صلاح فضل: أشعر أنني أصبحت ضيفًا

  • لابد أن يبذل الناقد كتفيه ليصعد عليهما أطفال المبدعين

  • الإنسان هو من يصنع مكانه وزمانه

  • المثقف الذي يحبس نفسه في إطار أيديولوجي؛ منقوص وزائف الوعي

  • سؤالي أغضب حسن فتحي وفي النهاية اعترف: غلبتني أيها الشاب.. ثم صمّم منزلي

  • جرَّبتُ أن أكتب الشعر لكن حسي النقدي كان أكثر يقظة، فأدركت بسرعة أن مستواي الشعري ليس فائقًا أو عبقريًا

  • وقف جائزة نوبل خطوة تتسم بشجاعة لا نملكها في المنطقة العربية

  • أخاف من ممارسة العنف النقدي فأتسبب في انتحار المبدعين

  • المبدعون مثل القِطط .. تأكل وتنكر

  • توفيق الحكيم قال لابنتي: من المجنون الذي سيُسلِّم مخه لامرأة؟!

  • الفاشلون يذمّون الجوائز لأنهم لن يدينوا أنفسهم .. وأدّيتُ ضريبتي تجاه الشعراء الشباب

  • اشتبكت مع أدونيس بسبب «الربيع العربي».. وقلت له: العالم العربي ليس به عدد كافٍ من البارات لكي تخرج منها المظاهرات!!

cof

بين مصراعيّ بوابة حديدية سوداء، لمنزلٍ يقع في شارع يحمل اسمه، وقف الدكتور صلاح فضل لاستقبالنا، أنا وصديقتي المُصوِّرة الفوتوغرافية منى عبد الكريم؛ داخل بزَّته البُنية وبكامل أناقته، مستعدًا للإجابة على أسئلتي، أو بالأحرى؛ اختبار مدى قدرتي على محاورتِه، على اجتذاب الأفكار من داخل عقله، والذكريات الساكنة في قلبه.

اصطحبنا د.صلاح في جولة سريعة بين مكتباته الثلاث؛ إحداها رسمية لاستقبال الضيوف، وأخرى مزوَّدة بمكتب وإضاءة مناسبين للقراءة، وهي المفضلة لديه، بينما الثالثة صغيرة لا تضم سوى أرفف محمَّلة بالكتب، حلّت محل «الجراج» بعد طرد السيارة للخارج، فالكتب تبعث في نفسه شعورا أعمق بالبهجة والفرح.

جلسنا بجوار المكتبة الأولى، التي تضم مؤلفات فضل الأربعين، وهي محصِّلة رحلة حياة تمتد لما يزيد على ثمانين عامًا بشهور قليلة، بدأت في أحضان القرية المصرية بقلب الدلتا، في كنْف أسرة تزهو بأن جدودها من علماء الأزهر. توفى والده وهو في الرابعة من عمره، وكان طالبًا في تخصص القضاء الشرعي بكلية الشريعة، لم يتخرج بعد، فوهب الجد حفيده ليكون محله في الأزهر، وكانت هذه الصدمة الأولى والأكبر في طفولته.

تمثلت صدمته الثانية، بعد تخرجه من كلية دار العلوم؛ في تحويل مسار بعثته للدراسة بالخارج من فرنسا إلى إسبانيا، فتكررت مأساة اندماجه في مناخ ليس راضيًا عنه، لكن القدر كان رؤوفًا به وأظهر له ما جعله يدرك أفضلية ما حدث ويشعره بالرضى التام.

ما مرَّ به فضل قبل تلك اللحظة وبعدها، شكَّل أفكاره ومبادئه، عزّز إيمانه ببعض الأشياء وجعله يتخلى عن أشياء أخرى. وضع الحرية في مقدمة الحقوق التي ينادي بها من أجل الإنسانية، وآمن على الدوام بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد لتقدُم الشعوب. كل ذلك صنع منه ناقدًا استثنائيًا استحق التكريم في كثيرٍ من المحافل والبُلدان، سواء من قِبل الهيئات والأكاديميات الرسمية أو باحتفاء طلابه به حول العالم، حتى جاء التتويج مؤخرا بحصوله على جائزة النيل من المجلس الأعلى للثقافة، قبل أيام من حوارنا هذا معه.

لنبدأ من الحدث الأقرب والأكبر؛ فوزك بجائزة النيل. هل تشعر أنها جاءت متأخرة؟ فقد حصلت على جائزة الدولة التقديرية منذ 17 عامًا.

لا؛ بل أحمد الله على فوزي بها، وأعتبرها تتويجًا أكبر من أي جائزة عربية حصلت عليها. أعرف أن هناك من يرى عدم استحقاقي لها، وهذا حقه وأقدّره، وأعرف أيضا أن هناك من يجد في المرشحين من هو أفضل مني، وهذا طبيعي جدا، لكن الجوائز في النهاية مفارقات وحظوظ.

لكن؛ لي ملاحظة واحدة على الجائزة، فهي لها جانبين، أحدهما مادي والآخر معنوي، الأول يتقاضاه كل فائز، أما الثاني فله أيضًا شقان، تقدير المحكمّين والمصوّتين وهذا جانب أدبي جميل جدا، إلا أن التقدير الآخر الذي تفتقده جائزة النيل ومن قبلها جائزة مبارك، والجوائز كلها، يتمثل في عدم تسليمها من قِبل الرئيس، حيث درج رؤساء مصر على التهرب من ذلك، لأن الرئيس مبارك للأسف كان يتوجس من المثقفين ويخشى مواجهتهم. أظن أنه حان الوقت لإقرار هذا التقليد.

إذا عدنا للوراء، قبل ثلاثة أرباع قرن تقريبًا، كيف كانت ملامح الطفل صلاح فضل التي بشرَّت بتميُّزه؟

كانت عملية أن أوهب في طقس عائلي للدراسة الدينية هي الحافز لي على التمرد منذ الصغر، فأفرغت همّي في قراءة الأعمال الأدبية، إلى جانب المقررات الدراسية، حيث كانت لدينا أعداد هائلة من مجلة «الرسالة» و«الثقافة»، فشُغِفت بقراءة الكبار في الخمسينيات، بجديتهم وجهامتهم، مثل الزيات والرافعي وطه حسين، إلى جانب الكتابات اللعوبة الجميلة لزكي مبارك وهو يتحدث عن ليلى المريضة في العراق ويجاهر بعشقه، والمازني وطرافته البديعة.

بعد سنوات قليلة؛ تحولْتُ من مدينة دسوق التي كنت أدرس فيها إلى القاهرة كي أصحب عمي الذي دخل حديثًا حينئذ كلية الحقوق في جامعة القاهرة. كانت لديه عادة غريبة، لم يكن يحب أن يقرأ، وإنما يتكئ على مقعد أو سرير ويطالبني بقراءة مقرراته له. نتيجة لذلك؛ قرأت كل كتب القانون الخاصة بالسنوات الدراسية الأربع لكلية الحقوق وأنا مازلت في المرحلة الثانوية، وعندئذ تكشَّف لي زيف الدراسة التي تنصب فقط على الدين والفقه والسيرة والتاريخ والأدب والشعر، وأدركت أنها دراسة هامشية لا تمِّس صُلب الحياة.

هل تشعر أن دراستك ومعيشتك في الخارج فيما بعد عوضاك عن تلك السنوات الأولى؟

كانت على النقيض تماما من المرحلة الأولى، فقد قضيت سبع سنوات في مستهل شبابي في بعثة بإسبانيا، قررت خلالها أن أقاطع الحرف العربي، وألا أقرأ سوى بتلك اللغة الجديدة التي تمثل لي نافذة مدهشة وعجيبة أنفتح بها على ثقافات العالم. تفتحت أمامي مغاليق الكون. فرغم قراءاتي السابقة عن أوروبا والثقافة الغربية، إلا أن من رأى ليس كمن سمع.

تعرضت في هذه السنوات السبع لأشياء بالغة العمق في تكويني عقليًا ووجدانيًا وثقافيًا ومعرفيًا، وشفتني تمامًا من التعصب وضيق الأفق والتسليم بالبديهيات التي نتربى ونعيش ونموت ونحن لم نضعها موضع النظر والتساؤل. أصبحت أؤمن بعدها أن المثقف لابد له أن يمتلك ثلاثة عناصر جوهرية؛ الأول أن يكون متجذرًا في تراثه وإلا سيفقد هويته، والثاني أن يعرف إيقاعات الثقافات المعاصرة ويستطيع تذوقها والاستمتاع بها. أما العنصر الثالث فهو أن يخرج من نطاق تخصصه الضيق لكي يكون صانع أفكار، فالمثقف الذي يحبس نفسه في إطار أيديولوجي، سواء كان إطارًا سياسيًا أو دينيًا أو قوميًا أو طائفيًا؛ هو مثقف منقوص وزائف الوعي.

dsdcs.jpg

ما شهدته خلال أسفارك حول العالم؛ هل مكّنك من وضع يدك على أزمات مجتمعاتنا العربية؟

لقد شهدت بمتعة فائقة وتأمل عميق التجربة الديمقراطية الإسبانية، وكيفية التحول خلال السبعينيات من أعتى ديكتاتورية قديمة حكم فيها الجنرال فرانكو إسبانيا طيلة نيف وثلاثين عامًا إلى واحدة من أجمل الديمقراطيات المعاصرة التي يصبح فيها الملك رمزًا للسُلطة وتتعاقب عليها القوى الاشتراكية والقوى المحافظة، وتخرج بإسبانيا من وضعها البائس الفقير المعزول إلى واحدة من القوى الناهضة في ظل الاتحاد الأوروبي.

عندما أقارن ذلك الآن بما يتم في النطاق المصري والعربي، أجد أن المشكلة الرئيسية التي تعوق تجربة التحول الديمقراطي لدينا حتى اليوم هي أن هناك مجموعات يمينية متطرفة تلبست بعباءة الدين وأصبحت تمثل أحزاب الإسلام السياسي، تريد أن تقفز على سلم الديمقراطية لكي ترتقي إلى السلطة وما إن تمسك بزمامها حتى تلقي السلم جانبًا ولا تسمح لأحد أن ينازعها. هذه المجموعة هي أبعد ما تكون عن جوهر التدين الحقيقي، الذي يتمثل في الأخلاق، والعناية بالطاقة الروحية التي يملكها الإنسان حتى لا يستسلم لكيانه المادي ويعتد به كغاية مسعاه. للأسف نجد أن أكثر الناس تدينًا يفتقدون كل ما يتصل بالروح ويغرقون في شهواتهم المادية لأقصى درجة، وأبعد ما يكونون عن تمثيل الأخلاق الدينية الحقيقية.

هل التحول الديمقراطي من شأنه أن يضمن مستقبلًا مزدهرًا لدول الشرق الأوسط؟

نعم؛ المستقبل في تقديري مرهون بتطبيق معايير حاسمة للالتزام بمسار التحول الديمقراطي. لأن منظومة القيم الإنسانية تدور عجلتها. كانت قيمة العلم في القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين هي التي تتحكم في بقية منظومة القيم. الآن منذ منتصف القرن العشرين وبعد سقوط الأيديولوجيات تقريبًا، أصبحت قيمة الحرية هي التي تتحكم في كل المنظومات الحضارية. فأي نُظُم شمولية أو ديكتاتورية يمكن أن تحقق بعض الانتصارات الموقوتة، لكن أي وثبة مفاجئة ضد الحريات من شأنها أن تنتكس بالمجتمع عشرات السنين إلى الوراء، لذلك أعارض بعض المثقفين عندما يدعون إلى شعار «نتمنى أن يكون هناك ديكتاتور عادل»، ليس هناك ديكتاتور عادل، أن تكون ديكتاتورًا يعني أن تحجر على الآخرين ولا تلتفت للتعددية.

لا مبرر لأي دولة يثبِّت شرعيتها سوى أن تضمن ثلاثة أشياء؛ تعليم الأبناء تعليمًا أساسيًا ومجانيًا جيدًا لا يعتمد على الدروس الخصوصية ولا هذا التشويه الذي نراه، وشمول المواطنين برعاية صحية مجانية كاملة للجميع بكل الطبقات دون أدنى عقبات، وتوفير فرص عمل حقيقية ومساكن مناسبة للشباب.

هل يمكن القول بأنك تتفق مع مبادئ الاشتراكية؟

لا أدعو إلى الاشتراكية التي فشلت في كل دول العالم، وإنما أدعو إلى الديمقراطية الرشيدة، التي تحاول أن تأخذ بنظام ضريبي عادل. نحن لدينا أعلى نسبة تهرب ضريبي وأفشل نظام ضريبي في التاريخ، لأنه يعتمد على ضمائر الناس وأخلاقهم وتبرعاتهم، هذا عبث، الناس يُجبَرون على دفع الضرائب التصاعدية، وتؤخَذ لكي تجد الدولة موارد تنفق منها، مثلما تفعل كل دول أوروبا الغربية.

DSC_6781

هذا ما استقيته من إطلاعك على تجارب أوروبا الغربية مجتمعيًا، كيف كانت تجربتك النقدية؟

كانت بعثتي لدراسة النقد الأدبي، في الأساس، لفرنسا. لكن ظروف العملات الصعبة في مصر في الستينيات جعلتها تتحول إلى إسبانيا، كانت هذه خيبة أمل شديدة بالنسبة لي، لأن المعروف أن من يذهب لإسبانيا يدرس الأندلسيات لا النقد، فذهبت وأنا ضائق جدًا، وأخذت أرسل بالشكاوي لرئاسة الجمهورية، إلى أن خضعت في النهاية للأمر الواقع وتكيَّفت مع الدراسة في إسبانيا قائلًا أن «الغزالة تغزْل برِجل حمار» ولتكن اللغة الإسبانية هي «رِجل الحمار» الخاصة بي، لكني اكتشفت فيما بعد أن هذه من أجمل الرجول وأكثرها رشاقة وقدرة على العمل. فالفرنسيون لديهم ما يكفي من الإنتاج وليسوا في حاجة للترجمة عن اللغات الأخرى، ومثلهم الإنجليز. أما اللغة الإسبانية؛ فهناك اثنتان وعشرون دولة في أمريكا اللاتينية تتحدث بها ويترجمون كل ما يصدر باللغات الحية العالمية. وجدت أن النافذة التي كنت أظنها ضيقة ومحدودة، واحدة من أجمل النوافذ وأكثرها انفتاحًا. ورضيت تماما بعدما حققت حلمي بالسفر في رحلة عام 1968 إلى فرنسا وقابلت أحد زملائي القدامى الذي كان يدرس في السوربون بباريس، فسألته عن رولان بارت وغيره من النقاد العظماء، وتفاجأت أنه لا يعرفهم رغم أنه يُدرِّس في نفس الجامعة التي يُدرِّسون بها. عندئذ خرجت عظيم الابتهاج، ومقتنعًا أن المشكلة ليست في المكان وإنما في المشروع والأفق الذي أتلمسه وما أريد أن أفعله، فالإنسان هو من يصنع زمانه ومكانه.

وهل تمكّنت من تطبيق ما تعلمته وشاهدته بعد عودتك إلى مصر؟

عندما عدت كان لديّ نوع من اليقين بأنني سلكت طريق كبار المفكرين العظماء في مصر، الطريق الذي اجتازه رفاعة الطهطاوي وطه حسين ومحمد مندور وغنيمي هلال، وأن هناك دورًا ينتظرني في مصر والوطن العربي، لأكون استمرارا حقيقيا لهؤلاء الأساتذة الذين سبقوني. جئت وذُقت المرار في الجامعة هنا، وواجهت صعوبات مادية ووظيفية وبيروقراطية كادت أن تقضي على في هذه الفترة، وفوجئت أن ما كنت أظنه ميزة فيّ قد تحول إلى عيب. أصبحوا ينعتونني بالمغترب عن لغته وثقافته، وأصبحت معرفة لغات وثقافات أخري عيبًا يعيّرني به الناس وبعض الكُتَّاب. لكنني كنت على يقين واطمئنان كامل بأن ما أقوم به هو الطريق الصحيح وأن من يكتفون بثقافتهم المحلية لا يلبثون أن يقعوا في الجهل والعمى والتعصب وعدم رؤية العالم حولهم ويعجزون عن التقدم ومواصلة تطوير الخطاب النقدي والأدبي.

DSC_6776

تتناول بالنقد كل أشكال الأدب، لكنك تولي اهتمامًا خاصًا للشعر. هل كنت تحلم بأن تكون شاعرًا؟

بالطبع؛ أي شاب مشتغل بالأدب، أول ما يلفته هو الشعر، فهو جوهر الفن، وأعرق فن عربي، وألصق الأشياء بالروح. كان طموحي أن أكون شاعرًا وجرَّبت أن أكتب الشعر لكن حسي النقدي كان أكثر يقظة من أن أطمئن إلى إنتاجي متوسط القيمة، مارست النقد الذاتي وأنا مازلت فتى يافعًا، وأدركت بسرعة أن مستواي الشعري ليس فائقًا أو عبقريًا.

أذكر، وأرجو ألا يسخر مني القارئ، أني في سن الحادية عشرة من عمري عام 1949، عندما تزوج الملك فاروق من ناريمان، كتبت قصيدة، جعلت حروف اسم «فاروق الأول ملك مصر» يبدأ بها الشطر الأول، و«ناريمان ملكة مصر» يبدأ بها الشطر الثاني، كنوع من التفنن، ثم قرأت القصيدة وجدتها عبثًا، ليس لها قيمة، فقُلت إن موهبتي الشعرية ضعيفة، ولذلك أضحك عندما أسمع من يقول أن الناقد مبدع فاشل، لا؛ فالناقد مبدع لكنه يقسو على نفسه مبكرًا بأن يُسكِت العناصر الإبداعية التي لا يتميز بها، يعرف قياس موهبته أفضل من الآخرين.

كما كتبت القصة القصيرة، لكنها أيضا لم تعجبني، فقررت أن أكتفي بالتذوق والاستمتاع بالأعمال وقياس درجة إبداعها وتوهجها، ثم تبيّنت بعد ذلك أن هذا الذي أميل إليه يسمى نقدًا، ولا يقل أهمية ولا كفاءة ولا أثرا في الآخرين عن الإبداع، بل أن قيمة الإبداع تتوقف على هذا النقد.

بعد خبرتك الطويلة مع ممارسة النقد وتدريسه، ما النصيحة التي تقدِّمها للناقد الشاب ليصبح مهنيًا ومتميزًا؟

في رأيي، وهذا ما أريد أن يستوعبه النقاد الشباب انتفاعا بخبرتنا لو كانت لنا خبرة مفيدة؛ لابد للناقد أن يكون عميق الثقافة، ليست الأدبية فقط، وإنما الثقافة الفنية أيضا؛ الموسيقية والتشكيلية والمسرحية والسينمائية، إلى جانب التجذر في تراثه وتراث الآخرين، وأن يمكنه التقاط إيقاعات العصر ومعرفة تطوراته، والالتزام بالفكر العلمي ثم الحياد الموضوعي والبعد عن الهوى. وعليه أيضا، دون بقية المشتغلين بالفنون، أن يكون متواضعًا، فالمبدعون يمكن أن يصيبهم قدر من الغرور، لكن لو ناقد أصابه ذلك سوف يؤدي به إلى ألا يحتفي بالآخرين أو يقدِّر إبداعهم، لابد له أن يتجاهل ذاته وهواه واعتزازه بنفسه وأن يبذل كتفيه ليصعد عليهما أطفال المبدعين، مثل الأب، إذا لم يمتلك الناقد هذا الحنو الأبوي تجاه من يتعرض لهم سيكون عدوانيًا ومؤذيًا.

15201.jpg

ما درجة الأذي التي يمكن للناقد أن يتسبب فيها؟

من تجربتي النقدية؛ اختزنت بضعة أشياء أجبرتني على ألا أكون مؤذيًا. عندما عرفت مثلًا أن الدكتور طه حسين كتب عن أحد دواوين الشاعر الرقيق إبراهيم ناجي يقول إن شعره مثل موسيقى الحجرة، بمعني أنه محدود الأهمية والقيمة، وليس مثل العمل السيمفوني العظيم. التشبيه بديع جدًا، لكن نتيجته كانت أن ناجي سافر بعدها لحضور مؤتمر طبي في لندن وكانت كلمات طه حسين تدور في وجدانه عندما نزل من فندقه إلى شارع في لندن، فصدمته سيارة أصابته بالعرج طوال عمره، بسبب مقال نقدي.

مررت بتجربة مشابهة عندما زارني في نهاية السبعينيات أحد القصاصين الشبان مع صحفي صديق وأهداني مجموعته وقال لي وأنا أودِّعه على الباب «لو لم تكتب عني سأنتحر»، فأخذت كلامه مأخذ المزاح وضحكت. بعد شهر وعدة أسابيع فوجئت بخبر انتحاره في الصحف، عندئذ ركبني الذُعر بأن يكون قد نفَّذ تهديده لي، فطلبت الصديق الذي صحبه إلى بيتي وسألته «هل هو القصّاص الذي كان معك؟» فقال «نعم، لكن لا تفزع يا دكتور لأنه كان أحد زوار مستشفي العباسية وهذه هي ثالث محاولة انتحار له، وقد هدَّد كل من أهداهم مجموعته القصصية بأنه سينتحر»، لكني ركبني الخوف بأن أمارس شيئًا من العنف النقدي فأتسبب في انتحار المبدعين.

اتخذت لنفسي مبدأ بعد ذلك، أن اقرأ العمل وإن كان وهْج الإبداع فيه وبريق الموهبة قويًا أتناوله، ويمكن حينئذ أن أشير إلى بعض نقاط الضعف، لكن بعد أن أشبع غرور الكاتب واعتزازه بنفسه، لكن لو قرأت عملًا آخر ووجدت الهنات والنقائص ونقاط الضعف فيه غالبة لا أقربه، أتركه للقرّاء يحكمون عليه.

هل تجد تعاملًا مماثلًا من قِبل المبدعين، بنفس تلك الدرجة من الرهافة؟ فهم دائمًا يشكون من ضعف الحركة النقدية.

الذين أكتب عنهم ممن تبيّنت أنهم موهوبون ويستحقون الكتابة عادة ما يقولون لي، وهذا ما يشبع غروري أنا الآخر «لقد وُلِدنا بمقالك النقدي من جديد»، هذا أسمعه من كثيرين وأشعر بامتنان عميق لهم، إنهم يعترفون، لي على الأقل، بأن مقالى كان عامل تشجيع لهم. صحيح بعد ذلك عندما يتحدثون للصحف يشكون من أنه لا يوجد نقد ولا نقاد، فهم مثل القِطط تأكل وتنكر، لكني أعرف أنهم لا يقصدونني، ربما يريدون القول بأنه لا يوجد نقاد غيري، وينسون فقط ذِكر اسمي، أُطمئِن نفسي بذلك.

لكن بكل تأكيد؛ النقاد أقل، خاصة النقاد المتمكنين، والسبب الجوهري في ضعف الحركة النقدية في مصر يعود إلى ثلاثة عوامل أكشف عنها الستار، الأول أنه منذ ما يزيد على أربعين عامًا انتهى المصدر الأساسي لتكوين النقاد الكبار العظماء، عندما كفّت مصر عن إرسال مبعوثين إلى العالم والجامعات العالمية في العلوم الإنسانية ومنها علوم اللغة والآداب، هذا أفقر الجامعات المصرية والحياة الثقافية المصرية. الأمر الثاني؛ التدهور الذي حدث في وسائل الإعلام المصرية، حيث كانت الصحف والمجلات يملكها ويصدرها كبار المثقفين ممن يقرأون. وثالثًا إغراءات الحياة العامة والضرورات المادية، فالحياة المصرية تضيق على النقاد الشباب وتضطرهم إلى أن يعاروا للدول العربية لكي يضمنوا قُوتهم، فينصرفوا عن النقد ويتلهوا بأشياء أخرى، لأنه عمل مضن وشاق ويجلب من العداوات أكثر مما يعطي من الصداقات.

DSC_6394

حتى أعوام قليلة مضت؛ كانت المجلات الثقافية العربية منفذًا لهؤلاء النقاد يعوِّضهم بعض الشيء، لكنها أصبحت هي أيضًا تعاني الآن. هل لديك تفسير لما يحدث؟

أرى ذلك مرتبطًا بشيء جذري في التحولات الثقافية المعاصرة، وهو الانتقال من العصر الورقي إلى العصر الرقمي. ليست المجلات وحدها التي تعاني، الصحف أيضا. لا على المستوى العربي والمصري، وإنما على المستوى العالمي كله. الإنسان الآن يمر بمرحلة جديدة في التواصل الاجتماعي والثقافي. الأنماط التي كانت شائعة في العصور الماضية أخذت تترك مكانها لأنماط جديدة، والتلقي الآن لم يعد مقصورًا على الطبعات المحدودة التي كانت تنتجها المطابع في دور النشر الإقليمية في البلاد المختلفة، بل اتسع بشكل مذهل عن طريق انفجار ثورة المعلومات وأدوات التواصل الاجتماعي. «ثقافة الشاشة» هي المرحلة الجديدة التي نعيشها لكننا لم نعِ تداعياتها بعد.

الحديث عن المنطقة العربية يأخذنا لمنطقة شائكة بعض الشيء، تتلقى النقد بسببها غالبًا، وتتمثل في مساهماتك بدول الخليج. ما ردك على منتقديك؟

اعتادت مصر، وهذا قدرها، أن تكون مع قليل من الأقطار العربية الأخري مثل الشام والعراق؛ قاطرة النهضة العربية ورائدتها، منذ أن كان أحمد شوقي أمير الشعراء وطه حسين عميد الأدب العربي والمدارس المصرية هي التي يتعلم فيها أبناء الأمة العربية كلهم من المشرق إلى المغرب. قامت مصر بدور الريادة في السياسة والأدب والفن والثقافة والعلم وكل المجالات، ثم بدأت الأقطار العربية الأخرى تبني المؤسسات والجامعات، تُنشَأ فيها الفنون وتزدهر بها الحركات الأدبية، ومن بينها كانت هناك منطقة عربية حباها الله بنعمة الثروة النفطية التي كانت محرومة منها بقية البلاد، وهي بعض الدول الخليجية، فاستقطبت أكبر العقول والمواهب المصرية والعربية لكي تنهض بحركة التعليم فيها، ثم أخذت تقوم بدورها في إنعاش الثقافة العربية. استعانت أولا بالمهنيين المصريين من أطباء ومهندسين، ثم أخذت تستعين بالمفكرين وأساتذة الجامعات، وتقيم أنشطة ثقافية وعلمية. تشجيع المصريين لهذه الأنشطة متعدد الإيجابيات؛ من ناحية هو استمرار لدور مصر الرائد في قيادة الحركة الثقافية والإبداعية العربية، ومن ناحية ثانية هو إتاحة فرصة لتعدد المجالات والمراكز، فبناء جامعة جديدة في أي قطر عربي هو إضافة للعقل والفكر والثقافة العربية. عندما نجد أنفسنا مدعوين لدعم هذه المؤسسات؛ لا يمكن أن نصف تلبية هذه الدعوة بأنه مجرد سعي وراء المال ورائحة النفط، كما درج أن يقول المثقفون من أصحاب الشعارات الأيديولوجية، ومعظمهم من اليساريين للأسف، وأقصد اليساريين على وجه التحديد لأنهم من ابتدعوا هذه البدعة، يدينون أي نشاط ثقافي تقوم به دول الخليج بحجة أنه، كما يزعمون، تفوح منه رائحة النفط، ثم إذا حصلوا على جائزة من هذه المؤسسات نفسها هرعوا إليها ورحّبوا بها وأخذوها بالسر أو بالعلن، ثم تكتموا على ذلك ولم يتغير خطابهم.

ما شكل الدعم الذي تقدمه كناقد للدول العربية؟

اشتركت في تأسيس كثير من الجوائز والمسابقات العربية في مختلف أقطار الوطن العربي، ومنها ما تم في الخليج. ففي العقدين الأخيرين تميزت دولة الإمارات العربية بأنها تتبني مشروعات أدبية وثقافية ذات الأهمية البالغة في دفع عجلة التفوق الفني والإبداعي والثقافي للوطن العربي بأكمله. اشتركت في تحكيم جوائز في الشارقة ودبي، وإنشاء جوائز في أبو ظبي مثل جائزة الشيخ زايد، ومشروع مثل أمير الشعراء.

DSC_6768.jpg

أمير الشعراء تحديدًا كان سببًا في كثير من الانتقادات، إلى حد وصفك بشاعر المليون الخليجي. ما السبب في ظنك؟

عندما دُعيت إلى المساهمة في تحكيم أمير الشعراء رحّبت، لكن كانت لي ملاحظتان في بداية المشروع؛ الأولى أن كثيرًا من القصائد التي وردت إلينا كانت في مدح بعض الحكام فتحفظت قليلا وأبديت رغبتي في الاعتذار، فذهبوا لاستشارة الأمير المشرف على المشروع، وكانت المفاجأة الجميلة أنه أصدر قرارًا أميريًا بمنع قصائد المدح في برنامج أمير الشعراء وكان هذا كسبًا عظيمًا للحركة النقدية والشعرية. الأمر الثاني هو تسمية البرنامج، لأن المصريين لديهم حساسية من أن يُطلَق لقب أمير الشعراء على شاعر بعد شوقي، فاقترحت أن يكون اسم البرنامج أمير شعراء الشباب، خاصة وأن سقف عمر المشاركين لا يزيد على 45 عامًا، فردُّوا على بأن البرنامج قد أخذ شهرته الإعلامية باسم أمير الشعراء ولا بأس من الإبقاء على ذلك، فحرصت طيلة الدورات الأولي والثانية والثالثة في كل مداخلاتي أن أؤكد على أن هذا البرنامج للشباب لكي أؤكد الفكرة.

هذه الدورات أثارت ثائرة الشعراء المصريين من كبار السن، ممن تجاوزوا سن الخامسة والأربعين لأنهم فقدوا فرصتهم في المشاركة، ثم أخذوا يدينوننا بأن الجائزة التي يعطيها البرنامج ضخمة، مليون درهم، ومن شأنها إفساد الشعراء. كل الفنانين يظفرون بالملايين من الراقصة إلى الممثل إلى الموسيقار إلى الفنان التشكيلي، لماذا يضِّن البرنامج على الشعراء بأن يأخذوا المليون في مطلع حياتهم ليحلّوا مشاكلهم المادية، فالفقر أكثر مدعاة للفساد من الثراء والرخاء، المهم أن يكون الإنسان ذا شخصية متماسكة متينة.

هذا البرنامج أعطى قبلة الحياة للشعر العربي بعد أن كاد أصحاب المواهب ينصرفون عن كتابة الشعر، أصبح لدينا الآن، ليس عشرة أمراء للشعراء الشباب فقط، ولكن خمسون من الذين رُشِّحوا مع هؤلاء العشرة يعمرون المنتديات والمؤتمرات والثقافات العربية في مختلف الأقطار. أعتز بمشاركتي في البرنامج لأقصى درجة وأفخر بأنني قمت بهذا الدور، وأنني أدّيت الضريبة المفروضة على نقديًا تجاه الشعراء الشباب، ومن يستعيد ويشاهد مثل هذا البرنامج عن طريق اليوتيوب مثلا؛ أتحداه أن يجد كلمة قد قُلتها خلال سنواته العشر تخالف ما أكتبه من آراء وملاحظات نقدية، بل ألتزم بمنتهى الدقة والحرص على كل مبادئي النقدية في دفع الشعرية العربية للتقدم، ولا يعنيني على الإطلاق من يعايرني بأنني شاعر المليون الخليجي.

ألا يمكن أن نُرجِع سبب ذلك النقد إلى الجوائز وما يُحاط بها من علامات استفهام تجعل لجان التحكيم في محل انتقاد على الدوام؟

كل جائزة تستمد قيمتها من أمرين؛ الأول نزاهة التحكيم، فلابد أن يتسم بأقصي درجة من الموضوعية والحياد والكفاءة. والثاني عدم تدخل الهيئات المنظمة لهذه الجوائز في النتائج. فالتحكيم هو عِرض الجائزة، والأسماء التي تفوز هي التي تضيف لأي لجائزة وتمنحها قدرها. لو تحدثنا عن جائزة نوبل مثلًا، وهي النموذج الأعلى وإن كان قد مسّه بعض العوار في العام الأخير، سنجد أنها استمدت قيمتها العظمى من الذين حصلوا عليها.

في ظل هذه الشروط الموضوعية لابد أن يمدح الجوائز المجيدون ولابد أن يذّمها الفاشلون، لأن هؤلاء الفاشلين والضعاف سوف يتقدمون إليها ويُحرَمون منها، هؤلاء المحرومون لا ننتظر منهم قصائد مديح على الإطلاق، لأنهم لن يدينوا أنفسهم، فالكُتَّاب والشعراء والفنانون ليسوا من الشجاعة بحيث يعترفون بنقصهم أو خطئهم.

بمناسبة ذِكرك لجائزة نوبل. ما تعليقك على إعلان حجب جائزة الآداب هذا العام؟

يتسرب أحيانا الفساد إلى كل المؤسسات، ومؤسسة نوبل حدث معها ذلك، لكن الجميل أنهم أدركوا هذا وأوقفوه. وهو في النهاية فساد جزئي جدا مما يعشِّش في مؤسسات كثيرة لدينا. لكن تلك الخطوة بوقف الجائزة تتسم بالشجاعة، ولابد أن نملك الجرأة على مثلها هنا في منطقتنا العربية.

251652

لو انتقلنا لجانب أكثر حميمية وسمحت لنا بالاقتراب من حياتك الخاصة؛ هل تحدّثنا عن زوجتك الدكتورة قدرية زكي وفقدانك لها منذ أربع سنوات؟

كانت تجربة مريرة، فقدت معها حب العمر، حيث كانت قدرية زميلتي في الكلية، تعرفت عليها في السنة الثالثة، لفتت نظري بأناقتها وجمالها وذكائها فأحببتها، وصرت أهديها روايات ودواوين شعر لاستمالة قلبها.

كانت نموذجًا فريدًا ومثقفًا، تمتلك حسًا فنيًا قويًا. حتى مرحلة متقدمة من عمرها كانت تريد أن تلتحق بكلية الهندسة، حتى بعد أن حصلت على الدكتوراه في الآداب. أشبعت حسها الهندسي بالالتحاق بدورات الفنون المختلفة حينما كنا في المكسيك. إلى جانب مهاراتها المنزلية، وحرصها على معرفة سر الأكلات المميزة في كل بلد نقيم به، وبراعتها في التفصيل وصناعة الفساتين.

وجود قامتين على المستويين العلمي والإنساني بهذا الشكل في منزل واحد. كيف ساهم في نشأة أولادكما الثلاثة؟

لعلهم تأثروا دون أن ندري بطموحاتنا الشبابية، فأصبحت ابنتنا الكبري طبيبة وابننا الأوسط مهندسًا. لكننا لم نفرض عليهم أي نموذج في التعليم، كان قرارهم منذ الصغر. أذكر مثلا أن ابنتي نهلة حينما كنا بمدريد في الثمانينيات وجاء الأديب العظيم توفيق الحكيم لزيارتنا في البيت، كانت هي شابة في المرحلة الثانوية، وعندما سألها أخبرته أنها تريد أن تصبح طبيبة، رغم أنني لم أبُح لها يومًا برغبتي السابقة في أن أصبح طبيبًا. سألها الحكيم عن التخصص فقالت «مخ وأعصاب» فرد ضاحكا «ومن الرجل المجنون الذي سيسلِّم مخه لامرأة». أصبحت طبيبة بالفعل؛ لكنها تخصصت في أمراض النساء، ثم تركت الطب وعملت بالتأمين الطبي وهي ناجحة جدا في عملها.

الابن الأوسط، أيمن، مهندس معماري لكنه شُغِف بالكمبيوتر وكان من أوائل الشباب الذين أتقنوه، وشُغِف الآن بالطاقة الشمسية، فافتتح شركة للتركيب وإعداد محطات الطاقة الشمسية مع مجموعة من أصدقائه، وهو الذي صمّم المنزل الذي يقطن فيه مع إخوته بالتجمع الخامس. وابنتي الثالثة لميس درست التجارة وتعمل في إحدى الشركات الإسبانية بمصر.

ألم يُصَب أي منهم بعشق الأدب؟

كلهم يهوون القراءة، لكن الكتابة لم تخُض فيها سوى حفيدتي، ابنة نهلة، تعشق الأدب وتكتب روايات وأشعارًا، لكن للأسف باللغة الإنجليزية نتيجة لتربيتها.

ألا تري في ذلك مفارقة؟ فأنت عضو بمجمع اللغة العربية وحفيدتك تكتب باللغة الإنجليزية، وإن وسّعنا الرؤية يمكن القول أن تلك أزمة جيل بالكامل. ما السبب في رأيك؟

القصور الشديد والفشل الذريع لمعلمي اللغة العربية، نتيجة أننا لا نعرف مناهج تعليم اللغات الحديثة ولا نستخدمها، ولا نتطور، نتصور أننا لا نحتاج إلى دراسة هذه المناهج والآليات التربوية في تعليم العربية، فيخرج مدرسو اللغة كل همّهم أن يحفظ التلاميذ القواعد ويجيدوا النحو والصرف، ما فائدة النحو والصرف إن لم يُدرَّس عن طريق النصوص الأدبية الجميلة وبمنهجيات حديثة مثل بقية اللغات، هذا هو العار الملتصق بنا وأنا أندد به في كل مجال ولا أحد يسمع، أدين مجمع اللغة العربية الذي أنتمي إليه لأنه لا يغيِّر ولا يصنع المناهج التي تحبِّب اللغة العربية لأولادنا.

هذه الأزمة ليست في مصر، وإنما في المصريين. فعندما كنت مستشارًا ثقافيًا في إسبانيا كان من بين أعمالى أن أعقد امتحانًا لسنوات النقل في المراحل الإعدادية والثانوية لأبناء الجالية المصرية في مدريد، فوجئت أن كلهم، وحتى أبناء زملائي الدبلوماسيين، تعوّدوا أن تُدار هذه الامتحانات بالغِّش، بحجة أن ظروفهم سيئة وليس لديهم مدرسو لغة، ففزعت من ذلك ورفضت، حصدت عداوة الجميع لأن أبناءهم رسبوا، لكني اجتهدت في السنة التالية أن أوفِّر مدرسين يدرِّسون لهم المناهج حتى يستطيعوا اجتياز الامتحانات دون غش.

حينما عدت للقاهرة وجدت أن أولياء الأمور يشاركون في أساليب تغشيش أبنائهم في المدارس، فالغِّش هو القانون السائد الآن، بخلاف ما يعكسه الإعلام أو نتغني به في الصحف، لقد تدهورنا إلى أبعد مدى. التعليم الذي ينجح فيه كل الطلاب دون أن يبذلوا جهدًا أو بالغِّش لابد أن يتدهور وينخفض مستواه إلى الحضيض، وتلك ليست مسئولية الدولة فحسب، لكن هذا لا ينفي أنها مقصِّرة في مسئولياتها، فلم تحافظ على المستوى التعليمي الجيد ولم تبذل للأساتذة والمدرِّسين الرواتب الكافية التي تحفظ ماء وجههم وتقيم حياتهم.

نفرح بشعار التعليم المجاني ولا نقوى على تنميته وتمويله، أو النهوض بالجامعات وتغذيتها بالميزانيات الكافية ليكون هناك تعليم جيد. التعليم المجاني لابد أن يكون للمتفوقين، ما داموا تفوقوا لا يمكن أن يكون فقرهم عائقًا في سبيل تعليمهم، أما غير المتفوقين فيكفيهم التعليم المتوسط ويدرَّبون على الحِرف والوظائف، ومن يريد أثناء عمله أن يلتحق بالجامعة فليفعل ذلك بمصروفات مثل كل دول العالم. الآن نحن نتوّهم أن لدينا تعليمًا مجانيًا، فالتلاميذ من المرحلة الابتدائية يحتاجون دروسًا خصوصية.

DSC_6899

ذكرت أن ابنك الأوسط هو من صمّم البيت الذي يعيش فيه مع إخوته. هل البيت الذي نجلس فيه حاليًا له مصمِّم محدد؟

بالطبع؛ المهندس حسن فتحي. فحينما كنت مستشارًا ثقافيًا في إسبانيا هاتفني المشرف على الثقافة في إقليم كتالونيا ببرشلونة ليخبرني بأنهم سيقيمون مؤتمرًا للإبداع في حوض البحر الأبيض المتوسط ويريدون دعوة المهندس المعماري العظيم حسن فتحي لكي يكون رئيسًا شرفيًا لهذا المؤتمر عام 1983، اجتهدت لكي أحصل على تليفونه وأحدِّثه، لأسأله إن كان يحب مصر، فرد على محتدًا «من أنت لكي تسألني هذا السؤال؟»، فعرّفته بنفسي وأخبرته عن المؤتمر وأن تلك فرصة لرفع علم مصر فوق مقر أكبر مؤتمر يُعقَد في برشلونة للإبداع في الشرق الأوسط، فقال لي «لو كنت أحتضر سآتي لكي يرتفع علم مصر، لقد غلبتني أيها الشاب».

حضر فتحي إلى مدريد واستمتعت بصحبته أيامًا طويلة، ثم سألني عن مكان سكني في القاهرة، فأخبرته أنها شقة قريبة من النيل في المعادي، وأن لديّ قطعة أرض اشتريتها بمدخراتي من رحلة المكسيك أريد أن أبنيها في المعادي الجديدة، فطلب ورقة بيضاء وسألني عن بياناتها من مساحة واتجاهات وهكذا، ثم أخذ يرسم خطوطًا لكي أبني بها بيتي الصغير، أخذت هذه الخطوط كأنها رسوم مقدَّسة وجئت بها إلى القاهرة لكي أستخرج تصريح بناء البيت، ففوجئت بأن قوانين البناء في المعادي تمنع إقامة النموذج الذي رسمه لي حسن فتحي، فاضطررت للجوء إلى أحد تلامذته لكي يعدِّل لي الرسم ويتوافق مع قوانين البناء.

وكيف وصل توفيق الحكيم إلى بيتك؟ كما ذكرت قبل قليل. هل كان معتادًا على زيارتك في إسبانيا؟

لا؛ كان قادما على رأس وفد مصري يضم حسين فوزي وحسين مؤنس والناقد السينمائي أحمد زكي وبدر الدين أبو غازي، لحضور مؤتمر مسرحي، وأنا كنت في حاجة لعمل نشاط ثقافي في إسبانيا، واسم توفيق الحكيم عظيم. فتواصلت مع وزير التعليم العالى الذي كنت أتبعه حينئذ وهو الدكتور مصطفى كمال حلمي، ليزيد لي الميزانية لكي أستطيع العمل والإنفاق، وبالفعل أُخطِرت لاستقبال الوفد. أول شيء وجدت أن المؤتمر وضعهم في فندق متوسط القيمة لا يليق بمستواهم، فحجزت لهم في فندق هيلتون مدريد، وذهبت لاستقبال توفيق الحكيم والوفد، وأمام الفندق وقف الحكيم ورفض الدخول، لأنه ليس الفندق المحجوز لهم فيه، وبعد محاولات مضنية لإقناعه بأننا غيّرنا الحجز، وافق بشرط؛ أن أمضي أنا على كل الفواتير، فوافقت.

كنت أذهب إليه من الإفطار، وهذا أتاح لي فرصة ذهبية لصحبته سبعة أيام متتالية، وخلالها كانت زيارته لنا في البيت، كان هذا الأسبوع من أجمل لحظات العمر، لو كنت سجّلت خلاله تفاصيل حواراتي معه لكنت خرجت بكتاب من أفضل ما يمكن أن أكتب، لكني للأسف لا أدوِّن ملاحظات، ونسيت معظم ذلك الآن.

من المؤكد أن هناك الكثير من المواقف، كالتي ذكرتها مع الحكيم وفتحي، جمعتك بمعظم المبدعين في الوطن العربي، لكني أظن أن لك رأيًا خاصًا تجاه مرشح نوبل شبه الدائم منذ أعوام؛ أدونيس.

أدونيس من أقدر الشعراء العرب، ليس في العصر الحديث فقط وإنما في كل العصور، لكنه شاعر متمرد ويعشق الاختلاف، شاعر من القلائل الذين يجمعون بين الموهبة الشعرية والموهبة النقدية، كتاباته النقدية بالغة العمق والجدة، رسالته للدكتوراه التي نُشِرت مؤخرًا في مصر بعد صدورها بثلاثين عامًا وهي «الثابت والمتحول» نموذج للشجاعة الأدبية والآراء الجريئة في مطارحة التراث الشعري والنقدي العربي، مختاراته من الشعر العربي من أجمل ما يتم اختياره وانتقائه، تجاربه الشعرية بالغة الثراء والقوة، هو الذي أسّس، إلى جانب آخرين، لقصيدة النثر وحوّل مسار الشعرية العربية، أنا عظيم التقدير له، لكنني بنفس القدر شديد النقد لكثير من آرائه وتوجهاته.

عندما شرعت في كتابي «أساليب الشعرية المعاصرة» اخترت كوكبة من أكبر الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، نزار قباني وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف ومحمد عفيفي مطر ومحمد الماغوط وغيرهم، لكن قبل أن أكتب الفصل الخاص بأدونيس أخذت أقرأ كل ما يقع تحت يديّ عنه وله، لأنها ستكون شهادة للتاريخ. أذكر أنني أهديته نسخة من الكتاب في الثمانينيات عندما كنا في صنعاء بدعوة من الدكتور المقالح، رئيس الجامعة حينئذ، وحسب ما أباح لي في اليوم التالى قائلًا «سهرت عليه الليلة بطولها وقرأته كلّه، ولديّ على الفصل الخاص بي 40 ملاحظة سجّلتها»، لكن الوقت لم يتسع لكي أعرف هذه الملاحظات الأربعين حتى اليوم.

آخر لقاء لي مع أدونيس كان منذ عدة سنوات، بعد ثورات الربيع العربي، كنا معًا في العاصمة الكردية أربيل بدعوة من بعض الأصدقاء العراقيين، ودار بيننا حوار ساخن حول الثورات العربية. أذكر أنه قال لي إن الثورات التي تخرج من المساجد لا قيمة ولا مستقبل لها، مشيرًا إلى مشاركة الجماعات الدينية في ثورة يناير. فرددت عليه بأن العالم العربي ليس به عدد كافٍ من البارات لكي تخرج منها المظاهرات. احتد النقاش بيننا وكان هو ضد الثورات المصرية والسورية والتونسية، وكنت أعتقد حينها أن المساجد لم تخطف الثورات العربية، لكن الأحداث كشفت لنا أن التيار الديني أفسد كثيرًا من هذه الثورات وحوّلها لحروب أهلية كما يحدث في سوريا واليمن وليبيا، ولم ينجُ منها بالكاد إلا مصر بفضل 30 يونيو، وتونس بفضل الرباعية التي كفكفت من طغيان جبهة الإنقاذ والإخوان في تونس إلى حين.

ssdx

قبل أن أُنهي أسئلتي؛ أوّد أن أعرف سبب اختيارك للمسرح دون غيره من الفنون حينما خُضت مجال الترجمة من الإسبانية.

لأنه يتميز بكونه أكثر الفنون اقتصادًا في اللغة، أكبر مسرحية لا تزيد على 120 صفحة ومرَّكزة في حوارات، فهو من أكثر الفنون حيوية وتأثيرًا في المُشاهِد. كما أنني لم أكن أختار أي مسرحية عند الترجمة، وإنما أختار المسرحية التي لو كنت كاتبًا مسرحيًا لكتبتها لأداء رسالة هذا وقتها في المجتمع المصري.

إذا طلبت منك وصفًا يعبِّر عنك، بكلمات تريدها أن تُحفَر باسمك. ماذا تقول؟

أقول أنني أمضيت حياتي عاشقًا للفن والإبداع والجمال والحرية. هذا ما أتمنى أن يبقى من إنجازي الفكري والأدبي. فالأنماط تختلف والدنيا تتغيَّر لكن الجوهري في عواطف الإنسان يتجلى بأشكال متعددة. من يتوهم بأن الحب انتهى من الأرض أحمق وأعمى. على العكس؛ الحب هو القوي العظمي التي تدفع البشر. من يحكم على الحاضر بأنه يُفسِد جمال الماضي وأن الماضي أجمل واهم. كل جيل وكل عصر له طزاجته وبهجته وروعته، له أشكاله ومتعته. الكبار عادة يستغرقون في مدح الماضي باعتباره الزمن الجميل والعصر الذهبي، نتيجة لأنهم يعانون حينئذ من الشيخوخة ومن تدهور حواسهم ومن تعقُّد عواطفهم ومرارة تجاربهم. لكني ممن يدركون النسبية الشديدة في الأحكام وأن لكل شيء جوانبه الجميلة، وأن الفن والأدب والثقافة وعشق الجمال بكل تجلياته، هو أرقى ما في الإنسان. نحن نرتكب جريمة حقيقية عندما نحارب هذا الجمال، ومن يقيمون تعارضًا بينه وبين العقائد أو الأيديولوجيات يذبحون مواهبهم ويطمسون إنسانيتهم ويضرّون بالآخرين ويؤذونهم؛ أعداء الجمال قتلة.

أخيرا؛ بماذا ينشغل د.صلاح فضل في تلك الفترة؟

باستكمال المسيرة ومشروعات الكتابة إن أمهلتني الحياة وقتًا، حيث أستشعر أنني أصبحت ضيفًا، كل ما كان يمكن أن يعتمل في نفسي من طموحات شخصية يتضاءل، وتبرز بقوة آمالى لمستقبل الوطن والحياة الفكرية والإبداعية والثقافية، ليذوب الخاص في العام، ويتقلص الشخص ليصبح مجرد شعاع من الضوء يريد أن يأخذ طريقه إلى السماء.

Comments