كلاوديو بوتساني: الإنسانية في أزمة.. والشعر أداة ثورية خطيرة

حَلم وهو طفل بأن يجول العالم بأكمله، فبدأ يغني «روك»، معتقدًا أنه الوسيلة لذلك، لكنه أصبح شاعرًا، وصار الشعر هو القاطرة التي عبر بها الشاعر والقاص الإيطالي «كلاوديو بوتساني» إلى بلدان العالم، انتهاءً بمصر، حيث حلَّ ضيفًا على معرض الكتاب في أسبوعه الأول، في لقاء فكري استضافته قاعة ثروت عكاشة (الرئيسية)، وأداره د.حسين محمود، أستاذ الأدب الإيطالي بكلية الآداب جامعة حلوان وعميد كلية اللغات والترجمة بجامعة بدر.

بدأ د.حسين حديثه بتوجيه الشكر إلى القائمين على هذه الدورة المميزة من المعرض في يوبيله الذهبي، ثم انتقل لتعريف بوتساني قائلًا: وُلِد عام 1961 بمدينة جنوة الإيطالية، وتُرجمت أعماله لعشرة لغات، وربما ستصبح 11 لغة بعدما اتفقنا مع الهيئة العامة للكتاب بنشر ترجمة لأحد كتبه قريبًا. درس الموسيقى ويمارسها، ويشتهر بطريقة خاصة في تقديم أشعاره تسمى الاستعراض الشعري. هو – أيضًا – مدير المهرجان الدولي للشعر في جنوة، الذي أكمل هذا العام 25 سنة من عمره، استضاف خلالها مئات الشعراء من كافة أنحاء العالم. كما يدير بيت الشعر بجنوة، وهو منظمة تعقد فعاليات ثقافية وأدبية تزيد على 150 حدث في العام الواحد.

ثم توجّه أستاذ الأدب الإيطالي إلى ضيفه متسائلًا «يقال أن هناك كثيرا من الشعراء وقليلا من القُرَّاء. هل يمكن تفسير ذلك؟» فأجابه: المشكلة أن الشعر ارتبط دائمًا بالإلقاء الشفهي وليس بالكتابة التحريرية. في إيطاليا وفرنسا وربما في معظم دول أوروبا الشرقية، الشعراء يكتبون القصائد، لكن القليل جدًا، أو لنقُل لا أحد، يقرأ هذه القصائد. هذا هو النموذج الشائع في العالم اليوم، كثيرون يريدون التعبير عن أنفسهم وقلة فقط هي التي توَّد أن تسمع للآخر.

واستطرد بوتساني: أظن أن القصيدة هي وسيلة التواصل الأكثر مباشرة وفعالية، يكفي أن نتأمل الإعلانات سنجد أنها تستخدم كل الحيل الشعرية وصورها الجمالية لتصل بشكل أسرع إلى المستهلك، حتى السياسيين يستعينون بالشعر للتواصل بفاعلية مع الجمهور. لا أعتقد أن الشعر في أزمة، وإنما الإنسانية هي التي في أزمة. الشعر هو الأكثر انفصالا عن الاستخدام التجاري للغة، وبالتالي لديه فرص أكبر للتعبير عن الواقع. إنه الأداة الأكثر ثورية وخطورة. لا يحتاج إلى ترجمة ليصل إلى قلب الجمهور، فقد لاحظت في مهرجانات الشعر التي حضرتها حول العالم أن المتلقي يحِّس بما يقوله الشاعر رغم اختلاف اللغة وقبل ترجمتها.

ومن الفنون، الشعرية بالدرجة الأولى، يذكر بوتساني «الراب» مشيرًا إلى أنه فن شعري حديث جدًا، استعاد من تراث الشعر شيئان على قدر كبير من الأهمية، هما الوزن والقافية، وبالتالي فهي دائرة تسعى حثيثا إلى الاكتمال.

وهنا قاطعه د.حسين بسؤال عن الوزن في رحلته الأدبية، حيث استخدم خلالها 14 وزنًا شعريًا، فرَّد قائلًا: النظرة إلى الرحلة تغيَّرت 180 درجة، لم تعد مجرد انتقال جغرافي من مكان لآخر، وإنما هي رحلة العاطفة والحواس والوجدان، وبالتالي القصيدة في نهاية الأمر رحلة. هذا الجانب الذي يخص الشاعر. لكن هناك رحلة أخرى في القصيدة، من الشاعر إلى المستقبل، قوامها الصوت والموسيقى والإيقاع، كل ما يمكن أن يصِل بما يريد أن يقوله الشاعر إلى وجدان المتلقي.

واستشهد بوتساني بقول الشاعر الإيطالي الكبير جيورجيو كابروني، بأن الشاعر لابد أن يكون كالمنقِّب عن المعادن، يفتِّش في باطن الأرض، وهي نفسه أو روحه، لكي يستخرج منها الكنوز للحياة. ثم تحدَّث عن جانب آخر للرحلة عند الشاعر يحدث داخل جسمه، موضِّحًا أن الشعر ليس فقط أفكار، وإنما كل الظواهر الفيزيائية الأخرى للجسم البشري، كالدموع والنبض.

حوَّل د.حسين مجرى الحديث إلى مصر، فقال ضيف اللقاء: جئتُ إلى مصر وسبقني إليها الحلم الذي تملَّكني منذ قرأت عن مصر القديمة وتاريخها، وعندما وصلتُ إلى هنا التقى الحلم بالواقع. هذه هي المرة الثانية لي في مصر، حيث أتيت قبل عامين للمشاركة في مهرجان طنطا الشعري. ما لاحظته هنا في شوارع القاهرة وقبل ذلك في شوارع طنطا، أن الشعب يتنفس الثقافة، حتى الحواري الفقيرة تمتلأ بعبق التراث والتاريخ. فما أهتم به عندما أزور مكانا غريبا لأول مرة أن أتنفس هواءه لاستنشاق رائحته الخاصة. أرمينيا مثلا، يحمل الهواء بها عبق قرون من التاريخ، وهو ما شعرت به في مصر، هواؤها محمَّل بالتراث.

واستكمل مقارِنًا: إيطاليا تملك عمقا تاريخيا مثل مصر وتشبهها، لكني شعرت هنا أن مصر في طريقها للتقدُّم عكس إيطاليا التي تتراجع، حيث يطغى عليها الكسل والخمول الفكري، وتفتقد لروح استكشاف الجديد، خاصة بين جيل الشباب، أما هنا فتوجد حيوية لدى الشباب ونهم للمعرفة. لقد ازددتُ ثراءً معرفيًا في مصر، ووجدتُ الإلهام الذي سيمكِّنني من إنهاء روايتي، ويمكنني القول أنها ستتضمن جزءًا عن القاهرة.

وبسؤاله عن سر تأثره باثنين من أكبر الشعراء في إيطاليا وُلِدا في الإسكندرية، هما «جوزيبي أونغاريتي» و«فيليبو توماسو مارينيتي»، أجاب: أن يكون كلاهما من مواليد الإسكندرية صُدفة بحتة، فقد تأثرتُ بحرص أونغاريتي على استخدام الألفاظ في شعره الملغِز، حيث أنه شديد الدقة في التراكيب اللغوية، وأردتُ أن استخدمها مثله بكل ما تحمل من أبعاد ومن إمكانيات في المعنى وخلفيات. وأستطيع القول أنني أصبحتُ شاعرًا بفضله، لأن التليفزيون الإيطالي كان يذيع برنامجًا عن الأوديسة وأنا طفل، وقبل بدءه كان يظهر أونغاريتي لإلقاء بعض القصائد من تلك الأوديسة، حتى اعتقدتُ أنه هوميروس، رؤيتي له وهو يلقي الشعر بهذا الجلال جعلتني أقرر أن أكون مثله عندما أكبر.

أما مارينيتي فتأثَّر به على نحو مختلف تمامًا، حيث يقول: تعجبني طريقته في إلقاء القصائد والحركة حينما كان يتذكر الحرب وأصوات الدبابات والمدافع في الحروب التي خاضها. واستكمل متحدِّثًا عن قصيدتين مرتبطتين بالحرب، الأولى عن الحرب دون تحديد نوعها، والثانية عنوانها «مارش الظل» عن الحرب بين النور والعتمة؛ نور العلم والمعرفة وظلمة الجهل والخرافة.

ثم ألقى بوتساني اثنتين من قصائده ينتميان للعالم الأنثوي، الأولى بعنوان «المرأة صاحبة الدموع الرقيقة»، يقول في مقطع منها:

أنتِ المرأة التي تلقِّن إيقاع الفصول

التي تقطع السكون بين خفقات قلبي

أنتِ فينوس التي تنبثق من الحمم

أنت ربة الأرواح التي تُبقي الضوء مشتعلًا

تمشين على الأرض دونما أن تنتبهي

أن كل خطوة من خطواتك تولِّد حديقة

في شعرك تشكر الريح الإله

لأنه أعطى لحياتها هدفًا

والثانية عن الأم ولحظات الميلاد عنوانها «إلى أمي»، يقول في مطلعها:

إلى أمي

لقد رأيتك قبالتي في هذه الصالة

أنا ملوَّث بالدم والمخاط

وأنتِ مضطربة أو فضولية

حاولتُ أن أقول لكِ

أنني لم أكن متأكدًا أنني أريد البقاء خارجكِ

لكن الكلمات التي كانت في رأسي

تُعجّن في فمي بشكل غير موفَق

بعد الإلقاء عاد د.حسين محمود يسأله «ما النصائح التي يمكن أن تعطيها للشاعر؟ وهل يصبح الإنسان شاعرًا أم يحترف الشعر؟» فقال: النصيحة الوحيدة التي يمكن أن أعطيها لمن يريد أن يصبح شاعرًا أن يقرأ كثيرًا قصائد الأخرىن. مضيفًا: الشعر قدرة على اكتشاف العواطف والأحاسيس الداخلية، يتطلَّب انضباطًا في الحياة وأن يعمل الشاعر على نفسه ويجتهد. كلنا بنا بذرة من الموهبة، ربما تكون مختفية، مع رعايتها والاهتمام بها والاجتهاد يخرج منها شاعر أو موسيقى أو معماري، لكن قبل ذلك هناك مسار كبير ينبغي أن يقطعه الشاعر لكي يصبح هكذا. فهل من يغني في الحمَّام – مثلًا – يصبح مغنيًا؟َ! مثله الشاعر، لأن الشعر ليس إلقاء أبيات.

وعن العلاقة بين الشعر والواقع، قال الشاعر الإيطالي: أعتقد أن الشاعر يتناول الأحداث اليومية ثم يسمو بها لنفهم ما خلفها من أحاسيس ومشاعر، لكن ربط الشعر بالواقع يفقده قيمته على المدى الزمني، وتصبح القصيدة قديمة على الفور.

أما العلاقة بين الشعر والبيئة، فتحدَّث عنها موضِّحًا: نحن نعيش في عصر ملوَّث، بيئيًا وجويًا وغذائيًا، ولغويًا كذلك، من فرط استخدام اللغة في الإعلانات والأغراض السياسية. القصيدة، على العكس، تبقى وتدوم، ومن أدوارها تنقية اللغة وتوظيفها.

في الختام ألقى كلاوديو بوتساني بعض القصائد التي يفضِّلها، من بينها «سارق النار» التي أهداها للحضور، وذكر د.حسين أنه نشر ترجمتها قبل عشرة سنوات في جريدة «أخبار الأدب» ولاقت حينها نجاحًا كبيرًا وشهرة، يقول فيها:

أرقص

أرقص رقصة الأفكار العبقرية

على أمل أن تقولي لي شيئًا جديدًا

أرقص رقصة الخاسرين الضائعين

وأنا أعرف أن كل خطواتي سدى

أرقص رقصة السعداء الساذجين

اعتقادًا مني أن عِرقي يهم أحدَ

أرقص رقصة المستفيدين

وسأظل أرقص حتى تدفعين

Comments