقة عني بسنوات. لم أترك فكرة دون تدوين، فكانت المحصلة النهائية أكثر من ألفي كلمة، في حين أن الحد الأقصى لهذا النوع من التغطيات ـ حسبما علمت فيما بعد ـ  هو 1400 كلمة فقط، لكنه لم يحذف حرفًا لأنه النشر الأول لي، وكان ذلك تشجيعه.

المرة الأولي كانت من اختياري، أما وقد فعلتها ووطأت قدمي أولى درجات سلم صاحبة الجلالة، فليبدأ العمل، ومن ثم بدأت «تكليفاته» لي من المرة الثانية، مع انتخابات اتحاد كتاب مصر. استمر الأمر هكذا خلال شهور طويلة تالية، يكلفني بموضوع ما، فأكتبه وأذهب إليه لنتحدث عن الموضوع التالي، وكانت كل جلسة لا تقل عن نصف ساعة، يناقشني فيها ويمدني بكثير من المعلومات، والمصادر أيضًا.

مع صلاح عيسى خضت تجربة العمل الأولى في الصحافة الفنية، تلك التجربة التي أفادتني كثيرًا فيما بعد، عندما تولى رئاسة مجلس الإدارة، تاركًا التحرير للكاتب الصحفي سيد محمود، فكانت هي الملاذ الذي تنفست من خلاله داخل الجريدة. لكني سرعان ما حنيت للمجال الثقافي من جديد، فطرقت أبواب «أخبار الأدب» التي فُتحت لي أكثر مما توقعت، بمباركة الأستاذ وفخره بمن وُلِدَت صحفيًا بين يديه.

مع انتقالي إلى «أخبار الأدب» شهدت علاقتي بعم صلاح منحى آخر، أكثر عمقًا وقوة. في كل مرة التقيت به بعد ذلك، لم تكن الابتسامة تفارق شفتيه وأنا أحكي له عن أخباري وما أفعله، فيؤكد لي مازحًا: «لا تنسي إنك ابنة (القاهرة) التي راهنت عليها».

في منتصف عام 2016؛ كنت على موعد مع «بصمة» أخرى للأستاذ في حياتي المهنية، ملف سيظل دائمًا يربط اسمي به في «أخبار الأدب» كما كان في «القاهرة»، تحمس له الكاتب الصحفي طارق الطاهر رئيس التحرير، فأعددته تحت عنوان «صلاح عيسى.. مشاغب صاحبة الجلالة»، تضمن عددًا من شهادات محبيه، وحوار طويل معه، ربما هو الحوار الأطول لي حتى الآن، استمر لما يزيد عن ساعتين ونصف، ولولا خوفي عندما بدأ الإرهاق يظهر عليه، لما توقفت، خاصة وأنه لم يحاول إيقافي إطلاقًا. في هذا الحوار ولجت إلى حياة أخرى لم أعرفها من قبل عنه، لمست جذوره، وأدركت كيف تشكلت تلك الشخصية.

منذ شهور قليلة زرته في مكتبه، بالدور الثاني في المبني الذي يحوي جريدة القاهرة، بدا متعبًا وهزيلا، أقلقني ذلك، لكنه أخبرني أن تلك عوامل الزمن التي لا مفر منها، ووعدني بأن يشارك بالكتابة في ملف أقوم بإعداده حول إحدي الشخصيات الأدبية الراحلة، ذات التأثير الكبير في الوسط الثقافي، وفيه هو شخصيًا. لكنه ـ في النهاية ـ آثر الحديث معه على الحديث عنه.

رحل المؤرخ الكبير والأستاذ صلاح عيسى. تلك سُنة الحياة، وكل نفس ذائقة الموت. أعلم ذلك جيدًا، كما يعلمه الجميع، لكن إحساس «الفقد»  يفوق العلم كثيرًا، لا يمكن التعامل معه بالمنطق أو العقل، ولا يدركه سوى من يشعر به. وحالة فقداني للأستاذ صلاح، لا أظن أني سأتمكن من تجاوزها بسهولة، فتلك المرة الأولى التي تنهمر فيها دموعي لوفاة شخص عزيز على منذ رحيل أبي في 2015، الذي لم أتقبله بعد. أدعو الله لكما بالرحمة والمغفرة، ولقلبي بالسكينة حتى يلتقي بكما ذات يوم.

Comments