المسودات.. بين الذكرى والقيمة

منذ أدركتُ الحياة، وجدتني في منزل مليئ بالأوراق المخطوطة، لدرجة تخيلتُ أنه لا يوجد مسكن يخلو منها، لكن المناوشات شبه المستمرة بين أمي وأبي بسببها، جعلتني أستفسر حول الأمر، فعلمتُ أن ذلك لا يحدث إلا في بيوت الكُتّاب والمبدعين. أمي تحب الأدب وتؤمن بأهمية الثقافة، لكنها ترفض الاستسلام أمام ما تسميه «الفوضى»، ولا تقنعها أقوال البعض بأن تلك ضرورات يفرضها الإبداع.

تصاعدت الأمور مع امتهان أخي الأكبر للكتابة، ورغم أنه متخصص بمجال الحاسب الآلي، إلا أنه ورث حب القلم ولم يستغنِ عنه يومًا، ولا عن أي من أوراقه. أما أنا فعلَى العكس؛ لم أعتد على الخط بالقلم كثيرًا، وكان حاسوبي هو الرفيق الدائم لي، لكني منذ فقدتُ أبي؛ أدركتُ قيمة تلك المخطوطات، التي ظننت أن أهميتها تنتهي مع كتابة النص إلكترونيًا ونشره، صرت أبحث عن كل ورقة تحمل كلماته المرسومة لأحتفظ بها.

بالنظر إلى تلك الكتابات، سواء الورقية الخاصة بأبي وأخي، أو الإلكترونية الخاصة بي، أجد أن دائمًا هناك اختلافًا، ولو بكلمات قليلة، بين النسخة الأولى، والأخيرة المنشورة. حتى هذه اللحظة؛ بالتأكيد ليست تلك الصورة الأولي لتلك المقدمة، فقد سبقتها محاولات أخرى، ورغم عدم اعتماد أي منها، إلا أنني لم أحذفها أو أتخلى عنها، بل تركتها في ملفٍ آخر، ربما لن أعود له يومًا، لكن وجوده يشعرني بالراحة.

في الوقت الذي تظل غالبية مخطوطاتنا العربية حبيسة الأدراج، وأحيانًا في عداد صناديق المهملات؛ تستعد اسكتلندا للاحتفال بعد أربع سنوات بالذكرى الأربعمائة لتأسيس متحف الكُتّاب (عام 1622) المهتم بجمع متعلقات ومقتنيات الأدباء منذ سنوات طويلة، ويولّون المخطوطات الأولى أو «المُسوَّدات» اهتمامًا خاصًا لقيمتها البحثية الكبيرة.

الحاسب الآلي لغة العصر

تتواجد تلك المُسوَّدات - على الأغلب - إما لدى الكُتّاب أو ورثتهم، أو دور النشر التي أصدرت الطبعة الأولى من العمل. في دار مصر العربية؛ يؤكد مديرها وائل الملا أن الأعمال المخطوطة كانت تعود لمؤلفيها بعد جمعها، أما الآن فلم تعد هناك مخطوطات أو أوراق، كل شيء يتم عبر الإيميل، بداية من إرسال الكاتب لعمله، ومرورًا بإجراء التعديلات أثناء عملية النشر، والتي لا تكون بنسبة كبيرة، ومعظمها في الكتابات البحثية، كإضافة أو حذف فصل.

الحال نفسه في دار التنوير، اندثر استخدام الورق سوى في الطباعة، يقول شريف جوزيف رزق، مدير الدار بالقاهرة: الـ «وورد» والانترنت غيّرا من شكل عملية النشر بنسبة كبيرة، فالكتب نتعامل معها إلكترونيًا، أما الملفات القديمة التي تسبق التطور التكنولوجي، فنجمعها مرة أخرى لو هناك حاجة لإعادة طباعتها. في كل الأحوال هناك حافظة لكل عمل تتضمن كل ما يخصه منذ نسخته الأولى وكتابة العقود حتى طباعته ونشره في نسخته النهائية، نحاول الآن الاحتفاظ بتلك الملفات بشكل دائم من خلال خدمة جلوب بوكس Globe books.

مخطوطات سبعينية

أما دار العربي للنشر والترجمة؛ فقد مكّنهم امتلاك الحاسب الآلي منذ ثلاثين عامًا من الاحتفاظ بالكثير من مُسوَّدات الأعمال المكتوبة بخط الأدباء، التي لم يسترِّدها أصحابها بعد جمعها وطباعتها، مع الوقت تراكمت وأصبحت الدار في حاجة للانتقاء من بينها، يقول شريف بكر: نتخلص من الأشياء التي لن نحتاجها، فنخرجها كورق «دشت»، يتحكَّم في ذلك أهمية الكتاب والمؤلف، والخط المكتوب به العمل، أحيانًا يكون غير مقروء، وأحيانًا يكون شكل الكتابة في حد ذاته جميل ويشجِّع على الاحتفاظ بالمخطوط.

من الأعمال التي يملك بكر مُسوَّداتها، نسخة من كتاب «نظر» لمحيي الدين اللباد، تتضمن تصحيحاته وتعليقاته وملاحظاته، يضيف: وجدتُ لدينا أيضًا العمل الداخلي الخاص بدار الفتى العربي، التي كانت في لبنان بالسبعينيات، حيث كان والدي المدير العام للدار حينها، من بين المُسوَّدات مثلا؛ أفكار السلاسل الخاصة بهم وآلية تقييم الأعمال التي تقدَم في كل منها والدورة المستندية ودورة النشر ومقايسات المطابع وخطط التسويق، كلها توضِّح كم كانوا احترافيين، ربما أكثر من الآن.

«ألفريد جاري» كاتب روائي ومسرحي ظهر مع نهاية القرن التاسع عشر، وتوفى في الثلاثينيات من عمره، لم يُلتفَت إلى كتاباته وتُكتشَف أهميتها إلا بعد مرور ما يقرب من المائة عام، وفي عالمنا العربي يوجد بالطبع من لم يُنفَض عنهم الغبار بعد، أو نحتاج لإعادة نشر أعمالهم في اللحظة الآنية، حول ذلك يقول بكر: أخرجنا بعض الكتب وأعدنا جمعها ومراجعتها لنعيد نشرها مرة أخرى، لأن هناك أشياء قد تهم الجيل الجديد ولم يتسني لهم فرصة قراءتها، تحتاج فقط لإعادة طباعة في شكل مختلف يلائم العصر، أما المضمون فهو جيد جدًا ويخلو من الأخطاء، لا يحتاج لتحريره مرة أخرى كما يحدث مع بعض الأعمال الآن.

أشتاق للحبر وكراسّاتي كبيرة الحجم

يحِّن الكاتب إبراهيم عبد المجيد للمُسوَّدات الورقية، حينما كان يستخدم الحبر في الكتابة، فمنذ أقل من عشر سنوات كانت الكراسات كبيرة الحجم هي الحاضنة لمؤلفاته، يكتب على صفحاتها اليسرى بالقلم «الفلوماستر» الأسود، ويصحّح على الصفحة اليمين، يقول: كنت سعيدًا جدًا بهذا الأمر، واحتفظتُ بالمُسوَّدات فترة طويلة، لكن مع الزمن والانتقال من مكان لآخر اختفت وضاع الكثير منها، إلا أنني احتفظت بمُسوَّدات «لا أحد ينام في الإسكندرية» و«طيور العنبر» كنوع من الذكريات الجميلة، وأذكر أن مصمم غلاف النسخة الإنجليزية من «طيور العنبر» استعان بجزء من تلك الأوراق في التصميم.

يستطرد عبد المجيد: عندما صرت أكتب على «اللاب توب» ذهبت حلاوة الورق، وجاءت في المقابل حلاوة من نوع آخر، حيث يمكنني الحذف والتصحيح والبحث عن أي كلمة بسهولة، فكل وسيلة لها جمالها، لكن تظل المُسوَّدات شيئًا جميلًا جدًا، يهتمون بها بالخارج، ففي تاريخ الأدب العالمي يحتفظون بالمُسوَّدات وأحيانا يقيمون معارض ويبيعونها بآلاف الدولارات، لكننا في مصر يمكن أن نبيع الكاتب نفسه أسهل من بيع الروايات.

النُسَخ الأولى من مخطوطات روايات عبد المجيد لا تختلف كثيرًا عن المطبوعة، فغالبية التعديلات تكون لغوية أو نحوية، وربما تغيير كلمة أو جملة على الأكثر، بخلاف روايتين، يوضح: عندما كتبتُ «عتبات البهجة» في الجانب الأيسر كانت كلها بضمير الغائب، وصِرت أصحِّح فيها مرة واثنين وثلاثة على الجانب الأيمن، غيّرتها لضمير المتكلم فاختلفت تمامًا. ومثلها رواية «هنا القاهرة»، لكني لم أكن قد انتهيت منها بعد، عند نصفها حوّلتها لضمير المتكلم أيضًا، لكن ذلك كان إلكترونيًا وليس ورقيًا.

استبدلتُ الرواية بالكامل

أما الكاتب الشاب محمد الفخراني فقد وصل الأمر معه ذات مرة أن غيّر الرواية بأكملها، وهي «ألف جناح آخر للعالم»، يقول: لديّ نسخة أخرى من الرواية مختلفة تمامًا عن المنشورة، المشترك بينهما فقط الفكرة والعنوان. بعدما انتهيت من كتابتها ورُحت أبحث عن دار نشر لطباعتها، فتحتُ «الكمبيوتر» ذات صباح ووجدتني أقول أن هذا ليس ما وددتُ نشره، وفي هذه اللحظة قررتُ أن أكتب الرواية مرة أخرى لأنتهي منها في العام التالي في نفس الشهر، سبتمبر 2015. كانت الكتابة أسهل، ولم أحزن على السنوات التي ضاعت مع الرواية الأولى.

يضع الفخراني ضمن قائمة أحلامه الشخصية، التي لا يعلم إن كان سيحققها أم لا، أنه ربما ينشر نسختيّ الرواية في كتاب واحد يومًا ما، فهو يحتفظ بجميع الملفات على حاسبه، إلى جانب الأوراق الخاصة بكل رواية، يقول: أحيانًا تكون المُسوَّدة الأولى بدون أي تعديلات أفضل من الكتاب المطبوع الذي خرج بعد خمس مُسوَّدات، ويقول الكاتب لو عاد بي الزمن لوضعت المُسوَّدة الأولى بدون إضافة أو حذف، فهي أول صياغة وأول إحساس، وهذا حدث معي في «مزاج حر»، لأسباب كلها فنية، فهي العمل الذي شهد التغيير الأكبر في نسخته الأخيرة قبل الطباعة، عندما أضفت مقطعًا كاملًا، على عكس المعتاد، حيث تكون معظم تعديلاتي في النحو.

أحتفظ بمُسوَّدات جميع رواياتي عدا الأخيرة

مثله؛ الروائي أشرف العشماوي، فقد شهدت روايته الأخيرة «سيدة الزمالك» التغيير الأكبر خلال مسيرته الإبداعية، حيث كتب أغلبها بصيغة الراوي العليم أولًا ولم تعجبه على الإطلاق، فقام بإعادة كتابتها مرة ثانية بطريقة الأصوات لتظهر على الشكل الذي نُشرَت به، لكنها أيضًا الرواية الوحيدة التي لا يملك لها مُسوَّدة ورقية، لأنه كتبها مباشرة على الحاسب الآلي، ولا يعرف السبب في هذا التحول مؤخرًا، يقول: لازلتُ أحتفظ بمُسوَّداتي الأولى، لأنني أكتب أولًا على ورقة بيضاء بقلم رصاص ثم أقوم بنقل ما كتبت على جهاز «الكمبيوتر» بعد ذلك، وبالطبع أقوم بإجراء تعديلات أثناء عملية النقل، لديّ أكثر من مُسوَّدة لكل رواية قديمة، عدا رواية «سيدة الزمالك».

تخضع مُسوَّدة كل رواية للعشماوي؛ للعديد من المراجعات والتنقيح والتعديل والحذف والإضافة، فهو لا يكتب إلا بعد تمام البحث والمعايشة، يبدأ أولًا بأفكار عريضة أشبه بعناوين رئيسية ثم يضع عبارات مختصَرة أسفلها عن المكان والزمان وتحرُّك الشخصيات في الرواية، قبلها يكون قد انتهى من رسم كل شخصية في ملف منفصل يكتب فيه كل ما يتعلق بها، كأنها قاعدة بيانات عن حياة الشخصية الروائية، قد لا يستخدم الملف بالكامل، لكنه موجود تحت يديه، يستطرد: عندما أبدأ في كتابة الرواية لا ألتزم أبدًا بترتيب الأحداث والفصول التي تظهر في الشكل المطبوع النهائي الذي يقدَّم للقارئ، فمن الممكن أن أكتب النهاية أو فصل قبل الأخير ثم أكتب أول فصل أو الخامس وهكذا، أعمل أولًا مثل المخرج وبعدها أتحوَّل إلى مونتير أقوم بعمل مونتاج للرواية ثم تقطيع المشاهد والفصول وترتيبها بالصورة التي أريد من القارئ أن يقرأ بها روايتي، وبالتالي فالرواية عندما تظهر منشورة تختلف كثيرًا عن المُسوَّدة الأولى، وتقترب بذات القدر من المُسوَّدة الأخيرة حتى يكاد الفارق أن يكون غير ملحوظًا.

الحذف أهم من الإضافة

يمُّر الأديب السكندري مصطفى نصر في الكتابة - أيضًا - بعملية مشابهة، وهي شاقة من وجهة نظره، خاصة في مجال الرواية، رغم أنه المجال المفضَّل له بين مجالات كتابته الأخرى كالقصة القصيرة والسيناريو وقصص الأطفال والمقالات، يقول: تبدأ عملية كتابة الرواية بالتحضير لها - وهذه أطول فترة وأصعبها، وأجملها في نفس الوقت - فالكتابة الآن لابد لها من تحضير معلومات، وأجملها لأن الأحلام تكون عالية جدًا وقتها، وأظل أبحث عن البداية، خاصة عندما يكون الموضوع تاريخي، ففي رواية «الهماميل» كتبتُ عن فترة الحرب العالمية الأولى التي بدأت 1914، لكنني بدأتُ من فترة حكم السادات، وجاءت فترة الحرب الأولى وسط الأحداث، لكن في يهود الإسكندرية تتبعت الأحداث طبقًا لسياقها الزمني، فبدأتُ منذ فترة حُكم الوالي سعيد، ثم فترة الحرب العالمية الثانية، واتفاقية كامب ديفيد في الجزء الأخير.

ذكرت الكاتبة الإنجليزية «مارجري ألينجهام» في حياتها أنها تكتب كل عبارة أربع مرات، مرة لكي تسجِّل المعاني التي تريدها، وأخرى لكي تضيف إليها شيئًا نسيته، وثالثة لكي تزيل منها كل ما يبدو أنه لا لزوم له، والرابعة لكي تجعل العبارة كلها تبدو وكأنها فكّرت فيها لتوِّها، أما مصطفى نصر فيكتب الفصل أحيانًا أكثر من عشر مرات، لتغيير اللغة، والحدث، وربما تغيير الأسماء أيضًا. يضيف: كنتُ - في الماضي - بعد أن أنتهي من كتابة الرواية على الورق أبدأ في نقلها على الآلة الكاتبة، فأترك عملي في الشركة التي كنت موظفًا بها وقتها وأبحث عن آلة كاتبة جيدة وأكتب عليها، أبقي في القصر - الذي اتخذته الشركة إدارة لها - لأكتب الرواية، وهو مكان مهجور وبعيد عن المصنع، وعادة ما أكون في هذا المكان وحدي في المساء، بعدها أعود للبيت، أتناول طعامي ثم أستكمل الكتابة.

حول طقوسه بعد الكتابة، يقول: أترك الرواية مدة طويلة، ثم أعود إليها، لأنني عن تجربة، فور الانتهاء من كتابة الرواية، يصعب حذف شيء منها، فكل ما فيها غالي عليّ وصعب حذفه، لكن بعد تركها فترة أستطيع الحذف منها، والحذف في رأيي أهم من الإضافة، فقد كتبتُ رواية «الجهيني» واشتركتُ بها في مسابقة الرواية بنادي القصة، ولم أفز، ثم أطلعتُ على تقارير المحكِّمين، وجدتُ أحدهم يقول ما معناه إن الرواية مزدحمة بالشخصيات. وبالفعل أعدتُ كتابتها، وحذفتُ منها أسرة كاملة، فأفاقت الرواية بعدما كانت مختنقة بالشخصيات، واشتركتُ بها في مسابقة نادي القصة ثانية، ففازت بالجائزة الأولى.

يكتب نصر - الآن - مباشرة على الحاسب الآلي، ويرفض الآراء التي تنتقد الكتابة رأسًا على «الكمبيوتر» من كُتَّاب كبار، قائلًا: أستاذي خيري شلبي رفض هذا، وقال إن روايات ماركيز التي كتبها مباشرة على الكمبيوتر أقل من رواياته الأخرى، وقال آخر، إن هناك صلة بين قلب الكاتب وقلمه. أعتقد أن هذا ليس صحيحًا، فالصلة بين القلب والقلم يمكن أن تكون بين قلب الكاتب والكمبيوتر أيضًا. تلك الآلة سمحت لنا بأشياء كثيرة، أتذكّر أنني تعذبت في إحدى الروايات لكي أغيّر اسم شخصية، حيث كانت الرواية مكتوبة بالآلة الكاتبة، أما الحاسب الآلي فيكفي أن تعطيه أمرًا بالتغيير ليفعل ذلك فورًا. لقد وفّر لنا الجهد.

يعجبني خطَي وتنسيقي للقصيدة

علي العكس تأتي طقوس الشاعر أحمد سويلم في الكتابة، فهو لا يستخدم الحاسب الآلي وإنما يكتب على ورق غير مسطّر بقلم أسود، يقول: يعجبني خطي وتنسيقي للقصيدة بعد أن أنتهي منها. كنت فيما مضى أرسل قصائدي - باليد أو بالفاكس - للنشر، سواء في الصحف والمجلات أو دور النشر، بعد أن أصوِّرها صورة أخرى لتبقى معي، أما الآن فأنا أكتب قصائدي أو دراساتي الأدبية والنقدية بخط يدي وأدفعها إلى من يكتبها على الحاسب الآلي وأراجعها ورقيًا ثم أدفع بها إلكترونيًا إلى النشر وأحتفظ بصورة أخرى ورقية، وأحرص على مراجعة الديوان قبل طبعه لغويًا وفنيًا وتنسيقًا، بحكم خبرتي في مهنة النشر.

لكنه يتفق مع نصر؛ في انصرافه عن القصيدة بعد الانتهاء منها، لبعض الوقت، من أجل العودة إلى حالة القارئ أو الناقد، ثم يعود إليها لينقّح ويحذف ويضيف، وبعد ذلك يعيد كتابتها ويمزِّق ما سبق من الكتابة لتكون هذه الصورة الأخيرة هي النهائية، وفي بعض الأحيان يفعل ذلك أكثر من مرة حتى يستقر على الصورة التي يستريح إليها. يضيف: إذا قُدِّر للقصيدة أن تُنشَر، وقرأها ولو قارئ واحد، صارت مقدَّسة ولا أغيِّر فيها شيئًا، أما إذا لم تُنشَر وقررت في وقت ما أن أضعها في ديوان، فيجوز لي أن أعيد كتابتها إذا احتاج الأمر إلى ذلك أو أضعها كما هي إذا كانت ملائمة. وحقيقة؛ كثير من القصائد لا أضعها في ديوان حال كتابتها، ولهذا إذا وقعت في يدي قصيدة قديمة ورأيت من الملائم أن أنشرها اليوم، فعلت ذلك راضيًا، وإلا أبقيها في أرشيفي، ربما تلائم غدًا ديوانًا قادمًا آخر، فالقصيدة لا تموت، ولابد أن يأتي الوقت لعرضها على القارئ، ومع ذلك فهناك قصائد - بدايات - لم تُنشَر، ولا أعود إليها لتجاوزي تجربتها بكثير. فأنا أضع لنفسي قاعدة فنية مهمة تقول: إن القارئ يريد أن يعرف أين أنا اليوم أكثر من رغبته في معرفة أين كنت.

نسبة التغيير في قصائد سويلم ضئيلة، كتبديل مفردة بأخرى أو حذف سطر زائد أو إضافة صورة يكمل بها صور القصيدة، وهذا التغيير يكون شكلي إلى حد كبير ولا يمِّس جوهر الفكرة التي تنطوي عليها القصيدة، إلا أن العملية الأكثر مشَّقة بالنسبة له هي اختيار القصائد وترتيبها في ديوان، يقول: إنه عمل شاق، يخضع لذوق خاص، كما يخضع أيضًا إلى تمثُّل القارئ الذي سوف يقرأ الديوان وما إذا كنت أستطيع أن أجذبه إلى عالمي منذ البداية إلى النهاية، وكيف أجعله راضيًا عن مسيرتي، خاصة أنني على يقين من أن الديوان الجديد ينبغي أن يتجاوز ما قبله بأي درجة.

حذفت ثلاثة فصول من «شوق الدراويش»

لم يكن الروائي السوداني حمور زيادة في البداية يحبِّذ التعديل على الكمبيوتر، لكنه بعد جهد توَّصل لمعادلة مريحة، أن يكتب المُسوَّدة الأولى باليد دون توقف لتعديل أي شيء، وإنما يكتب كما يأتي على رأسه، بفجوات وبأخطاء في الأسماء وأحيانًا بتناقض أحداث، ثم يقوم بتبييضها على الكمبيوتر بكتابتها حرفًا حرفًا، فيجتهد في تجويدها وسد ثغراتها وتشذيبها. المرحلة التالية لانتهاء الكتابة على الكمبيوتر لا تتوقف، وإنما تستمر طالما لم يحِّس بالرضا عن النص، فيظل يعدِّل جملة هنا أو يحذف حرفًا هناك. يقول: المطبوع غالبًا لا يحمل تغييرات كثيرة عن المُسوَّدة الأخيرة، لكنه بالتأكيد يختلف كثيرًا عن أول مُسوَّدة، هناك أحداث وشخصيات كاملة يمكن أن تُلغى، ويمكن أن تُضاف شخصيات وأحداث. أتذكر أن أكبر نسبة تغيير قمت بها كانت في رواية «شوق الدرويش» حيث حذفت ثلاثة فصول كاملة، وقُمت بدمج فصلين آخرين في مواضع أخرى. إعادة الهيكلة هذه اقتضت ما يشابه إعادة الكتابة من جديد. بينما تقريبًا في «النوم عند قدميّ الجبل» - التي صدرت بعد شوق الدرويش - لم أُجرِ تعديلات تُذكَر على المُسوَّدات، المطبوع مقارب لما كُتب في المُسوَّدة الأولى إلا بعض تعديلات طفيفة.

تلك المُسوَّدات الأولى؛ أغلبها تائهًا بين كراتين الكتب والأدراج القديمة، لكن زيادة لا يستطيع الجزم، موضحًا: لا يمكنني القول بأنها ضاعت لأني على يقين أنها مازالت في المكتبة، ولا أقدر أن أقول أني أحتفظ بها، لأني لا أعرف مكانها بدقة.

لا جدوى من الاحتفاظ بالمُسوَّدات

أما الأديب اللبناني شربل داغر فلا يملك الكثير من مُسوَّدات ما كتب، لأن القسم الغالب من كتبه، بعد دخوله إلى عالم الحاسوب في العام 1987، انتقل إلى العالم الإلكتروني، ولم يعد نافعًا بالتالي، ولا دالًا الاحتفاظ بمُسوَّداته. يضيف: حتى كتبي الأولى لم يبقَ لي شيء من مُسوَّداتها، لأنني كنت أقيم في باريس، حينها، وأرسلتُ مُسوَّدات الكتب إلى بيروت، من دون أن تعيدها دور النشر إليّ. أما في العهد الإلكتروني فقد بات الاحتفاظ بمُسوَّداته غير ممكن، لأنني لا أتوانى عن العمل فيها تنقيحًا وشطبًا وإضافة، فيما تَظهر الصفحة الإلكترونية نظيفة، من دون تشطيباتها وتعديلاتها وعملياتها المادية. هذا ما حاولتُه في قصائد، فاحتفظتُ بعدة نسخ للقصيدة الواحدة، لكنني ما لبثت أن أتلفتها لعدم جدوى الاحتفاظ بها. لهذا يمكن القول إن «علم المُسوَّدات الكتابية»، أو «علم تكوين النص» بات صعب الإمكان إلكترونيًا، ومهدَّد حتمًا، لكن له أن ينتقل وأن يعزِّز علمًا آخر، شريكًا في درس النص، وهو ما يمكن أن نسميه بـ «علم التطريسات».

لكن داغر يحتفظ بمُسوَّدات أخرى، بدفاتر عديدة رافقتْه - ولا تزال - في عدد من أسفاره، إذ يعمد إلى تدوين لحظات، وتعابير، وانفعالات، ومشاهد، وألوان، فضلًا عن عناوين بريدية أو إلكترونية، أو عناوين كتب، أو «رؤوس أفكار» وغيرها الكثير. إلا أن التجوال فيها صعب في غالبه، إذ إن بعضها موصول بسياقه أو حادثته، مثل جواب أو تواصل ولكن من دون الجهة الأخرى، ما يعَّد حوارًا مقطوعًا في أحوال كثيرة. بالإضافة إلى مُسوَّدات أخرى، يعود إليها، وهي ما تبقّى في أرشيف العائلة، أو في أرشيفه الخاص، من صور فوتوغرافية، ولا سيما بالأبيض والأسود، في سنوات العمر الأولى.

Comments