مصطفى نصر: أعيش في الماضي

من أعماق الأبيض المتوسط خرجت حورية ذات شعر أحمر، يقول البعض إنها «عروس البحر»، تختزن في داخلها بعض الحكايات التي قررت أن تبوح بها لأحد المبدعين، ووقع اختيارها على الأديب السكندري ذي الأصول الصعيدية مصطفى نصر، فكتب تلك الحكايات في روايته الأخيرة «ما لم يقله البحر» الصادرة عن دار مدبولي للنشر والتوزيع، وتصدّرت حوريته الغلاف الذي صمّمه مينا مصري.

تتضمن الرواية عشرة فصول، كل فصل يحمل اسم شخصية رئيسية يتناولها الكاتب باستفاضة، لكنها تتشابك مع غيرها، فالشخصية التي قد تبدو هامشية في الفصل الأول مثلا؛ تؤدي دور البطولة في فصل آخر، والرابط الذي يصلهم جميعا في خط مشترك هو حي بحري، سبع من النساء وثلاثة من الرجال، وفيما بينهم العديد من الأسماء.

يستهل نصر الرواية بالشخصية المحبّبة إلى قلبه «فاطمة الشيخ»، الفتاة المثيرة ذات القوام الممشوق، التي تتابعها العيون منذ خروجها إلى الشارع وحتى عودتها للمنزل، وخاصة سالم الصعيدي صاحب الكازينو الذي تمر عليه يوميا في طريقها للقاء خطيبها «الكابتن عبد القادر» لاعب كرة القدم الذي تحبه ويعشقها، لكنه لا يملك ما يعينه على الزواج منها، فتخطط للإيقاع برئيس دولة سابق يحل مريضًا على المشفى الذي تعمل فيه كممرضة، ليساعدها على تحسين أحوال عائلتها وخطيبها، ودون أن تشعر تتورّط معه في علاقة تجعلهم جميعا يتبرأون منها، فتكتفي بحياة الرفاهية إلى أن تفقد كل شيء بين ليلة وضحاها، بعد تعرُّضها لحادث يتسبب في تشوُّه وجهها وفقدانها لواحدة من عينيها.

تتباين الشخصيات الرئيسية بين الاستمرارية والذِكر المحدود، ففاطمة الشيخ تنتهي قصتها بانتهاء الفصل الأول، بينما نجد شخصية مثل «خيرية»، التي يحمل اسمها الفصل الثاني، ممتدة حتى نهاية الرواية، أو مع امتداد عشقها لعبد القادر الذي سرقت قلبه صديقتها، ولم تفقد الأمل يومًا في أن يصبح لها، حتى بعد زواجها من آخر، إلى أن تصبح عشيقته في النهاية، قبل أن يتخلي عنها فور حصوله على مصدر آخر للرزق وفرصة للعمل بالخارج.

ورغم أن شخصية عبد القادر مستمرة في الأحداث وثرية، ولا يخلو فصل تقريبًا من ذكره، إلا أن مصطفى نصر لم يخصّص له فصلًا مستقلًا، واكتفي بجعله عاملًا مشتركًا بين ثلاث من بطلاته الرئيسيات، فالثالثة هي ليلى عزيز، صديقة خيرية وفاطمة الشيخ، التي تبدأ كموظفة في بيت الأزياء الراقية، ثم تصبح مع الأحداث مساعدة لرئيس شركة كبيرة، فتسعى لمساعدة عبد القادر وتعيينه، قبل أن يتم الاستغناء عنه مع الإدارة الجديدة، وعنها فيما بعد، فتتزوج ليلى من مهندس ناجح ويضطر عبد القادر أن يرضخ لخيرية وعشقها له.

ومن الشخصيات المستمرة والثرية أيضًا، صاحبة الفصل الثالث؛ سميرة زوجة المعلِّم متولي، التي تعمل بالعديد من المهن، ما بين التدريس و «تزويق» السيدات، وأخيرًا «خاطبة»، مما يمكّنها من دخول كل البيوت ومعرفة حكايات الجميع وأحوالهم.

في الوقت الذي تتشابك وتتداخل فيه الشخصيات السابقة، نشعر أن هناك شخصيات أخرى وضعها نصر في فصول لأنه يريد أن يروي حكايتها، يتحدث عنهم دون أن يكون لهم تأثير قوي في الأحداث، هم فقط يملكون تأثيرًا في وجدانه وذاكرته، شخصيات ظلت تراوده إلى أن أفسح لها المجال للظهور، مثل الخواجة ينّي وأحمد سنغافورة والخواجة كوستا، وربما «البيضة» وأمّها.

كل تلك الشخصيات وحكاياتها أثارت تساؤلات لا يملك إجابتها سوى مصطفى نصر، فتوجهنا له لنهنِّئه بعيد ميلاده الحادي والسبعين، وكان لنا معه هذا الحوار؛ حول أحدث رواياته «ما لم يقله البحر» وأشياء أخرى.

ما لم يقله البحر

لنبدأ من روايتك السابقة «يهود الإسكندرية»، فقد شعرت أن «ما لم يقله البحر» جزءًا منها، حكايات لم تتسع لها الرواية الأولى فوضعتها في رواية جديدة منفصلة. هل يمكن القول أنها كانت في ذهنك وأنت تكتب في «يهود الإسكندرية»؟

بل فكّرت في كتابتها قبل أن أفكِّر في كتابة يهود الإسكندرية، وأجلّت ذلك كثيرًا، وهذه مشكلة أعاني منها دائمًا، حيث استمر في كتابة رواية، وفجأة، تطغى فكرة جديدة، فتجعلني أترك ما أكتبه، وأفكّر، بل أشرع في كتابة رواية أخرى، لدرجة أنني تحدَّثت مع المرحوم سعيد بكر، وكنا نسير معًا في محطة مصر، قلت له: وأنا سائر معك الآن، في مخيلتي خمس أفكار لروايات، المشكلة في الشكل، ما هو الشكل الذي سأسرد به روايتي.

قسّمت روايتك إلى عشرة فصول يتضمن كل منها تعريف بشخصية محورية واحدة، وقد فعلت ذلك بشكل محدود في يهود الإسكندرية حيث كانت مقسَّمة لثلاثة فصول فقط رغم ازدحامها بالشخصيات عن تلك الرواية. هل تتبع خطى نجيب محفوظ في حديث الصباح والمساء؟

كتب الصديق سيد إمام في الفيسبوك منذ أيام قليلة ما معناه أن كل الروائيين بعد نجيب محفوظ قد تأثروا به، وتأثُّرنا بمحفوظ غير محدود، يدعِّي البعض أنهم قد تجاوزوه، وأنهم لا يدورون في فلكه، الغريب أن هؤلاء قد تأثروا به أكثر من غيرهم، فمهما حرصنا على الابتعاد عن عالمه، سنجده في تجاربنا، إننا نتنفسه دون أن ندري، المشكلة ألا نكون نسخًا ممسوخة منه، أو نقصد تتبُّعه وتقليده، وقتها سيظهر مدى عجزنا وفشلنا.

ssss

هناك شخصيات محورية في الرواية لم تضعها في فصل منفصل مثل عبد القادر، في حين أنك وضعت اسم شخصية مثل أحمد سنغافورة على فصل دون أن يكون له ارتباط وثيق بأحداث الرواية أو شخصياتها. ما قواعدك التي تحدد على أثرها؟

وجّه الناقد الكبير د.محمد مندور نصيحة للمسرحي العظيم نعمان عاشور بعدم شرح أعماله، فالمؤلف قد يسيء تفسيرها، وعليه أن يترك هذا للنقاد. لكن ما يمكن أن أقوله؛ إن عبد القادر كان لابد ألا يكون له فصل خاص به، لأنه شخصية محورية تعلقت بشخصيات كثيرة في الرواية، فاطمة الشيخ وخيرية وغيرهما. أما أحمد سنغافورة صانع أحذية النساء البارع، فموجود مثله في معظم رواياتي، تلك الشخصية التي لها دور محدود في الرواية، لكنه شديد التأثير، ولا ينساه القارئ.

لماذا اخترت هذا الترتيب لشخصياتك؟ ولمَ البدء بفاطمة الشيخ لا خيرية أو سميرة مثلا؟

شخصية فاطمة الشيخ حقيقية، فتاة شديدة الجمال والأنوثة، كانت ممرضة بمستشفي المواساة، ثم قابلت رئيس دولة عربية سابقا، قاموا بانقلاب عليه وعزلوه، قابلته في المستشفي وتركت خطيبها من أجله، وأقامت علاقة معه، وفجَّروا سيارته، فاحترق وجهها، وتشوه. ظلت هذه الشخصية تطاردني لكي أكتبها لسنوات عديدة، حتى كتبتها.

معظم النساء في الرواية وفي رواياتك الأخري عاهرات وخائنات، لماذا تتغلب عندك تلك النظرة للمرأة؟

بعد سنوات عمري الطويل، اكتشفت أنني حرصت على أشياء لا فائدة منها، وأن ما تعلمته لا يصلح للعصر الذي نعيشه، فقد تعلمت مثلا أن القصة القصيرة تنمو أفقيًا، بينما الرواية تنمو رأسيا، والحقيقة أن ليس هناك قانون يحكم الأشياء في الفن، فقد يأتي كاتب موهوب وحاذق، يقدِّم قصة قصيرة تنمو رأسيًا، ويقنعني بأنها قصة قصيرة جيدة، المهم الفنان وليس الفن. كما تعلمنا أن لابد من وجود معادل موضوعي في الكتابة، وطبقا لهذه النظرية، فلو صوّرت سيدات فاسدات كثيرات، معناه أن كل من في الحي فاسد، فإذا بأسامة أنور عكاشة يخالف هذه النظرية في «الشهد والدموع»، ويقدِّم لنا شخصية مسلمة تستغل أخاها وتسرقه، وتترك أسرته بلا مال وبلا معين، بينما أسرة مسيحية جارتهم تهتم بهم وتساعدهم للخروج من أزمتهم، وفي «اليالي الحلمية»، يقدِّم شخصية مسيحي وطني، قام بدوره المرحوم شوقي شامخ.

عندما تأملت ما فعله أسامة أنور عكاشة وجدته هو الأصوب والأصح رغم أنه يخالف ما تعلمناه في المعادل الموضوعي، حيث كانت هناك ضرورة عنده أهم مما تعلمناه في الفن، وهو إبراز دور المسيحيين في مجتمع يصوِّرهم بصورة غير حقيقية، وأنه من الطبيعي أن نخالف نظرية الفن المعتمدة لكي نصوِّرهم في صورة أجمل نحن في أشد الحاجة إليها لتستقيم الأمور، فليس هناك قانون في الفن، وإنما هناك فنان قادر على تقديم فنه حتى لو نسف كل القوانين التي سبقته.

حينما كتبت روايتي «الجهيني» وهي تدور في حي شعبي مثلما تدور أحداث «ما لم يقله البحر»؛ تحدّث البعض عن كم العلاقات النسائية في الرواية، فدافع الأستاذ فاروق خورشيد عنها في مقال له نُشِر بمجلة إبداع، وربط فيه بين الرواية وألف ليلة وليلة في الجزء الذي يدور في الأحياء الشعبية المصرية، قائلًا إن هذه الأماكن لابد أن تكون فيها هذه العلاقات النسائية.

لكن النفس البشرية تحمل الخير والشر، لماذا تطغى السمات السلبية على شخصيات رواياتك؟

الناس عادة لا تحكي عن المواقف الشريفة والطاهرة، لأنها أساس الحياة، وإنما تحكي عن الشاذ، فالحوادث في الجرائد والمجلات تحتفي بمن قتل ومن سرق ومن ارتشي ومن خان. إظهار الشخصيات السلبية في الرواية ليس معناه أن كل المجتمع هكذا.

DSC_0394

لماذا تستمر على طول الرواية عند الحديث عن بعض الشخصيات، في ذكر دلالات مساعدة مع الاسم وكأن القارئ سينساها من صفحة لأخرى؟ مثل نيقولا ابن صانع الكينا.

تلك طرق في الحكي تساعد في صنع الشخصية، ففي الحي يذكرون نيقولا دائمًا بأنه ابن صانع الكينا، وأنا أذكره كما يذكره أهل الحي، لأن الكينا كانت مهمة في وقت من الأوقات، وكنا نشاهدها في الإعلانات القديمة، إذ يظهرون شابًا شديد النحافة، يشاهد شاب مفتول العضلات في حسرة على جسده الضامر، فيقولون له: «لا تحزن أيها الشاب، يمكن أن تصبح مثله إذا شربت الكينا روماني»، وكان هناك معرض لبيع الكينا في ميدان سانت كاترين بالمنشية، إلى أن قررت الدولة منع بيعها في مصر كلها باعتبارها نوعا من أنواع الخمور.

بدا الحوار باللغة الفصحى أحيانا غير ملائم لبيئة الأبطال وأسلوبهم. ألم تفكر في كتابته بالعامية؟

لغتي في الحوار سهلة، يستسيغها القارئ العادي، وأنا لست معارضًا لكتابة الحوار بالعامية لو تطلب الأمر ذلك. المهم الضرورة الفنية التي تفرض اللغة، عامية أو فصحى.

المعلومات التي ذكرتها حول فناني الزمن القديم مثل أنور وجدي وزوز نبيل وهند رستم. ألم تخش أن تتسبب لك هذه الحكايات في مشاكل مع أسرهم؟

لا أقصد اسم شخصية فنية بعينها، وتشابه الأسماء لا يعني أنني أقصد ممثلة معروفة، كما أن الذي يحكي في الرواية شخص يبالغ في معرفته بالأمور، وشخصيات الرواية الأخرى تكذّبه فيما يقول، وتوضّح بأنه كاذب، ويعطي لنفسه أهمية ليست فيه، فهو يزعم بأنه كان سبب شهرة «فُلانة» و«علّانة»، وأن الكل يسعى إليه، مع أنه في الحقيقة غير هذا.

تبدو الأحداث وكأنها مستمدة من حكايات استمعت لها ممن حولك. هل هي كذلك أم أنك عاصرت أحد أبطالها وتعاملت معه؟

كتابتنا عادة تُستمَّد من حكايات سمعناها أو أحداث عاصرناها وشاركنا فيها، وأنا كما قلت من قبل محِّب للتاريخ السينمائي القديم، ومحِّب للتاريخ الموسيقي والغنائي القديم، وأوّظفه في كتاباتي كأنه حقيقة حدثت.

شعرت في أحيان كثيرة أن الأحداث تميل لأن تكون مسلسلا تليفزيونيًا تم إنتاجه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أكثر من كونها رواية كُتبت في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ما السبب في ظنك؟

هذه مشكلة تؤرقني، فأنا أعيش في الماضي، وأزعم بأنني شديد الاهتمام بالسينما القديمة، أعرف أبطالها، وصنَّاعها، والذين يقومون بأدوار صغيرة فيها، وأهتم، وأسأل عن ممثل مغمور لا أعرف اسمه، لكنني للأسف توقفت عن هذه المتابعة في السينما الحديثة، وكأنني أرفضها، ولا أسعى لمعرفة ما بها، مازلت أعيش في الماضي بكل ما فيه، ويدفعني الحنين للبحث في الأحياء وفي التاريخ، لذلك تأتي كل كتاباتي عن الماضي، في السينما وفي السياسة وفي الحياة، فالسينما التي أتابعها هي السينما القديمة، لدرجة أن حفيدي عندما يشير لأفلام الأبيض والأسود يقول: الأفلام التي يحبها جدي. والأغاني؛ مازلت أعشق جمال صوت محمد عبد الوهاب، وحنان صوت نجاة، وإحساس صوت فايزة أحمد، ومقدرة صوت أم كلثوم.

لا أعرف إن كنت سأستطيع الخروج من هذا الماضي، فعندما كتَبَ من اشترى لي الكمبيوتر، على الأغاني التي أحبها؛ أغاني زمان، اندهشت، لأنها لا تمثِّل بالنسبة لي الماضي، وإنما تمثِّل الحال.

أعَّد بعض الكُتَّاب الكبار سيناريوهات عن أعمالك، لماذا لم يتم تنفيذها سينمائيًا أو تليفزيونيًا؟

وصلت لقناعة بألا أهتم بتحويل أعمالي القصصية والروائية لأعمال درامية، لأنني مررت بتجارب عجيبة في هذه المسألة، فقد تحمَّس المرحوم عاطف الطيب لروايتي «الجهيني»، وكتب مصطفى محرم سيناريو وحوارا لها لتتحول لفيلم سينمائي، واشتراها محمود ياسين مني، لكن المشروع توقف، ثم اشترت الرواية مدينة الإنتاج الإعلامي، وتوقف الموضوع أيضًا. وتحمس أكثر من مخرج تليفزيوني وسينمائي لتحويل روايتي «الهماميل» لمسلسل تليفزيوني أو فيلم، لدرجة أنني سافرت للقاهرة لاختيار مخرج منهم، لكن وزارة الداخلية في ذلك الوقت رفضت تحويل المسلسل بحجة المبالغة في إظهار سلبيات الشرطة، فأيقنت بأن المهم عندي هو الكتاب.

DSC_0391

متى يكتب مصطفى نصر من واقع سيرته الذاتية لا عمن حوله؟

كثيرون يلحون على لأفعل ذلك، وأنا أجمع الآن معلومات متفرقة عن سيرتي الذاتية، على أمل أن أستخدمها عندما أكتب عن نفسي، رغم أن هذا فيه عذابي، فقد حاولت ذلك من قبل في روايتي «ليالي غربال»؛ قبل البدء في كتابتها، كان الشكل أمامي عن ثلاثة صبية، تصادقوا، كنت أنا واحدا منهم، وقرّرت أن أحدّد لكل منهم كتابًا مستقلًا، لكن في شكل ألف ليلة وليلة التي أعشقها، ونشرت الجزء الأول من هذا المشروع في رواية اسمها «النجعاوية»، الصادرة عن دار ومطابع المستقبل، لكن عندما بدأت في الكتابة عن صباي، فشلت، وتوقفت، فاكتفيت بالكتابة عن الصبي الثاني بعنوان «حارة نعمان»، ثم نُشرَت النجعاوية وحارة نعمان في كتاب واحد هو «ليالي غربال» الذي صدر في روايات الهلال.

ما كتبته عن نفسي نُشِر في كتاب اسمه «سوق عقداية» لكني غير راضٍ عنه، ولا أعتبره من كتبي التي أفخر بها، وعند طباعة أعمالي الكاملة رفضت إعادة طبعه. لديّ أمل أن أعاود المحاولة ثانية فربما سأنجح هذه المرة.

لماذا هذه الحالة الشديدة من عدم الرضا تجاه هذا الكتاب؟

لأنني لم أتحمل قسوة الحياة التي عشتها، موت أمي وأنا صغير، ومعاناتي أنا وإخوتي بعد زواج والدي من فتاة صغيرة أتوا بها له من الصعيد. وعندما أكتب عن نفسي، لا أعرف كيف أخفي حقيقة الشخصيات التي أتحدث عنها. كنا نسكن حجرتين من الشقة والحجرات الثلاث الأخرى تشغل كل منها أسرة. عالم صعب للغاية، صبي بلا أم تحميه من رغبة النساء فيه، ووالد انشغل بالزوجة الجديدة وأبنائه منها، ففي كل مساء يغلق حجرته عليه وعليها، ولا يشغله هل عدت إلى البيت أم لا. كنت أقضي الليلة مع صديق أو قريب. اعتدت على كتابة اليوميات، وعندما أعود إليها الآن أبكي من شدة الشجن والأسى والحزن والألم. أتذكر أنني عدت متأخرًا ذات ليلة؛ كنت أستذكر مع زملاء لي، وأخذت أدق الباب لساعات حتى استيقظ سكان الشارع ونظروا نحوى، وتحيّرت إلى أين أذهب في ذلك الوقت المتأخر، وأخيرًا فتح أبي لي الباب وهو ثائر وغاضب.

أخبرتني منذ عامين أنك تكتب رواية عن قصر البرنسيسة. لمَ لم تظهر للنور بعد؟

في حجرتي - التي أكتب فيها - مجموعة هائلة من الأوراق والمراجع حولي، فقد بدأت فيها، تلك الرواية التي أحلم بكتاباتها منذ سنوات بعيدة عن قصر البرنسيسة. بدأتها بلقاء ساخن بين محمد حداية باشا - الوزير المفوض بأنقرة - الذي تزوره الأميرة شويكار بالسفارة، فيرحِّب بها بصفتها طليقة مولانا الملك أحمد فؤاد وأم الأميرة فوقية أكبر بناته فتطلب من حداية باشا أن تعطيه هدية وعليه أن يسلمها كما هي لمولانا الملك، وطلبت منه أن يقسم على ذلك، فأقسم، وأشهد كل من في الحجرة، بأنه شريف وسوف يوصّل هديتها للملك دون نقصان، فسارت نحوه، وقد كانت قصيرة بينما هو واضح الطول، واشرأبت على أصابع قدميها وصفعته على وجهه في عنف، قائلة: أرجو أن توصّل هذا لمولانا.

أملي أن أوفَّق في كتابة هذه الرواية، فهي تتناول فترة صعبة في الصراع بين الخديو عباس حلمي بمساعدة الأميرة شويكار، والملك أحمد فؤاد بمساعدة حسن نشأت باشا، ويشمل الموضوع منطقة راغب باشا وتكوين حي غيط العنب عندما كانت الإسكندرية كلها تقضي شم النسيم فيه، وعالم شيوخ الحارة الساحر والعجيب.

عنونت الرواية بـ «ما لم يقله البحر»، ما الذي لم يقله مصطفى نصر حتى الآن؟

أشياء كثيرة جدا لم أقلها للآن، فأحياء الإسكندرية عالمي، تاريخها وشخصياتها، كل ما فيها يشغلني ويهمني، فبيتي في حي راغب باشا، وراغب هذا كان موظفًا مغمورًا لدي محمد على باشا، أُعجِب به، فكبّره وجعله مقرَّبًا منه، ثم تولي رئاسة الوزارة في عهد خلفاء محمد علي، فمنحوه أرضًا منها أرض البيت الذي اشتراه والدي عام 55، من الشيخ مبروك من الواحات الذي سّلم والدي كل ما يخص بيته، وأوراق شراء الأرض من دائرة إدريس راغب باشا، هذا البيت هو مشروعي الذي سأكتبه بعد ذلك، لو بقيت على قيد الحياة.

Comments