أسطورة الأجيال.. بين إثراء الأدب والنيل منه

منذ تجاوزت العاشرة من عمري تقريبًا؛ بدأت مشاكساتي الطفولية مع إخوتي الأكبر مني. حينما أخذ «الزمن الجميل» في الانحسار، وصرنا نفقد رويدًا متعة الحياة الهادئة والبسيطة، مع بدء عصر التكنولوجيا والأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين. كانوا يتعمدون إغاظتي بأنني ابنة ذلك الجيل ولم أعش ما عاشوه. خاصة وأن أخي الأكبر يزيد عمره عني بإثنى عشر عاما، والجيل كما اعتدت السماع عنه، فقط عشر سنوات. فأعود لأخي الآخر وأقول أن الفارق بيننا فقط تسع سنوات، إذًا نحن نفس الجيل، فيقول لي أنا وُلدت في الأعوام العشر التي تسبق أعوامك، أي جيل مختلف. ظللت هكذا ويزيد الأمر معي التباساً وحيرة، إلى أن وقعت عيني مصادفة على مقولة علمية أثبتتها إحدى الدراسات تقول بأن الجيل ثلث قرن، أي 33 عامًا، وهو ما يجعل ثلاثتنا – بلا شك – من جيل واحد، وربما تشاركنا أمي أيضا.

أحببت تلك المقولة العلمية، ومعها شعرت بالرضا التام، إلى أن بدأ وعيي يتفتح على عالم الثقافة الأشمل، ويتطور إطلاعي من مجرد قراءة الروايات والقصص، إلى القراءة عن أصحاب تلك الأعمال الإبداعية، فاصطدمت مرة أخرى بفكرة الأجيال. وجدتها متمثلة بشدة مع أدباء الستينيات، لكن كثيرين ممن أقرأ لهم لم أجدهم ضمنه، ولم أفهم حينها في أي جيل يجب أن أضعهم، الذي شهد ميلادهم في الحياة أم في الأدب. حينما علمت أن جيلهم يعني السنوات التي بدأوا الكاتبة خلالها، زادت الصعوبة، فالأمر يحتاج إلى بحث وتقصي للوصول إليه بدقة. بالإضافة إلى أنني لم أعرف، هل يمكن أن أضيف إلى جانبهم كُتابي المفضلين من الأجانب، أم أن الأمر مقتصر علينا في العالم العربي؟ أم أنه يخص مصر فقط؟

تمر الأيام ولا تجد تلك المسألة إجابة واضحة، وبين عام والآخر تطل علينا دراسة جديدة يتناول فيها أحد الباحثين واحدا من الأجيال، ويتحدث فيها عن فكرة التجييل بتعريف ورؤية مختلفة. منهم من يحسبها بالسنوات العشر، ومنهم من يضع السمات المشتركة في الكتابة مقياسا، وآخرين تظهر الأجيال أمامهم بالتزامن مع الأحداث الكبرى في تاريخ الأوطان.

في السطور التالية نطرح الأمر للنقاش بين النقاد والأدباء، المصريين والعرب، بل وأساتذة اللغات أيضا، المطّلعين على الأدب في مختلف الدول الأجنبية، لنعرف وضع تلك الظاهرة من العالم.

ليكن التحول الديمقراطي هدفا للجيل الجديد

في البداية يقدم د.صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي، رؤية شاملة لتلك المسألة، شارحا: بغض النظر عن الفلسفات التي قُدِّمت في الفكر النقدي والأدبي عن مدى مصداقية نظرية الأجيال الأدبية وامتدادها الزمني الذي يكاد يجمع الباحثون على أنه يستغرق ثلث قرن تقريبا، مما يجعل هناك موجة طليعية تبرز في العقد الأول من عمر هذا الجيل، وموجة وسطى تبرز في العقد الثاني، وموجة ثالثة تبرز في العقد الثالث، ثم تأخذ مجموعة هذا الجيل في الانخراط والذوبان في الجيل الذي يليه، بطريقة متتالية. على الرغم من ذلك فإن الحياة الثقافية المصرية شهدت في العقود الماضية توزيعا آخر لفكرة الأجيال تحددت بعشر سنوات فحسب، فتحدث كثير من الدارسين عن جيل الستينيات والسبعينيات ... إلى آخره. لكن ما ألاحظه على هذا التقسيم الجيلي عدة أمور؛ الأول أنه لا يمكننا أن نزعم بوجود قواسم مشتركة بين أبناء الجيل الواحد غير إكراهات الحياة وضرورات السياسة ووقع الأحداث العامة، التي يشترك فيها جميع المتعاصرين وتنتسب إلى توجهات مشتركة بطموحات تجمع بينهم ومشروعات يلتقون عندها. فمثلا جيل طه حسين الذي وُلِد في نهاية القرن التاسع عشر وبدأ بروزه في الحياة المصرية في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، حمل على عاتقه مهمة كبري هي الوفاء لمبادئ ثورة 1919 التي كانوا شبابا عند اندلاعها، ورفع راية خطاب النهضة والتقدم الأكاديمي والعلمي والأدبي، وتأسيس عناصر النهضة في هذه الفترة، اشترك معه في هذه المسئولية الكبرى العقاد والمازني، ودعمه أستاذ الجيل لطفي السيد، ولحق به في الموجة الأخيرة توفيق الحكيم، وناوأه زكي مبارك لكي يقلل من تأثيره ويعلن ثورته عليه. هذا الطموح الوطني والقومي والفكري، العلمي والنهضوي، يمكن أن يعد قاسما مشتركا يصبغ أبناء هذا الجيل بطبع متميز، يتباين فيه عن توجهات الدين المحافظ التي كان يمثلها مصطفى صادق الرافعي، محاولا أن يضع العقاد على السَّفود، وهو السيخ المحمي حتى درجة الاحمرار فوق وهج النار، لهذه الدرجة كان الصراع بين الفكر التقدمي النهضوي والفكر السلفي المحافظ. بينما كان الجيل الثاني الذي حمل لواءه كوكبة الروائيين عندما أخذوا ينفخون في أساليب السرد المختلفة ويجربون أنواعا متعددة منها ذات توجهات استراتيجية متباينة، لكنها في نهاية الأمر تعكس طموحاتهم في تأسيس حياة ديمقراطية تأخذ فيها المرأة حقها في الحياة العامة وتنتشر المبادئ الليبرالية من حرية وديمقراطية، وتنعم فيها مصر بمطالبها الوطنية في التحرير والجلاء والتقدم، هذا الجيل مثَّله يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبدالله، برز فيه نجيب محفوظ باعتباره القامة التي سترتفع من بين كل هؤلاء وتظفر فيما بعد بالاعتراف العالمي وتصبح هي العلامة المائزة لجيل الرواد في القصة والرواية، لا على النطاق المصري فحسب وإنما على النطاق العربي أيضا. إذا تحولنا إلى الجيل الثالث الذي نشأ في الثلث الأخير من القرن العشرين سنجد أن الخارطة قد اختلفت، فلم يعد هناك في تقديري رمز واحد يمكن أن يكون هو الذي يوجز في مشروعه وطموحاته وامتداداته الأهداف الكبري التي تشتتت في خضم التناقضات السياسية، حيث شهدت مصر موجة العروبة بقيادة عبد الناصر وتمزقها بأيدي السادات وتجمدها في عصر مبارك، فالجانب السياسي لم يترك طابعه المائز على أبناء هذا الجيل ولم يسهموا في تشكيله، أما الجانب الإبداعي فقد توزع على الفنون المختلفة من شعر وسرد ونقد ولم يستطع واحد من أبنائه أن يلخص بطريقة جامعة جوهر القواسم المشتركة بين أبنائه.

يوضح فضل دلالة قياس الجيل بثلاثين عاما على الأقل في الأدب، قائلا: متوسط عمر الإنسان في القرن العشرين كان يتراوح تقريبا من 60 إلى 70 عاما، منهم 20 عاما تمضي في بلاهة الطفولة وعبث المراهقة، ثم 30 عاما هي سنوات الإنتاج الحقيقي حتى يصل إلى سن الخمسين، من بعده يكرر نفسه ويكمل مشروعه، ويكون غيره من الشباب قد ظهروا، ليستلموا منه الراية، وليصبح هو صاحب العصر والفاعل في الجيل.

تبلور الفكرة بهذا الشكل لا تنتفي معها أن الإبداع ظاهرة فردية، لكن عندما تتكثف وتتكاثر الأسماء ويلتقون في هدف مشترك في مرحلة ما، يمكن تسميهم بالجيل، إلا أن هذا الهدف هو ما نفتقده حاليا في رأي د.صلاح فضل، يضيف: كانت السياسة المباشرة هي الجامع والمشتت لأدباء الستينيات والسبعينيات، حيث عاشوا موجة القومية العربية، ثم خيبة الأمل بعد النكسة، التي اطفأت الحلم القومي ونزعت الغطاء السياسي عن الجيل المتفائل والمتحمس، ومن ثم أصابتهم بالإحباط والاكتئاب الشديد. كنت أتمنى أن يكون حلم الجيل الحالي الذين وُلدوا في الثمانينيات ويبلغون من العمر ما بين 30 إلى 40 عاما الآن »التحول الديمقراطي لمصر»، وقد أعطتنا 25 يناير الأمل، لكن على مستوى الكتابة لا ألمس ذلك، أشعر أنني أؤمن بالديمقراطية وأصر عليها وأجدها الحل أكثر منهم. كنت أتمنى ممن نعوا المشروع القومي أن ينتبهوا أن هناك مشروعا أهم وأخطر، لأن بناء الدول العظمي ودخول العصر الحديث، وتحقيق كل الآمال في الحرية والرخاء والازدهار الثقافي والإبداعي، يبدأ بالتحول الديمقراطي، فالحرية هي الأساس لكل شيء. لتكن تلك استراتيجية الأدباء ليسهموا في صناعة المستقبل، ليس عليهم التغني بها، وإنما الإيمان بمفهومها وممارستها في كل ما يفعلون.

السياق الاجتماعي يفرض تيارا كتابيا

تتفق معه د.أماني فؤاد، أستاذ النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون، في أن الفن - فكريا وفلسفيا - ذاتي وفردي جدا، ورغم أنه نقديا يُصعَب القول بأن هناك جيل، لكن السياق الاجتماعي والسياق الفكري والطقس العام في فترة زمنية، يفرض تيارا من الكتابات له نفس السمات الفنية والفكرية، وأحيانا بعض القضايا التي تهم هذا المجتمع، فتفرض تيارا كتابيا، متشابها في الملامح، وهذا ما يجعل الباحثين يطلقون عليه جيل.

وتذكر جيل الستينيات كمثال قائلة: كان الهم الأساسي وقتها فكرة القومية العربية والقضية الفلسطينية، وفكرة العدل والحرية، مع المد الناصري وثورة 1952، فوجدوا ذاتهم في حلم واكتشفوا فيما بعد أنه وهم. ثم جاءت فترة السبعينيات بأفكار ما بعد الحداثة والتقوقع على الذات والنكسة، والانفتاح وذهاب السادات للقدس، فكانت أيضا قضايا ملِّحة تثير الصراع والجدل، فانعكست على هذا الجيل. تلك القضايا تخص المجتمع، فكان طبيعيا أن تتواجد سمات مشتركة في إنتاج كل المبدعين في تلك الفترة، لأن الهموم مشتركة، لكن ببنيات فنية مختلفة، وهذا ما شكل سماتهم الجمالية في السيتينيات والسبعينيات. كل منهم كانت له سمات كتابية خاصة، تأخذ شكلا مختلفا عند كل مبدع، فالاسترسال السردي عند خيري شلبي مختلف عن الومضة والمشهد واستنطاق الباطني عند إبراهيم أصلان، وعن الحس التاريخي أو الصوفي عند جمال الغيطاني، وعن الواقعية السوداء عند يوسف القعيد، أو الكنسية واللغة الجميلة عند إدوار الخراط، كل منهم كانت له سمة فنية مختلفة.

رؤيتان للفكرة.. إحداهما تدعمها والأخرى تؤكد فشلها

يؤيد د.سيد ضيف الله، الأستاذ في معهد اللغة العربية بالجامعة الأمريكية، تلك الرؤية ولكن بشكل تطوري، لا يقف عند الاختلافات فيما بين المبدعين في نفس الجيل، وإنما بعد تجاوزهم له، فيقول: إذا تأملنا مسيرة كل أديب سنجد أنه متغير ومتطور بطبيعة الحال، في أدواته الجمالية وانشغالاته الفكرية، فبهاء طاهر صاحب «قالت ضحى» ليس هو صاحب «الحب في المنفى» أو ما تلا ذلك من أعمال. ولو قارنا بينه وبين البساطي سنجدهما متباعدين تماما، رغم أنهما بدءا في نفس الوقت وينتميان لنفس الجيل. فكونهما ستينيين البداية، في سياقات ثقافية معينة، لا يعني أنهما سيكملان هكذا في سياقات ثقافية أخرى. هناك ت أثر بحركة التاريخ والكتابة المحيطة به والأجيال المتعاقبة، لأنهم لا يتأثرون بالسابق فقط وإنما باللاحق أيضا.

النظرة السابقة تتبِّعها الدراسات الطولية التاريخية، وفي الغالب لا تصل لتأكيد فكرة الجيل، بل تؤكد فشلها في النهاية. إلا أن هناك نظرة أخرى تكون معها فكرة الأجيال حاضرة بقوة وصحيحة تماما، يوضحها د.سيد: عند وجود قوة رمزية وسلطة للدولة، وعندما يكون هناك توجه عام لطابع ثقافي محدد، وبالتالي هذا التوجه العام يكون له آثار واضحة على الأفراد في هذه المرحلة التاريخية، تصبح المشتركات الثقافية بين الأفراد عالية، وبالتالي يسهل تلمس هذه المشتركات بين منتجات الأفراد، مع عدم إنكار وجود فروق فردية، وبالتالي يمكن الحديث عن سمات ثقافية وسمات جمالية مشتركة بين مجموعة من الأفراد ينتمون إلى فئة عمرية متقاربة متأثرين جميعهم بالسياق الثقافي العام، وهذا واضح في مصر والبلاد العربية وفي تجارب عالمية أخرى.

يستطرد د.ضيف الله: وهنا -أيضا- يمكن الحديث عن قوة الدولة المصرية الثقافية في الستينيات، المتمثلة في المؤسسات والتوجه الواضح من خلال وزارة الإرشاد القومي، والتي استطاعت أن تشكِّل سمات ثقافية تبلورت في إطارها الملامح الجمالية للأدب في هذه الفترة، سواء في الشعر أو في الرواية والقصة القصيرة، وكانت النتيجة صحيحة تماما أن نتحدث عن جيل الستينيات في الأدب. لا أستطيع أن أقول نفس الفكرة عما قبل الستينيات بنفس القوة، ولا عما بعد الستينيات بنفس القوة. ما قبلها لم نكن نتحدث عن جيل الأربعينيات والخمسينيات باعتبارهم أجيالا تتضح بينهم المشتركات الثقافية، وإنما نتحدث بشكل أوضح عن أفراد وليس عن توجه للدولة. عندما ضعفت مؤسسات الدولة، وهذا له جانب إيجابي وآخر سلبي في نفس الوقت، وسلطتها الرمزية في تشكيل عقول المواطنين، وفي القلب منهم الأدباء، وتحديد المسارات الثقافية والجمالية المرغوب فيها والمدعومة إعلاميا، ضعفت فكرة الجيل فيما تلا الستينيات من أجيال. بمعني؛ عند الحديث عن جيل السبعينيات أو الثمانينيات سنجد أننا أصبحنا نتشكك في السمات الثقافية المشتركة بين مبدعيه. لو تكلمنا عن جماعة «إضاءة» مثلا سنجد أن حلمي سالم وفريد أبو سعدة وعبد المنعم رمضان وحسن طلب وغيرهم، أخذوا الشعر إلى منحي بعيد عما كان في جيل الستينيات، وأخذوا يشتغلون على الشكل في حالة تمرد على التوجه العام السابق، وحالة تمرد على مؤسسات الدولة. تلك لا تملك نفس قوة فكرة الجيل، هم فقط جماعة منظمة، لأنهم وجدوا بينهم هدف واحد حاولوا أن يعبروا عنه جماليا، لكن القدرات الجمالية بينهم متفاوتة تفاوتا شديدا. كما أنهم لم يكونوا بالقوة التي نعتقدها، لأن تأثيرهم فيمن تلاهم من أجيال لم يكن كبيرا، فقد عاد الشعر إلى ما كان عليه قبلهم.

يتطرق د.سيد إلى سُبل تشكُّل الجيل، وهما اثنان، الأول معتاد، يجتمع فيه عدد من الأدباء، بوعي ورغبة، في إعلان مشترك جمالي أو ثقافي بينهم. والثاني لا يكون فيه اتفاق معلن بين مجموعة من الأفراد على جماليات معينة، وكل شخص يمارس عمله الإبداعي بشكل فردي. وبناء عليه؛ يمكن ملاحظة أن الفكرة كانت حاضرة بقوة مع جيل الستينيات وغير حاضرة بقوة مع جيل السبعينيات، وغير مرئية تماما في جيل الثمانينيات، الذي كان بمثابة جسر عبروا عليه من الكتابة القديمة إلى الحديثة، ثم التجريب والكتابات الذاتية.

أما مرحلة الألفية الثالثة فهي، رغم غياب تأثير الدولة، تبلور تجريدي لفكرة جيل جديد في الكتابة، يوضح د.ضيف الله: يمكن أن نتحدث عن سمات مشتركة بين كتابات تكاد تكون مستنسخة من بعضها، يجمعها سياق ثقافي واحد، يمثل الانترنت فيه فاعلا أساسيا، وتساهم الجوائز في تشكيل ملامح الأعمال الناجحة، بالإضافة إلى رسوخ فكرة الذاتية والفردية لا الجماعية، وغياب الدور النقدي بالشكل التقليدي، وانتشار ورش الكتابة الإبداعية التي تنتج نوعا من استنساخ الخبرة. لكن لا يمكن أن نتلمس ملامح جيل وهم يعملون في اللحظة الحاضرة، بل يجب أن يراكم كل أديب ثلاث أو أربع روايات من أعماله، حتى نتفق على وجود مشترك أو ملامح خاصة به هو كأديب، ثم نقارن بينه وبين آخرين، ثم نكتشف المشتركات أو المختلفات بينهم.

ظواهر ترتبط بمجموعة من الكُتَّاب وليست أجيالا

أما د.حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، فيتصور أن فكرة الأجيال تحتاج إلى إعادة نظر من جوانب مختلفة، أولها أنه لا يمكن أن يكون هناك جيل جديد كل عشر سنوات مثلا وأن يرتبط هذا الجيل بتجربة جديدة في الكتابة مغايرة لتجربة الجيل السابق عليه. مضيفا: هناك أحيانا بعض الظواهر التي ترتبط بمجموعة من الكُتَّاب في فترة بعينها وتمثل ظاهرة فنية متميزة، لكن هذا يرتبط بجوانب أخرى لا علاقة لها بفكرة الجيل، كما هو الحال في ظاهرة كُتاب الستينيات وليس جيل الستينيات، فضمن هذه الظاهرة يمكن أن نجد كتابات لمبدعين سابقين كتبوا في الفترة نفسها ومثلوا جزءا من ظاهرتها الإبداعية كما هو الحال مع اسم إدوار الخراط، الذي كان جزءا من هذه الظاهرة ومن المؤسسين المساهمين في مجلة «جاليري 68» التي عبرت إلى حد كبير عن تجربة هذا الجيل. باختصار هناك ظواهر تشبه ظاهرة «الثريا»، حيث يجتمع مجموعة من المبدعين والمبدعات على أبعاد خاصة بظاهرة إبداعية بعينها ولكن هذا لا يتغير كل عشر سنوات ولا يرتبط بجيل واحد من ناحية العمر فقط.

الظواهر الثقافية تشبه الطبيعية

بينما يأتي رأي د.محمد سليم شوشة، مدرس الأدب العربي بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، مختلفا قليلا، ورغم أنه لا يعتقد أن هناك تصورا زمنيا دقيقا للجيل، فقد يكون عشرة أو أقل أو أكثر اتساعا، العبرة بالتقارب والتشابه، لكنه يقول: مقتنع بفكرة المجايلة أو الجيل الذي يبدو أقرب لبعضه في السمات أو النوازع الجمالية أو يبدو متشابها ويحمل السمات الأدبية العامة نفسها مع فوارق فردية بالطبع هي جزء من طبيعة الممارسة الأدبية. والسبب في هذه القناعة قناعة أخرى بأن الظواهر الثقافية تشبه الظواهر الطبيعية، ووراء كل جيل خلفية اجتماعية وسياق ثقافي مشترك يصبغ التجربة بنوع من التقارب ويفرض على المجايلين أنساقا بعينها تكون فاعلة في أدبهم. على سبيل المثال جيل ما بعد الألفية الثالثة أو ما بعد الانفجار التكنولوجي لابد أن يكون قريبا من بعضه ومتشابها إلى حد كبير في الشواغل والأسئلة ويتأثر بالجديد من التقنيات والمستجدات الشكلية الخاصة بالأجناس أو الأنواع الأدبية التي يكتبونها، مثل النزعة الذاتية في الرواية أو العولمة أو اللغة التداولية في الشعر أو غيرها من السمات، وهكذا. ففكرة الجيل فكرة منطقية والمنهج النقدي الثقافي أو التاريخانية الجديدة يقرون بها باعتبار أن الجيل الواحد خاضع لأنساق ثقافية بعينها بوعي أو بدون وعي وهو ما ينتج قدرا من التشابه أو التفاعل والتحاور والتأثر بين الجيل الواحد.

صيرورة أغنت النص المصري وأضافت للخيال

يوافقه تماما من الأدباء؛ القاص سعيد الكفراوي، مؤكدا أن الواقع هو من أفرز الأجيال وأفرز شروطا جمالية وفنية لكل جيل، ويضيف: مصر بلد غنية بالتراكم وتاريخ الفنون والآداب، وباطمئنان جدا يمكن الحكم على هذا الوطن عبر فكرة المجايلة، فلو تأملنا من زمن الدولة المدنية والليبرالية المصرية، زمن تأسيس الحداثة التي واكبت ثورة 1919، سنجد أمامنا جيل المؤسسين في المسرح والسينما والأدب، وكلها كانت بدايات؛ ستوديو مصر، العائدين من البعثات، الاتصال بالغرب لتأسيس فن قصصي جديد عبر المدرسة الحديثة التي كان بها عيسي عبيد ويحيى حقي وطيب الذكر حسين فوزي، ثم يأتي جيل يبدأ من أواخر الثلاثينيات حتى منتصف الخمسينيات مثلا، هو جيل الواقعية المصرية الذي ظهر فيه نجيب محفوظ وفتحي غانم وإحسان عبد القدوس ومحمود السعدني، الجيل الذي واكب متغيرات الحياة المصرية، وعاش شروط الدولة المدنية في سيادة القانون والليبرالية المصرية وتعدد الأحزاب وحرية الرأي، وذلك كان من أغنى أجيال الثقافة المصرية والكتابة.

يستكمل الكفراوي: بعده جاء شخص ذو أهمية شديدة في تطوير الكتابة وكان الصوت القادر على سرد الحكايات، وهو يوسف إدريس، حيث كان دولة وحده في كتابة القصة القصيرة، فتسبب في إخفاء جيل الخمسينيات وجنى عليه بظله الطاغي، رغم أنه كان يضم صبري موسى وأبو المعاطي أبو النجا وسليمان فياض وغالب هلسا، ونقادهم رجاء النقاش وغالي شكري. ثم كانت حقبة الستينيات الغنية وجيلها الذي شمل كتابها العظام الذين استطاعوا بهزيمة يونيو 1967 أن يكتبوا دفاعا عن روح مصر في مواجهة الهزيمة، وكانوا الصوت الحقيقي للإجابة عما جرى في تلك الهزيمة، تواترت المدارس وتتابعت مع جيل السبعينيات والثمانينيات، حتى وصلنا للأجيال التي تكتب الآن. هي صيرورة أغنت النص المصري وأضافت للخيال صورا وإبداعات في مواجهة متغيرات حدثت في مائة عام، هذه الأجيال الآن في أزمة لأن الثقافة المصرية في أزمة، تلوح لنا كأن مشروعها غائب ولا تجد شيئا تقدمه في ظل ما يجري حولها من مسابقات وجوائز وصوت عالي عبر الإعلام، لكن في الأول والآخر المجايلة غنى لفعل الكتابة، وجدل بين مدارس تتطور وتضيف إضافة مهمة للكتابة العربية.

لا يحكم الكفراوي على الجيل من خلال الزمن وإنما بما أضافه من قيم جمالية ورؤى فنية تختلف عن الكتابة السابقة في جيل سابق، يوضح: بعد الستينيات جاء السبعينيون، الذين كتبوا في ظل قيم متغايرة، الانفتاح الاقتصادي والتقارب مع العدو وهجرة المصريين وصعود الإسلام السياسي والمتغيرات المادية التي جرت في الواقع، وبالتالي يمكن القول أن القصة القصيرة ابنة الستينيات بينما الرواية هي نتاج السبعينيات، الذي ضم إبراهيم عبد المجيد ومحمود الورداني ومحمد المخزنجي وجار النبي الحلو، وكلهم شكَّلوا وعيا جديدا في الرواية المصرية، ثم الكتابة عبر النوعية مع جيل الثمانينيات، والقصة القصيدة في التسعينيات والألفين، وقد كان لإدوار الخراط دور نقدي شديد الأهمية واكب الكتابة التي جرت بعد الستينيات مواكبة حقيقية ورصد حركة الكتابة فيها، وبغيابه غابت حركة نقد حقيقية كانت موجودة في الواقع.

جيل يناير هو الجيل الجديد.. لكن ملامحه لم تتضح بعد

يوافق إبراهيم عبد المجيد رأى الكفراوي فيما قاله بخصوص زمن القصة القصيرة والرواية، مؤكدا أن الأولى ستينية، بينما الثانية ظهرت في السبعينيات بشكل أكبر، فيقول: في السبعينيات قلبت سياسة السادات أحوال المجتمع المصري، ومازلنا ندفع ثمن ذلك حتى الآن في المجتمع العربي كله،وقد أثَّرت تلك الفترة في شيئين أدبيا، أولهما ظهور الرواية أكثر من القصة القصيرة، حتى أن كتاب الستينيات الذين كانوا يكتبون القصة القصيرة تحولوا للرواية. والثاني هو ظهور جيل في الشعر، منهم عبد المنعم رمضان وحسن طلب ومحمد سليمان وجمال قصاص، فصنعوا مدرسة مختلفة وغيروا في شكل الكتابة.

ويوضح رؤيته لكلمة «الجيل الأدبي»، والتي تتفق مع ما سبق، قائلا: لها معنيان؛ الأول تغيُّر كبير في المجتمع الذي يعيش به الكُتّاب، أو حدث كبير يغير من شكله، والثاني أن يظهر مجموعة من الأدباء متقاربين في الكتابة بشكل جديد مختلف عمن قبلهم. تلك الأمور لا تحدث كل عشر سنوات، وإنما مع الأحداث الكبري، فهناك مثلا جيل النهضة مع عصر الخديوي إسماعيل، وتمثل في البارودي وشوقي وغيرهما. ثم ثورة 1919 التي ظهر منها جيل عظيم جدا مثل طه حسين والعقاد ومحفوظ، أخذوا على عاتقهم تجديد الحياة الثقافية ودفعها إلى الأمام في أفكار جديدة جدا، واستمر ذلك حتى الأربعينيات تقريبا. أما فترة الحرب العالمية الثانية، فرغم أنها أحدثت تأثيرا كبيرا جدا في العالم كله، لكنها لم يواكبها جيل كامل في الأدب بمصر، لأن الصراع كان قائما بين فكرتي الأدب للمجتمع والأدب للحياة، فظهر في هذا الجو شخص واحد لا جيل، هو يوسف إدريس، الذي سرق الصورة من الجميع.

يضيف عبد المجيد: الستينيات كانت مرحلة تغير كبير في العالم كله ومن بينه مصر، حيث شهدت هزيمة 67 التي كشفت أشياء كثيرة، وكانت هناك ثورة الشباب في أوروبا، فظهرت كتابات جديدة. فيما بعد ذلك لم يعد يظهر جيلا كل عشر سنوات، والحقيقة ما كان ليظهر لولا ما فعلوه كُتَّاب الستينيات، الذين وضعوا سورا حولهم ليفصلهم عن بقية الكُتَّاب، ليصبح الآخرين من جيل السبعينيات مثلي ومثل عبده جبير ومحمود الورداني والمنسي قنديل، بالإضافة إلى دور النقد في ذلك أيضا، لتسهيل الدراسة ليس أكثر. بعد السبعينيات أصبح المجتمع ثابتا والأحداث فيه قليلة، فظهر جيل الثمانينات ككُتَّاب أفراد وليس مجموعة، ومثله التسعينيات، وحتى الآن، هناك مئات من كُتَّاب الرواية، لكنهم لا يشكلون جيلا، ولا يراعون أثناء الكتابة نقاط معينة يجب أن يتلاقوا فيها. وفي رأيي؛ الجيل الجديد يمكن أن يكون جيل ثورة يناير، لأن هذا هو الحدث الكبير، لكن ملامحه لم تظهر بعد بشكل كبير.

تزايد السطحية عبر الأجيال.. ووهم المعرفة

يبدو الأمر ملتبسا عند الكاتبة مني الشيمي، حيث تقول: الكُتَّاب الأكثر حداثة في السن لديهم جرأة أكبر على استخدام التقنيات المتعددة، فعندما اقرأ للشباب أشعر أنهم يصنعون تيارا آخر مختلفا عمن بدأوا في التسعينيات مثلي، لست من كُتَّاب التسعينيات، لكني بدأت في نهايتها ولا أعرف تصنيفي، فقد كانت لدينا قضايا أخري وأسلوب آخر وتقنيات مختلفة. كل مجموعة من الكُتَّاب الأحدث يشكِّلون كتابة جديدة للأقدم، وأحيانا صادمة وغير مهضومة، تبدو غرائبية وأقرب إلى الفنتازية، وتلك صفة تميِّز كُتَّاب كثيرين الآن، لا أصنِّفها سلبا أو إيجابا، لكنني أتحدث عن ظاهرة. وأظن أننا كنا كذلك بالنسبة للأجيال السابقة علينا، حيث أتذكر أن جمال الغيطاني عندما قرأ لي «لون هارب من قوس قزح» أخبرني أنه رغم انتمائنا لمدرسة واحدة، وهي الكتابة عن مصر القديمة، إلا أن كتابتي بالنسبة له حداثية، فقط لأنني كنت أستخدم التشظي وتهشيم الزمن، تلك التقنية لم يتناولها كُتَّاب الستينيات، الذين اتسموا بالكتابة الرصينة، والشبيهة بكتابات الأدباء الروس الكلاسيكية أكثر من التجريب. لكني أرى أن الأجيال السابقة علينا لديهم ثقافة أعمق، فالتجربة اليسارية التي كان أدباء جيل الستينيات يمتلكونها منحتهم ثقافة عميقة جدا، أما الأجيال الأخيرة، وهذا شيء يدينني شخصيا، لديها ثقافة الأرقام، وكلما تقدم بنا الزمن، تزداد السطحية، بسبب الميديا واللهث وراء «لقمة العيش» والبعد عن الثقافة نتيجة ضغوط الحياة اليومية، كل هذا يفقدنا قدرة الإطلاع على جميع ما يتم إنتاجه، كما أن الانترنت وثقافة جوجل، خلق لدينا وهم المعرفة، من خلال ترسيخ قناعة بالقدرة على المعرفة من خلال الضغط على زر البحث في جوجل، وهو ما يجعلنا نرجئ المعرفة إلى حينها عندما نحتاجها، تلك سمة يتميز بها جيلي قبل الجيل الذي يليني.

تقسيم مضلل لا يستفيد منه الكاتب ولا المتلقي

علي النقيض؛ تناهض الكاتبة سلوى بكر فكرة الأجيال، وتختلف تماما مع رأي الكفراوي بأنها غِني لفعل الكتابة، وإنما – من وجهة نظرها – تمثل خطورة حقيقية، فتقول: فكرة الأجيال تسطيح لفهم الأدب ووظيفته، تُحدِث احترابا وهميا في الحياة الثقافية وتخلق صراعات نحن في غِني عنها، خاصة أن مساحة الثقافة والأدب في حياة الناس ليست واسعة، وهذا يمكن أن يضلل القارئ ويدخله في غياهب معارك وهمية تزيِّف وعيه.

وتستطرد: الجيل وفقا لما هو سائد يفترض أن يكون فيه قاسم مشترك أدنى من طرائق وآليات الكتابة بين من يكتبون في هذه الفترة الزمنية، وهذا غير صحيح، لا يمكن أن يوجد طالما أن الإبداع هو إنشاء على غير مثال، فكيف أُنشِيء على غير مثال وفي نفس الوقت أشابه ما أنتِجُه إبداعيا بما ينتجه الآخر في ذات الفترة الزمنية. هذا التقسيم الزمني مضلل وخاطئ ولا يستفيد منه الكاتب ولا المتلقي الذي يتعامل مع الإبداع. وفي فترة الستينيات تحديدا والتي تم ابتكار مفهوم الجيل فيها، كانت كل أمراض السياسة منعكسة على الحياة الثقافية، فأبرزت جملة من المفاهيم منها هذا المصطلح الذي أصبح «جيل الستينيات». لكن الإبداع هو كيفية قول الأشياء، وكل مبدع له طريقته وأسلوبه وآلياته وعوالمه، لا يتشابهون، فكيف أضع الجميع في سلة واحدة. وإن استغرقنا في مسألة التشابه، فاليوم هناك كتابة تشابه بالفعل كتابات كُتِبت منذ خمسين عاما، مثل أحلام مستغانمي، التي تعيد، في رأيي، إنتاج ما أنتجته غادة السمان قبلها بأربعين عاما، في الطرائق وأساليب الكتابة وطبيعة السرد الروائي.

فلنهتم بالقضايا الكبرى في الأدب بدلا من الجدل حول تفريعات

تتفق معها الكاتبة أمينة زيدان، مؤكدة أن تلك المسألة سببت لها لبسا في فترة ما، فتقول: في تجربتي الشخصية تم وضعي في ثلاثة أجيال، الثمانينيات والتسعينيات والألفين، لأنه لا توجد معايير ثابتة لتطبيق الفكرة. المفترض أن فكرة الجيل الكبرى التي عرفناها، أن جيلا يسلِّم جيلا. فماذا عندما يتواجد ثلاثة أجيال يكتبون في نفس الوقت ويصدرون أعمالا كلها مستمدة من الواقع الزمني الذي يعيشونه؟ هل أحكم على التجربة باعتبار أن تلك وجهة نظر شخص خمسيني، وهذه لأربعيني، والأخير ثلاثيني. كل تلك التقسيمات مضرة وغير مفيدة على الإطلاق، وهذا ما جعلني أبعد تماما وسبّب فجوة بين شقي سؤال بسيط جدا، هل المكتوب أدب أم لا أدب؟ لم نعد نسأل عن ذلك، وإنما أصبحنا نتحدث في تفريعات تضر ولا تفيد، التجربة الإبداعية تراكمية، وأنا في سني المتقدم يمكن أن أستفيد من شخص أصغر مني بمراحل، لأن الشباب هم الوهج والإدهاش. يكفي تقسيمات بلا جدوى وبلا معنى أو إضافة، وتزيد المشهد الإبداعي إرباكا. فلنهتم بالقضايا الكبرى في الأدب وننتج معايير جديدة نقيِّم بها الأدب بناء على الواقع الكارثي الذي نعيشه في المنطقة عموما، بدلا من الدخول في إشكاليات عبثية، مثل فكرة الأدب النسوي والأطفال وغيرها، أصبحت المسألة تقسِّم المجتمع لشرائح مثل فكرة اللجان التي تنبثق منها لجان، التي تتبعها الدول الفاشلة.

للظاهرة معايير أخري

خارج القطر العربي؛ يتباين الأمر بوضوح. ففي حين يتجلى المسمى حرفيا بروسيا وإسبانيا، نجده شبه مختف في الصين. بينما في فرنسا وإسبانيا تتحكم فيه عوامل أخرى مثل تيارات الكتابة والأحداث التي يفرضها التاريخ. فيما يلي يوّضح لنا أساتذة اللغات الظاهرة ومعاييرها، من واقع خبرتهم، واطلاع كل منهم على أدب اللغة المتخصص فيها.

هدى جعفر : اليمن .. لكل جيل مزاجه السردي

يُعد الجانب الاجتماعي/السياسي هو المجال الأهم والأبرز الذي تشتغل عليه الرواية اليمنية، ونظرًا لطبيعة المجتمع اليمني وبناه السياسية والاجتماعية والمذهبية شديدة التعقيد فإنّ ذلك انعكس على الرواية اليمنية وجعل السمات الجامعة الأهم بين الروائيين والروائيات هي محاولة الخروج من هذا الكيان القبلي والكتابة من خلاله، والإفلات به (وليس منه) لصنع عوالم روائية موازية ومحاولة لتفكيك النظم الاجتماعية التي تحكم اليمن منذ سنوات عدة.

ما يربط أجيال الروائيين والروائيات اليمنيين هو إعادة صياغة أشكال العلاقات الاجتماعية والسياسية في اليمن، فقد كان هناك قديمًا روايات عن الهجرة وقصص المدينة والريف ثم أصبحت مواضيع هموم المواطنة والمساواة والحرية هي النقطة الأبرز في الرواية اليمنية أي بعد الثورة اليمنية وزوال الحكم الإمامي، وتلا ذلك ظهور موجة روائية للحديث عن النساء وحقوقهن وعوالمهنّ على لسان الروائيات أو الروائيين الرجال وكذلك الحديث عن الفئات المهمشة وهم الواقعون في أسفل السلم الاجتماعي اليمني وهم ما يُعرف بفئة «الأخدام» وعن الاضطهاد والعنف المركب الذي يتعرضون له في اليمن.

إن السياسة تنعكس بفجاجة على الأجيال الروائية اليمنية، وتلون مجالاتها ومواضيعها بألوانها المختلفة ولكل جيل يمني مزاجه السردي الذي يحكي عن آماله وطموحاته.

جدير بالذكر أن أول رواية يمنية حسب المفهوم الأوروبي الحديث للأدب كانت رواية «فتاة قاروت» الصادرة في 1927 للأديب اليمني أحمد السقاف.

د.علي منوفي : أسبانيا.. الجيل أو «الدفعة»

يقول خوسيه أورتيجا إي جاست، الفيلسوف الإسباني: «واقع الحياة ليس ذلك الذي يراه آخر من الخارج، بل هو ذلك الذي يعيشه ويكابده من الداخل وهو يحياه، ومن هنا فإن معرفة حياة أخرى ليست حياتنا تدفعنا إلى أن ننظر إليها لا من المكان الذي نتموقع فيه ولكن من داخلها، أي من الذات الذي يحياها».

بهذه العبارة بدأ أورتيجا تأملاته حول نظرية الأجيال في إسبانيا. غير أنه لم يكن هو المنظر الأول في العالم لها، بل سبقه كثيرون منهم كانط وجون ستيوارت ميل وجوستين دورميل وأنطوان كورنت وويليام دلتي. وضع لتأملاته الضوابط المتعلقة بالأجيال من حيث المرحلة العمرية والتقارب في المشارب الأدبية والأحداث السياسية والاجتماعية.

إذا ما تأملنا المشهد الأدبي والفني في إسبانيا ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن لوجدنا أجيالا عديدة ووجدنا أيضا تعايش جيلين في فترة زمنية واحدة، ولوجدنا كذلك الربط بين الجيل وبين الأحداث السياسية الكبري أو الطموحات القومية والأدبية.. وعندما تكون هناك بعض الصعوبات في الالتزام بمصطلح الجيل الأدبي، يجري استخدام مصطلح آخر مثل «الدفعة» أو الاتجاه.

وحتى نكون أكثر تحديدا نشير إلى مايلي في النقد الإسباني: جيل 1898، أي التاريخ الذي فقدت فيه إسبانيا آخر مستعمراتها في ما وراء البحار، وكان ذلك نكسة كبرى دفعت الأسبان إلى التساؤل حول الأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار وشمل ذلك الإبداع الأدبي ودراسات تتعلق بالهوية الإسبانية، ومنها أسبنة أوربا أو أوربة إسبانيا. وبعد ذلك بإثنتى عشرة سنة ظهر جيل/ دفعة أطلق عليه «جيل بداية القرن» والذي إليه يُنسَب أورتيجا إي جاسيت. كانت مهمة هذا الجيل التوصل إلى قول الفصل لحل أزمة إسبانيا الثقافية والسياسية، فكان النصر حليف أوربة إسبانيا أي انخراطها في محيطها الأوروبي. كانت ثمرة هذا الجهد الفكري الفلسفي ظهور الجيل الشهير، جيل السابع والعشرين، أي الجيل الذي يُنسَب إليه كل من لوركا وبيثنتي ألكساندري وخورخي جيين...(المدارس الطليعية والفن السريالي).

من الملاحظ أيضا أن جيلا واحدا لا يسير على الاتجاه الذي بدأه دائما، وهذا ينطبق على كافة الاجيال، إذ يتأثر السابق باللاحق أحيانا حتى لا يفوته الركب، أو أن يغير الجيل من مساره الإبداعي حسب المعطيات الجديدة مثلما حدث مع لوركا وديوانه «شاعر في نيويورك» ومع ألبرتي وتأسيسه عام 1930 لمجلة «أكتوبر» تيمنا بالتوجهات الشيوعية التي اجتاحت أوروبا خلال الفترة نفسها (شعر الالتزام مثلا).

هناك عناصر أخرى تسهم في إحداث تغيرات في المسار، وهو الاحتفال بمئوية أديب بارز، ومن ذلك الاحتفال بمئوية الشاعر الإسباني جارثيلاسو دي لابيجا في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وعودة الرومانسية ولو على استحياء.

ثم تأتي الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) وما ترتب عليها من محاولات لوضع دفة قيادة أدبية تعضد النظام الجديد، لكنها لم تدم طويلا.. وأطلق على الفترة التي حكم فيها الجنرال الراحل فرانكو (1939 - 1975)، «فترة ما بعد الحرب»، حيث ظهرت أجيال واتجاهات ومسميات منها: «جيل الخمسينيات»، أو «دفعة الخمسينيات» والشعر الاجتماعي.. و«جيل السبعينيات» والواقعية الجديدة والواقعية الاجتماعية.

د.علا عادل: ألمانيا.. اتجاهات داخل الأجيال

يوجد في الأدب الألماني تقسيم أجيال، لكن ليس كل عشر سنوات أو زمنيا، وإنما بشكل أكبر، فألمانيا تاريخها دائما مقسم لمواضيع سياسية، سنجد جيلا كان منشغلا بالحرب، وجيل ما بعد الحرب، وجيل الانقسام، جيل ما بعد التوحيد، فالأجيال هناك مرتبطة بشكل أكبر بحدث يكتبون جميعا عنه.

الآن بدأت تظهر الاتجاهات داخل الأجيال، فقد ظهر مؤخرا جيل صغير جدا، أعمارهم في أوائل العشرينيات، أحدثوا طفرة مثيرة للدهشة ونالوا العديد من الجوائز، الغريب في الأمر أن أساليبهم متشابهة إلى حد كبير، وحينما أُجرِيَت عليهم دراسات اكتشفوا أن أغلبهم يحضرون ورش كتابة، لذا تتكرر الجمل فيما بينهم. كما أنهم لا يكتبون فقط عن أشياء آنية، وإنما عن أشياء قديمة، حيث تغلب على أعمالهم «العودة إلى قصص الأسر» التي تتمحور حول عائلة من جد وجدة وأب وأم ثم جيل أصغر، فمعظمهم يكتبون عن امتداد عائلتهم من الزمن القديم حتى العصر الحالي.

د.أنور مغيث : فرنسا.. تيارات أدبية

في فرنسا لا نسمع عن تقسيم زمني، وإنما عن تيارات، مثل «الرواية الجديدة» وتُحسَب من 1945 إلى 1965، وجماعة «أوليبو» أو الأدب التجريبي في الستينيات، تيار ما بعد الحداثة، لكنها تسمية متأخرة لزمن بودلير وأواخر القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى «أدب ما بين الحربين» الذي يبدأ من 1918 وحتى 1939، وكتب فيه أندريه جيد وفرنسوا مورياك، سبقهم جيل كامل من الأدباء يضم أعلاما كباراً مثل بلزاك ومارسيل بروست وغيرهما، وتلاهم الأدب الجديد الذي ظهر مع ناتالي ساروت وألبير كامو وجون بول سارتر.

روايات الجيل الجديد أغلبها تتسم بالجرأة ويغلب فيها الطبع النسائي ومتأثرة كثيرا بالرواية الجديدة، لكنها عادت تتضمن أحداثا، لأن تيار «الرواية الجديدة» كان يحكي دون أحداث، شخصيات فقط، بينما هم احتفظوا بأسلوب الرواية الجديدة وطريقتها في السرد، مع تضمين أحداث فيها، كما كانت من قبل. لكن لتحديد جيل لابد أن تتوافر فيه مجموعة من الخصائص تميزه عما سبقه، وهذا لم يتضح بعد.

د.أنور إبراهيم: روسيا.. الذهبي والفضي والبيروسترويكا

فكرة الجيل مرتبطة بمدى انفتاح أو انغلاق السلطة الحاكمة، وظروف المجتمع.

كانت قمة ازدهار الأدب الروسي، في العالم، في العصر الذي بدأه بوشكين، حيث كان ظاهرة، وتلاه عدد من الكتاب الكلاسيكيين المعروفين في العالم كله مثل جوجول ودستويفسكي وغيرهما، تمت تسميتهم بالجيل الذهبي، الذي انتهي عند تولستوي وتشيخوف في مطلع القرن العشرين، لكن داخل الظاهرة نفسها تجلت فترات مهمة مثل ستينيات القرن التاسع عشر، وهي تشبه مثيلتها في القرن العشرين بمصر إن صحت المقارنة.

بعدهم في 1910 تقريبا، بدأ جيل مخضرم في الظهور، ممن تعلموا من الأجيال القديمة ويعيشون في مطلع القرن العشرين، وعندما اندلعت ثورة 1917 احتفوا بها، فظهر عدد من المدارس والتيارات الأدبية مثل الطليعية والمستقبلية والذروية، كان فيهم أكثر أدباء روسيا موهبة، وسُمِّي بالجيل الفضي. فكلمة «الجيل» موجودة في الأدب الروسي حرفيا، ويكون مرتبطا بحدث مع ظهور اتجاهات جديدة في الكتابة.

تعرض الجيل الفضي للملاحقة والاضطهاد من جانب النظام السوفييتي، مع توقف عدد منهم عن الكتابة واختلافه مع الثورة مثل ماياكوفسكي، بسبب أدلجة الأدب، حيث بدأ في العشرينيات والثلاثينيات عصر الرعب الأكبر مع ستالين، الذي فرض شكل في الكتابة. ما حافظ على التوازن هو اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث فرضت أن تكون الأولوية للوطن والدفاع عنه وقيم التضحية والشجاعة، فظهر ما يسمى بأدب الحرب. استمر ذلك حتى بعد وفاة ستالين عام 1964، فجاء خوروشوف وألقى خطابا في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، كاشفا جرائم ستالين وكانت تلك نقطة تحول «فترة ذوبان الجليد»، حيث بدأت تتراخى قبضة الدولة عن الكتابة المختلفة. بعدها جاءت مرحلة الركود، وشهدت بعض الحرية في الكتابة. إلى أن وصلنا لجورباتشوف ومرحلة «البيروسترويكا» أو «إعادة البناء»، مع بدايات انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال القبضة الحديدية عن الأدب نهائي، وعادت الأعمال الممنوعة للظهور مرة أخرى وعودة كتابات المهجر، وبدأ عصر «ما بعد البيروسترويكا» الذي نعيشه الآن.

د.محسن فرجاني : الصين.. المسمى غير واضح بقوة

تاريخ الأدب الصيني الحديث بشكل عام، يترافق في مسيرته مع الأحداث السياسية، ومعظم التقسيمات كذلك أيضا، بدليل أن آخر مرحلة في الأدب الصيني الحديث هي مرحلة «الفترة الجديدة»، وتلك تسمية سياسية، تعود إلى الثمانينيات وبداية فترة الانفتاح، وفيها «مو يان» و«يو هوا» وغيرهما، لكن لا يمكن تسميتهم بالجيل، وإنما هي مرحلة لها خصائصها.

أيضا مرحلة «نادي الأدب الجديدة» التي استمرت من 1919 وحتى الأربعينيات، كانت أكثر من عشر سنوات، وكانت تلك الفترة التي بدأت الصين فيها تحديث روحها وأشكالها الأدبية والثقافية، وكان واضحا أن التحديث فيها باستلهام نماذج الإبداع الموجودة في أوروبا وروسيا، فظهر الأدب اليساري، ولم تكن فكرة الحقبة أو الجيل بارزة بوضوح. وقد توقع زعماء حركة الثقافة الجديدة يوما ما أن أحد أحفادهم سيحصل على جائزة نوبل، وهذا ما حدث مع مو يان، الذي ظهر بعد الانفتاح، وبهذا يمكن أن نعتبره بشكل أو بآخر صدى للثورة الثقافية الأولى، لذا لا يمكن اعتباره جيلا جديدا، وإنما امتداد لتيار 1919.

في حدود معلوماتي كقارئ للأدب الصيني، لم ألاحظ مسمى «الجيل» ضمن مظاهر تطوره، بالوضوح الذي عليه في مصر، إلا مرة واحدة حسبما أتذكر، فالعشر سنوات الوحيدة في تاريخ الصين هي فترة الثورة الثقافية من 1966 إلى 1976، ولم تكن مرحلة أدبية وإنما سياسية بالدرجة الأولى يطلق عليها المؤرخون جيل «العشر سنوات»، وهي ليست تسمية أدبية بل يقصد بها المجتمع ككل.

علما بأن العشر سنوات تستخدم لملاحقة التغيرات التي تتم، باعتبارها تتضمن قفزة في الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية أو الإبداعية، تؤدي إلى تغيير. أظن أن العشر سنوات أو الحقبة، ربما كانت تناسب نهايات القرن العشرين، أما ما يحدث في العالم والتطورات الموجودة الآن فلم يعد مناسبا لها تسمية حقبة، لأن ثورة المعلومات والاتصالات جعلت التراكم الذي من شأنه إحداث قفزة من مرحلة لأخرى يستغرق أقل من عشر سنوات.

Comments