أدباء الغَد.. حوارات من وحي الميلاد الأول

سنة أولى نشر

قبل انتهاء عام 2017 بشهرين - ربما - أو ثلاثة، علمتُ أن تطويرًا في انتظار «أخبار الأدب» مع حلول العام الجديد، ورويدًا بدأ الأستاذ طارق الطاهر، رئيس التحرير، يكشف عن ملامح هذا التطوير ومناقشتنا حوله.

حينما أخبرني بفكرة «الكتاب الأول» تحمَّست لها كثيرًا، لأنها تقوم - أساسًا - على تقديم موهبة جديدة للحياة الأدبية كل شهر، وأنا لطالما انتظرتُ الإعلان عن نتائج جائزة أخبار الأدب كل عام لأشهد فرحة الفائزين بها من الشباب، فما أجمل من شعورك حينما تسمع أصواتًا تغمرها السعادة عندما تنقل لأصحابها خبرًا سعيدًا كانوا في انتظاره بفارغ الصبر.

نفس الشعور رُحت أعيشه كل شهر - تقريبًا - عندما أتواصل مع الموهبة المختارة للنشر في الكتاب الأول.

في البداية توقَّفنا أمام الإشكالية التي تواجه أي فكرة في مهدها. وهي كيف سنصل لهؤلاء الموهوبين؟ كيف سيعلمون عن الفكرة ليتقدموا إليها؟

في العدد الأول اعتمدنا على من عرفناها مسبقًا وتيقَّنا من موهبتها، فذهبنا إليها، حيث كانت الشاعرة «رغدة مصطفى» من أبرز الوجوه الفائزة - والتي لاقت إشادة كبيرة من لجنة التحكيم - في الدورة الثالثة «الأخيرة حينها» من جائزة أخبار الأدب، فرع شعر الفصحى، ولم تكن قد نشَرت بعد.

سرعان ما انتشرت الفكرة، خاصة في صعيد مصر. كان ذلك إيجابيًا، ومحققًا لغاية المشروع، بأن نوفر فرصة نشر أولى لمن يصعب عليهم ذلك، وهؤلاء أكثرهم - بالطبع - من أبناء الأقاليم.

أخذت الأعمال تتوافد علينا لتقييمها وإجازة المناسب منها للنشر. وجاءت البداية من الأقصر، عن طريق نادي الأدب هناك، بمعاونة القاصة زينب فراج ثم الشاعر يحيى سمير كامل. كما كان للنقاد والكُتَّاب دور معنا - فيما بعد - لا يمكن إغفاله، سواء عن طريق مساعدة هؤلاء الموهوبين وتشجيعهم على النشر من خلالنا، مثل الشاعرين أشرف قاسم وعبد الرحمن مقلد، كما سيتضح في الصفحات التالية، أو ترشيح الأعمال لنا وتقديمها كالدكتور أحمد الصغير والكاتب طارق إمام.

أيام قليلة، أو لنقُل ساعات، ونستقبل عامًا جديدًا، أتوقع أن يجلب معه المزيد من الأقلام الواعدة، ويضيف عددًا من المبدعين لأسرة أخبار الأدب. نعم؛ فمن خاضوا تجربة النشر في «الكتاب الأول» خلال الشهور الماضية لم يكونوا فقط مؤلفين، ولم نكن لهم مجرد ناشر، بل أعضاء جدد انضموا لأسرة مبدعي الجريدة، نشعر على الدوام بأن احتضانهم ودعمهم واجب لابد أن يستمر. وهم في المقابل لم تنتهِ علاقتهم عند حد النشر، وإنما ظلوا على تواصل، بأشكال مختلفة.

قبل أن نودِّع 2018 أردنا أن نلقي نظرة على حصاد العام من الكتب ومؤلفيها، ومن هنا تولَّدت فكرة هذا الملف، بأن يتضمن حوارات مع الأحد عشر مبدعًا، وهم حسب ترتيب النشر منذ ديسمبر 2017 - باستثناء شهر إبريل الذي شهد نشر «قصص من الأردن» - : رغدة مصطفى، هشام حسين، هناء بدر، مينا جميل شوقي، هالة صلاح، أماني أنور حزين، هدير شوشة، النوبي الجنابي، محمد التوني، محمود بيومي، ومحمد حسني عليوة.

تحاول الحوارات الاقتراب من العوالم المتباينة لكل مبدع منهم، والمتشابهة أحيانًا. خطوتُ خلالها فوق كتابهم الأول لأنفذ إلى حياتهم وذكرياتهم، والظروف التي شكَّلت تلك الروح العاشقة للأدب. وجدتُ أن كلا منهم يشبه كتابته، ويخّط قلمه ما يعرفه. وحتى يأتي هذا الملف على نفس المستوى الذي اعتاده «الكتاب الأول» شهريًا، كان لابد أن أعرفهم جيدًا، حتى أتمكن من محاورتهم والكتابة عنهم. أتمنى أن أكون وُفِّقت في ذلك ويجد القارئ إجابة عما قد يعتمل داخل عقله تجاه هؤلاء المبدعين.

رغدة مصطفى: كتبتُ النثر دون أن أدري

حين طغى الأسلوب الأدبي على التناول الصحفي، قررتُ خوض تجربة كتابة القصص، وحين تسربت الموسيقى داخل القصص وعلا صوتها، انتقلت لقصيدة النثر

رغدة مصطفى.jpg

«أنا الجنوبية/ التي قفزت في البحر تلهو/ بينما قلبها هناك/ في الجبل البعيد/ وضعته وسط الصخور/ ينز منه الماء/ يسقي الجبل سرًا». أعادت تلك الكلمات الشاعر أحمد طه إلى صباه حينما قرأها لأول مرة، عندما كان عضوًا في لجنة تحكيم فرع شعر الفصحى بجائزة أخبار الأدب منذ عامين، واصفًا مؤلفتها بأنها «بركان من المشاعر التي لا تحتاج إلا لعود ثقاب لتشعل العالم»، لكن قبل أن يصدر هذا الديوان «سربني لحواسك» عن سلسلة إبداعات بهيئة قصور الثقافة منذ أسابيع، كان لأخبار الأدب السبق في نشر الكتاب الأول للشاعرة رغدة مصطفى «نخب الغياب» في العدد الأخير من عام 2017، والذي تضمن عددًا من النصوص النثرية «المتمردة»، كما وصفها د.أحمد الصغير.

وُلِدت رغدة في نوفمبر 1988 بمدينة دشنا في محافظة قنا، ونشأت في المدينة الصناعية التابعة لمصنع سكر دشنا حيث يعمل والدها رئيسًا لقسم الإنتاج، ووالدتها مديرة للمدرسة الثانوية بالمدينة. درست الهندسة المدنية بجامعة أسيوط وتخرجت عام 2010، لتطوي هذه المرحلة من الدراسة التي لم تحبذها، وتكمل مسيرتها الإبداعية مع الشعر، الذي يعينها على مواجهة مخاوفها، وبات – بمرور الوقت – احتياجًا أكثر منه هواية.

أول نشر لكِ في الصحف كان منذ أربع سنوات، أي في سن 26 عامًا، أين كنتِ من الشعر قبل ذلك؟

أتصور أن الشعر كان مرافقًا دائمًا لي، ليس في صورة قصائد، هناك مرحلة ما قبل كتابة قصيدة، هذا الخفقان المتلاحق، الشعور بالإثارة الغامضة لمشهد ما أو ذكرى، لخاطر عابر أو فكرة ما تتمحور داخلك وتنجلي، قبل أن تولد القصيدة وتصبح كائنًا حيًا. أنا عشتُ فترات طويلة يراودني هذا الشعور دون إنتاج قصائد، بعد سنوات قليلة من كتابة القصائد، أرى أن مرحلة ما قبل كتابة قصيدة هي أجمل مراحلها، الأمر أشبه بالحلم قبل أن يتشكل واقع يتم التعامل معه.

لكن مع دخول عالم كتابة الشعر، عندما تمر عليك فترات كتلك، أن تحدث المراودة دون أن تُسلِمك القصائد نفسها، تشعر بالألم. عن تلك الحالة تحديدًا كتبتُ نصًا:

باتت القصائد شعلة نار

كلما لمستها، انطفأت واحترقت يدي.

لا يتبقى لي منها سوى تلك اللسعة.

باتت كشربة ماء

كلما أخذتها بيدي تسربت،

تاركةً يدي مبللة، وروحي عطشى.

ألم تفكري للحظات قبل خوض التجربة أنك تأخرت، خاصة وأنك لم تدركي أن ما تكتبينه قصيدة نثر سوى في 2015 ؟

حقيقةَ وجدتني في هذا العالم دون أن أدري، حتى بعد إدراكي أن ما أكتب يقع ضمن تصنيف «قصيدة نثر»، كنت لا أزال أشعر بغرابة تجاه وصفي بالشاعرة، لقب به من الجمال والجلال ما يجعلك تتردد أمامه وتتشكك، الأمر أشبه بأن تُلقى عليك عباءة النبوة. أما عن التأخر في خوض التجربة من عدمه، فأنا لا أعرف للشعر عمرًا مناسبًا ليظهر، كما الحب يبدو حرًا في مجيئه وذهابه.

بعدما اقتربتِ من عالم شعر النثر وتعرفت بوضوح على معالمه ووضعه في مصر. ما المستقبل الذي تتوقعينه، له ولكِ؟ خاصة في ظل الهجوم الذي يلقاه من حين لآخر.

قصيدة النثر تفتح آفاقا أوسع في الكتابة مع كل يوم جديد، هي أكثر تحررًا وقدرة على حرث أراض مغايرة، باتت أكثر قدرة للوصول لشرائح أوسع من القراء بكسرها الكثير من حواجز العزلة بين الشعر والجمهور. أما عن مستقبلي فيه فلا تصورات لديّ. حلمي هو ذاته مع الانتهاء من كتابة قصيدة أحلم بأخرى.

كنتٍ في انتظار أن يكون «سربني لحواسك» هو ديوانك المنشور الأول، لكن القدر كان له رأي آخر ونُشِر «نخب الغياب» أولًا مع أخبار الأدب. كيف كان وقع ذلك عليكِ؟

كنت سعيدة جدًا وأشعر بأني محظوظة أن تتداول نصوصي النثرية الأولى على نطاق واسع للمهتمين بالشأن الأدبي، حظيتُ بمعرفة آراء كثيرين ممن اطلعوا عليها وتلقيت كثيرًا من التشجيع على مواصلة الكتابة والتطور.

لكني شعرتُ أن بعض القصائد في «نخب الغياب» تقترب من القصة القصيرة أكثر من شعر النثر. هل توافقينني؟

ربما لأن أغلب نصوص الديوان كُتبَت في مرحلة التنقل لديّ بين القصة القصيرة وقصيدة النثر، لهذا كان الغالب عليها الطابع السردي.

حدثيني عن تجربتك مع القصة القصيرة. هل يمكن أن تعودي لها يومًا؟

مع تجربة الصحافة المحلية التي انشغلت بها لسنوات قليلة تنقلتُ بين ألوان مختلفة منها حوارات، تقارير وأخبار، أحببت الفيتشر «القصة المصورة» والبورتريه، حين طغى الأسلوب الأدبي على التناول الصحفي، قررتُ خوض تجربة كتابة القصص، وحين تسربت الموسيقى داخل القصص وعلا صوتها، انتقلت لقصيدة النثر. ولا يوجد ما يمنع عودتي لكتابة القصص، أعتقد أن فكرة النص ما تختار هيئته.

هل تعتقدين أن وجودك في الصعيد يضفي عليكِ بعض الاختلاف عن لو كنتِ شاعرة في القاهرة مثلًا؟

وإن كنت شاعرة في المنوفية أو الإسكندرية، ما الاختلاف أيضًا؟ لا أكتب وفقًا لتلك الاختلافات لأتصور ماذا لو. الفارق الأساسي كون القاهرة تضج بالندوات والمؤتمرات وحفلات التوقيع وهو أمر لا يتماشى مع طبيعتي التي تتجنب الزحام والخوض في حوارات والتعاطي مع غرباء نسبيًا.

تخرجتِ في كلية الهندسة ثم عملتِ في الصحافة، لماذا لم تعملي في مجال دراستك؟

أثناء الدراسة، عرفت أن مجال الهندسة المدنية لن يشغل حيزًا من حياتي بعد التخرج، حتى أنني لم أحاول أن أتقدم لأي وظيفة تخصها رغم وجود فرصة كبيرة أُتيحت لي فور التخرج مباشرةً في مصنع سكر دشنا، فأنا أصنف أبناء عاملين، وكان لهذا أولوية في التعيين. يمكن القول أن أسرار جمال هذا المجال لم تنكشف لي لذلك لم أحبها. رغم محبتي الشديدة للرياضيات، ما قبل الجامعة كانت الرياضيات تأخذ عقلي مع مادة اللغة العربية، بالتعاطي معهما كنت أشعر باتزان عجيب، الإنصات للمنطق مع الرياضيات، وترك العنان للخيال مع اللغة العربية. الغوص في المعادلات والقدرة على تفكيكها وحلها كان يحتاج لمهارة وتركيز، أنفصل فيه عن عالمي وأدخل متاهات المعادلات وأخرج منها شاعرة بمتعة عظيمة وسلام.

هل يعني هذا أن دراستك أسهمت في إثراء موهبتك؟

ليست دراسة الهندسة في حد ذاتها ما نفعني فيما يخص الكتابة، بل انصرافي عنها ما أتاح أوقاتًا أكثر للقراءة والتجول في شارع المكتبات بأسيوط، قضاء ساعات طويلة في استراحة القسم لقراءة جرائد الصباح متغيبة عن المحاضرات الصباحية دومًا. قبل الجامعة كانت ثقافتي سينمائية بامتياز، مع الجامعة تنوعت مشاربها.

هل لديكِ ما تجهِّزينه للنشر قريبًا؟

أرغب بالتحضير لكتاب يشمل قصص الفيتشر التي كتبتها على مدار عملي في الصحافة المحلية، كما أسعى لكتابة أكثر من فيتشر بالعودة للعمل على الأرض. وفي نفس الوقت أواصل كتابة القصائد والتحضير لديواني الثاني.

 

النوبي الجنابي: لا أهتم بالكتابة كاهتمامي بالقراءة

ليس هناك شكل معين لقصيدة النثر ولكن أشكال متعددة تنتمي فقط لصاحبها، وفي غياب الرؤية المتعمقة تخرج القصيدة باهتة

النوبي الجنابي2.jpg

«الميلاد هو المعجزةُ الوحيدةُ التي نعيشها ولا نستطيع التحدث عنها، ربما نصف ملامحها ونتائجها، ولكن نجهل ما الذي يتكون فينا لنصبح ما نحن عليه». بتلك القناعة يعيش النوبي الجنوبي، شاعر الصعيد الذي وُلِد عام 1972 بمحافظة الأقصر «قنا سابقا» في مدينة ومركز أرمنت، المدينة التي مازالت تحتفظ بآثار الفراعنة، وتضم بين جوانبها أكبر مصانع السكر من حيث الإنتاج على مستوى صعيد مصر، هذا المصنع المزعج أحيانًا والمثير للدهشة بالنسبة للأطفال بمداخنه العملاقة وصفيره وأبخرته في أحيان أخرى.

وكأي طفل لا يملك أحقية الاختيار سارت قدماه على طريق التعليم الإلزامي بجميع مراحله، والتي تعتمد على التلقين والحفظ، دون وجود المعلِّم الحقيقي الذي يكتشف ميول تلاميذه وطلابه واهتماماتهم وتوجيهها توجيهًا صحيحًا، لذا تخبطته السنون ما بين الحقول والكد المبكّر وبين جفاف الطريقة التعليمية وقسوة القائمين عليها.

في هذه الفترة المبكرة استسلم الجنابي لصوت ياسين التهامي بكل روحانيته ووجدانه، رغم أنه لم يكن يفهم كثيرًا مما يقول، ولكن يشعر بأنّ جسرًا يمتد ما بين روحه وبين هذه الموسيقى الصوفية المتوغلة في العمق بكل ما تصطخب به من تدفق وجداني، هذا التدفق هو الدافع الأول للكتابة.

تكتب منذ سنوات طويلة. لمَ استغرقت كل هذا الوقت لتنشر أول أعمالك ؟

لأسباب كثيرة؛ أهمها أنني لا أعتبر نفسي شاعرًا وأن ما أكتبه ما هو إلا هذيان لروحٍ غوت فهامت على وجهها في فضاء الله. وثانيها أنّ ما يستحق النشر لم أكتبه بعد، ولهذا لم أطرق أبواب النشر مطلقًا إلا في تجربةٍ وحيدة كان نتاجها ديواني الثاني «كالعشاق تمامًا» من خلال النشر الإقليمي.

من تجربتك مع النشر الإقليمي، كيف تقيّمه؟

مشروع عظيم جدًا طرق بابه معظم الشعراء والأدباء، وعندما عرفوا طريقهم وسلكوا مسالكهم تبرأوا منه وقذفوه بالحجارة لضعف مستواه، وهذا لأنهم تركوا الأجيال التي تلَتهم بغير هدى ومن غير التوجيه الصحيح وتفرَّغوا لمصالحهم الشخصية، فخرجت معظم الأعمال دون المستوى المطلوب. فالنشر الإقليمي له أهدافه النبيلة، لكنه يحتاج إلى إدارة واعية ووسط ثقافي سليم.

حدثني عن ذلك الديوان الثاني «كالعشاق تمامًا» الذي صدر مؤخرًا.

اعتبره نتاج العلاقة المتوترة ما بين الذات وبين الواقع المعيش بكل تناقضاته، فلا ملاذ لنا غير العشق الذي نتصالح به مع الذات، والذي يكشف لنا ما نجهله عن أرواحنا، هذه الروح التي لا تشف أو تسمو إلا بالعشق.

وماذا عن ديوانك السابق له، الصادر مع أخبار الأدب في الكتاب الأول؟

لأخبار الأدب تاريخ معي، فقد نُشِرت قصيدتي الأولى على صفحاتها في تسعينيات القرن الفائت منذ صدورها على يد الأديب الكبير جمال الغيطاني رحمه الله. وها هو التاريخ يعيد نفسه وتنشر أخبار الادب ديواني الأول، ولهذا فرحة كبيرة ترتبط بتاريخ أخبار الأدب وقيمتها ومكانتها.

لماذا لم تدرس اللغة العربية وآدابها بدلًا من الفلسفة لتقترب من العالم الذي تهواه؟

في الحقيقة كنت دائمًا في قسم اللغة العربية حيث الشعر واللغة، لكني التحقت بقسم الفلسفة حبًا ورغبة فيها، حيث قرأت قبل التحاقي بالجامعة للكثير من فلاسفة الإسلام وفلاسفة عصر النهضة والتنويريين وكتابات زكي نجيب محمود وأميرة حلمي مطر في علم الجمال، ومن هنا حدثت الصدمة عندما سمعت وقرأت ما يدرسونه في رحاب الجامعة.

وجدتُ في قصائدك روحًا صوفية عالية، لكن حديثي معك أظهر لي أن تلك الروح ليست في القصائد فحسب، وإنما هي حالة تعيشها على الدوام. كيف جاء ذلك؟

هذا صحيح، فالحس الصوفي يسيطر ليس على قصائدي فقط ولكن على كل ما أشعر به ويتملكني، فهو هذه الحالة التي أعيشها وتعيشني من خلال رؤية الأشياء أو الإحساس بها حتى تتبلور في شكل قصيدة، وقد جاء اهتمامي بالصوفية مبكرًا من خلال سماعي لصوت ياسين التهامي، ومن خلال جلسات الذكر لبعض الطرق الصوفية، وكانت الحالة هي التي تأخذني وليس المعنى الذي لم أكن أدركه بعد، وأذكر أنّ أول كتاب قرأته كان كتاب «مقارنة بين الحب العذري والحب الصوفي» والذي تاه من ذاكرتي كاتبه. وحتى الآن لا أكتب إلا عندما أكون في حالة ذِكر، وكما قال «همنجواي» – أفضل ما يكون الكاتب وهو في حالة حب – وهل هناك أفضل من حالة الحب الصوفي.

تبدو - كذلك - الموروثات الشعبية واضحة في عدد من القصائد. هل استقيتها فقط من واقع معايشتك أم لك قراءات في هذا المجال؟

الموروثات الشعبية هي الإرث الذي نحمله ونتعايش به في كل تعاملاتنا اليومية والحياتية، والذي يتوغل فينا بصوره المختلفة من أمثال وحكم وحكايات وحتى خرافات تجرفنا إليها بدون أي إرادة منا، ولكل أديب أو قارئ محصلته من هذا المورث من خلال قراءته والتي تؤثر في وجدانه وثقافته .

هل تهتم بحضور الأمسيات الشعرية؟ 

في بداياتي كنت حريصًا على حضورها، واستمعت فيها لكبار الشعراء في الوطن العربي مثل محمد عفيفي مطر وسميح القاسم وأدونيس ورفعت سلام ومحمد الفيتوري وحلمي سالم، وكنت أخرج من الأمسيات مشبعًا ليس بالشعر فقط ولكن بهذه العوالم التي يخلقها الشعر، أما الآن فنادرًا ما يحدث ذلك ونادرًا ما أجد الشعر في الأمسيات الشعرية، لأن هدفها لم يعد الشعر، وإنما الشعراء، ولهذا فقدت قيمتها الحقيقية وتأثيرها في المتلقي وأصبحت في أغلبها مجاملات فارغة.

أمام الهجوم الذي يلقاه شعر النثر، كيف ترى الغَدُ معه؟

ليس هناك مستقبل دون حاضر يضع قدميه على أرض واضحة المعالم والرؤى، يقول «لوركا» واصفًا الشاعر الذي يمضي إلى قصيدته «إنه يذهب إلى رحلة صيد ليلية في غابة نائية، عليه أن يتذرع بالسكينة أما آلاف المحاسن والمقابح المقنعة بالحسن مما سيرى أمام عينيه، عليه أن يصم أذنيه مثل عوليس عن النداءات الخادعة، التي تطلقها حوريات البحر، ويسدد سهمه تجاه الصور الحية لا الشكلية الزائفة التي تصحبها، عليه أن يثبت أمام تهاويم السراب». للأسف نحن لم نثبت أمام هذه التهاويم وخصوصًا أن ليس هناك أطر معينة لقصيدة النثر، وعلى حد تعبير سوزان برنار هي «خلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية» بهذا المعنى ليس هناك شكل معين لقصيدة النثر ولكن أشكال متعددة تنتمي فقط لصاحبها، وفي غياب الرؤية المتعمقة تخرج القصيدة باهتة.

قصيدة النثر هي المستقبل، ولكن هي الآن تشهد تراجعًا خاصة في مصر بعد جيل الرواد، تراجع في الرؤية واللغة والإيقاع، فعندما نقرأ ما يكتبه الشعراء الآن وما كتبه الرواد من أمثال أدونيس وأنسي الحاج ووديع سعادة نشعر بهذه الفجوة وهذا التراجع. أما عن نفسي فأنا لا أجدني في قصيدة النثر كما أجدني في قصيدة التفعيلة، التي تستمد إيقاعها من إيقاع روحي على السلم الموسيقى الكوني.

ماذا تكتب الآن؟

لا أهتم بالكتابة كما أهتم بالقراءة، الكتابة بالنسبة لي فعل مفاجئ لا أخطط له، وإن كانت هناك أفكار تظل أفكارًا إلى أن تصبح واقعًا. أما الآن فأنتظر ديواني الثالث «حديث العشق متفقٌ عليه» ربما يخرج في شكل كتاب وربما لا.

 

هدير شوشة :أتمنى ألا أفقد هويتي

«أخبار الأدب» دعمت ثقتي في نزاهة المؤسسات وفي نفسي، وتأكدتُ أن ما عليك إلا أن تكون نفسك دون تكلُّف أو تقليد لأحد

هدير شوشة 2

داخل منزل دافئ بقرية التوفيقية، إحدى القرى التابعة لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، تسكن أسرة مكونة من خمسة أفراد، أب وأم وولدين، وبنت هي الأكبر اسمها هدير سمير شوشة، وُلٍدت عام 1992، ومنذ نعومة أظفارها كان والداها حريصين على تنشئتها وأخويها بشكل قويم ومعتدل. في الصف الرابع الابتدائي اختارتها مدرستها للمشاركة في إحدى المسابقات التي تنظمها الوزارة لإلقاء الشعر ومن هناك كانت البداية.

كانت هدير شغوفة بالمطالعة وتقرأ بنهم شديد ولها عوالمها الخاصة التي شكّلت شخصيتها بشكل عام. وفي المرحلة الثانوية لمعت من خلال مشاركتها في مسابقات الإذاعة المدرسية والمناظرات وجميع الأنشطة الطلابية، إلى أن بدأت كتابة الشعر في الصف الثاني الثانوي، بشعر الفصحى، ثم توقفت، وبعد فترة لا بأس بها عادت للكتابة عندما حان الوقت المناسب.

ما موقف والديكِ من موهبتك حينما ظهرت منذ البداية، الدعم أم الخوف من إلهائك عن دراستك؟

الدعم. أذكر دهشة أمي في أول مرة تقرأ مقالًا لي وسعادتي حينما أتى أبي بالجريدة، حتى إني أذكر نبوءة زوجة عمي لي وأنا في الصف الرابع الابتدائي حينما قرأت أحد موضوعات التعبير واندهشت وحتى الآن تذكِّرني بذلك.

أمي هي أول وأهم قرائي. وكلانا تعرفت على جوانب جديدة في شخصية الأخرى منذ بدأتُ الكتابة. وجدتها ليست متلقية عادية فحسب، فقد كانت أول نقادي وعندها وعي أدبي كبير أدهشني، حتى إني كنت أحيانًا أبادر بشرح فكرة نص ما لها فأجدها قد قرأت ما بين السطور بوعي مدهش. أما أبي فقد أتاح لي فرصة الاحتكاك رغم تحفظه الشديد، فثقته منحتني دفعة قوية، وأجزم أن تربيته لنا في صغرنا وتشكيل ملامح شخصياتنا في سنوات عمرنا الأولى على هذا النحو هي أهم أسباب وجودنا على ما نحن عليه الآن.

كيف عُدتِ بعد التوقف؟

منذ عام انضممت لنادي أدب إيتاي البارود وبدأت أسمع رأي نقدي من شعراء حقيقيين. كنت كلما سمعت إطراء أو مدح أثار ذلك قلقي أكثر من فرحتي. فلا ننكر جميعًا أن الوسط الثقافي عامة تحِّفه المجاملات والمبالغات لاعتبارات كثيرة. لكن هناك دائما من أعتبرهم مرآتي أو كما أحب أن أسميهم my fresh eyes.

اللغة الإنجليزية لديك لا تقف عند حدود دراستها في كلية الآداب أو استخدامها في حديثك، بل طالت كتابتك الشعرية أيضًا. ألم تخشِ تعرضك للنقد بسبب ذلك؟

دراستي للغة الإنجليزية لم تكن محض صدفة أو من ترتيب تنسيق الجامعات. لطالما كنت أتعلم الإنجليزية كثقافة ونمط حياة وليست كلغة. والمضحك في الأمر أنني كنت أعتمد بجانب دراستي في حل الامتحانات على إحساسي الخاص ولعل ذلك هو الرابط المشترك بين حبي للشعر وحبي للأدب الإنجليزي. فقد درست النقد والشعر والقصة والمسرحية والرواية والمقال والترجمة والأدب المقارن وتعرفتُ على تاريخ كل منهم عبر القرون المختلفة، ودرستُ التحليل النفسي بشكل مستفيض فكان الأمر من أمتع ما يكون. والأدب الانجليزي لا ينفصل عن الأدب العربي بشكل تام، فحتى أصول اللغات جميعها وكيفية تكونها نجد أن اللغات جميعها متصلة بشكل مثير للإعجاب في المفردات خاصة. ولعل ذلك أحد أهم أسباب استخدامي للمصطلحات والكلمات الإنجليزية في نصوصي دون قلق مطلقًا. فالعامية إناؤها أقدر على استيعاب كافة الثقاقات واللهجات فيخرج من بوتقتها النص مفعمًا بروائح عدة من الصعب فصلها، فلا يسعك إلا الاستمتاع بهذا المزيج فقط. ثم أن العامية من الجمهور وإلى الجمهور ونحن لا نستطيع فصل استخدام المصطلحات الإنجليزية عن حياتنا اليومية الآن. والفكرة في التناول. وأظن أن الجمهور أصبح بارع في هضم الثقافات الأخرى بمنتهى السهولة، حتى إن واجهات المحلات وغيره وأحاديث الكبار والصغار وكل الفئات يتخللها هذه المفردات بشكل عفوي وسلس جدا. وأنا من الجمهور وأتعامل وأدوِّن بنفس هذه العفوية، لكن لا أنكر أنه لابد وأن أقيس مدى ألفة الجمهور للكلمة. فاستخدامي لهاندفري مثلًا وآيلاينر أظنه أكثر ألفة للجمهور الآن من كلمة سماعة أذن أو محدد عين. فوقع الأخيرتين على الأذن كما لو كان هو الأجنبي.

«إناء العامية أقدر على الاستيعاب» ربما هذا صحيح، لكنه غريب أيضًا، فأنت بدأتِ بشعر الفصحى، كيف اخترتِ العامية في النهاية؟

لم أنفصل عن الفصحى تمامًا. كل ما في الأمر أنني مستمتعة بدور الوسيط. يأتي الخاطر الشعري فيكون السفينة والهواء وأكون أنا الشراع بينهما حتى يصلا للوجهة. في بعض الأحيان يأتي الخاطر فصحى فأكتب الفصحى وأحيانًا أخرى أجده عامية فلا أتدخل مطلقًا. أحب أن تأخذ الطبيعة مجراها في كل شيء.

كيف سارت تجربتك مع الكتاب الأول؟

تفاجأت حينما طلب مني الأستاذ أشرف قاسم بعض قصائدي فأرسلتها على اعتبار سماع رأي نقدي ولكنه باغتني وبعثها للنشر في أخبار الأدب. كانت فرحتي كبيرة. وقبل أن تفتر كانت المفاجأة الأكبر حينما طلبت أخبار الأدب أن أجمع نصوصي في ديوان للنشر ضمن الكتاب الأول. صارت فرحتي عارمة؛ فأخبار الأدب مؤسسة لا غبار عليها وتقييمهم بالطبع لا يعرف مجاملة أو محاباة. واختيارهم لي كان أكبر دفعة حقيقية ومنارة كشفت لي الطريق بينما أنا أتخبط وأخشى الوقوع فريسة للمجاملات أو حتى النقد الهدَّام. أظن الأمر أشبه بلوحة مطوية في أحد الأركان فأخذتها يد وعين خبيرة ووضعتها في إطار قيّم وأحسنتُ تقديمها.

يطغى الحس الأنثوي على قصائد «كحل ملون». هل يعني ذلك أن اخترت الإبداع النسوي مسارًا لك؟

نعم، لكن أعتقد أن رغم تصنيفه ضمن الكتابة النسوية إلا أنه لا يثير غضب الفكر الذكوري المتلقي له. حيث إنه يشبه إلى حد كبير توصيل الرسالة مهما كانت قاسية بدلال ما، وأظن ذلك محمودًا في الأنثى وذلك هو فحوى الأمر. فأنا لا أتحدى الرجل في «كحل ملون» على الإطلاق كما يشاع عن الكتابة النسوية. أنا أناضل لأجل أن تحتفظ الأنثى بهويتها وخصوصيتها وأنوثتها. لا أن تزاحم الرجال. الفطرة هي حجر الأساس في ديواني. أسعى لرجوع كل من الرجل والمرأة لفطرته الأولى ليتحقق التناغم في الحياة. ليس بالضرورة أن تعزف كل آلات الأوركسترا معًا حتى يتساوى الجميع. على العكس فالتناغم نابع من احترام كل منهم لأداء دوره واحترام الآخر. أما إذا كان هناك تنافس لكان الناتج ما هو إلا فوضى مزعجة.

إلام تطمحين في مستقبلك الشعري؟

كل ما أطمح له ألا أكون في المكان الخاطئ، وألا أفقد هويتي. أتمنى على المستوى العام أن ينشأ جيل من الشعراء يستثمر جيدًا وبوعي ما يُتاح له من وسائل الانتشار وأن يحترم الجمهور، بحيث يكون سببًا في الارتقاء بوعيهم ماداموا ملتفين حوله، فأكثر ما يحزنني هو انسياق شعراء شباب وراء الحفلات والتسويق والوقوع في شرك إصدار دواوين خاوية من أي إبداع على أي مستوى أدبي أو غيره بل إسفاف ممول فقط. ليس من الضروري أن يعجبك كل ما يصفق له العامة. ربما أنت القادم أفضل من كل هؤلاء..من يعلم؟! فجريدة كأخبار الأدب على سبيل المثال فاجأتني باختيار ديواني وقد كنت حديثة عهد بالوسط الثقافي، ليس لي معارف أو علاقات. أخطو خطواتي الأولى وكلي ثقة أن الموهبة ستنتصر لكن لم أكن أعلم أني سأحظى بهذه الدفعة النفسية العظيمة سريعًا هكذا. «أخبار الأدب» دعمت ثقتي في نزاهة المؤسسات ودعمت ثقتي في نفسي وتأكدتُ أن ما عليك إلا أن تكون نفسك دون تكلُّف ودون تقليد لأحد. فأنت مميز حتى بنقاط ضعفك وزلاتك وستُحترَم. أما النسخ المكررة فلا حاجة لها حتى في المستهلكات اليومية للناس، ما بالك المحتوى الأدبي.

ما الجديد لديكِ؟

انتهيتُ من «كحل ملون». تفضل مشكورًا كل من د. كمال اللهيب والشاعر أشرف قاسم بمناقشته ومن وجهة نظرهما أن التجربة مكتملة. لم يُطبَع الديوان بعد. فرغم اكتمال تجربته إلا أني مازلت أعاني من فوبيا نشر الديوان الأول، والديوان في شكله الذي طُبِع في أخبار الأدب مقدمة غير كافية للديوان الأول الذي أود نشره، بالتأكيد سأضيف عليه بما يتوازن في فكرة واحدة ولحمة واحدة أطمح من خلالها أن أصعد سلمة من سلالم الشعر، ومع ذلك فأنا أعمل على ديواني الثاني الذي ربما كان الثالث لولا حذفي الدائم لنصوص من ديواني واستبدالها بغيرها. وأتمنى ألا تستهويني الرغبة في الانتشار وأن أقدم محتوى محترماً. وأظل أكتب لنفسي وللمتلقي العادي الذي هو غايتي، فقد أعجبني أن يقال هدير لا تكتب للنقاد.

 

هشام حسين: أشعر بحرية أكثر في كتابة الزجل

وجود بعض الأماكن الخاصة وتركيزها على شعراء بعينهم، سبب في وجود شعراء كُثر من جيلي لا يمتلكون فرصة سوى الأمسيات الشعرية.. وأنا أحد هؤلاء

هشام حسين

لم يكن طفلًا منطويًا أو ذلك الذي يخاف الناس والأشياء، يذهب سنويًا لقضاء الصيف مع عائلة أمه في مدينة الإسماعيلية، وزيارة عمه الأكبر بالقاهرة، فكانت تلفت انتباهه مكتبته الكبيرة، ويسيطر عليه الفضول للبحث بين كتبها، فهي أول مكتبة بالمعنى المقصود يراها خارج المدرسة. ثم بدأ يشعر بفضول أكبر نحو الأشياء ولم يعد يكفيه أن يعرف فقط شيئًا واحدًا عن أي شئ يراه أو يعرفه، فأخذ يبحث عن أشكال أفضل وأعمق في معناها كي يصف الأشياء، وأصبح ذلك الشخص الذي يبحث دائمًا ويحاول جاهدًا أن يقرأ ما بين السطور.

في عمر السادسة عشرة، قرأ صديقه في المدرسة الثانوية بعضًا من أشعاره، فاكتشف أن هشام عياد بربري حسين موهوب، وبدأ في تشجيعه. استمر في الكتابة دون أن تعلم عائلته، وحينما عرفوا تحفَّظ والده بعض الشيء تجاه ذلك، خوفًا من أن ينشغل عن دراسته، لكنه لم يمنعه بشكل مباشر. واصل هشام، المولود عام 1990 في نجع الملقطة بالكرنك القديم في الأقصر، طريقه وتطوّره في كتابة الزجل وشعر العامية، إلى أن حصد عددًا من الجوائز، من بينها المركز الأول على مستوى محافظة الأقصر في الزجل، والمركز الأول في شعر العامية بمسابقة النشر الإقليمي.

ما الخطوات التي سِرت عليها بعدما علمت بموهبتك؟

عملتُ على تطويرها بالقراءة والبحث في كل ما أتيح لي الإطلاع عليه، كما أحاول أن أكون مختلفًا قدر ما أستطيع.

هل حاولت انتقاء بعض الأسماء اللامعة في شعر العامية لتقرأ لهم؟

صدقًا لا أحدد ما أنوي قراءته، فقط أقرأ ما أجده أمامي من كتب، لكني أعشق الراحل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم، كما أشعر بإحساس رائع حينما أقرأ للجميل فؤاد حداد.

كيف مرَّت عليك تجربة الكتاب الأول؟

كان حدثًا مهمًا جدًا وفارقًا في حياتي، جعلني في قمه سعادتي، لذا أشكر أسرة «أخبار الأدب» لما قدموه لي ويقدمونه لكل الكُتَّاب الجدد من مساعدات وتحفيز. فقد استفدت كثيرًا من تلك التجربة، وواجهت نقدًا إيجابيًا وسلبيًا سيضيف لي بالتأكيد.

يخلط البعض بين الزجل وشعر العامية، وأنت تكتب كليهما، إلى أي منهما تميل؟

كي أكون صادقًا، لا أضع الخطط والترتيبات حينما أكتب، ولا أتحيز لشيء محدد، فقط أكتب. لكني أشعر بحرية أكثر في كتابة الزجل.

يعيب كثيرون على الأمسيات الشعرية في الآونة الأخيرة أنها تضم عددًا كبيرًا من الشعراء مما يفقدها قيمتها، أخبرني برأيك في الأمر من واقع تجاربك. وهل تحقق لك إفادة؟

قلة عدد تلك الأمسيات وضيق وقتها من وجهة نظري سبب كبير في ذلك، لكنها مفيدة كثيرًا، فهي تعتبر من المناسبات القليلة التي تُلقى فيها قصائدنا ونلتقي فيها مع المتلقين. كما أحب أن أوضِّح أن وجود بعض الأماكن الخاصة وتركيزها على شعراء بعينهم، سبب في وجود شعراء كُثر من جيلي لا يمتلكون فرصة سوى تلك الأمسيات وأنا أحد هؤلاء.

حدثني عن تجربتك مع النشر الإقليمي.

هو أحد أهم نشاطات أندية الأدب، والسبيل الوحيد للبعض في نشر أعمالهم. بالنسبة لي تجربة جيدة أتمنى أن تتكرر، ولكن أتمنى - أيضًا - أن يكون التوزيع على نطاق أكبر من ذلك وأن يزيد عدد نسخ الطبعة الواحدة.

تخرجت في كلية الآداب قسم آثار. هل تعمل في المجال أو تتأثر به في كتاباتك؟

لا. لا أعمل في مجال دراستي، فأنا أعمل كمدير إداري لفرع إحدى الشركات الخاصة في مجال التعدين. لكنه بالطبع ترك بصمة في كتاباتي، من بينها واقعة حدثت في أحد امتحانات الجامعة، وكانت على ما أتذكر مادة تاريخ، تركتُ المادة حينها وكتبتُ قصيدة «غربة» المنشورة في ديوان «طرف الروح».

ما خطواتك المستقبلية؟

أحلم أن أخوض مغامرة الروايه مستقبلا، حيث أعمل على كتابة رواية وأتمنى أن أنجح في ذلك.

 

أماني أنور حزين: بيوت الأدب في الصعيد لا تهتم بأبنائها

أطمح أن تترجَم أعمالي الأدبية للغات عالمية وأن ترى لوحاتي النور في المعارض الفنية الشهيرة بباريس وغيرها من البلدان العالمية الكبرى المهتمة بالفنون والمقدِّرة لها

أماني أنور حزين2

كالفراشة التي تقف على كل زهرة حتى تمتلئ برحيقها، اعتادت «أماني أنور حزين» أن تتنقل بين الأدب والفن. حينما تشتاق روحها لأحدهما تعدو إليه لتنهل منه حتى تكتفي، دون أن تخِّل بأولوياتها، والتي جاءت في مقدمتها، حتى سنوات قليلة مضت، التفوق الدراسي، إلى أن تخرجت عام 2013 وتفرغت لما تهوى.

وُلِدت أماني في قرية السمطا قبلي التابعة لمركز دشنا بمحافظة قنا بصعيد مصر، نشأت في أسرة لعائلة كبيرة ومعروفة ذات نسب شريف لأب شيخ أزهري حافظ للقرآن الكريم وأم متعلمة وخمسة أشقاء بنين وبنات. درست الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة جنوب الوادي، وبعد تخرجها أتبعت الليسانس بدبلوم عام في التربية من نفس الجامعة.

تركت حياة القرية - الزاخرة بتنوع في الثقافات والعادات والتقاليد والفكر - أثرًا عميقًا وواضحًا في نفسها وفي كتاباتها وفي لوحاتها الفنية أيضا. حيث كتبت ديوانًا كاملًا عبَّـرت فيه بتجارب شعرية، بعضها ذاتي وبعضها الآخر عام، عن المعاناة الإنسانية عمومًا والمعاناة العربية خصوصًا، كما كتبت عن حياة القرية في الصعيد بشكل جلي من خلال مجموعتها القصصية الأولى التي لم تعلن عنها بعد.

عهدك بالكتابة ليس بعيدًا، كيف وضعتِ قدمك على أول الدرج ؟

كتبتُ في البداية أجزاءً كبيرة من رواية قاربت على المئة صفحة، لكني انقطعت عنها لفترة لأتفرغ أكثر لموهبتي في الفن التشكيلي. ثم بعد فترة عدت للكتابة ثانية وحاولتُ الموازنة جيدًا بين الكتابة والرسم، واستطعت فعل ذلك إلى حد كبير. بعدها اهتممت أكثر بالشعر وخاصة الفصحى منه، ووجدت نفسي أكتبه يسيرًا جدًا، أصبح بالنسبة لي مادة تفريغية كبيرة لما أشعر به سواء في الشأن الخاص أو العام. فالشعر يعتمد على الإحساس والخيال الإبداعي المغاير، وكل كلمة فيه نكتبها من داخلنا بعمق وصدق، فننصهر مع أحاسيسنا في بوتقة القصيدة حيث يتجلى للقارئ المتذوق حالة شعرية فائقة ربما تتشابه مع ما يعاني منه أو مع ما يمر به من تجارب في الحياة.

وفيما قبل ذلك؛ ألم تتجلى تلك المواهب خلال طفولتك أو أثناء الدراسة؟

بلى، وكان لأسرتي دور مهم ورئيسي في تنمية مواهبي الأدبية والفنية منذ الصغر، فهم أصحاب الفضل الأكبر بعد الله تعالى في تشجيعي على الرسم والشعر والكتابة عامة، وحضور المؤتمرات الأدبية والندوات الشعرية والثقافية والورش الفنية وغيرها، سواء في محافظتي أو حتى خارجها. يدعمونني دائمًا في كل مواهبي، وأيضًا في مجال تخصصي في الترجمة والعمل كمحاضِرة للغة الإنجليزية. وأخص من عائلتي أختي الشاعرة الشابة والفنانة التشكيلية هبة أنور - أو توأمتي كما يسمينا أصدقاؤنا الأدباء والفنانون - حيث كان لها النصيب الأكبر في تشجيعي ودعمي، خاصة أننا نمتلك نفس المواهب الشعرية والفنية ونفس مجال التخصص الدراسي من نفس الكلية ونفس الجامعة .

وكان للمدرسة دورها التشجيعي أيضًا، فكثيرًا ما شجّعني أساتذتي على موهبتي في الرسم، أتذكر كانوا يلقبونني وقتها بالنجمة الأولي في الرسم على مستوى المدرسة، لأن موهبة الرسم يمكن اكتشافها بسهولة قبل موهبة الكتابة.

هذا يعني أن الفن التشكيلي كان بوابتك لعالم الإبداع.

هو الموهبة الأولى التي اكتشفتها الأسرة عندي منذ الطفولة ومن بعدها اكتشفتها المدرسة، وقد نميتها وأثقلتها كثيرًا بالممارسة والقراءة، لكني أهملتها لفترة ليست بالقليلة أثناء الدراسة الثانوية والجامعية، إلى أن عدت للاهتمام بممارسة الفن التشكيلي من جديد وبقوة بعد التخرج في الجامعة، ووجدت موهبتي قد نضجت واكتملت وكبرت كثيرًا معي رغم إهمالي الطويل. وها أنا أرسم الآن بكل الخامات؛ بداية من الرصاص وأقلام الجاف والفحم إلى ألوان الخشب والزيت والألوان المائية. وقد افتتحت معرضي الفني الساخر الأول في محافظة قنا هذا العام تحت رعاية وزارة الشباب والرياضة، وأجهِّز الآن لمعرض آخر، مختلف عنه وبخامات جديدة .

لكن عملك الأول الذي قدّم اسمك للحياة الثقافية كان ديوانًا. كيف شعرتِ بميلاده في أخبار الأدب؟

لطالما اعتبرت ديواني هو مولودي الأدبي الأول، ومع نشره أعتبر أن جريدة أخبار الأدب التي قدّمته ككتاب أول هي تلك القابلة الرحيمة والحنونة لذاك المولود الحبيب وبلا أدنى مجاملة. فكثيرًا ما نعاني كشاعرات شابات من صعيد مصر ممن قد لا يهتمون بنشر كتاباتنا التي في مهدها وميلادها الأول، أو دعمنا والاعتناء بمجهوداتنا الأدبية في ظل تقاعس قصور الثقافة وأندية أدب الأقاليم عن أداء واجبها تجاه المواهب الشابة وخصوصًا المواهب النسوية منها في محافظة قنا. كما أن جريدة أخبار الأدب تفرَّدت بمشروع الكتاب الأول عن غيرها من الصحف مما أعطى فرصة كبيرة لشباب المبدعين والمبدعات بأن يحصدوا سريعًا نتاج عنائهم الأدبي. كان لذلك أثره النفسي والمعنوي الطيب على ككاتبة شابة من الجنوب لأجد منبرًا أدبيًا متفردًا وراعيًا لتلك المواهب كأخبار الأدب العريقة.

من الواضح أن الجنوب كان له تأثير كبير عليكِ. حدثيني عن ذلك.

كوني شاعرة في الصعيد ربما جعل مني مزيجًا أدبيًا وفنيًا خاصًا، أحمل على عاتقي ليس فقط هموم الإنسان العادي ومشاكله وصراعه مع الحياة، وإنما أحمل هموم الجنوب وأبنائه وخاصة نسائه. ذاك الجنوب المهمل الذي اعتبرته الدولة المركزية ابنها العاق فحرمته من كل شيء ونفته بعيدًا عنها ولم تكتف بواقعه الجغرافي البعيد أصلًا، وكأن الإبداع والفن لن يخرجا من أحشائه يومًا رغم أنه هو من أنجب العقاد وطه حسين والأبنودي وأمل دنقل وغيرهم من عمالقة الأدب والفكر. ذاك الصعيد الذي ربما جعلني عصارة شعرية وفنية وثقافية لجراحه وأناته وأزماته، فأنا ابنته التي تكتب منه وعنه وإليه.

لكنك عشتِ فترة في الإسكندرية، هل كنتِ ستختلفين لو أكملتٍ حياتك بها؟

أظن لو كنت شاعرة في الإسكندرية أو القاهرة فلربما كان لي حظًا أوفر في الانتشار أو الظهور وإيجاد الفرص المناسبة والداعمة لمواهبي في الأدب والفن أكثر من هنا، خاصة أن بيوت الأدب التابعة لوزارة الثقافة المصرية في قنا والأقصر لا تهتم بأبناء وبنات الصعيد من المبدعين والمبدعات في دعمهم أو نشر أعمالهم الأدبية رغم مسئوليتها الكاملة عن ذلك ومقدرتها، بل على العكس تمامًا، تلهث تلك البيوت الأدبية وراء أبناء الوجه البحري وتتنكر لما أنجب الصعيد من مواهب كبيرة، رغم أنها مقامة في الصعيد أصلًا لخدمة شبابه المبدعين والمبدعات وليس لاستقطاب من هم في خارج محافظات الصعيد ومن هم ليسوا بحاجة إلى دعم أو انتشار.

يبدو من كلماتك أن لكِ تجربة غير موفَقة مع نادي الأدب في قنا. هل هذا صحيح؟

نعم، للأسف لم يكن لنادي أدب قنا أو نادي أدب دشنا أي دور في اكتشاف أو دعم مواهبي الأدبية أو الفنية، فنوادي الأدب عندنا تتسم بالشللية والتكتلات ولا تخلو من المشاحنات والضغائن. وقد كان لأختي الشاعرة والفنانة التشكيلية الشابة «هبة أنور حزين» تجربة جديرة بالذكر مع نادي أدب قنا ولجنة إقليم الجنوب الثقافي بالأقصر والتي رفضت منحها عضوية نادي الأدب بقنا عن ديوانها الفصحى الأول «يحمل الموت على كفيه» هذا العام، على الرغم من أن ديوانها هو الديوان الفائز بالمركز الأول في جائزة مركز عماد قطري للإبداع لعام 2018، مما جعلني أحجم تمامًا عن التقدُّم للحصول على العضوية من نادي أدب قنا أو دشنا لديواني الفصحى الأول «غراب يتحدث العبرية» المنشور في أخبار الأدب هذا العام ككتاب أول، لأنني لم أجد من اللجنة المانحة لعضوية نادي الأدب تلك الأمانة الأدبية أو الثقافية المطلوبة تجاه شباب مصر المبدع والواعد هنا، وخصوصًا المرأة المبدعة.

يعني ذلك أنك لم تجدي الدعم الذي تحتاجينه في نادي الأدب لتنمية موهبتك وتطويرها. كيف تعملين على ذلك إذًا؟

أعمل على تنمية موهبتي في الكتابة من خلال القراءة في الأدب العالمي كثيرًا والترجمة من الآداب العالمية للعربية، خاصة أن الأدب الإنجليزي والترجمة هما مجالا دراستي الجامعية، مما جعلني أقرب كثيرًا لمعرفة ثقافات الشعوب الأخرى، خصوصًا آداب الشعوب الناطقة بالإنجليزية كالأدب البريطاني والأمريكي. لقد درستُ معظم الأعمال المسرحية والشعرية للأديب العالمي الكبير وليم شكسبير وبعضًا من روايات كُتَّاب كبار كتشارلز ديكنز وجورج أورويل وإيرنست هيمنجواي وأشعار إيميلي ديكنسون وتي. إس. إليوت وسيجفريد ساسون وغيرهم الكثير، مما أثرى مواهبي أدبيًا وفنيًا وثقافيًا جدًا، وجعلني أتفوق في دراستي، خاصة مادة الشعر الإنجليزي والتي حصلتُ فيها على الامتياز أكثر من مرة .

كما أهتم بالأدب المصري والعربي أيضًا سواء كان في الشعر أو الرواية أو القصة.

رغم دراستك للأدب الإنجليزي، إلا أنك عملتِ في الصحافة بعد تخرجك. لماذا لم تكملي هذا المسار أو تدرسي الإعلام من البداية؟

أهوى كثيرًا العمل الصحفي والمجال الإعلامي، لكن حبي للغة الإنجليزية وآدابها طغى على تلك الهواية، كما أن تعدد مواهبي وهواياتي جعلني أتشعب في شتى المجالات دون التقيُّد بفكرة الدراسة. وكثير من كبار الإعلاميين لم يدرسوا في قسم إعلام لكن بزغ نجمهم أكثر من بعض الدارسين له. هي موهبة قبل كل شيء، ودائمًا الموهبة تغلب على الدراسة.

حديثك ينم عن ثقة كبيرة في مواهبك وطموحات أكبر. هل هي كذلك بالفعل؟

نعم، فأنا أطمح أن تترجَم أعمالي الأدبية للغات عالمية وأن ترى لوحاتي النور في المعارض الفنية الشهيرة بباريس وغيرها من البلدان العالمية الكبرى المهتمة بالفنون والمقدِّرة لها.

وماذا عن الترجمة؟

ترجمتُ كتابًا في التنمية البشرية لباحث عربي من بلد شقيق، لكنه لم يظهر للنور بعد. كما أعمل حاليًا على ترجمة بعضٍ من أعمال الشعراء الإنجليز والأمريكان، رغبة وإصرارًا مني على إثراء الصحف المصرية والعربية بتلك الترجمات المهمة.

ماذا ننتظر منك قريبًا؟

أجهِّز لمعرض فني جديد أفتتحه في نهاية العام المقبل، كما أخط بوادر ديواني الثاني، وقد انتهيت حديثًا من كتابة مجموعة قصصية كأول عمل قصصي لي.

 

محمود بيومي: أحببتُ أن أكون فيزيائيًا وفوجئت بأنني شاعر

قضيت ثلاث سنوات من الصراعات في المدرسة الإعدادية، لا علم ولا فن. وعلى قدر ما تركت هذه الفترة أثرًا سيئًا في نفسي على قدر ما كانت المرحلة الأولى للتعرض لشراسة الحياة

محمود بيومي 2

في العشرين من عمره، تلقى محمود بيومي شهادته التقديرية الأولى للتميز في مجال الشعر، ومن بعدها توالت التكريمات والجوائز، كان آخرها المركز الأول في مسابقة لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة 2018 عن ديوانه العامية «شباكي بيطل ع الإجرام».

يتعجَّب محمود كثيرًا مع كل إشادة بتميُّزه، حيث لم يخبره أحد منذ ميلاده عام 1991 بقرية الأحراز في شبين القناطر أنه موهوبًا. وعندما سألته كيف صِرت شاعرًا؟ نقَل تعجُّبه إلى قائلًا: في الحقيقة فكرت كثيرًا، ولا أزال، كيف ومتى أصبحتُ شاعرًا، وهل أنا شاعرٌ فعلًا؟! كنت أحب أن أكون فيزيائيًا وفوجئت بأنني شاعر. فكرتُ وراجعت ذاكرتي لأتعلم أول ما أتعلم من تجربتي أنا مع الزمن، لماذا لم أظنُّ ولم يتنبأ أحد أنني سأصبح شاعرًا، رغم أن هذا ما حدث. ما العلامات التي تدل على ذلك ولم ينتبه لها أحد ولا حتى أنا؟ هكذا أحب أن أفكر بعد أن تتضح الأمور، أعود للماضي لأرى كيف كانت تسير هذه الأمور بشكل لم أُلاحظه حتى وصلت لهذا الشكل النهائي لأستفيد من ذلك فيما أُلاحظه الآن. لا شك أنني كنتُ موهوبا بتذوق الفن وإنتاجه أحيانًا، كان ذلك واضحًا في مراحل طفولتي ولكنني كنت أعزفُ أو أبتهل ولم يكن في نيتي أن أصبح عازفًا أو مبتهلا، فقط أستمتع.

يعني ذلك أنك تمارس الفن منذ صغرك، فليس غريبًا أن موهبتك نمَت حتى ظهرت في الشعر.

كل ذلك اندثر في المرحلة الإعدادية، أسوأ المراحل التعليمية، لم يكن بالمدرسة غرفة موسيقية ولم نمارس أي أنشطة وتعرضنا للابتزاز من المدرسين حتى نحضر دروسهم الخصوصية، رغم أنهم هم من يدرِّسون لنا في المدرسة، وإلا سنجد أن عقابًا تلكيكيًا في انتظارنا كل صباح مدرسي. هكذا قضيت ثلاث سنوات من الصراعات في المدرسة الإعدادية، لا علم ولا فن. وعلى قدر ما تركت هذه الفترة أثرًا سيئًا في نفسي على قدر ما كانت المرحلة الأولى للتعرض لشراسة الحياة، وأفتخر كل الافتخار بموقفي من هؤلاء الجشعاء رغم انحطاط أساليبهم.

وهل انطبق ذلك على المرحلة الثانوية أيضًا؟

لا. بل كانت مرحلة الحرية الكاملة. أن تكون أو لا تكون، تلك قضيتك. استمتعتُ بدراسة الفيزياء والرياضيات، وتعرضتُ للشعر، هذا الجامع الشامل، في الحقيقة لم تكن المرة الأولى لتعرضي له ولكنها المرة الأعمق– رغم سطحيتها كذلك، لا أعرف هل كان ضالتي ووجدتها أم لا، ولكني وجدتُ به الموسيقى والفلسفة ونقاط عميقة جدًا تثقل الروح أو الذاكرة وجدته يحررها، وجدت به الغناء، والكلام. هذا الأخير الأهم، فالشعر هو كلام الشعراء في رأيي، لذلك لن يكون إلا عن موهبة وهو الأمر الذي أبحث عنه من البداية، كيف كنت موهوبًا في الشعر ولم أكتشف ذلك إلا متأخرًا؟ أم أنني اكتشفته في الوقت المناسب وليس متأخرًا أبدًا؟ إن الجميع يكتبون الشعر، بل يتكلمونه هكذا في كلامهم دون وعي أحيانًا، ولكنهم ليسوا شعراءً، ذلك لأن الشاعر لا يكتب الشعر ولا يتكلمه مصادفةً. إنني هنا لا أحاول أن أضع تعريفًا للشعر، معاذ الله، ولكنه رأيي في هذه الحال وربما غيرته بعد ذلك. على كل حال فقد أغواني الشعر واحتواني وجمع لي ما فاتني وعرَّفني على ما سوف يفوتني، وأصبح عزائي.

ماذا عن أسرتك؟ ما قُلته معناه أنهم لم يكن لهم دورًا في اكتشاف ودعم موهبتك.

على العكس؛ أنا أدين لأسرتي بكل شيء، فقد شكّلوا وجداني وغرسوا القيم والمباديء في روحي، وتركوا لي اتخاذ قرارات حياتي بالشكل الذي يرضيني، وهذا أغلى ما يُمنَح الإنسان. غرس فيّ أبي كيف تصنع لنفسك اسمًا وتبني مجدك لا لشيء سوى لأنك أصلًا عظيم، وأمسكت أمي بيدي وأشارت إلى عظمة الله. وعلَّمني إخوتي إعمال عقلي بعد أن كدتُ مرة واحدة أن أوقفه مع أساطير يقولون أنها من أمور العقيدة. أما الشعر فقد شجعوني كما شجعوني في كل موهبة أو فن فكرت أن أمارسه، فأعظم شهادةٍ نلتها هي شهادة أبي منذ أيام قليلة، قال لي: «أنا شايفك ماشي كويس في الشعر، كَمِّل فيه، انت هاتبقى حاجة كبيرة».

تكتب شعر العامية لكن كتابك الأول جاء مختلفًا، رسائل أدبية، كيف وُلِدت تلك التجربة؟

هي في الحقيقة ليست التجربة الأولى، فهناك ديوان شعر عامية عنوانه «شباكي بيطُل عَ الأجرام» لكن على ذلك فقد نُشر كتاب الرسائل ككتابي الأول، وجاء هذا الأمر بترتيبات القدر؛ فديوان الشعر الآن لدى الهيئة العامة لقصور الثقافة ينتظر صدوره خلال 2019، ثم جاءت فرصة نشر الرسائل قبله، وهذا الترتيب لا يشغلني كثيرًا، أنا هو أنا على كل حال وهذه كتبي. لكني لا أُخفي أيضًا رغم ذلك أنني أرى أن كتابي الأول لم يصدر بعد؛ ليس لأني أتبرأ من «رسائل الدبران إلى الثريا»، لا سمح الله، ولكن لأن الرسائل طارئة عليا، فقد بدأت في كتابة ديواني من عام 2011 حتى 2017 لا يشغلني سواه، وإذا بي أكتب الرسائل يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة ولم أكن أعلم أنني سأجمعها وأنشرها في كتابٍ، كما لم أكن أعلم أنني سأصبح شاعرًا. هكذا أُفاجأ وأُفاجئ نفسي ولا أخشى من التجربة، هذه حياتي.

الرسائل تجربة مختلفة وربما لم تكن متوقعًا مدى تقبُّل القراء لها. كيف كانت ردود الأفعال تجاهها؟

جاءت ردود الأفعال قليلة إلى حد ما، ذلك لأن لا جمهور لديّ سوى المقربين، ولعل هناك من قرأ الكتاب من جمهور الجريدة ولكن لم يصل إلى رأيه، وعلى ذلك فإن الآراء القليلة هذه لها أهميتها الكبيرة جدًا عندي فالأمر ليس بالعدد وإنما بالقيمة. وإنني لأشكر الدكتورة هدى عطية على أن جعلت الكتاب محل دراسة بعض طلاب الليسانس في قسم اللغة العربية جامعة عين شمس.

تبدو رسائل الدبران مستندة على وقائع وأحداث حقيقية. هل يمكن أن نعتبرها من كتابات السير أم بها جزء من التخييل؟ وهل قد يكون لها ردًا من الثريا يومًا ما أم أنها انتهت من طرف واحد؟

من ضمن ردود الأفعال أن قال صديق مقرب إنه لم يكن على نشر الرسائل الآن، ذلك لأنها تبدو حقيقية. وفي الحقيقة أنا أول من أسأل هل الرسائل حقيقية أم لا؟!! أظن أن الأمر معقدًا وليس بسيطًا حتى أن بطل الرسائل وكاتبها يقول في إحدى رسائله، متحدثا إلى حبيبته، «أنتِ حقيقة أم وهم!» ومرة أخرى يقول إنه حكى لحبيبته الأولى عن حبيبته الثريا هذة فقالت، وهي طرف ثالث، «هل ما تحكي عنها إنسانة أم وردة». ونحن هنا لا نعرف ما حكاه لها عنها، فقط قال حكيت عنك لحبيبتي الأولى؛ فنرى اختلاط الأمر على طرف ثالث في الرواية نفسها. هكذا نجد أن بطل الرسائل نفسه في حيرة ولا يعرف الحقيقة. وإن كانت زهيرة/الثريا شخصية حقيقية والدبران/محمود كذلك والرسائل قد أرسلت بالفعل، هذا لا ينفي كونها عملًا فنيًا أدبيًا إبداعيًا رغم ذلك. هل على الفنان ألا يعيش عمله الفني؟!! وهذا القول لا يثبت أيضًا أن ذلك ما حدث بالفعل، فقط تلك تساؤلات، وهذه ردود! والحقيقةُ، ما الحقيقة؟! أما لماذا لم نجد ردًا من الثريا وهل هذا ما حدث فعلًا مع البطل/محمود! هذا أيضًا جزء من حالة الارتباك لدى بطل الرواية فبعض الهوامش تدل على ردودها ولكن ما نراه في الرسائل هو ردود أفعال على ردودها التي لم نعرفها، وهل سنعرفها أم لا؟ أنا لا أدري.

هل لديك اهتمام خاص بالأساطير والموروثات الشعبية؟

نعم، واهتمامي بها ناتج في البداية من «حواديت» أمي، هذه العبقريات التي شقت لنفسها الطريق في الزمن بشكل ممتد سلس ومثير للدهشة حتى أنني أسأل أمي عن مؤلفيها فلا تعرف، ولا أحد يعرف، ولكنها رائعة على كل حال. رائعةً حتى أنها استوطنت وجدان الناس، وليس أي ناس، إنهم الناس الذين لا يكادون يفقهون لنا قولا إذا حدثناهم عن أشعار أشعر شعرائنا حتى في العامية. لذا أحِّس بالتقصير كلما وجدت أن كتاباتي لا تصل إلى هؤلاء الناس. وشغفي بأسطورة الدبران والثريا نتج عن إطلاعاتي عما يخص علم الفلك، ودراسات النجوم والكواكب والأجرام السماوية، فقد أدهشني وأعجبني هذا المزيج بين الحب وفيزياء النجمين.

ماذا لديك في طور الكتابة أو النشر؟

أنتظر بشغف صدور ديواني «شباكي بيطل ع الأجرام» يصدر خلال 2019 ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقد حصل على الجائزة الأولى من المجلس الأعلى للثقافة 2018. ومن فترة قصيرة مضت كتبتُ مسرحيتي الأولى وهي من فصل واحد «يشْغلُ أقلَ حجمًا، ويَحمِل أقلَ كُتْلة» لكنني لا أعلم بعد هل وفقت في كتابتها أم لا، فلم أحصل على رأي آخر فيها غير رأيي، وأنا إن كنت أستند على رأيي كثيرًا إلا أن مطالعة آراء أخرى أمر غاية في الأهمية ولا غنى عنه. ولولا ضيق الوقت لكنت انتهيت من كتابة مسرحيتين وربما ديوانًا شعريًا كذلك، لكنه العمل الذي يأخذ وقتي كله ولا يعطيني عوضًا - رغم أنه لا عوض عنه - ولا حتى ما يكفي للحياة واستكمال العمل نفسه.

ألهذه الدرجة يعيق العمل مشروعك الأدبي؟

نعم. أعمل محاسبًا بمكتب خاص، هذا المجال يعوق حركتي في اتجاه الشعر والأدب حتى أنني أتعرض للوم كثيرًا، لذلك أدرس الآن دبلوم التنمية الثقافية بكلية الآداب جامعة القاهرة، لعلني أستطيع أن أترك المجال لمجال أقرب لشغفي. لعل...!

 

مينا جميل: طموحي أن أصبح من علامات العامية المصرية

من يريد النشر عليه الذهاب إلى القاهرة، وليس كل من يكتب لديه القدرة على السفر، وبالتالي عليه مواجهة غلق الأبواب في وجه أحلامه

مينا جميل

في إحدى قرى محافظة الأقصر، وُلِد مينا جميل شوقي عام 1988، لأب يملك ورشة نجارة لتصنيع الموبيليا، وأخٍ لم يملك وقتًا لمعرفته، حيث فقده وهو في عمر خمس سنوات. هذا الفقد لم يشعره حينها بالوحدة التي شعر بها بعد ربع قرن من الزمان. فوجد متنفسه في شعر العامية، الذي بدأ معه بلا قوانين ولا قواعد.

حينما كتب أول قصيدة وجد تشجيعًا كبيرًا من والده ووالدته، فشعر بأن لديه الأفضل ليكتبه، وأخذ يكتب ثم يكتب ثم يكتب، ويضع ما يكتبه في كشكول بدرج «كومودينو» صغير في إحدى زوايا غرفته. لم يكن يعلم أن هناك ما يسمي بـ «قصور الثقافة» أو غيرها من الأماكن التي تهتم بالمواهب الصغيرة.

كيف طوَّرت من موهبتك؟

بحضور أمسيات شعر وندوات وأمسيات رمضانية بالأقصر، مما يؤدي إلى تقدُّم مستمر وملحوظ دومًا في كتاباتي.

من كان النموذج المثالي لك في شعر العامية وترك فيك أثرًا؟

تأثرت كثيرًا بالعظيم الأبنودي، حيث طريقته وكتاباته البسيطة الجميلة التي تلمس قلبي من الداخل، مثل «الميدان»، «يا منة»، «جوابات الأسطى جراحي القط» وغيرهم، وطريقة إلقائه البسيطة للشعر.

الإلقاء. لا يمتلك جميع الشعراء القدرة على الإلقاء الجيد لقصائدهم، لكني ألاحظ أنك تمتلك ذلك. هل تدربت عليه أم نتج هذا عن المحاكاة؟

لم أكن مثل الآن منذ بداياتي، لكن مع الممارسة والإحساس بالقصيدة صارت شيئًا في دمي وأصبحت كل كلمه تخرج بإحساسها وتعبيراتها، لأنني عندما أكتب القصيدة أكتبها بكامل مشاعري.

هل تظل القصائد عالقة في ذهنك بعد كتابتها أم تقوم بحفظها وتكرارها حتى تستدعيها عند الإلقاء؟

لا أتعمد حفظ قصائدي، ولكن توجد قصائد معينة أجدني بعد كتابتها بفترة قد حفظتها دون أسباب.

كيف كان ملمس ديوانك الأول «لون أسود» بعد كل هذه السنوات من كتابة الشعر؟

من أكثر الأشياء التي جعلتني سعيدًا صدور ديواني مع أخبار الأدب، فهو ابني الأول، وقد صار بداية لطريق طويل، شعاع من نور وأمل في رحلتي مع صديقي وأخي الوحيد شعر العامية، صديقي في فرحي وحزني وعشقي وفراقي ووداعي وأعراض انسحابي من علاقات قد هشمت داخلي وخارجي ولكنها كانت سببًا في وجود اسمي الآن في هذا الحوار. أشكر - حقا - كل من كان له فضل في أنني كتبت حرفًا بسببه حتى ولو كان مذنبًا في حقي، لكني مدين له بمشاعر قد أخرجت ما لم يستطع أحد إخراجه من أعماقي.

لديك حس تشاؤمي عال يتضح في عنوان ديوانك «لون أسود» وقصائدك وعناوينها، والآن يتضح لي أن ذلك انعكاس لحالتك، ما السبب؟

نعم، هذا الحس التشاؤمي نابع مما عشته من وجع وفراق وتحطم ووحدة وخذلان، لذلك معظم كتاباتي حزينة ولها طابع الفراق والألم والوحدة والبكاء، حتى أن بعض أصدقائي يطلقون على الشاعر الكئيب، لكنني في الحقيقه لستُ كذلك وأحب المرح إلى أبعد حد.

هل وجدت ردود فعل أرضتك بعد النشر؟

لم تكن كلها إيجابية، كان البعض إيجابا والبعض الآخر سلبي، الإيجابي هو أن هذا الديوان نقطة تحول في حياتي لأني كنت أحلم بأن يصبح لي ديوان بعنوان «لون أسود»، أما الجانب السلبي فهو انتقاد من البعض بقولهم (يا عم سيبك من الشعر مش هينفعك، استفدت ايه يعني لما نشرت ديوان)، لكني لا ألتفت إلى السلبيات مهما حدث وسوف أكمل مسيرتي إلى أن أحقق ما أحلم به.

تميل قصائدك إلى الشعر الغنائي، هل تسعى لاحترافه يومًا؟

نعم، أطمح إلى احترافه والكتابة لفنانين بعينهم مثل شيرين، أنغام، فضل شاكر، وائل جسار، تامر حسني، وعمرو دياب.

من واقع تجربتك، أخبرني بوضع شعر العامية في صعيد مصر.

لا يوجد من يهتم به. من يريد النشر عليه الذهاب إلى القاهرة، وليس كل من يكتب لديه القدرة على السفر، وبالتالي عليه مواجهة غلق الأبواب في وجه أحلامه. لقد واجهت هذا كثيرًا ومازلت أواجهه حتى الآن، لكني أطمح لأن أكون إحدى علامات شعر العامية المصرية.

والدراسة. لماذا لم تلتحق بكلية ذات مجال قريب من الأدب بدلًا من التجارة؟

صحيح أن دراستي في كلية التجارة لا علاقة لها بالشعر، لكن التحاقي بالجامعة جعل لديّ آفاقا أكبر وأفكارًا جديدة ومختلفة جدًا.

ما خطواتك المستقبلية؟

أن أهتم أكثر بكتاباتي، حيث قمت مؤخرًا بكتابة بعض القصائد التي أحبها وأفتخر بها وسوف تكون في ديواني القادم، منها «إدمانك»، «أنفاسك»، «حياة»، «شهادة ميلاد» وغيرها. هذه هي البداية.

 

محمد حسني عليوة: علمتني التجارب أن أكون صادقًا مع نفسي

القصة هي الفنّ الذي لا يمكن التملص منه، أو التنحي عنه، لأنها تكسر الكثير من الجمود. والكاتب بفطرته «كائن قصصي»

محمد حسني عليوة 4

بين ضفتيّ مدينة ميت غمر عاش الكاتب المسرحي نعمان عاشور، وفي مكتبة مدرِّس اللغة العربية وجَد محمد حسني عليوة بعض مؤلفات عاشور مثل «الناس اللي تحت» و«بطولات مصرية» و«عيلة الدوغري» و«الجيل الطالع»، ومن خلالها تعرَّف على مدينته، التي وُلِد في إحدى قراها الصغيرة عام 1977 لأسرة بسيطة الحال، فامتزجت زهرة طفولته برطوبة حوائط البيوت المبنية بـ «الطوب اللبن»، وبعمر شجرة الصفصاف الكائنة على جسر الترعة الكبيرة التي كفلت بأفرعها نسقًا جماليًا لتطلعات طفل صغير يود رؤية كل شيء في مخيلته رائعًا.

لم يكن محمد على وفاق مع والده، بسبب انشغاله الدائم في قراءة الكتب، غير المدرسية بالطبع. فكان لا ينفك يردد على مسامعه جملته الأثيرة: «الكتابة ليست مهنة!.. لا أحد يمكنه تخطيط مستقبله وبناء حياته بأوراق! لا يمكن لأولادك أن يأكلوا كتبًا، أو يشربوا أفكارًا فيشبعوا!». أما والدته فكانت تشغل حيز الفراغ بينهما بتوازن، وتمسك العصا من المنتصف ناصحة إياه: «ذاكر وانجح، وفي إجازتك الصيفية اكتب واقرأ ما تشاء. وحتى لا يعيّرني أحدهم بأن لديكِ ولد فاشل!». إلا أن مدرِّس اللغة العربية في صف التعليم الأساسي، كان لكلماته المحفزة وقعها العظيم وقد تركتْ أثرها القوي في نفسه حتى اليوم.

كيف ولجت إلى عالم الكتابة؟

كانت المرحلة الثانوية هي نافذتي الأولى التي انطلقت منها خواطري المكبوتة، إن صح تسميتها بذلك، والتي كانت بصورة متدرجة وهيابة أيضًا. لكن الكتابة أرق دائم. أصبحت - سريعًا - خبزي اليومي للتعبير عن «الأنا»، الصامتة أحيانًا، الصادمة تارة في وجه من الوجوه، المنفعلة، الصاخبة، المتزنة، المرنة، الحيوية في وجوه تارة أخرى، والخاملة ربما في أحايين عدة. في الكتابة أبحث عن الفكرة الصلبة حيث متعة تفكيكها. كتابة مرتبطة بالمجتمع، بالحياة. متواصلة بما يحويه من تراث ثقافي فكري متنوع، ليست أداة تحريض للقفز على الأخلاق، أو مسلّمات تراعيها الأيديولوجيا. هي كتابة خاصة بالهامش المعلن والسري.

وبإطلالة سريعة على الماضي، لم تكن بداياتي في الكتابة على نحو يليق بأن يطلق عليها كتابة في حد ذاتها، قدر ما كانت تنفيسًا عن خواطر تعتمل داخلي تجاه ما يمت بصلة إلى الجمال، الجمال في كل شيء أراه بعيني وأسمعه بأذني وألمسه بوجداني.

بدأت الكتابة منذ زمن لكنك تأخرت في النشر. هل لك محاولات سابقة؟

في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، كانت لي تجربة خاصة في طباعة نصوصي بنظام الــ «ماستر» نظرًا لتكلفتها الزهيدة وكنت أقوم بتوزيعها على الأدباء في الأمسيات الثقافية بقصور الثقافة في نشرة غير دورية، لاقت وقتها ترحيبًا وتحفيزًا طيبًا. بعدها توقفت لأسباب شخصية، قد يكون لخفوت افتتاني بمواصلة مشوار الكتابة الشاق. لكن راعني هول الصمت المطبق على ذهني وصدري بسبب التوقف؛ فعدت أدراجي للبحث عن أفكار مختلفة وطرق ميسرة للنشر مرة أخرى.

وعندما رأيت كتابك الأول مع أخبار الأدب، هل أرضاك ذلك؟

لا شيء يفوق وصف الحالة المزاجية التي تعتري الذهن وقتها؛ لأنه، مع ما أنفقته لأجل الكتابة، يظل دومًا شغلي الشاغل طباعة أفكاري في كتاب. طباعة ما يلزم قوله للعالم. وفرصة النشر في سلسلة الكتاب الأول مثّلت لي خطوة مهمة تضعني على الطريق. وآمل أن تستمر هذه السلسلة لإتاحة أكبر قدر من فرص النشر للكتّاب الشباب الذين يطرقون أبواب دور النشر الخاصة ليل نهار بلا فائدة.

هل الاتجاه الصوفي الواضح في قصائدك مقصود ويعكس قدر من القراءات المتعمقة في الأدب الصوفي؟

الصوفية تجعل الكاتب متماهٍيا مع النص، مع الكلمة، مع الحرف، ومع ذاته الخاصة، وبذلك يكون قد تجمّع في كينونة واحدة مخلصة للاكتمال بالأشياء من حوله، بالاكتمال والتكامل، بالفعل والانفعال. والاهتمام بالأدب الصوفي أتى من خلال قراءة بيت شعري صارخ العذوبة لـ«ابن الفارض»، يقول: قلبي يُحدثُني بأنكَ مُتلفي .. روحي فِداكَ عرَفتَ أم لم تعرفِ.

كان هذا البيت حلقة الوصل الأولى بيني وبين الانغماس بحثًا، بوجد متّقد شوقًا، في كتب الصوفية وأشعارهم وما هي رؤاهم وأفكارهم. تكفلت بذلك بعض المكتبات الخاصة عند من التقيتهم ممن يطرحون حياتهم «تابعين ومريدين»، وحققت النصوص التي اطلعتُ عليها مطلبي من خوض تجربة المعرفة. ولا تزال الصفحة العالقة بذهني ولا تنفك مضيئة بوهج نوراني أمام عيني، هي التي عرفت فيها أن القاعدة الأولى من قواعد العشق الأربعين، في أن: «الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة؛ فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك».

أنت مهتم أيضًا بالموسيقى، وخاصة الغربية، كما يتضح في الديوان. أليس غريبًا الجمع بين الصوفية وموسيقى الغرب؟

مما شك فيه أنه لا توجد ثقافة إنسانية واحدة على الأرض عاشت بدون موسيقى. الموسيقى بشكل عام تحفز على تحسين الحالة المزاجية، ولا غنى أبدًا عن تلقي الذهن جرعات متفاوتة من «طعام روحي ونفسي» يساعد عن تنظيم العواطف، ويخلق نوعًا من السعادة والاسترخاء في حياتنا اليومية. وعلى ما أذكر أن الرومي كان يؤمن بحماس أن «الموسيقى والشعر والرقص يمكن أن تؤدي إلى المحبة»، وابن سينا أوصى بالاستماع إلى الموسيقي؛ لأنها تبتلع ما تُحدثه الآلام من فزع داخل الجسد والروح. واهتمامي بالموسيقى نابع من ارتباط المراهقة الأدبية بالاستماع إلى أم كلثوم، فريد الأطرش، فيروز، وآخرين. وبمرور الوقت بات هناك نوع من الوشيجة بين الموسيقى العربية المتجذرة وبين موسيقى التقطتها أذناي من باب الشغف بلون آخر من الموسيقى، فكانت هناك تيمة واضحة في أغلب نصوص الديوان.

وفيما يخص الموسيقى الغربية؛ أظن أنه ليست هناك من الغرابة في تناول الذائقة كافة أشكال الفن الذهني والروحي، فتلك الموسيقى لـ «شوبان»، «موزارت»، و«بيتهوفن»، من النسخ الكلاسيكية الداعمة لإيقاظ الحواس والتوحد مع الذات بلا صخب أو ضجيج. كما أن الموسيقى الصوفية تعزز قيم المحبة والتسامح وتعمق ما يعتوِر النفس من رقة وعذوبة لما تحويه في طياتها من براءة وأصالة. كما جاء في استعمالات: «الحلاج» و«ابن عربي» و«جلال الدين الرومي»، فالموسيقى عندهم أمر منطقي. وقد يكون ابن عربي من بينهم الذي عالج في كتاباته الموسيقى الروحية معالجة فلسفية.

تكتب القصة القصيرة كذلك، وهي تبدو متقاطعة مع شعر النثر في بعض الأحيان. إلى أي منهما تميل وتتمنى أن يقترن باسمك؟

لم تكن لديّ «جِدَّة» تُلهمني التقاط حواديتها، ولا التلصص على ماضٍ مطمور داخلها، أو العبث بمحتويات نفيسة دستها سرًّا في خزينة خشبية أغلقتها بعشرات الأقفال. يُحسب فقط أنها منحتني المعاناة عندما أختصر حياتي في استدرار ما يمكن تأليفه من الحكايات؛ لأن الحدوتة هي ولعي من الصغر والذي عليه أقتات حياتي. والحديث عن القصة بدايةً، لا يخرج عن كونها نزعة العقل إلى التوحد مع الكون، مع الطاقة الإيجابية لانتشاء الروح بفلسفة المعرفة، وجموح الرؤى. وهي الفنّ الذي لا يمكن التملص منه، أو التنحي عنه، لأنها تكسر الكثير من الجمود.

 ونزعة الكاتب للخوض في كافة أشكال الفنون والآداب تمثل مغامرة مقاتل يفتح مداد قلمه على كل الجبهات. وهذا ما يجب أن يكون الكاتب عليه، فهو «كائن قصصي» بالفطرة، مسئول بالكلية عن العراك في كافة الأصعدة، والصمود في وجه كل التجارب.

هل لديك طموح أدبي تؤمن بإمكانية تحقيقه يومًا ما؟ خاصة في ظل قيود الوظيفة الروتينية.

الطموح في الأدب لا حد، لا سقف، لا مكان، ولا أزمنة له. والتجارب علمتني أن أكون صادقًا مع نفسي، صادقًا في أن تكون قدماي على الطريق الصحيح من تحقيق أهدافي في الحياة، وأن أسمَى غرض هو الحلم بالتقدم إلى الأمام وأنت تملك الأسس الصلبة المتينة لذلك. كما أن طبيعة عملي تترك لي مساحة شاغرة تفي بالتأرجح «المنضبط» بين العالمين: عالم الكتابة وامتهان الأدب، وعالم الوظيفة الروتيني.

 كيف ترى مستقبلك الأدبي في ظل الوضع الراهن للمجال الثقافي، الذي يتجلى متابعتك له جيدًا؟

كنت قد توقفت لفترات طويلة عن متابعة الأنشطة الأدبية، بل والحركة الثقافية بشكل عام. إلا إنه في الخمس سنوات الأخيرة عادت شعلة النشاط مرة أخرى، وبتُّ متابعًا بدرجة كبيرة كافة الأنشطة المتعلقة بالثقافة والأدب.

والجدير بالذكر أن ما أحدثته «ثورة يناير» - باتفاق أو اختلاف البعض معها أو حولها - فتح آفاقًا مكّنت الشعراء والمثقفين والكتاب الذين كانوا حاضرين في الفعاليات، من عقد ندوات ومؤتمرات ثقافية موسعة. توسعت دور النشر الخاصة في أعمالها، وانتشرت المقاهي والمنتديات الثقافية، وتم تدشين كثير من المواقع ذات الصلة بالأدب والثقافة، بما أسس لزخم لا بأس به، ربما لم يكن معهودًا من قبل. الأمر الذي باتت معه الحركة الثقافية في مصر، في ظل وجود وانتشار آليات العصر من «انترنت» و«ميديا»، تشهد تطورًا نوعيًا وملموسًا. وهذا يدعوني لبذل الكثير من الجهد لأتمكن من مواصلة مشروعي الأدبي الخاص بي.

ما خطواتك المنتظَرة؟

هناك مخطوطة لرواية مزمع الانتهاء منها في الفترة القادمة، ومجموعتان شعريتان جاهزتان للطباعة، بالإضافة إلى مجموعة قصصية أوشكتُ على الانتهاء منها.

 

هالة صلاح: النقد وسيلة التطور نحو الأفضل

جزء مهم من الكتابة ينبع عن تجارب الكاتب الشخصية ورؤيته للحياة، وشعوره بجسده ومحاولته للغوص في لا وعي الشخصيات من خلال لا وعيه هو

هالة صلاح3

أحبَّت والدتها القراءة واعتادت اقتناء الكتب، ما بين الروايات العالمية إلى كتب الأدباء المصريين، الكلاسيكيين والمعاصرين، وحينما وُلِدت هالة صلاح عام 1984 بمدينة الإسكندرية، ورثت منها تلك العادة، فعشقت القراءة منذ سنوات دراستها الأولى بمدرسة «راهبات الميرديديو»، وسرعان ما انتقلت من القصص المصورة إلى مختارات من مكتبة أمها، وفي المرحلة الابتدائية وجدت نفسها ترسم قصصًا مصورة جنبًا إلى جنب مع كتابة خواطرها التي تطورت مع الوقت إلى قصص قصيرة، حتى إنها كتبت ما اعتبرته «رواية» وهي لا تزال في الخامسة عشرة.

أحببتِ القراءة من والدتك ومكتبتها. أيعني ذلك أنها هي من ساعدتك على تنمية موهبتك؟

بل كان أبي، حيث اهتم بقصصي المصوَّرة على وجه الخصوص وحاول نشر البعض منها في مجلة «بلبل» الصادرة من مؤسسة أخبار اليوم التي كانت تخصص صفحة لمواهب الأطفال في ذلك الوقت، لكنها كانت قصة طويلة عن المساحة المخصصة من الصفحة فاكتفوا بوضع صورتي مع بضع كلمات تشجيع. ومع ظهور المنتديات كان لمنتدى «قهوة كتكوت» دور كبير في تشجيعي على الاستمرار في كتابة القصص القصيرة، وفي رؤيتي لنفسي ككاتبة ناشئة في ذلك الوقت.

خضتِ عدة تجارب مع ورش الكتابة. هل تظنين أنها أصقلت موهبتك بشكل كبير؟

في رأيي القراءة هي مفتاح الكتابة، لذلك اقرأ كثيرًا، ثم أحاول ألا أنقطع عن الكتابة اليومية ولا أكف عن حضور ورش الكتابة للحصول على التوجيه والإلهام، فلا شك أنها كانت دومًا من أهم المحطات التي ساعدتني على التحرك والتطوير، أهمها على الإطلاق كانت «قصص جوته القصيرة» مع الكاتب العراقي الألماني «عباس خضير»، تلك الورشة تعَّد بمثابة خطوة انتقالية لمسيرتي مع الكتابة، فازت حينها قصتي «فستانها الأحمر الصغير» بالمركز الثاني، ثم شاركتُ بندوة بمعرض فرانكفورت للكتاب كجائزة. والورشة الثانية المهمة كانت كتابة الرواية مع «المصرية اللبنانية»، وكان للكاتب طارق إمام دورًا كبيرًا في تشجيعي ومساعدتي على تطوير أسلوبي ووضع الأساس لروايتي الأولى التي لم تكتمل بعد.

مبدعو الإسكندرية يختصون غالبًا بهِبات تميّزهم. ماذا منحتك الإسكندرية؟

أعتقد أن كل مكان ينشأ به الكاتب مهما كان يمنحه التجربة والمشاهدة التي تنبع منها الكتابة، بشكل عام أنا كقارئة أستطيع بسهولة التمييز بين الكاتب الذي تنبع رؤيته من محيطه وتجاربه الذاتية مازجًا ذلك بخياله وخبراته وثقافاته، وبين الآخر الذي يكتب عن أشياء بعيدة عنه تمامًا فتخرج الكتابة فيها شيء مزعج وربما سطحي أحيانًا وتتدخل أحكامه الشخصية في رؤيته للمكان والشخصيات وأفعالهم، لذا أرى أن أي مدينة ينشأ بها الكاتب هي جزء أصيل من إبداعه بشكل عام. أما إقحام العناصر التي تتميز بها مدينة الإسكندرية في الفن بغرض تصنيفه كفن سكندري فقط قد يكون مزعجًا بالنسبة لي في كثير من الأحيان.

كيف كانت تجربتك مع الكتاب الأول؟

سعدتٌ بها كثيرًا، خاصة مع التقديم الجميل للكاتب والناقد طارق إمام، كما كان إخراج الكتاب مذهلًا بالنسبة لي مع رسومات الفنان ماهر جرجس. وقد تلقيت بضع ردود فعل إيجابية تجاه الكتاب، لكنه لم يُكتَب عنه كتابة نقدية مفصلة وهو ما أرغب به سواء كان النقد إيجابيًا أو سلبيًا، فالنقد دومًا وسيلة للتطور نحو الأفضل والتعلُّم من الأخطاء.

هل ضمير المتكلم في بعض القصص يشير إلى ذاتك؟

لا. هي فقط رغبة في تجربة عدة أساليب ومحاولة لتطوير الكتابة من خلال عدة محاور.

جميع القصص تدور حول شخصيات أنثوية، هل تميلين للكتابة النسوية؟

لا أحبذ هذا التصنيف فيما يخص نصوصي. الشخصيات أغلبها نسائية لأنني بطبيعة الحال أنثى، كما نجد أغلب الكُتَّاب الذكور شخصياتهم الرئيسية من الرجال وذاك يرجع بنا لنفس الفكرة السابقة وهي أن جزءًا مهمًا من الكتابة ينبع عن تجارب الكاتب الشخصية ورؤيته للحياة، وشعوره بجسده ومحاولته للغوص في لا وعي الشخصيات من خلال لا وعيه هو قبل إطلاعه وثقافته ومحاولاته للتجريب.

مخرجة وكاتبة سيناريو وقاصة، إلى جانب دراسة الديكور. أيهم مجالك الحقيقي الذي تخلصين له؟

مجالي الحقيقي هو دائمًا الكتابة، ما بين الأدب والسيناريو. وأعتقد أن دراسة السينما بشكل عام أثَّرت إيجابيًا على كتابتي الأدبية وطوَّرت رؤية مشهدية تركت طابعا واضحا على النصوص.

حدثيني عن إنتاجاتك السينمائية.

الفيلم القصير الأول «شكلها سما» بطله الأساسي رجل يمر باضطرابات نفسية شديدة وتأثير ذلك عليه وعلى الطفل (ابن أخته) و المحيطين به حتى الدائرة الأوسع لمجتمعه متمثلة في سائق تاكسي، أما الفيلم القصير الثاني والذي حصل على منحة البلازا فهو «درة حوة»، أقرب للفانتازيا ويدور في محطة قطار والموقف الرئيسي للعمل يتعلق بقضية مجتمعية عامة، بالإضافة إلى السيناريو الطويل «وادي النمل» الذي يدور حول رجل مسِّن.

ما العمل الذي تشتغلين عليه الآن؟

حاليًا في خضم كتابة مجموعتي القصصية الثانية، جنبًا إلى جنب مع تطوير السيناريو الطويل «وادي النمل» الذي كان بقائمة جائزة ساويرس القصيرة لعام 2016، ثم أنوي استكمال روايتي الأولى بعد ذلك.

 

محمد التوني: الثقافة مقدَّسة بالنسبة لي

علاقات العمل بمصر في عدد كبير جدًا من المهن تحتاج إلى إعادة تعريف وأستطيع أن أقول بكل سخرية إنها تحتاج إلى ضبط مصنع

محمد التوني

سمع في طفولته عن المارد الذي يسكن إحدى الشجرات المائلة، ويتذكر حتى الآن شجرات النخيل المصفوفة بجوار بعضها وشعوره بأن كل شجرة كان لها اسمًا وحكاية. قلَّب في طين الأرض وشاهد الأطفال وهم ينحتون منه أبقارًا في غاية الجمال. صعد مع الصاعدين على شجر التوت وأكل من ثمرها الأحمر الحامض والأسمر السكري الناضج. ربَّى دود القز في صندوق من كراتين الأحذية بعد أن فرشها بأوراق التوت الخضراء وشاهد الشرنقة وأطوار التحول العظيم.

كل تلك العوالم عاشها محمد سادات التوني في محافظة دمياط، المولود بها عام 1984، اختزنها عقله وكانت القوة الكامنة التي انطلق منها مشروعه الإبداعي. لكن القدر فرض عليه تجربة أخرى منذ ثلاثين عامًا كان لها الأثر الأعظم في روحه، عندما أصيبت أخته بجفاف في الصغر وبسبب تشخيص خاطئ لحالتها تأثرت صحتها الذهنية والجسمية، لكنها ظلت بالنسبة له حالة مثالية رغم الإعاقة، يطلق عليها لقب (بركة) ويراها في أحلامه كصورة من صور الأولياء والمعجزات تبشِّر بالمحجوب السعيد وتُمهد لمراحل قادمة وتحولات، تُسكِّن وتُهدِّأ قبل المضرات وتُنْبئ بالقادم ودائمًا تصدق النبوءة.

تحمل نشأتك الكثير من التفاصيل التي يبدو أنها حفرت عميقًا داخل روحك. أخبرني المزيد عنها.

نشأتُ في أسرة مصرية متوسطة ومكافحة، لأب يعمل محاسبًا بأحد البنوك الزراعية وهو الآن على المعاش، رجل عظيم جدًا كمعظم الآباء المصريين المكافحين، يعشق الراديو وصيد الأسماك في النيل ويقضي بقية وقته ممسكا بمسبحته ويغوص في حالات ذكر وقراءة مستمرة للقرآن. ولأم تعمل في مجال التعليم هي الآن قاربت على خروجها على المعاش، سيدة عظيمة ومكافحة ومضحية. نشأتُ في ذلك العالم داخل تلك الأسرة الصغيرة وشاهدتُ الألم الذي عانته أختي، الفتاة الصغيرة التي كبرت مع محنتها، وجعلتني أرى الحقيقة، فهؤلاء الذين يطلق عليهم المجتمع (معاقين) أراهم كائنات ذات طبيعة خاصة يلتقطون إشارات من الكون ويعدلون الاختلالات والميل في الأرض، إنهم يعيدون التوازن.

هذه هي ملامح التكوين الأساسية عندي وهذه هي العوالم التي تداخلت وفسَّرت بعضها، حتى زحفت على ذكرياتنا فجأة ثورة المعلومات والشبكات والاتصالات حتى يبدو لجيلنا (مواليد الثمانينات) أنه عاين زمنين ملتصقين وعبر خلالهما بروح مُنكَّسة.

كيف عملت على تنمية موهبتك؟

دائمًا أقوم بالتجريب ولا أخشى ذلك. أبحث عن مناطق جديدة، الكتابة عندي ليس لها سقف جمالي محدد، كل نص جديد هو سماء جديدة. أبحث داخل اللغة وداخل المعنى وداخل الخيال، الفنون جميعها في حالة تجاور وتداخل. أجد الشعر في أصغر الوحدات الممكنة وكذلك أجده في الفضاءات المترامية، والكتابة عملية تدريب مستمرة وجهد كبير، وعلى قدر التدريب والجهد تتشكف الجواهر وتبرق المعادن الدفينة، الإبداع دائمًا حافل بالمفاجآت، في الشعر وأنت منهمك في الكتابة تظهر لك صور جديدة وتكنيكات جديدة وطاقات زمنية رهيبة، وفي معظم الفنون يحدث ذلك، فالروائي والقصاص وهو يقوم بكتابة شخصية داخل عمله أحيانًا كثيرة تظهر له مفاجآت وطبقات من الإبداع، قد تختار الشخصية مصائر جديدة وقد يجد رسمًا كان يغفله عن سمات شخصياته. ودائمًا هناك مصادر متجددة للقراءة، ضخمة ومتنوعة تصلح أن تعمل كمفاعل طاقة كبيرة للعمليات الابداعية وكل فنان ومبدع يبحث دائمًا وينقِّب كي ينشط معمله الإبداعي.

من الكاتب الأكثر تأثيرًا فيك؟

تستهويني كتابات يونج النفسية، وهي أفكار إبداعية كبيرة ومحفِّزة للعقل والخيال. وقد كتب فصلا هامًا في كتابه المترجم للعربية «علم النفس التحليلي» عن علم النفس والأدب تحدَّث فيه عن طبيعة الشاعر ومادته الفنية أراه في اعتقادي من أجمل ما قرأت عن مفهوم العمل الفني وطبيعة الفنان.

نشرت لك «أخبار الأدب» مؤخرًا ديوانك الأول «في سُمك خُوصة»، كيف بدأت التخطيط لهذا الديوان؟ ومتى شعرت أنه صالح للنشر؟

دائمًا هناك حالة من التجاوز وعدم الرضا عن الكتابات التي أكتبها وظلت هذه الحالة معي لفترات كبيرة، كنت أنتقل فيها لمزاج ومنطقة في الكتابة وسرعان ما أغادرها، وكان ذلك يجعلني أحذف هذه النصوص من طريقي. المرة الأولى التي قررتُ أنني أستطيع أن أكوّن ديوانًا كانت قبل ثمان سنوات وكانت نصوص هذه المخطوطة تحمل تجاربي التي رضيتُ عنها وقتها، سميتها «الأساطير التي تجيء فراشي ليلًا»، أعطيتها لعدد قليل من أصدقائي وكنت وقتها لا أسعى لنشرها على نطاقات كبيرة. هذه المخطوطة لم أعد أملك أية نسخة منها وحتى النسخ التي أعطيتها لعدد قليل جدًا من الأصدقاء فُقدت هي الأخرى، بالطبع أتذكر نصوصًا منها قليلة ولكن بقية النصوص لم أستطع تذكُّرها كاملة رغم أنني كنت أحفظ كثيرًا من نصوصي بمجرد كتابتها. في محاولتي للبحث عن هذه المخطوطة كان الأمر لا يتخطي أن أستعيد جزءًا من مراحل التكوين والذكريات، كانت هناك مجموعة من نصوص مرحلة ما بعد هذه المخطوطة المفقودة، كانت هذه النصوص تمثل مرحلة من التجاوز على أكثر من صعيد بالنسبة لي وتجاربي الكتابية ومساراتها، جمعتها وقمتُ بكتابتها وتنسيقها ومراجعتها لأكثر من سنة.

بمجرد شعوري بالرضا المعقول عن المخطوطة شرعتُ في اختيار اسمًا لها، ثم أرسلتها إلى بعض الأصدقاء ومنهم صديقي العزيز الشاعر عبد الرحمن مقلد، الذي تحمس لها وأرسلها إلى الصديق الدكتور أحمد الصغير ــ ولم أكن قد تشرفتُ بمعرفته ــ فكتب عنها نقدًا بعنوان (شعرية المعني) وقدَّمها كي تُنشَر كاملة في الملحق الشهري الذي تصدره «أخبار الأدب»، فكانت سعادتي بالغة عندما رأيت الديوان منشورًا، مما يشبه الإنجاز، واستعاد معي الديوان وقت أن أمسكتُ بنسخته الورقية فترات تجميعه وتنسيقه ومراجعته، ومجهود زوجتي التي أشكرها كثيرًا على تعبها حتى خرجت المخطوطة بشكلها النهائي في ملفات «الوورد»، لما لها من تجربة سابقة في تجهيز رسالتها لنيل درجة الماجستير.

بدأت الكتابة في وقت مبكر، لكنك درست القانون وهو مجال - في ظني - بعيد تمامًا، مما يعني أن موهبتك لم تتدخل في اختياراتك على الأغلب. هل هذا صحيح؟

ليس تمامًا. صحيح أن العملية الإبداعية تكوّنت لديّ قبل التحاقي بدراسة القانون، لكني تعلمت وقرأت عن القانون وفلسفته وتاريخه من خلال مصادر خارجية، بل وأكثر من الكتاب الجامعي وطرق التدريس الجافة جدًا والقائمة على (سبوبة) شراء الكتب، فطريق الإبداع والقراءة المتنوعة جعلاني أفهم عن القانون والحقوق ما لم أتعلمه داخل الجامعة.

هل تشعر أن عملك بالمحاماة حاليًا يعيق طموحك الأدبي؟

لديّ طموح كبير جدًا، وهذا الطموح لا يتعلق بالانتشار وكليشيهات الشهرة وما إلى ذلك، وإنما يرتكز على العمل الفني فقط، أن أجرِّب دائمًا وأستمتع بالكتابة. كان الشاعر على قنديل رحمه الله يقول في أحد نصوصه الصغيرة «أريد أن أكون اللون الثامن في قوس قزح» وكذلك أدونيس يقول «عِش ألقا وابتكر قصيدة وامضي .. زد سعة الأرض»، هذه الكلمات تعبِّر عني وتعبِّر عن طموحي وعن خامة المبدعين الذين أنتمي إليهم. لكن المبدع شخص طبيعي يجب أن يكون له عمل يتكسَّب منه، وبالتأكيد مهنة المحاماة شاقة على أكثر من مستوى وتلتهم أوقاتًا كبيرة من اليوم، وكذلك هي شاقة على المستوى النفسي، فالمحامي يستقبل المشكلات دائمًا ويجب أن يدرِّب عقله وروحه على التعامل مع كل هذا الكم الهائل من المشكلات التي تُعرَض عليه وأن يتخذ لنفسه منها مسافة كي لا تعبث بحياته النفسية، إلا أن كل ذلك كان له دوره أيضًا في إمدادي بتقرير حي عن حياتنا في شكلها الاجتماعي، وجميع المبدعين يحاولون أن يصنعوا توازنًا أو يجدوا مساحة صغيرة ومستمرة لممارسة الإبداع.

بالتأكيد المبدع شخص طبيعي وعليه أن يعمل، لكنك عملت في هيئة قصور الثقافة ومن بعدها الصحافة الثقافية، وهما مجالان أظنهما أقرب إلى الأدب، لماذا لم تكمل في أي منهما؟

كانت هذه فترة بعد عملي متدرِّبًا لوقت قصير في مكتب محاماة، وكانت الأجواء جامدة وقاتمة، فقررت السفر إلى القاهرة والعمل بها، ساعدني وقتها الكاتبان فؤاد مرسي وحمدي سليمان في التقدُّم للعمل بهيئة قصور الثقافة ولهم كل الشكر على هذا. كنت قد تعرفت إليهما في إحدى المناسبات وسمعوا مني شعرًا وتحمَّسوا له وصارت بعدها علاقة مودة. وبالفعل استلمت عملي في الإدارة العامة لإدارة الثقافة وكان يديرها وقتها الشاعر مسعود شومان وكان كريمًا في التعامل، إلا أن هذه الوظيفة جعلتني أرى الكُتَّاب وهم يديرون مكائد لبعضهم البعض ويتصارعون على حضور المؤتمرات التي تديرها الهيئة من مؤتمرات إقليمية ومؤتمرات عامة وكذلك يتصارعون على أن يحظوا بلقب «محاضر مركزي» فيحاضرون في ندوات وبرامج الهيئة ويحصلون على مكافآت هزيلة في المقابل. لقد نفرتُ من ذلك، لم أتصور أن أستمر في هذه الأحوال. كانت الثقافة بالنسبة لي شيء مقدَّس، أستطيع أن ألهو بأي شيء إلا أن يتحول بي الحال إلى مبدع موظف في وزارة الثقافة، طبعًا هذا التصور يخصني وحدي ويشمل رغباتي ومزاجي النفسي والإبداعي.

بعد ذلك عملتُ في الصحافة المستقلة بتشجيع ومؤازرة من صديقي العزيز الصحفي والروائي خالد إسماعيل، هذا الرجل وجدته لم يتأخر عن خدمة أصدقائه المبدعين والصحفيين الشباب، حالة خاصة من النبل والثقافة الموسوعية. عندما عملتُ في إحدى الصحف الخاصة كانت هناك حالة من النشاط الكبير والتطلعات، فكرت بكتابة المقال الصحفي بجانب عملي في تحرير الصفحات الثقافية والصفحات المنوعة وبالفعل كتبتُ أكثر من مقال وتم نشرهم لدرجة جعلت زملائي وقتها في تلك الجريدة يتشجعون لمحاولة التجريب في مجال الرأي وكتابة المقال، لكن سرعان ما وجدتُ أجواء سيئة من العمل متمثلة في صناعة المكائد والمصلحة الشخصية، دون إطالة في هذه الأجواء.

بالطبع علاقات العمل بمصر في عدد كبير جدًا من المهن تحتاج إلى إعادة تعريف وأستطيع أن أقول بكل سخرية إنها تحتاج إلى ضبط مصنع، لكن تظل هذه الفترة التي امتدت لثلاث سنوات ذات قيمة كبيرة على وجداني، تعلمتُ فيها الكثير وانخرطتُ في نشاطات مهمة وعاينت المدينة الكبيرة (القاهرة) وجريت تحت تروسها العملاقة التي تعمل بلا توقف، تعرفتُ إلى مبدعين وفنانين مختلفين يمثلون كتالوج الصدق والإنسانية والثقافة الرفعية.

ما مشاريعك القادمة في النشر والكتابة؟

أبحث الآن عن طريقة لطباعة ديوان «في سُمك خُوصة» في شكل كتاب ورقي وجعله متاحًا لمن يرغب. كما أفكِّر في القريب أن أحوِّل بعضًا من نصوص الديوان لملفات صوتية (قصائد مسموعة) بصوتي. أما بخصوص المشاريع الكتابية الجديدة فمازال العمل مستمرًا على مجموعة قصائد جديدة، بمجرد الانتهاء منهم بشكل نهائي سأبدأ التفكير في الخطوة التالية وهي ضمهم داخل ديوان له تخطيط وتنظيم.

 

هناء بدر: يعجبني انضباط محفوظ وأريحية أصلان

جميع شخصيات قصصي خيالية لكن أغلب الأحداث حقيقية

هناء بدر

في منزل مليء بالأعمال الأجنبية المعرَّبة، ولأبٍ يشتغل بالترجمة، وُلِدت هناء بدر الرفاعي عام 1981، لتخطو في مسار والدها، حيث بدأت التجريب مع الكتابة في المرحلة الابتدائية، ثم الترجمة في المرحلة الإعدادية، إلى أن التحقت بكلية الألسن جامعة عين شمس لدراسة اللغة الفرنسية. تعيش بين مصر وكندا وأمريكا الوسطى، ولهذا – ربما – لم يكن حواري معها طويلًا، حيث دار في إبَّان استعدادها للسفر، لكنه أضاء مناطق متفرقة تمكننا من الاقتراب إلى عالمها.

بدأتِ مسيرتك مع الكتابة والترجمة في وقت مبكر جدًا. لماذا لم تخوضي تجربة النشر كل تلك السنوات؟

نعم. لقد رافقتني الكتابة ومن بعدها الترجمة طوال حياتي، بأشكال مختلفة وعلى فترات متقطعة. ولاقت محاولاتي الأدبية تشجيعًا كبيرًا من أسرتي، ثم لاحقًا من الأصدقاء، لكن لسنوات طويلة لم أشعر أنني مستعدة بعد للنشر.

وعندما خضتِ تجربة النشر الأولى. كيف شعرتِ؟

 كان نشر قصصي في الكتاب الأول مفاجأة أسعدتني، وزاد امتناني كونها نُشِرت مع دراسة نقدية متعمقة للدكتور محمد سليم شوشة ومجموعة رسوم بديعة للفنان عصمت داوستاشي. كما كانت ردود الأفعال الإيجابية ممن أعرف ولا أعرف هدية أخرى من الكتاب الأول.

تبدو القصص ذاتية في كثير من الأحيان. ما نسبة الواقع والتخييل فيها؟

الحقيقة أن جميع شخصيات قصصي خيالية لكن أغلب الأحداث حقيقية. واستخدامي لضمير المتكلم في السرد قد يكون أداة للنفاذ لعالم الشخصية بصورة أكبر، لكنه لا يعكس كون التجربة ذاتية بالضرورة، بل أن هناك تضاربًا بين تجارب الراوي/الراوية في قصص مختلفة.

كيف تطوّرين كتابتك؟

أحاول قدر الإمكان تكريس الوقت اللازم للكتابة بتركيز واسترخاء دون الانقياد وراء أحكام «الناقد الداخلي» الهدَّامة.

ومن ترك تأثيرًا عليكِ من خلال كتاباته؟

أُعجَب بانضباط نجيب محفوظ وأريحية إبراهيم أصلان، وتأثرت بكتابات خوليو كورتاثار وكافكا، وغيرهم كثر.

عشتِ في كندا وأمريكا الوسطى، ودرستِ اللغة الفرنسية. كيف أفادك هذا التنوع في الثقافات؟

السفر والاختلاط بثقافات مختلفة ربما ساعداني على إدراك نسبية الكثير من الأشياء ورؤية التجارب الشخصية والثقافية من مسافة آمنة تسمح بالتقييم والتساؤل والانفتاح على تفسيرات وإمكانيات مختلفة.

الترجمة أحيانًا تكون محفِّزًا للإبداع وفي أحيان أخرى تكون عائقًا. ما وضعها بالنسبة لكِ؟

رغم اهتمامي المبكر بالترجمة الأدبية، شاءت الظروف أن أعمل بترجمة محتوى غير أدبي بالأساس، وقد يكون ذلك قد حال دون أن تؤثر الترجمة بشكل كبير على الكتابة في حالتي لأنها في واقعي فعل ينتمي لعالم مختلف تمامًا عن الكتابة الأدبية.

ما الجديد لديكِ؟

 استمر حاليًا في كتابة القصص القصيرة، وأسعى لنشر مجموعة قصصية آمل أن تصدر في 2019.

 

Comments