يوناس لوشر بعد ترجمة روايته الثانية للعربية: لا أريد أن أكون قدّيسًا .. ولستُ قابلًا للبيع والشراء!

  • العيش من عائد الكُتب فقط أمر صعب رغم ترجمة أعمالي إلى 18 لغة

  • فوضى القاهرة وراءها نظام .. وللصدفة دور كبير في حياة المصريين

  • «ربيع البربر» كان يمكن أن تدور في مصر أو الكاريبي .. واهتمامي بقرطاج قاد الرواية إلى تونس

  • ليس من واجب الكاتب أن يصنع عالمًا سعيدًا .. فالمُهِّم أن يدفع القارئ لطرح الأسئلة

  • لا أحب الفلسفة .. وأستخدمها في كتابتي للوصول إلى حجج منطقية

  • الناس في بلادي لا يقرأون من العالم العربي سوى أخبار الحرب والإرهاب

  • فرض الديمقراطية الأمريكية فعل غير ديمقراطي .. والخلل ينبع من حلول الوسط

  • أحيانًا نعرف أين الصدق وأين الكذب لكننا نتعمَّد عدم قول ذلك

«إن كنت تشعُر بالملل فهناك مكتبة قريبة؛ اذهب إليها للقراءة». وجَّهت المُدرِّسة هذه الكلمات لابنها ذي العشرة أعوام، بعدما وجدته وحيدًا يعاني الفراغ، إثر انتقاله لمدينة جديدة معها هي ووالده، عالِم المُخ والأعصاب، لظروف عمله، التي جاءت به من بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية إلى بال السويسرية.

نصيحة الأُم جعلت الكِتاب رفيقًا لدرب الكاتب السويسري «يوناس لوشر» منذ الصغر، وظل هو بدوره مخلِصًا لذلك الصديق، يتنقل بين إصداراته المختلفة ومجالاته المتنوعة، قارئًا نهمًا بعقلٍ واعٍ، إلى أن حانت اللحظة التي قرّر فيها أن يتخِّذ دور المرسِل لا المستقبِل، وأن يلتقط قلمه ليخط أولى رواياته وهو في منتصف عِقده الثالث، تلك الرواية التي مازالت حبيسة الأدراج، وستظل غالبًا، إلى حين.

لم تخرج مخطوطته الأولى - ذات الستمائة صفحة - للنور، نعم. لكنها كانت المدفَع الذي أطلق موهبته، وجعلته بعد ما يقرب من عشر سنوات - تقريبًا - ينشر روايته المميزة «ربيع البربر» التي لاقت نجاحًا كبيرًا حين صدورها وتم تصنيفها ضمن روايات «البيست سيلر» ثم شملتها القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الألماني عام 2013، ونال عنها لوشر جائزة بيرنر للأدب.

اختارت دار العربي الرواية لتكون ضمن إصداراتها عام 2015 مترجَمة باللغة العربية، فقدّمتها د.علا عادل، أستاذ الأدب الألماني والترجمة بكلية الألسن جامعة عين شمس. ومع استمرار نجاح لوشر بروايته المنشورة الثانية «كرافت» التي ضمَّتها - أيضًا - القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الألماني العام الماضي؛ واصلت «العربي» تعاونها معه، بنشر النسخة العربية من الرواية الجديدة بترجمة د.معتز المغاوري، المدرِّس بقسم اللغة الألمانية في كلية الألسن جامعة عين شمس، والتي تصدُر خلال أيام قليلة.

قبيل نشر الرواية عربيًا؛ استضافت دار العربي كاتبها، ابن المقاطعة الألمانية بسويسرا، لمشاركة فريق العمل في وضع اللمسات النهائية على الرواية ومناقشة بعض النقاط الخاصة بها وبترجمتها. حينما وصل لوشر إلى القاهرة، كنت قد انتهيتُ لتوِّي من قراءة روايته الأولى، ولم تكن جذوة التساؤلات التي أثارتها داخل عقلي انطفأت بعد. هاتفتُ الناشر شريف بكر، مدير الدار، لأسأله إن كان هناك مزيد من الوقت يسمح لي بلقائِه، فكان جوابه مُرضيًا لي، ليس فقط في إتاحة تلك الفرصة، وإنما في إزاحته لعبء التفكير حول كيفية التواصل معه؛ عندما أخبرني بأن الدكتور معتز سيتواجد معنا ويمكنه ترجمة حديثنا المتبادَل.

في الموعد المحدَّد وصلتُ للدور الثالث بعمارة قديمة ذات سُقوفٍ عالية، تقع في شارع القصر العيني. وجدتهم غارقين في العمل، وكأنني جئت لأمنحهم قسطًا من الراحة. استقبلني يوناس لوشر بابتسامة هادئة - استمرَّت معه حتى انتهى الحوار - كانت كفيلة بتفتيت قدر كبير من الحاجز الذي يصنعه اللقاء الأول دون سابق معرفة، خاصة مع اختلاف الثقافة واللغة.

اتخذ لوشر مكانه بَيني وبين د.معتز، في انتظار أسئلتي وترجمتها، بنظرة يملؤها الشغف بالمجهول، لم تدارِها نظَّارته المستديرة ذات اللونين الأسود والرمادي. رمادي متطابق تمامًا مع لون الخُصلات التي تتخلَّل شَعرُه البُني، لتشير إلى سنوات عُمره التي ستبلغ 42 عامًا الأسبوع القادم.

يُحِّب مؤلِّف «ربيع البربر» السفر، وهو ما أتاحته له الكتابة، خاصة بعدما ذاع صيته ككاتِب مرموق. خلال جولاته عرف طريقه إلى العالم العربي، الذي لم يسبق له زيارته من قبل، رغم أن روايته المنشورة الأولى اتخذت من تونس محلًا لأحداثها. قدِم إلى مصر ومن بعدها تونس وأبو ظبي. وإلى أرض الكنانة عاد مرة ثانية، وثالثة شهدَت اللقاء التالي.

DSC_4181

هل تشعر باختلاف هذه المرة عن الزيارتين السابقتين؟ سواء على مستوى البلد أو البشر.

الإجابة على هذا السؤال صعبة بعض الشيء. لا أرى تغييرًا كبيرًا عن المرة الأولى التي جئت فيها لمصر. ربما لأنني منشغل جدًا بالعمل هذه المرة ولم أستطع رؤية الكثير في البلد والشوارع، عكس المرات السابقة.

استكمالًا لذِكر المرات السابقة؛ كتبت في إحدى المرتين مقالًا عن القاهرة السعيدة، رغم أن النماذج التي تحدَّثت عنها لم تكن هكذا على الإطلاق. كيف رأيت المدينة سعيدة؟

كنتُ موجودًا في بار هابي سيتي. ربما المكان نفسه يجعلهم سعداء، عندما يستغرقون في الماضي واستعادة التاريخ، مثل عبد الناصر وأم كلثوم والأغاني القديمة، هذا يخلق جوًا سعيدًا. فمِصر تُشبِه الرواية كثيرًا، يمكن أن يتوه المرء داخلها، لأنها مليئة بالزحام والتفاصيل، على عكس ميونيخ التي تشبه علم الطبيعة وتتسِّم بالنظام والثبات.

هذا يعني، ربما، أن فوضى القاهرة هي مصدر سعادتك فيها.

فعلًا؛ أحبها لذلك. تلك الفوضى وراءها نظام، لكنه بطيء بعض الشيء. كما أن الصُدفة تلعب في حياة المصريين ومصر دورًا كبيرًا، وأنا أحب ذلك. لابد أن نقدِّر تلك الصُدَف.

هل ينعكس ذلك - حبك للفوضى - على عاداتك الشخصية في الكتابة والمعيشة؟

لا. لستُ فوضويًا على الإطلاق. أُصبِح مُنظَّمًا جدًا أثناء الكتابة لأستطيع الإنجاز. لكني أحب السفر ومشاهدة العالم كثيرًا، يمتعني ذلك بشدة.

رغم هذا الحب للسفر لكنك لم تفكِّر في زيارة تونس قبل البِدء في كتابة «ربيع البربر». كيف أنجزت روايتك دون أن تذهب إليها أو تحتك بأهلها؟

لم يكن لديّ اتصال مع أي تونسيين بالفعل، لكني قرأت كُتبًا عن تونس وبحثتُ على الانترنت. الكِتاب لا تدور أحداثه في تونس بالتحديد، وإنما في واحة داخل فندق فخم. تخيّلتُ كيف يمكن أن يكون المكان. أما البَشَر فمتشابهون في كل مكان، في طموحاتهم وأمانيهم ومخاوفهم. لو شخص مصري سافر إلى ألمانيا أو قرأ عنها وشاهد بعضًا من أفلامها؛ ليس صعبًا أن يكتب رواية عن اثنين من الألمان يحبان بعضهما.

DSC_4192

إذًا؛ لماذا تونس - تحديدًا - لا مصر أو ليبيا أو سوريا؟

حاولتُ اختيار مكان يمثِّل وجهة سياحية للألمان والأوروبيين، وجدتُ أن تونس كذلك في تلك الفترة. كما كنتُ مهتمًا جدًا بجزء كبير من تاريخ تونس؛ قرطاج. كان يمكن للأحداث أن تدور في مصر، ويمكن أن تُكتَب بجزيرة في بحر الكاريبي أو تايلاند، فالفكرة كلها أنهم مجموعة سياحية قادمة لبلدٍ، يمكن أن تكون أي بلد، ويحدث فيها مشاكل اقتصادية وسياسية.

(بنبرة ضاحكة قليلًا) لكن في تايلاند كان صعبًا أن أكتب عن الجِمال.

تتحدّث عن الانترنت لكنك - تقريبًا - لا تملك أي حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تستخدم سوى الواتس آب من التطبيقات الحديثة. هل ترى أنها خطر على البشرية؟

إنها سلاح ذو حدين، العِلم الموجود على الحاسب الآلي والانترنت يمكن أن يستفيد منه أي شخص، لكنه في نفس الوقت يعتبر جهاز مراقبة؛ من خلاله يمكن أن تراقب الدول بعضها. فالحُكم الشمولي في الصين يستخدم الانترنت والهواتف وجميع الأجهزة التكنولوجية ليستطيع التحكُّم في شعبه ومراقبته.

هل تناهض الولايات المتحدة لهذا السبب؟ لأن التغيُّرات في دول العالم تأتي منها.

لو تأملّنا الأمر من منظور تاريخي سنجد أن ذلك خطأ تمامًا، فقديمًا كانت التغيُّرات في العالم كله تأتي من مصر، ثم أصبحت روما واليونان، وفي فترة ما عاد العالم العربي مسئولًا عن التغيُّرات. مؤخرًا أصبح لأوروبا وأمريكا دورًا في تغيُّر العالم. لكن منذ القدم؛ الرياضيات والطب والفلسفة أصلهم العرب.

حاليًا كل التغيُّرات - خاصة التكنولوجيا والموبايل والآيفون والانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي - تأتي من الولايات المتحدة؛ كاليفورنيا بالتحديد. ذلك غيَّر حياتنا تمامًا وقلبَها رأسًا على عقب، حتى في مصر؛ أصبح كل فرد يمسك بهاتِفه المحمول وينظر فيه. كل ذلك تغيير يؤثر في الحياة.

DSC_4215

في «ربيع البربر» ربطت بين الفقر والهمجية، هل يمكن القول أن هذا أحد الدوافع التي تجعل الولايات المتحدة تتدخل باستمرار لتخريب البلدان العربية وإفقارها؛ لتظل هي القوى العظمى؟

يمكن أن يكون هناك علاقة فعلًا بين الأمرين، وبالتالي سنجد أفغانستان والتدخل الأمريكي فيها. والعراق وما تعرَّضت له، فرغم عدم وجود صدام حسين الآن، إلا أن الوضع مازال غير مستقر، والمحاربون فيها تحوَّلوا لداعش. وكذلك الوضع في سوريا. سياسة التدخل الأمريكي في الدول خاطئة تمامًا. هناك أمور لا يصِّح أن تقوم بها دولة بمفردها، وإنما لابد أن يتشارك المجتمع الدولي كله فيها.

أوروبا كان بإمكانها لعب دور جيد فيما حدث بسوريا، لكنها ظلت تشاهد لمدة سبع سنوات دون أن تفعل شيئًا، في ظل وجود حرب أهلية، كان عليها التدخُّل لوقف الأحداث. كما أن تغيير النظام الحاكم في أي دولة ليس ضمانًا لتحسين أحوالها، والفكرة الأمريكية التي تفضي إلى التدخل في شئون الدول لمنح أبنائها الديمقراطية على طبق من ذهب ليست حلًا سليمًا على الإطلاق، لأن الديمقراطية ليست حالة، وإنما عملية تتم؛ تنبع من داخل الدولة وتمر بمراحلها المختلفة، يستعد لها الناس ويدافعون ويحاربون من أجل الوصول إليها.

هل هي - حقًا - تتدخل لتقديم الديمقراطية لتلك الدول؟

هناك سببان لتدخُّلها؛ الأول أن هناك بعض السياسيين في الولايات المتحدة يتخّيلون أنه بإمكانهم فرض تلك الديمقراطية وإدخالها للدول. ومن ناحية أخرى هناك بعض القوى الاقتصادية التي لها مصالح وتريد لذلك أن يحدث لكي تستفيد من الأحداث.

وهل إدخال الديمقراطية بهذا الشكل فعل ديمقراطي؟

بالطبع لا؛ هذا التدخل غير ديمقراطي والحرب الدائرة غير ديمقراطية. الديمقراطية نفسها داخل الولايات المتحدة تشوبها بعض نقاط الضعف، حيث تتأثر - بقوة - بالاقتصاد والصناعة، وهذا في حد ذاته غير ديمقراطي. ففي الانتخابات الأمريكية يتركون الشركات تتدخل، هناك لوبي وراء كل ما يحدث فيها. بينما لا نجد ذلك يحدث في أوروبا، وإن حدث يكون محدودًا جدًا. لا أقول أن الديمقراطية كاملة في أوروبا، لكنها أفضل كثيرًا من الولايات المتحدة.

ما العائق أمام وجود ديمقراطية حقيقية؟

وجود الديمقراطية الكاملة شيء مستحيل، لا كانت موجودة ولا ستكون. ربما أوروبا وأمريكا يمكن أن نقول بهما بعض الديمقراطية. تركيا كانت بها في وقت ما ولم تعد موجودة الآن. الخلل نابع من داخل الديمقراطية ومحاولة الوصول إلى حلول وسط، بينما داخل عباءة الديمقراطية تكون هناك اتجاهات وميول ومصالح مختلفة فيما بينها، وبالتالي من الصعب الوصول لحل وسط لتحقيق الديمقراطية.

انتقدت في روايتك «ربيع البربر» ظاهرة عدم الفعل، ووصفتها بأنها أحد أمراض عصرنا، ألا ترى أن الأوضاع أحيانًا تفرض ذلك؟ خاصة مع صعوبة تحديد الفعل الصحيح للقيام به، فالصدق والكذب مختلطان.

قد يكون ذلك الاختلاط بين الصدق والكذب سببًا فعلًا، أو قد يكون حِجَّة. لو نظرنا بدقة يمكننا أن نصل للحقيقة. أحيانًا نرى الكذب ونخاف قول ذلك. في السياسة تحديدًا؛ نعرف أين الصدق وأين الكذب، لكننا نتعمد ألا نتكلم.

يعاني أبطال روايتيك من أزمات مختلفة تؤول بهم إلى نهايات محزنة ومأساوية، سببها الرئيسي طغيان التيار الاقتصادي والاحتكام للمال. أليس للإنسانية مجال للانتصار؟

ليس من واجب الكاتب أن يصنع عالمًا خياليًا سعيدًا، لكنه يحاول أن يعرِضه كما هو بأخلاقياته الموجودة، هذا دوره، وربما الأكثر من ذلك. من المهم أن يكتب أعمالًا تجعل القارئ نفسه يطرح أسئلة، لا الإجابة عن أسئلته أو حل مشكلاته، فالكُتب التي تحاول الوصول إلى حل فاشلة جدًا.

أعلم أنه ليس جيدًا أن تكون النهايات مأساوية أو درامية، لأنها قد تؤدي لاكتئاب القارئ. لكن الإنسان - بالتأكيد - لديه حرية في الحياة، أن يختار التصرُّف الذي يجده مناسبًا عندما يصل لموقف لا يستطيع الخروج منه، حتى وإن كانت نتيجته مأساوية. فالأحداث هي التي تحدِّد منطقية الاختيار ومدى ملاءمته.

لكن دور المثقفين وأصحاب الفكر أن ينيروا الطريق لقرائهم، فإن عجَز المثقف عن القيام بهذا الدور واستسلَم؛ ماذا يفعل من يتبعونه؟

«البروفيسور» يكون في الجامعة أو الفلسفة أو في المجال الذي يتخصص فيه، لكنه لا يكون - بالضرورة - كذلك في الحياة. يمكن أن يكون شخصًا ناجحًا جدًا في عمله كأستاذ أو غيره، لكن فاشل في حياته لدرجة تؤدي به لنهاية مأساوية. لا أحد يمكنه أن يكون أستاذًا في الحياة؛ كل شخص معرَّض لأن ينجح أو يفشل.

DSC_4223

تعتز بالفلسفة ودائمًا تجد لها مكانًا في كتاباتك، وفي سن السابعة والعشرين قرّرت دراستها، حتى مقالك حول القاهرة اهتممت أن تشير فيه إلى والد أحد أبطالك الذي يُدرِّس الفلسفة. ما سر هذا الولْع؟

على العكس؛ لا أحب الفلسفة. وكانت لديَّ مشاكل أكاديمية في دراستها، لذلك توقفت واتجهت للكتابة. أستخدمها في كتاباتي لتكون هناك حِجج منطقية، فبعض المواقف أحتاج إلى صياغتها بشكل فلسفي.

نحن نعيش في عالم فوضوي وغير مُنظَّم، في حين تسعى الفلسفة بشكل أكبر للوصول إلى النقاء والصفاء في العالم. أنا لا أبحث عن ذلك بقدر ما أبحث عن الفوضى ووصفها في كتاباتي، لذا تعجبني القاهرة.

عملت كمدِّرس في المرحلة الابتدائية، «سيناريست» سينمائي، محاضِر جامعي في الفلسفة، صحفي، وروائي. أيًا من هذه المجالات تعتبره مشروعك الرئيسي؟

الكتابة الروائية. هذا هو عملي ومصدر دخلي في السنوات الخمس الأخيرة. أحيانًا أكتب بعض المقالات السياسية للصحف.

وماذا عن السينما التي درستها وعملت فيها فترة ليست قصيرة، وتعرَّفت من خلالها على زوجتك الفنانة أولريك أرنولد؟ ألن تكمل هذا المشروع؟

في الوقت الحالي لا. السينما تحديدًا تحتاج تكلفة عالية جدًا، وهي عمل مرهق بالنسبة لي، يدخل فيه عناصر مختلفة، ينتظرون جميعًا أن يجنوا أرباحًا كبيرة من وراء العمل المكتوب.

أصبحَتْ الكتابة منذ خمس سنوات مصدر رِزقك، كيف ذلك؟ هذا أمر نادر في مجتمعاتنا العربية.

تم تصنيف كُتبي في «البيست سيلر»، وتُرجِمَت إلى 18 لغة، كما فُزت بجائزة أفضل كتاب سويسري عن «كرافت» مما ساعد على ترويجه بشكل أكبر. ذلك يوفِّر جزءًا من الدخل. لكن العيش على عائد نشر الكُتب فقط صعب. الجزء الأكبر يأتي من سفري حول العالم وتنظيم القراءات، حيث تتميز الدول الناطقة بالألمانية، كسويسرا والنمسا وألمانيا، بأنها تُنظِّم جلسات قراءة للكاتب في أكثر من مدينة يُدفَع عليها مبالغ جيدة.

هل قرأت لأحد من الكُتَّاب العرب؟

بعدما زُرت مصر أول مرة بدأتُ أهتم بالأدب العربي وقرأتُ عشرة كُتب وجدتها مترجمة للألمانية، من بينها «فرتيجو» لأحمد مراد، «عايزة أتجوز» لغادة عبد العال، «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، ونجيب محفوظ بالطبع.

يعني ذلك أنك كوّنت علاقات أدبية في العالم العربي.

في مصر لديّ علاقات كثيرة بفضل شريف بكر، فقد عرَّفني على العديد من المثقفين المصريين. في تونس كان ذلك صعبًا لأنني لم أتعرَّف على قدر كبير من دور النشر، ولم تكن دار نشر هي المُنظِّمة لرحلتي إليها، وبالتالي لم أحتَّك كثيرًا بالطبقة المُثقَّفة هناك، ولم يكن لديّ اتصالات كما أفعل هنا مع شريف.

هل لمست وجودًا أو تأثيرًا للثقافة العربية في سويسرا أو ألمانيا؟

لا. قليل. الكُتب العربية ليست منتشرة لذلك تأثيرها ضئيل جدًا. مؤخرًا بدأوا يهتمون بالأدب السوري تحديدًا، بسبب أعداد المهاجرين الذين نزحوا إلى ألمانيا. فاليساريون في ألمانيا يستقبلون المهاجرين السوريين ويرحِّبون بهم ويحاولون التعرُّف على أدبهم ورعايتهم. لكن للأسف بقية الناس لا يقرأون عن العالم العربي سوى أخبار الحرب والإرهاب، هذه الصورة المنتشرة عن العرب من الصحف. أما الأدب والثقافة العربية فليس لهما نفس القدر من الانتشار للأسف.

DSC_4227

في مصر يبدو للبعض أن الرواية توقَّفت عند زمن نجيب محفوظ، وفي سويسرا - في المقابل - عند ماكس فريش وفريدريش دورنمات. هل توافق على ذلك؟

لا. بالعكس؛ هناك جيل كبير من الشباب الآن في سويسرا يكتبون الأدب، ومن بينها الرواية. الأدب لا يرتبط باسم شخص معين. الرواية مستمرة بعد موت نجيب محفوظ، وكان هناك روائيون كثيرون أيضًا بعد فريش ودورنمات في سويسرا، لكنهم لم يشتهروا على نطاق عالمي، حتى الآن لم يحصل أديب سويسري على نفس شهرتهم وعالميتهم.

ما الذي ينقُص هؤلاء اللاحقون؟ هل المشكلة فيهم أم في العصر؟

الكُتَّاب بصفة عامة لم يعودوا مشهورين كما كانوا في الماضي. المجتمع نفسه ينظر للفنانين والكُتَّاب بشكل مختلف عما كان في فترة فريش ودورنمات، حيث كان الناس يضعونهما في مكانة عالية جدًا تكاد تقترب من القديسين، يؤمنون بكلماتهم وكتاباتهم وآرائهم. الآن ينظرون لهم كبشر عاديين وليسوا مقدَّسين، لهم آراء قد تكون صحيحة أو خاطئة. هذا التطور ليس سيئًا؛ أنا لا أريد أن أكون في مكانة مقدَّسة ويرتبط بي الناس بدرجة كبيرة ويصدقونني.

في مصر كذلك مثلًا؛ لم يعد السياسيون يأخذون نفس قدر التقديس الذي كان في عصر جمال عبد الناصر. التراجع عن تقديس الفنانين والسياسيين والأدباء ظاهرة جيدة.

تدعو بعض الآراء إلى أن يعبِّر الكاتب عن رأيه فقط في كتاباته، وأن يكون محايدًا فيما يقول اجتماعيًا وسياسيًا، لكنك تختلف مع ذلك، ألا تخشى أن تخسر بعضًا من جمهورك نتيجة لهذا؟

على العكس؛ من المهم أن يكون للكاتب رأي وموقف. والمثقفون والكُتَّاب تحديدًا لابد أن يكون لهم رأي، لثلاثة أسباب؛ الأول أنهم مفكِّرون ومثقفون وبالتالي لديهم رؤية ثاقبة للعالم، والثاني أنهم يعرفون التاريخ جيدًا، وثالثًا أنهم ككُتَّاب يستطيعون صياغة أفكارهم بشكل جيد. كما أن القرَّاء والصحافة يكون لديهم فضول لمعرفة آراء واتجاهات كاتبهم، تلك ميزة وفرصة للتعبير عن الرأي.

أحيانًا يتم استغلال قلم الكاتب ومحبة الناس له لمصالح خاصة، كيف ترى المجتمعات إن أصبح الكُتَّاب والمثقفون جزءًا من السلع القابلة للشراء لمن يدفع؟

قد يحدث ذلك، ومن شأنه أن يضُّر بصاحب القلم قبل أي شيء، وعليه حينها أن يفكِّر جيدًا في العواقب. لكنني ككاتب لا أرى أنني قابل لأن أُباع أو أُشتَرى. كتُبي هي التي يمكنها أن تكون سلعة. «كوكاكولا» سلعة يمكن بيعها وشراؤها، ويجب أن يظل طعمها كما هو على مدى تاريخها. أما أنا فلابد أن أنتج شيئًا جديدًا للقُرَّاء في كل مرة، لذلك أقرأ وأكتب وأنشر في موضوعات مختلفة ليظل الناس يهتمون بكتاباتي.

هل تعمل على مشروع الآن أو تنتظر صدور كتاب جديد؟

نعم. لديّ مشروع جديد بدأتُ الكتابة فيه مطلع هذا الشهر، حول سؤال واجهني أثناء كتابة «كرافت» ولم أستطع إجابته، سأتتبَّع الأمر في هذا العمل.

Comments