أعوام فاصلة في مشوار الحياة



منذ 28 عاما كنتُ مجرد فكرة في عقل أبي، أمنية يبوح بها لأمي، ما لبثت سوى شهور قليلة لتتحول إلى حقيقة وأمر واقع. أنظر اليوم لتلك السنوات فأجد أنها كل ما أملك من العمر على وجه هذه الأرض، إلا أنها في حياة البعض كانت مجرد مرحلة من تاريخهم الطويل، قد تكون مؤثرة، بل وفاصلة أحيانا، لكنها تظل جزءا من العمر، أعوام شاءت الأقدار أن تُبرزها، بعد أن تأهلت مصر لأهم بطولة في العالم تخص اللعبة الرياضية الأكثر الشعبية فيها، وهي كرة القدم، بعد انقطاع 28 عاما، إلا أن هذا الانقطاع تزامن معه تواصل واستمرارية في الحياة، نخص منها اليوم حياة بعض مثقفينا، الذين ذهبنا إليهم لنستوضح ما شهدوه على مدار تلك السنوات، ولنعرف أين كانوا عام 1990، وأين أصبحوا في 2018.

محمد سلماوي: تُوِّجَت تلك الفترة بعضويتي في لجنة الدستور

الأعوام القليلة التي سبقت 1990، شهدت أحداثًا مؤثرة في حياتي، منها أنني استقلت من منصبي كوكيل بوزارة الثقافة للعلاقات الخارجية عام 1989، وعُدت لعملي في الديسك المركزي بالأهرام، وكان شعوري حينها أن الوزارة أخذت الكثير جدًا من وقت الإبداع، رغم أن الأستاذ نجيب محفوظ حذّرني من ذلك منذ صدور قرار تعييني في الوزارة وقال لي «لكن لا تترك الكتابة»، فتعجبت من المقولة في ذلك الوقت، وأخبرته أنه لا يوجد ما يمنع من كوني وكيلًا للوزارة وكاتبًا في الوقت ذاته، فأخبرني أن الأمر ليس بتلك السهولة، ونصحني بالحذر لأن الفترة التي قضاها هو كموظف حكومي في الرقابة على المصنفات الفنية لم يكتب فيها أبدًا. الحقيقة أنني اكتشفت بعد ذلك صحة هذه المقولة وصدق هذا التحذير، لأن المسألة ليست مسألة وقت، وإنما العمل التنفيذي بشكل عام، عندما يؤديه الشخص بكامل المسئولية المطلوبة منه، يكون تفكيره واهتماماته ورؤيته للحياة مبرمجين بشكل مختلف تماما عنه لو كان متفرغًا للكتابة والتأمل والإبداع.

رغم ذلك أعتقد أنني حققت الكثير في تحديث قطاع العلاقات الثقافية الخارجية، الذي توليت مسئوليته ولم يكن به خط دولي للاتصال بالعالم الخارجي أو شخص يمكنه كتابة خطاب باللغة الإنجليزية، كانوا يكتبون بالعربية ثم يرسلون الخطابات لتُترجَم في الجامعة الأمريكية، فكنت أضطر أن أكتب الخطابات بنفسي سواء الإنجليزية أو الفرنسية، غيّرت كل ذلك وحدّثت القطاع، وأسّست مهرجان المسرح التجريبي الذي كنت أول أمين عام له، وأشرفت على الموسم الافتتاحي للأوبرا في بدايتها، ومن خلال علاقاتي الثقافية الخارجية استطعت استجلاب أكبر الفرق الأجنبية، وللإنصاف؛ ماجدة صالح المشرفة على الأوبرا قبل ذلك، عقدت اتفاقات كثيرة مع الفرق الأجنبية، فذلك كان موجودًا لم أصنعه وحدي، لكن بعد ذهابها استخدمت العلاقات الثقافية واتفاقيات التعاون مع الدول الأجنبية لاستكمل الموسم الافتتاحي للأوبرا.

عندما حل عام 1990 كنت قد استقلت، فشعرت بدفعة قوية جدًا لتعويض الفترة التي قضيتها في الوزارة لمدة عام ونصف دون أن أكتب، وألحت على رواية عن الصراع العربي الإسرائيلي من بدايته عام 1948 حتى اتفاقية كامب ديفيد، فكتبت رواية «الخرز الملون» التي تلخِّص قصة الصراع من خلال قصة حياة بطلتها نسرين حوري، المستوحاة من قصة حياة زميلة عرفتها في الأهرام وكانت قريبة جدا مني، هي المرحومة جاكلين خوري ابنة رشيد خوري رئيس بلدية حيفا، التي عاشت في مصر وكانت من أشهر المحررات الصحفيات في ذلك الوقت، وانتهت حياتها بشكل مأساوي مع توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد. كنت دائما أرى أنها تجسد القضية الفلسطينية، بجمالها وطمع الناس فيها، فكتبت تلك الرواية ونُشِرت سنة 1991 في عدد الجمعة بالأهرام، مسلسلة على خمسة فصول، في قالب جديد يتضمن خمسة أيام فاصلة في حياة جاكلين وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وأسميتها بعنوان فرعي «خمسة أيام في حياة نسرين حوري»، كل فصل يمثل مرحلة مهمة على المستويين الشخصي والقومي، ومن خلال الخمسة أيام استعرضت تاريخ أكثر من نصف قرن من الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك استدعى أن ألجأ إلى استخدام أساليب جديدة في التقديم والتأخير في السرد، مستخدمًا «الفلاش باك» و «الفلاش فوروورد»، لأن هناك أحداثا كانت ستقع في المستقبل ولكن موضوعها يتصل بموضوع اليوم الذي أتناوله، لذا تضمنت لعبا بالزمن، ووصفها بعض النقاد بأنها مسرحية في خمسة فصول.

بعد ذلك وخلال ال 28 عاما وقعت أحداث كثيرة جدًا، حيث عدت للصحافة وخلال عملي شاركت في تأسيس «الأهرام ويكلي» باللغة الإنجليزية وكنت أول مدير تحرير له، ثم قمت بتأسيس «الأهرام إبدو» ورأست تحريره لمدة 16 عاما، حتى تركت المنصب عندما وصلت للسن القانونية بقرار رآه البعض غير مسبوق، لأن لا أحد يترك منصبه إلا بعدما ينهي مجلس الشورى عمله، لكني لم ألتزم بالمجلس، بل التزمت بالقانون، فأرسلت للأهرام لأعلمهم بأنني سأترك موقعي كرئيس تحرير لوصولي إلى السن القانونية.

خلال هذه السنوات أيضًا تعرضت للإقصاء من الأهرام مع وصول الإخوان للحكم في 2012، وبعدها عُدت مرة أخرى، وسعيد أنني حاليًا كاتب في الأهرام، بيتي الذي أمضيت فيه أكثر من 45 عاما منذ 1970.

شهدت الأعوام الثمانية والعشرون كذلك عملي النقابي من خلال اتحاد الكُتّاب العرب الذي نجحت في إعادته إلي مصر لأول مرة بعد سنوات طويلة من المقاطعة بسبب كامب ديفيد وغير ذلك، واتحاد كتاب مصر الذي رأسته لمدة عشر سنوات وكنت في كل الانتخابات أشرُف بحصولي على أعلي الأصوات بين كل المرشحين، وتركته بعدما أمضيت الفترة التي حددتها لنفسي، رغم أن مدتي القانونية لم تكن انتهت بعد، لكني أعلنت من البداية أنني لن أجدد ترشيحي سوى لعشر سنوات.

مررت مع الاتحاد بأحداث كثيرة جدًا، أهمها استقالتي أنا ومجلس الإدارة بعد الثورة، التي كنت قريبا منها على المستوى الشخصي، وأعتز أن روايتي «أجنحة الفراشة» تنبأت بقيامها حين صدرت في نهاية 2010، وهي الرواية التي ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، والرومانية مؤخرًا، كما صدرت أيضا باللغة الأُردية في الهند. كانت الاستقالة تأكيدًا على احترامنا لتلك الثورة وضرورة منح الحق للناخبين في الاتحاد أن يعيدوا النظر في المجلس الموجود، إما بتجديد الثقة أو انتخاب أعضاء آخرين، فنظمنا انتخابات جديدة في 2012 وحُزت أيضا على أعلي الأصوات وجددوا الثقة فيَّ فعملت حتى عام 2015 عندما قدمت استقالتي للمجلس. كما كان الاتحاد أول نقابة في مصر تؤيد الثورة يوم 27 يناير، بعد أن اجتمع مجلس الإدارة وتبنى مطالبها، ثم حين قفز الإخوان إلى الحكم كان الاتحاد النقابة الوحيدة التي عقدت جمعية عمومية طارئة لإعلان سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وكانت تلك المرة الوحيدة في تاريخ مصر، التي يسحب فيها أعضاء نقابة الثقة من رئيس جمهورية وهو في السلطة، في 21 يونيو، وبعدها بحوالي تسعة أيام قامت الثورة وسحب الشعب المصري كله الثقة من مرسي.

أما تتويج هذه الفترة كلها فكان عضويتي في لجنة الدستور وما ساهمت به في هذه اللجنة التي كنت المتحدث الرسمي باسمها من مواد متعلقة بالثقافة؛ فلأول مرة في تاريخ الدساتير المصرية يكون هناك فصلا مستقلا عن المقومات الثقافية أسوة بالمقومات السياسية والاقتصادية، ومن خلاله نصينا لأول مرة على أن الثقافة حق أصيل للفرد وأن واجب الحكومة أن تكفل وصول الخدمة الثقافية لكل مواطن بصرف النظر عن موقعه الجغرافي أو قدرته المالية، وتحدثنا عن العدالة الثقافية، ولأول مرة أيضا وضعنا في الدستور أنه لا يجوز فرض عقوبة سجن في أي قضايا متعلقة بالنشر سواء الأدبي والصحفي أو الفني والسينمائي.

في بداية 2018 أصدرت الجزء الأول من مذكراتي، الذي تضمن الفترة من ميلادي عام 1945 حتى مقتل السادات عام 1981، ومن خلاله رسمت بانوراما سياسية واجتماعية لمصر في هذه الفترة من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 مرورا بالعهد الملكي ثم الفترة الناصرية ثم عصر السادات وانتهاء باغتياله، وحاليا فيما تبقى من عام 2018 أعكف على كتابة الجزء الثاني من بعد 1981 وحتى كتابة الدستور.

عز الدين نجيب: الإبداع يغلب الإحباط والحصار

قبل فترة التسعينيات صدرت المجموعة القصصية الثانية لي بعنوان «أغنية الدمية»، وقبلها قليلًا صدر كتابي «الصامتون.. تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري»، و«فجر التصوير المصري الحديث» الذي حصلت عنه على جائزة المجلس الأعلى للثقافة في النقد، أي كان هناك تحقق بشكل ما، وصل في أوائل التسعينيات إلى تنظيمي لأكبر معرض عن رحلتي إلى سيوة التي قمت بها عام 1988، وكان بمثابة علامة فارقة في مسار حياتي، توالت بعده المعارض، فأقمت في التسعينيات حوالي 8 معارض فنية جديدة، لكنني توقفت عن النشر في الأدب.

خلال تلك الفترة كنت أقود حركة تطوير أتيليه القاهرة للفنانين والكُتّاب التي انتهت عام 1995 بانتخابي كرئيس لمجلس الإدارة، وبالتزامن مع ذلك إنشاء الجمعية المصرية لأصدقاء المتاحف ثم تولى رئاسة الجمعية الأهلية للفنون الجميلة. هذا يوضح أنه بالرغم من الركود السياسي إلا أنه كان هناك حماس لدى المثقفين للمشاركة في عمل مشترك ومواجهة الظروف، نتج عنه زخم قوي في الحياة الثقافية، فالرؤية في التسعينيات كانت أكثر وضوحا والإنجاز يتم بدون ارتباك أو اضطراب، سواء على المستوى الرسمي أو مستوى الإبداع أو حتى على مستوى الجماهير.

الجديد في هذه الفترة أيضا بدءا من عام 1992، هو تكليفي بمسئولية مدير عام مراكز الحرف التقليدية، حيث بدأ تكثيف الاهتمام على المستوى الرسمي بإحياء تراث الحرف اليدوية التقليدية لستة مراكز فنية موزعة في القاهرة، مركزها الرئيسي في وكالة الغوري، هذا بالطبع غيّر مساري بعض الشيء، لأنها كانت مرحلة تأسيس شيء من العدم لم يكن موجودا، وكان لابد من تركيز الاهتمام، فقّل إلى حد ما نشاطي في الكتابة والرسم، وإن لم يتوقف، حيث صدر لي بعض الكتب وأقمت عدة معارض.

الاهتمام بالحرف التقليدية لم يكن يكفي أن يتم فقط من خلال الوظيفة التابعة لوزارة الثقافة، وإنما كان لابد أن تكون اليد الأخرى من خلال عمل أهلي، ومن هنا تم تأسيس جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة، وانتُخِبت رئيسًا لها، واستمر ذلك طوال هذه السنين إلى 2017.

في الألفية الثالثة جاءت فترة انحسار وجزر، فمن ناحية زادت القبضة الأمنية، ومن جانب آخر حالة إحساس باللا جدوى منبعثة من الداخل، وأصبح المثقفون يميلون إلى العزلة وعدم الإيمان بالعمل العام كما كان الوضع قبل ذلك. هذا الوضع تفجر بعد 25 يناير وعاد الحماس مرة أخري، لكن سرعان ما هبط إثر اختطاف الثورة من الإخوان وهذا أعادنا لنقطة الصفر وحالة من الإحباط الشديد، ثم توالت الأحداث، لكن إنتاجي لم يتوقف خلال هذه السنوات، ففي 2011 توليت رئاسة سلسلة آفاق الفن التشكيلي من الهيئة العامة لقصور الثقافة، وصدر فيها من خلالي حوالي عشرة أجزاء، كما صدرت الطبعة الثانية من كتابي «الصامتون» عن هيئة قصور الثقافة، وصدر عن هيئة الكتاب «الثقافة والثورة» وكتاب عن الفنان عبد الهادي الوشاحي، ثم منذ عامين كتاب عن الفنان جميل شفيق، وآخر كتاب نشرته في نقد الفنون التشكيلية عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان «تحولات الفن عند مفصل القرنين».

شهدت هذه الفترة كذلك أول تفكير في كتابة الرواية، وبعض الاهتمام بالعودة إلى كتابة القصة القصيرة، فبدأت من المخطط الأول للرواية وكتبتها بالفعل 2016 وانتهيت من المجموعة القصصية الرابعة بعنوان «نقطة صغيرة قرب السماء» في نهاية نفس العام، وفي 2017 صدر الكتابان.

كل تلك كانت مبادرات نابعة من الذات لمقاومة ومواجهة الظروف، آخرها عندما تعطلت سلسلة آفاق الفن التشكيلي في هيئة قصور الثقافة، أسست سلسلة جديدة من هيئة الكتاب بعنوان «ذاكرة الفن»، وبعد نجاحها وتطورها على مدى عدة سنوات رأت الهيئة أن توسع من دائرة اهتمامها من الفن التشكيلي فقط إلى أن تضم السينما والمسرح وبعض الفنون التي يدخل الفن التشكيلي عنصرا فيها.

الخلاصة أن العامل الذاتي بالنسبة لي شخصيا أقوى من العامل الموضوعي، بمعنى أن طاقة التغيير والدافع للإبداع هو الذي يتغلب أكثر من غيره على عوامل الإحباط والتضييق والحصار.

محمد سليمان: الأحلام العظمى انهارت

كل الأحداث الكبرى في حياتي، أسريًا وأدبيًا، تمت في هذه الحقبة الزمنية، حيث بدأ النشر الحقيقي لأعمالي في نهاية عام 1990 بصدور ديواني «سليمان الملك» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذي يعتبر الديوان الأول لي، حيث لم يتاح لي النشر قبل ذلك، ففي مصر كانت مشكلة النشر تواجه جيل السبعينيات بشكل عام. وفي نفس الوقت اُختِرت عام 1992 عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وفُزت بجائزة كفافيس عام 1995، وسافرت إلى الولايات المتحدة للمشاركة في المؤتمر الدولي للكتابة في نفس العام، وإلى هولندا ثم إلى المغرب، وصدرت لي مسرحيتان شعريتان في الهيئة العامة للكتاب، بالإضافة إلى الدواوين.

بعد فوزي بجائزة كفافيس تُرجمت لي أعمال كثيرة ونُشرت لي مختارات في أمريكا 1996، ونُشِر ديواني «سليمان الملك» باللغتين الإنجليزية والعربية ترجمة د.فريال غازول، الأستاذة بالجامعة الأمريكية، ومع تراكم النشر صار هناك أيضًا تراكم نقدي، فتناول دواويني مجموعة كبيرة من النقاد كان في مقدمتهم نقاد من الجيل القديم مثل د.عز الدين إسماعيل ثم د.صلاح فضل ود.جابر عصفور ود.محمد عبد المطلب ود.غالي شكري، والجيل الأوسط د.شاكر عبد الحميد ود.مجدي توفيق وغيرهما، إلى الأجيال الشابة التي نعوّل عليها وعلى قدراتها النقدية، وحتى الشعراء كتبوا عن دواويني وتجربتي مثل الأبنودي وأحمد عبد المعطي حجازي وفاروق شوشة وغيرهم.

في سنة 2012 نُشِر ديواني الثاني عشر «كالرسل أتوا». وفي عامي 2015 و2016 صدرت الأعمال الكاملة متضمنة 12 ديوانًا في ثلاثة أجزاء، كل جزء يضم أربعة دواوين.

على الصعيد الشخصي؛ تخّرج أولادي من الجامعة وحصلوا جميعهم على درجة الماجستير، فابني حصل عليها من لندن ويعمل الآن في وحدة الاقتصاد بمركز الدراسات في الأهرام، والابنة الكبرى حصلت على الماجستير في الإعلام وتعمل في ألمانيا، أما الصغرى فحصلت على الماجستير في الطب وهي معيدة بجامعة عين شمس قسم مخ وأعصاب.

على مدار تلك السنوات؛ توّلد إحساس بأن كل الأحلام التي عشتها أنا وجيلي حينما كنت طالب في الستينيات ثم في السبعينيات انهارت، فلم نتخيل يوما أن المنطقة العربية يمكن أن تصل لما وصلت إليه، أن نرى هذا الدمار والخراب والاقتتال العبثي، وتخريب المنطقة على يد أبنائها وعلى يد الغرباء في نفس الوقت، ما نراه الآن لم نره حتى في الكوابيس، فأنا من جيل عاش في المرحلة الناصرية التي كان الحلم العربي مهيمنًا عليها، لدرجة أن أول مظاهرة شاركت فيها كانت في منتصف الستينيات وأنا قادم من قريتي ضد الحبيب بورقيبة رئيس تونس في ذلك الوقت عندما تحدث عن صلح مع إسرائيل وإنهاء حالة الحرب، فخرجنا وكنت على رأس المظاهرة، ولم أكن قد بلغت العشرين من عمري بعد.

كل تلك الأحلام توارت وانهارت، نحن نعيش الآن في قفص محاط بالنار من كل الجهات، الأحلام العظمى والكبرى كلها انتهت. ففي مقابل تطور حياتي وتحقيق جزء من أحلامي، انهار الحلم العام وتراجع، حتى أصبحنا نعيش مرحلة صعبة للغاية في المنطقة العربية كلها ولا نعلم متى ستنتهي أو كيف، خاصة أنها منطقة ضعيفة اقتصاديا، باستثناء البترول في بعض دول الخليج.

د.أبو الفضل بدران: الناس أنفاس الديار

بون لينيه اشتراسه (12/6/1990)

في البيت المخصص لطلاب الماجستير والدكتوراه ببون ويقع في شارع لينيه ويطل على أجمل حديقة في بون وهي حديقة «هوف كارتن» التي تطل من الناحية الأخرى على نهر الراين، ومن الناحية الثالثة المباني العتيقة بجامعة بون حيث أدرس الدكتوراه آنذاك، وأما الناحية الرابعة فكانت لمبان حكومية حديثة. في هذا المبنى ذي الطراز المعماري الفريد نزلت قبل عامين، كان معظم الطلبة والطالبات من ولايات ألمانية خارج ولاية شمال الراين حيث تتبع مدينة بون، وبينما أهمُّ بالخروج من المبنى صباحا بادرتني زميلتي ريجينا على السلم: صباح الفراعنة، قلت صباح الخير، ثم قالت: سننزل جميعا إلى مسرح المبنى مساء لنشاهد مباراة مصر مع هولندا اليوم.. لا تقلق سأشجع مصر حتى لو لم تنتصر.. حظها سيئ أنها وقعت مع هولندا، لم أشأ أن أدخل في حوار معها لأن الوقت صباحا لا يسمح بالتباطؤ والتلكؤ، شكرتها وانصرفت للجامعة ولكن طوال الوقت أفكر كيف ستكون المباراة مساء؟

يقع المسرح الصغير في الطابق الثاني بالمبنى ويسع لمائة فرد بينما نحن في المبنى ذي الأدوار الأربعة لا نتجاوز الخمسين، لكن ذهبت قبل الموعد فوجئت أن القاعة مملوءة تماما ونادى على مارتن وهو شاب من ميونيخ يدرس الطب بجامعة بون وأحضر لي كرسيا لأشاهد المباراة وقال في لكنة بافارية:

كُن رياضيا وتقبّل النتائج بروح رياضية، ابتسمت وبدأت زميلتنا الإيطالية إيميليا ألفينو تشرح لنا ملعب رينزو باربيرا، باليرمو بإيطاليا، وتحولت بقدرة قادر من دارسة للألمانية بجامعة بون إلى معلقة رياضية متعصبة لبلدها إيطاليا ولا يخلو تعليقها من فكاهة، تقول: ها هي أمي في الملعب، إنها تشجع في الشوط الأول مصر من أجل بدران وفي الشوط الثاني تشجع هولندا من أجل الشيكولاته البيضاء، لكن المباراة بدأت، وبدأ الصمود المصري أمام الأقدام الهولندية، كان الصمت مخيما على الجميع والأنوار خافتة، وفجأة تحولت القاعة إلى مشجعين لفريق الفراعنة، بدأت أتمتم بأدعية في سِرَّي، لم يقطعها سوى انتهاء الشوط الأول والنتيجة تعادل (صفر/صفر) وتحلق الجمع وكانت ريجينا أول من شجّع المصريين وقالت: لم أتخيل أن مصر تصمد شوطا كاملا أمام هولندا.. يا إلهي.. هل منحهم رمسيس أقدامه؟ وبدا العجب والدهشة على الجميع، وأجمعوا أن أداء المنتخب المصري أفضل من المنتخب الهولندي، لقد نسوا هولندا التي تبعد حدودها عدة كيلومترات عن بون، صرتُ أكثر ثقة في فريقنا، وأكثر فخرًا به، بدأ الشوط الثاني وفي الدقيقة 14 أدخل الهولنديون هدفا في الشباك الفرعونية، وعمّ الصمت، لم يقطعه سوى اشتيفان الهولندي فرحًا، وسرعان ما ردت عليه إيميليا: هل أنت موجود هنا؟ ظننت أنك اختبأت وراء الهرم المصري وهربت، وعاد الصمت حتى الدقيقة 38 التي أدخل فيها مجدي عبد الغني هدف التعادل لتصيح القاعة وكأننا في مقهى بالعتبة أو قنا، كانت الحناجر تهتف مصر..مصر، وراحت مارينا الفرنسية تزغرد في أذني زغرودة ذكرتني بزغرودة فرح صعيدي.. يا إلهي كم كانت ذكريات جميلة.

ماذا فعلت يابدران؟

سؤال مدهش، منذ 1990 حتى 2018، كيف أختزل هذه السنوات في سطور، كيف لي أن أحكي مالا يُحكي، أن أسافر عبر سني حياتي، هل يُعين الدّلاء في السقاية من جُبّ الذاكرة؟ هل أمتح ما تبقى أو أقرأ سطور خيال مضى مثل طيف يمر سريعا نحو أفقه السرمدي؟

سأمنحكم بقية ما تبقَّي

فقلبي لا يدقُّ الآن دقّا

كأنّ القلب حين تركتموه

سرى بالليل نحو «رؤى» ودقَّ

محطات كثيرة، يقف فيها قطار العمر، ومحطات يتجاوزها، ربما كان سفري إلى ألمانيا محطة من القوافي الفارقة في لغة قصيدي، أنجزتُ من الكتب والأبحاث... وغير ذلك من مشاريع مؤجلة.

أنقذت كتب الملوك التي وجدتها ملقاة في بدروم مظلم تعبث فيها الفئران والقوارض ولها حكاية طريفة سأحكيها لكم.

كُتب أسرة محمد علي باشا بقنا

كُتبٌ مهداةٌ في نسختها الأولى بتجليد مذهّب مُدهش إلى الملوك والسلاطين والأمراء، لم تجد من يرعاها ، فعند قيام ثورة 23 يوليو 1952 بمصر كانت هناك مكتبة لأسرة محمد علي باشا (1815-1953) ورثها الملك فاروق (تولى الحكم 1936) بقصر القبة بالقاهرة فتخلص منها القادة الجدد للأسف بتوزيعها على المدارس بالمحافظات المختلفة، فوزعت مقتنياتها على أماكن غير مهيأة للوثائق والكتب والمخطوطات؛ فصارت نهبا لمن يود، وقد كان من نصيب محافظة قنا 400 ألبوم صور للأسرة المالكة، وبعض المخطوطات وبعض الوثائق الخاصة بالأسرة ورحلاتها في أوروبا وغيرها، وحوالي 7538 كتابا من نفائس الكتب باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية والتركية والفارسية، و3433 كتاباً باللغة العربية؛ وبها مخطوط واحد فقط بعنوان (القاموس المحيط: للفيروز أبادي) إضافة إلى حوالي 300 نوتة موسيقية للحفلات التي كانت تقام في البلاط الملكي. كما أنها تحوي بعض الأوامر الملكية ، وكتبا أهداها مؤلفوها إلى الملوك بتوقيعاتهم وأختامهم مما تعد وثائق تاريخية لا تعوض. لقد كانت وسائل نقل المكتبة هي سيارات اللوري غير المجهزة لنقل الكتب والذخائر مما عرضها للتلف والضياع. كما أن مستقبلى هذه الكتب آنذاك لم يكونوا بالوعي الكافي مما جعلهم يرمون الكتب في بدرومات المدارس مما ألحق بها التمزيق والتلف والسرقة، كما أتلفت »الأرَضة» بعض الوثائق؛ ومن هنا فإن إنقاذ هذه المكتبة يعد ذا أهمية لحفظ التراث الإنساني. وعندما توليتُ عمادة كلية الآداب (2006-2011) قمتُ بتخصيص قاعة كبيرة لجمع الكتب والنوت الموسيقية والمخطوطات والبدء مع فريق عمل مخلص في التصنيف والفهرسة، إلا أن الإمكانات المالية وانتهاء عمادتي 2011 حالا دون إتمام العمل.

إنني آمل من الجميع مد يد العون لترميم هذه الوثائق والصور وإنشاء متحف يليق بهذه الكنوز التراثية التي تحكي تاريخ مصر، كما أن الصور تساعد الباحثين على معرفة الحالة الاجتماعية والاقتصادية والأزياء والعمران والمعابد في القرن الماضي، وقد أوضح الدكتور عباس منصور رئيس جامعة جنوب الوادي أنه على استعداد لوضع إمكانات الجامعة والتعاون مع الهيئات العلمية الأخرى لتطوير المكتبة وعرض مقتنياتها إلكترونيا للباحثين والقراء.

وقد عرضتُ أمر هذه المكتبة على وزيري الثقافة السابق واللاحق اللذيْن حدثا الدكتور شريف شاهين رئيس دار الكتب والوثائق فأرسل لجنة وقفت على حال المكتبة وكتبت تقريرا أوضحت فيه أهمية المكتبة وما تحويه من جواهر وحاجتها الملحة للترميم والتصنيف، ونحن في انتظار هذا وذاك، وكلي ثقة في الدكتور شريف شاهين لإنقاذ هذه المكتبة.

إننا في حاجة إلى ترميم هذه المخطوطات والكتب النادرة والألبومات ترميما علميا لإنقاذ هذه الذخائر وتصنيف الكتب وفهرستها وتصوير الألبومات التاريخية وإتاحتها عبر موقع إلكتروني حتى يفيد منها الباحثون في العالم، وإتاحة المكتبة المصورة للطلاب للمساعدة على تطوير طرق التدريس بالجامعات، و نشر كُتيب تعريفي بالمكتبة يحتوي صورا من ألبوماتها وتعريف الباحثين بالنفائس الموجودة بها وتبادل الخبرات بين الجانبين الأجنبي والمصري في مجال الترميم والتحقيق والبحث العلمي والنشر....إلخ، وفتح قنوات جديدة من التبادل المعرفي بين الباحثين المصريين وغيرهم ونشر المعرفة والتنوير في صعيد مصر وبخاصة بين طلاب جامعة جنوب الوادي (أكثر من ثلاثين ألف طالب وطالبة) وكتابة بحوث علمية في التاريخ والمعارف والفن والموسيقى والأدب، وتحويل الألبومات المصورة على ميكروفيلم أو المصورة على أقراص مدمجة أو على ميكروفيتش؛ ولقد قام فريق من قسم ترميم الآثار بكلية الآثار بقنا يقوده الدكتور عبده الدربي والدكتور عصام حشمت بفحص مقتنيات المكتبة فوجدوا أن 112 ألبوم صور و2170 كتابا في حاجة ماسة إلى الترميم العاجل لما أصابهم من تلف نتيجة الفطريات والسيول التي غمرت قنا مرتين فأصابت بعض هذه المقتنيات، لذا أهيب بمن لديه حب التراث والانتماء لهذا البلد الطيب أن يساعد كلية الآداب بقنا في ترميم هذه الكنوز وإتاحتها للقراء والباحثين، وأن نتركها في الصعيد، أقول هذا لأن بعض المسئولين قد يفكرون في نقلها للقاهرة أو الإسكندرية كما فعلوا في نقل مقبرة توت عنخ آمون للتكدس في متحف القاهرة، لكني أرى أن الصعيد في حاجة ملحة إلى مكتبات ومتاحف حتى ينتشر التنوير ويقرأ الشباب تاريخ بلدهم وتراثهم المشرق، ومن الممكن جمع أجزاء هذه المكتبة المتناثرة إلكترونيا من خلال مكتبة الإسكندرية مثلا لتكون ذخائر يفيد منها الناس، قبل أن يضيع ما تبقى منها. اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.

أجنادي هم طلابي

أجنادي هم طلابي الذين أفخر بهم، يتحملون نوبات جنوني وشطحات قلبي وجذبات قصيدي، ربما لا يعرف الطالب كم يؤثّر في أستاذه، كم يترك فيه بصمة لا تقل عن بصمات الأستاذ في تلاميذه، إنه الشيخ والمريدون، تعلمت كثيرا من أساتذتي؛ الأستاذ فتحي النجار والأستاذ كمال حجازي والأستاذ السيد أحمد مصطفي الجندي والسيد أحمد الحفني وغيرهم من سني الدراسة في المدارس، وتعلمت من دكاترة أجلاء مثل د.أبو الفتوح عبد الحميد وسعيد الباجوري والسيد على حسن وعبد الحميد رسلان ومحمد مصطفى هدارة والطاهر مكي واشتيفان فيلد Stefan wild و أنّماري شيمل Annemarie Schimmel التي سأحكي لكم قصتها :

المستشرقة أنَّماري شيمل Annemarie Schimmel التي وُلدت في السابع من إبريل 1922 بمدينة إرفورت الألمانية، وقد قرأت في طفولتها إحدى القصص العربية جعلتها تقرر أن تكون حياتها كلها هبة للغة العربية وللتراث الإسلامي كله. وقد درست في الخامسة عشرة من عمرها اللغة العربية وصارت منذ ذلك الحين من عشاقها، وفى التاسعة عشرة من عمرها حصلت على درجة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة برلين، وفي 1946 حصلت على درجة الأستاذية من جامعة ماربورج ولكنها لم تعين أستاذة في الجامعة في ذلك الوقت، حيث كان الأساتذة لا يتخيلون أن أستاذة أنثى تحتل منصب الأستاذية، ولذا فقد عُينت أستاذة بجامعة أنقرة بتركيا وأخذت تلقي محاضراتها هناك باللغة التركية التي تجيدها مع إجادتها لعديد من اللغات كالعربية والفارسية والأُردية ومعظم اللغات الهندية والأوروبية، وفي 1951 تحصل أنيماري شيمل على درجة الدكتوراه مرة أخرى في تاريخ الأديان، وفي 1961 تُعين بكلية الآداب بجامعة بون، وقضت فترة تدريس في جامعة هارفارد وكامبردج وجامعات تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان، وقد اعتادت أنّماري شيمل أن تكون ضمن الوفد الرسمي عند زيارة رؤساء ألمانيا للدول الإسلامية. وعندما فازت في الرابع من مايو 1995 بجائزة السلام السنوية التي تُمنَح لأحد كبار المفكرين والأدباء الألمان كل عام قبيل معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت حيث يُحتفي بالمكرّم، وقبيل تسليمها الجائزة سُئلت في حوار تليفزيوني عن رأيها في سلمان رشدي فتحدثت كناقدة عن أعماله التي وصفتها بالسطحية ومنافقة الغرب وأنه قد جرح مشاعر المسلمين بكتابه «آيات شيطانية»، وكيف أن روايته آذت مشاعر المسلمين وشعرت هي شخصيا بالإيذاء من كلماته النابية. ولم تكد تنهي حوارها التليفزيوني حتى قامت قيامة أنصار سلمان رشدي في العالم ضدها؛ ولكنها لم تأبه بذلك، وظلت تردد «في 80 كتابا بذلتُ جهدي في نقل صورة الإسلام للقاريء الأوروبي وأنا أرى أن ذلك نشاط سياسي وأنني أمضيت حياتي نحو إيجاد تفاهم غربي للحضارة الشرقية»، ولقد عبر سلمان رشدي من مخبئه المجهول عن خيبة أمله لفوزها بهذه الجائزة وتصريحها ضده؛ وقد عقب البروفيسور اشتيفان فيلد العميد بكلية الآداب بجامعة بون على هذه الجائزة «إن السيدة شيمل تستحق الجائزة، حيث قامت بتفهيم الغرب حضارة الإسلام، وبسط التصوف للمتلقي الأوروبي، وأنها تحظى بتقدير كبير في البلدان الإسلامية، إن لاسمها وقع السحر في تركيا وباكستان وإيران، لقد أنفقت حياتها في خدمة الإسلام، حيث سميت أهم شوارع باكستان وإستانبول وطهران باسمها، وقد زارت مصر واليمن وبغداد والهند». وقد كرمتها مصر وبعض البلدان العربية.

وقد قال عنها رئيس الجمهورية الألمانية الاتحادية السابق رومان هيرتسوج في خطابه في حفل تكريمها: «إنه لولا أَنَّماري شيمل لما عرف الألمان الكثير عن الإسلام، ولما أدركوا أن الصورة النمطية التي تروج عنه لا تستند إلى شيء من تعاليم هذا الدين» ودعا رئيس الجمهورية إلى قراءة كتب شيمل جيدا لإدراك تعاطفها الحقيقي مع قيم الإسلام النبيلة وحضارته العظيمة، وأنها كانت دائما ساعية إلى التفاهم بين الثقافات، وهي الرسالة التي يجب أن ينهض بها المثقفون في كل العالم، ومضى قائلا «لقد فتحت لي قلوب المسلمين في كل زياراتي للبلدان الإسلامية».

وظلت تدرّس بكلية الآداب بجامعة بون، وتلقي محاضراتها عن التصوف الإسلامي الذي اتخذته منهجا وحياة وعشقا وسلوكا. ويعد مولانا جلال الدين الرومي أحب الشخصيات الصوفية إلى قلبها وقد ترجمت بعض أشعاره في كتاب بعنوان «رومي؛ أنا الريح وأنت النار» وقدمت في كتابها حدائق المعرفة ترجمة لأربعين وليا من أولياء المتصوفة، بينما يعد كتابها «أبعاد التصوف الإسلامي.. قصة التصوف» الذي قاربت صفحاته من الألف أهم مرجع في دراسة تاريخ التصوف الإسلامي في كل بلدانه مع تعدد لغاته، حيث قدمت فيه التراث الصوفي الأدبي في ترجمة أدبية رفيعة المستوى ونقد أدبي للنصوص وتعريف بأصحابها وبعصورها المختلفة، كما قامت بترجمة أشعار الحلاج. ومن كتبها (فيه ما فيه)، و(شهيد العشق الإلهي) و(إشراقة الشمس)، و(رسالة الشرق)، و(عالم الإسلام)، و(إسلام أوروبا)، ومن أهم أعمالها كتابها عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اقتبست عنوانه من الشهادة: »... وأن محمداً رسول الله»، وقد ترجمت في صدر هذا الكتاب رباعية باللغة الأُردية كتبها شاعر هندوسي، يقول فيها: «قد أكون كافراً أو مؤمناً ولكن هذا شيء علمه عند الله وحده، أود أن أنذر نفسي كعبد مخلص، لسيد المدينة العظيم، محمد رسول الله» وعندما هوجمت لاحتفائها الزائد بالإسلام ورسوله أجابت «إنني أحبه».. كما أصدرت ديوانين شعريين من أشعارها وهما «أغنية الناي» و«مرآة قمر شرقي» وأتساءل متى نترجم هذه الأعمال الرائدة إلى لغتنا العربية؟

وقد أوقَفت أموالها منحا دراسية للمستشرقات الأوربيات اللواتي يبحثن في علوم الإسلام والتصوف. وقد حصلت على عدة جوائز عالمية.

في السابع والعشرين من يناير 2003 توفيت أنماري شيمل عن عمر يناهز الثمانين وعندما بلغني خبر وفاتها تذكرتُ عندما دعتني لبيتها في شارع لينيه ببون حينما كنتُ أستاذا زائرا بجامعة بون فوجدته واحة شرقية بكتبه ومخطوطاته ولوحاته وسجاده وأوانيه ورحت أسألها وهي تقدم لي الشاي والتمر: كيف تتحملين هذا الهجوم الإعلامي ضدك؟، ابتسمت عيناها وقالت «إنني لا أهتم بذلك الهجوم لأنهم يكتبون عن حقد والحاقد لا يرى الحقيقة، وأنا أكتب عن حب والعاشق يرى الحقيقة والجمال، إنني عاشقة لهذا العالم الإسلامي وسأظل هكذا حتى وفاتي». ما أحوج الشرق والغرب إلى سماحة أمثال أنماري شيمل.

رحلاتي كتب مفتوحة

تعلمت من رحلاتي فأنا كما قال الشاعر :

ما آب من سفر إلا وأزعجهُ

رأى إلى سفر بالعزم يُزمعه

كأنما هو في حل ومرتحل

موكلٌ بفضاء الله يذرعه

حققتُ كتاب العروض لأنني اكتشفته صدفة.. وأصدرت كتبي ودواويني الشعرية منها: «النوارس تحكي غربتها» 1991، «دور الشعراء في تطور النقد الأدبي حتى القرن الثاني الهجري» 1992، «قضايا النقد والبلاغة في تراث أبي العلاء المعري» 1992، «رؤى عروضية، محاولة نحو تبسيط العروض» 1994، «العروض لعلي بن عيسى الربعي النحوي» (تحقيق وتقديم) 2000، «النصوص الأدبية» (مع آخرين) 2000، «ديوان بدران» الجزء الأول «معلقة الخروج ساليدا» 2001، «أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكل والمضمون» 2001، «العرب والألمان» (مشترك) 2004، «موت النص؛ جدلية التحقيق والتخييل في النص الشعري في ضوء النقد الأدبي القديم والشعراء النقدة» 2004، «تحليل النصوص الأدبية» (مع آخرين) 2005، «قنا عبر العصور» 2009، «النقد الأدبي البيئي» 2010، «الخضر في التراث العالمي» 2012، «أدبيات الكرامة الصوفية» 2013، وديواني «ساليدا معلقة الخروج» 2015، «لا تلتفت إلى الوراء» 2016.

بجانب خمسين بحثا.. في يومياتي بالأخبار متْح الذاكرة وألَقها وأرقها، في عملي بجامعات ألمانيا وجامعة الإمارات العربية اكتسبت أصدقاء أعتز بهم، وتركت أصدقاء من الطلاب وأخوات من الطالبات أراهم في مناصب مرموقة أفرح بهم كثيرا.

ربما نسيت هذه المناصب الإدارية التي توليتها بدءا من رئاسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب بقنا بجامعة جنوب الوادي ومرورا بوكيل الكلية وعميدها ونائب رئيس الجامعة لشئون التعليم والطلاب، تعلمتُ الصبر، وأكسبتنى عداوات كنتُ في غِني عنها، لكني متمسك بأصدقائي وبيتي الصغير، فالناس أنفاس الديار، وهؤلاء الذين عاصرتهم كتبتُ لهم ذات مساء (أحبائي أودعكم):

أحبائي .. أودعكمْ

وأعلمُ أنني نبتٌ تغذتْ منه طينتكمْ ..

أودعكم لأن سماءنا بخلتْ بماء المُزن كي تُروى حدائقكمْ ..

وأن الأرض قد ضنّت بطينتها عن الإنسان منبتكمْ

وأن فضاءنا رحبٌ ، ولكنْ ضاق يا صَحبي بشاعركمْ !

أودعكم ..

وقلبي في دحى الليل

يكسّر سوره الصدري ،

يسرقُ من دمي كُلي ..

يضخ دمي فينبت في مزارعكمْ !

ويفنى الجسم أنساماً تقبلكمْ ..

أودعكمْ ..

ولكني إذا مت ستأتي الروح من قبري

ترفرف في زهوركمُ ..

وظِلي ..آه لو يمتدُّ، يسجدُ فوق أرضكمُ

أحبكمُ ..

وأقسمُ أنه ما مر يومٌ دون ذكركمُ

وإن أبصرتُ مرآتي رأيتكمُ !

أنا قد عشتُ من أجلي ..

وأجْلي عاشَ - يا صحبي - لأجْلكمُ !!

إبراهيم عبد المجيد: الكتابة مصدر طموحي وراحتي النفسية

في عام 1990 كنت قد انتهيت من روايتي «البلدة الأخرى» التي نُشِرت في نهاية العام وأوائل 1991، وأحدثت نقلة كبيرة جدًا في الدراسات الأدبية والنقدية حينها، فلم يخلُ أسبوع تقريبا من مقال عنها في إحدى المجلات العربية، لمدة ثلاث أو أربع سنوات تالية، وفي عام 1994 تمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية، وكانت تلك الترجمة الأولى لي، فأحدث نقلة كبيرة لي، خاصة بعدما حصلت عام 1996 على جائزة نجيب محفوظ عن نفس الرواية، كنت أول من يفوز بها، ولم يكن هناك تقديم في ذلك الحين، بل يختارون شخصان، أحدهما متوفي والآخر حي، ففزت بها مع المرحومة د.لطيفة الزيات، وبعدما ترجمت الرواية للإنجليزية، ثم للألمانية ولغات أخري.

في نفس العام 1996 كتبت «لا أحد ينام في الإسكندرية»، وبعد ذلك في عام 2000 كتبت رواية «طيور العنبر»، واستمرت الحياة هكذا، ترجمات وكتابات نقدية ودراسات أدبية حول أعمالي في دول أجنبية، وسافرت للعديد من الدول.

على مدار تلك السنوات، أحاول دائما التجديد في الشكل الأدبي لكتابتي، وهذا ما جعلني ألجأ للفانتازيا منذ وقت مبكر عام 1982، لكنه زاد في «طيور العنبر» و»بيت الياسمين» ثم «قطط العام الفائت» التي صدرت منذ عامين، فالتجريب يكون ابن الموضوع والمكان والزمان وليس مجرد الرغبة في ذلك. أما رؤيتي الفلسفية والفكرية؛ كما هي لا تتغير، قائمة على فكرة الاغتراب الإنساني في الوجود، بينما السياسية تختلف بعض الشيء، حيث أرى أن المثقف لابد أن يكون له دورا إيجابيا في الحياة بقدر الإمكان، لذا شاركت في ثورة يناير، وقبلها في انتفاضات 1977، هذا الجانب يظهر في مقالاتي، أما الروايات فتتضمن جانبا روحيا بشكل أكبر، نابعة من دراستي للفلسفة وتأثري بأعمال عالمية لأدباء مثل كافكا ودوستويفسكي وغيرهما. وإن وضعت عنوانا لحياتي منذ التسعينيات حتى الآن سيكون «الطموح والأمل والراحة النفسية بسبب الكتابة».

طارق الطاهر: عملت مدربًا لمدة مباراة لم تُستكمَل

يمثل لي عام 1990 عامًا استثنائيًا في حياتي، إذ تخرجت في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقبل إعلان النتيجة كنت أحلم بأمور انقلبت فيما بعد رأسا على عقب، لتتبخر أحلامي، ولم يبق لي سوى واقع مُحبِط، وأنني على بعد خطوات من أن أكون مدرسًا للغة العربية، حيث كانت الدولة مازالت ملتزمة بتعيين الخريجين، لاسيما من أقسام اللغات في كليات الآداب، وكان هذا هو آخر عام في هذا الالتزام، لكنني قررت التمرد على هذا الواقع، الذي لا يناسب طموحاتي، واستطعت أن التحق بمؤسسة أخبار اليوم، وأحصل على أول كارنيه تدريب في 25 نوفمبر 1990، لأبدأ الخطوات الأولى في مشواري الصحفي، مستبدلا الإحباط بالرغبة في إثبات الذات.

من هنا كان عام 1990 مرحلة جديدة في حياتي، لديّ حلم ضائع بأن أعمل في الجامعة أو استكمل دراساتي العليا، ومغامرة في أن أقتحم مجالا ليس من المجالات المعتادة لعائلتي، التي كانت تميل دائمًا نحو دراسة القانون.

وعندما انطلقت بطولة كأس العالم في 8 يونيو من تسعينيات القرن الماضي، كنت كالمُغيَّب (فتأثير نتيجة الليسانس مازال قائما)، وكانت «الفُرجة» وسيلتي للترفيه عن النفس، خاصة أنني من هواة كرة القدم، ولي فيها باع طويل، على الأقل في الفترة التي سبقت الجامعة، فلحسن حظي كنا مجموعة كبيرة من الأطفال الذين تربوا مع بعضهم البعض في «عمارة عابدين»، وكنا - لاسيما في فترة إجازة الصيف - نكوّن فريقًا متجانسًا، لديه جميع خطوط اللعب من حارس مرمى ومدافعين وخط وسط وهجوم واحتياطيين، ونلعب في فناء مدرسة في نفس الشارع الذي نسكن فيه «شارع الشيخ مصطفى عبد الرازق»، إلى أن حدث ما يعكر الصفو، بمجيء فريق آخر أراد إخراجنا من فناء هذه المدرسة، ونشبت معركة حامية، تدخل فيها العقلاء لينتهي الأمر باتفاق لتحديد من منا زعيم المنطقة وله اليد العليا في اللعب داخل هذا الفناء وقتما يريد، فاتفقنا على مباراة حاسمة بعد ثلاثة أيام، وسيكون ملعبها ليس فناء المدرسة، بل الشارع نفسه، وتحديدا أمام قصر عابدين، ليشهد عليها من يريد المشاهدة من ساكني الشارع.

في هذه الأيام الثلاثة كنا نجتمع على سلالم العمارة لوضع الخطة والتشكيل، وكنت لاعبًا أساسيًا في هذا الفريق، لكن فجأة ضاع حلمي في لعب المباراة، عندما وقعت على سلالم العمارة، وحدث تمزق في وجه القدم اليمني، وبالتالي أصبحت خارج الحسابات، لأتحول إلى مجرد صوت يقول رأيه، وبإحساس التعاطف معي وجدت «أصدقاء العمارة» يسمعون الكلام، فبدأت أوسِّع من دائرة حديثي، لأضع التشكيل وهم صامتون، بل ومؤيدون، وفي صباح يوم المباراة اجتمعت بهم وقلت لهم على الخطة التي تعتمد على الدفاع، فالفريق الآخر يمتلك أكثر من لاعب مهاري، ولكي أتأكد من سيطرتي على الفريق، استبدلت لاعبًا بآخر، حدث ذلك وهم يتقبلون الأمر بصدر رحب، فقررت في النهاية وقبل المباراة أن أتحدث مع الفريق الآخر بصفتي مدربا لفريقي، وما أن بدأت المباراة حتى اعترضت بشكل قوي على الحكم، في محاولة مني للسيطرة على الملعب، كما سيطرت على فريقي، وبينما تسير المباراة بشكل تعادلي، إذا بأحد أعضاء الفريق المنافس يوجه الكرة بقوة لتسقط داخل قصر عابدين، وتحديدًا في المكان المخصص الآن للمتحف، لتنتهي المباراة بهذه النهاية المأساوية للفريق الآخر، المريحة لنا، فهو كان شبه مسيطر على المباراة، ولا أحد في هذه اللحظة يستطيع الاقتراب من القصر، لنفقد الكرة وأفقد معها منصبي مدربًا للفريق، الذي بدأ ينتبه إلى ما حدث في الأيام الماضية، وعُدنا إلى «عمارة عابدين» سعداء بما انتهت إليه المباراة، وقد قرروا ألا أتولى هذا المنصب مرة أخرى.

علاقتي بكرة القدم انتهت بمجرد أن التحقت بمؤسسة أخبار اليوم، والغريب أنها لم تنته على مستوى اللعب فقط، بل – أيضا – على مستوى المشاهدة، فلمدة عشر سنوات متصلة لم أشاهد سوى عدد قليل من المباريات، وتفرغت تمامًا لعملي الصحفي داخل «أخبار الأدب» التي أصبحت تجربة حياة بالنسبة لي وليس عملاً فقط، فكل الظروف دفعتني إلى أن عمل بجد وأسافر إلى الأقاليم والتقى بمبدعيها، ف «أخبار الأدب» أصبحت لي هي «الحياة» بكل تفاصيلها.

عندما أتذكر مشواري ما بين 1990 و2018.. أكتشف أنه يسير بطريقة كرة القدم.. لا فوز طوال الوقت ولا هزائم متكررة.. هو خليط بين الفوز والخسارة والخيال والواقع.. فبدون خيال لا يمكن أن تحرز أهدافًا أو أن تصبح رئيسًا للتحرير.

عبده جبير: كانت عزلتي متعمَّدة

قبل عام 1990 تردد اسمي بكثرة في المؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام، حتى فوجئت بمجلة «المجلة» السعودية التي تصدر في لندن تنشر تحقيقا وعلى غلاف قسمها الثقافي تضع عنوان «هؤلاء.. هل صنعهم الإعلام؟»، وتحت هذا العنوان المريب ثلاث صور؛ واحدة على اليمين للكاتب الكبير الراحل جمال الغيطاني، وأخرى على اليسار للكاتب الكبير يوسف القعيد، وصورتي في المنتصف. بمجرد أن وقعت عيناي على الصور والعنوان أحسستُ وكأن زلزالا مر من تحتي، مندهشا من وضعي بين كاتبين كانت لهما طرقهما الخاصة في التواجد بشكل مستمر في الحياة الثقافية، وأنا الذي كنت دائما أحرص على أن أكون في وضع خاص بعيدا عن هذه الدائرة، وكان هذا يترجَم على أنني كنت شبه مستبعد من الإعلام الرسمي، إلى حد أنه حين قام الشاعر الكبير فاروق شوشة بعمل حوار معي وبإلحاح من الناقد الكبير سامي خشبة ثارت ثائرة الكُتّاب الرسميين، لدرجة أن أحدهم كتب أربعة أعمدة متتالية في إحدى الصحف القومية يهاجم فيها شوشة بسبب استضافتي، إذًا أنا كنت خارج دائرة الإعلام الرسمي، فكيف أوضع تحت هذا العنوان، وأستطيع أن أقول بلا خجل أنني بكيت بكاء حارا وأحسست بأنني في حالة ضياع.

حتى أوقف هذه الحملة التي بدا أنها متعمَّدة ضد الكُتّاب المصريين، وأنحي بجانبي عنها؛ قررت ما يشبه العزلة الطوعية، فبعد نشر هذا التحقيق رفضت العشرات من المقابلات الصحفية، وأحيانا كنت ألجأ إلى طلب الأسئلة من الزميل الذي يريد إجراء الحوار معي وأخذ الأسئلة وأركنها ولا أجيب عليها، وتعمدت أن أبقى في الفيوم أكبر فترة ممكنة، إلى أن جاءت رحلتي إلى الكويت، وكان هذا الحدث تقريبًا هو الدافع الأساسي لسفري، حيث كنت قبلها قد رفضت العمل في الخليج في عدة محاولات جرت معي. وبعدما عدت؛ على الفور حملت كتبي وأوراقي وذهبت إلى الفيوم.

أذكر ذلك لأول مرة، لأفسر ما وصفه بعض النقاد باختفاء الأضواء من حولي، وهو غير صحيح، فأنا كنت أقصد هذه العزلة، حتى إذا عدت كنت أعود وحدي وعلى مسئوليتي الشخصية وبإنتاجي الأدبي وليس من خلال الإعلام، كانت فترة حرجة جدا في حياتي استمرت سنوات طويلة، ربما حتى وقت قريب. هذا لا يعني أنني لم أكن أكتب، بل كنت أكتب بشكل يومي وأعمل على تنفيذ مشروعي الأدبي في عدة أعمال ظهر منها رواية «عطلة رضوان»، مجموعة «رجل العواطف يمشي على الحافة»، كتب «الشيخ إمام»، و«نجيب محفوظ»، و«شهادات معلقة في رقبة المؤلف» وعدة مجلدات أخرى حتى وقتنا الحالي، ومن حسن الحظ أنه كان هناك من الباحثين، خاصة في المغرب وفي جامعات الجنوب المصري؛ من انتبه لهذه العزلة المتعمدة وشرفني بعدد من دراسات الماجستير والدكتوراه التي عنيت بالنسبة لي أنني كنت موجودا بطريقة أفضل من السابق.

Comments