جان ديفاسا نياما: أكتب ليعرف العالم ما يحدث في بلدي

في إحدى قرى مدينة موابي الجابونية، وضعت سيدة توأمين من الذكور، أسمت أحدهما «أولابو» والآخر «أوهامو». تعني أولابو في اللغة الجابونية «المشاهدة والملاحظة». ولأن لكل إنسانٍ من اسمه نصيب، فقد اعتاد على التأمل والتدوين، حتى أصبح واحدًا من أهم كُتَّاب بلاده فيما بعد والحائز على أرفع جوائزها «جان ديفاسا نياما».

أما أوهامو فتعني «الفهم والإدراك»، لذا علِم أخاه مبكرًا أن أفريقيا مستمرة في شقائها وما تعانيه من بؤس وفقر، فرفض المجيء إلى هذا الواقع، وأسلم روحه لبارئها أثناء ولادته. لكنه أوصى توأمه بأن يبعث له رسائل متضمنة وصفًا لما سيراه في هذا العالم. تلك الوصية التي لم يدركها نياما إلا بعدما خطَّ روايته الأولى «Oncle Mâ»، حيث شعر أن إهداءها لأخيه واجبًا، بل كل كتاباته كذلك.

قبل أسابيع قليلة؛ قدِم «جان ديفاسا نياما» إلى مصر لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الخمسين، والمشاركة في عدد من ندواته، عقب صدور النسخة العربية من روايته «مذاق الحرية المرير» بترجمة أسماء مصطفى كمال، عن سلسلة «الجوائز» بالهيئة العامة للكتاب، التي ترأس تحريرها المترجمة دينا مندور، والتي – أيضًا – شاركتني في إجراء جزء من هذا الحوار باللغة الفرنسية – المفضَّلة عند نياما – قبل أن أستكمله معه باللغة الإنجليزية، التي عمل في تدريسها قبل سنوات.

ARF_5835

حدثني عن نشأتك، وخطواتك الأولى إلى عالم الأدب.

توفى والديَّ وأنا في سن صغيرة. وفي المرحلة الجامعية، انضممتُ لفرقة مسرحية، حيث كنت أكتب مسرحيات وقصائد وقصص قصيرة. ثم صِرت في 1977مراسلًا لجريدة الاتحاد وبدأتُ أنشر كتاباتي فيها، وهي صحيفة حكومية جابونية. وبعد التخرج حصلتُ على تدريب لأتمكن من العثور على وظيفة، لكن ذلك لم يحدث.

حينئذ، عام 1985 تحديدًا، بدأتُ أكتب في روايتي الأولى «Oncle Mâ» والتي تعني في لغتي المحلية «العم العم»، وهي تتحدث عن صبي صغير لا يعرف أن كلمة «Mâ» في لغته المحلية تعني العم مثل كلمة «Oncle»، لذلك ينادي عمه بـ «العم ما».

كيف كانت تجاربك الأولى مع النشر؟

انتهيتُ من كتابة الرواية عام 1988 ونشرتها في العام 1991 ضمن منشورات شركة «La Pensée Universelle» بباريس، لأنني لم أكن أملك أي أموال. كانت تجربة نشر ذاتي، لم أحصل فيها على أي دعم لترويج الرواية.

في عام 1996 التقيتُ بناشري «ميشيل كادنس» في معرض للكُتَّاب الشباب أقامه مكتب المنظمة الدولية للفرنكفونية بأفريقيا الوسطى. عندما قرأ روايتي طلب مني أن أكتب رواية جديدة، فكتبتُ «La ocation de Dignité» بمعنى «نداء دينيتي»، والتي نُشِرت بعد عام مع دار «Ed. Ndze» التابعة للمنظمة.

لم أتوقف إطلاقًا عن الكتابة، وعملتُ بجد لتقديم مؤلفاتي صخب التراث «Le Bruit de l'Héritage» ورحلة العم ما «Le «oyage d'Oncle Mâ». وفي 14 مارس 2009 حصلتُ على جائزتي الأولى؛ الجائزة الأدبية الكبرى في أفريقيا السوداء، من قِبل اتحاد كُتَّاب اللغة الفرنسية.

ARF_5854

كانت جائزتك الأولى واحدة من أكبر الجوائز الأفريقية. هل أنت مشغولًا منذ البداية بهذا الأمر؛ الحصول على جوائز؟

ليس تمامًا؛ الأساس لديّ هو موهبة الكتابة التي منحني إياها الله. لكن الجوائز تدفعني لبذل قصارى جهدي، وأن أعمل على تطوير أدواتي حتى أتمكن من إرضاء جميع القراء، ودائمًا أطرح على نفسي تلك التساؤلات: هل أنا أعمل بجد؟ هل أكتب بشكل جيد للغاية؟ ماذا يمكنني أن أفعل لجعل القراء سعداء؟ أسعى إلى تحقيق ذلك على الدوام، أثناء الكتابة واختيار الموضوعات، لأن القرَّاء يحتاجون إلى المزيد، وأنا – أيضًا – لا يمكنني البقاء دون كتابة وتفكير.

ما أعنيه أن الأهم بالنسبة لي هو سعادة القرَّاء ورضاهم. إن كانوا سعداء؛ سأصبح سعيدًا أيضًا. لذلك لا أحب أن أتأخر عليهم في نشر كتبي حتى لا أرى حزنًا في عيونهم، وبالتالي أعمل بكل طاقتي في الكتابة لهم. أما الجوائز فليست هي شاغلي بالمقام الأول، وإنما أشياء أخرى؛ فعندما كتبتُ روايتي «مذاق الحرية المرير» مثلًا، لم أكن أعلم أنها ستكون سببًا لتواجدي هنا للمرة الثانية.

في عام 2016 فازت «مذاق الحرية المرير» بجائزة أيضًا؛ الجائزة الأدبية الكبرى لمالي «جائزة أحمد بابا»، وفي أحداثها ترتكز على عدد من المعلومات الحقيقية، كالأماكن والتواريخ والأسماء. هل يمكن القول بأنك تكتب رواية تاريخية؟ أم جهدك – الصحفي ربما – فيما أجريته من تحقيقات يمكن أن يجعلها واقعية؟

لا. إنها رواية تاريخية وليس لها علاقة بالصحافة. العمل الصحفي يجريه صاحبه لرصد الوضع الحالي وتوجيه ذلك إلى القارئ في اللحظة الآنية، أما ما أكتبه فهدفي منه هو الأجيال القادمة، ولا أستطيع أن أتناول الأحداث الحاضرة. غالبًا أحلّل أشياء مر عليها عشر أو عشرين عامًا، أفعل ذلك لتظل تلك الأحداث مستمرة وتطلع عليها الأجيال التي لم تحضرها.

ARF_5939

تكتب للأجيال وتؤمن بأن الماضي يبني المستقبل. ماذا عن الحاضر؟ هل تلمس أن الأجيال الحالية من الشباب لازالت تعلم عن ماضيها وعلى استعداد لبناء مستقبلها؟

نعم، مازالت هناك أجيال تفهم أعمالي وقادرة على بناء المستقبل. يقول الكاتب الأفريقي أحمدو كوروما في روايته «بانتظار تصويت الحيوانات البرية» 1998: «إن كنا لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون، فعلينا أن نعرف من أين أتينا». الماضي والمستقبل لا ينفصلان، وفي الثقافة الشعبية الأفريقية؛ القصص والأحلام يوضِّحا معًا الصورة، والحبل الجديد ننسجه من نهاية الحبل القديم.

أما الأمر الذي كان خطيرًا بالنسبة لي، فهو اللغة الجابونية، التي لم يعد أحد يعرفها أو يستخدمها لصالح اللغة الفرنسية، لذلك أحرص على تطعيم أعمالي بمصطلحات وألفاظ باللغة الجابونية، وألاحظ أن كثيرين من الشباب يفهمونها ويستوعبونها. فالاعتقاد بأن الجيل الجديد أو الأطفال لا يحبون اللغة الجابونية خاطئ تمامًا، هم فقط يحتاجون لمن يعرِّفهم عليها ويقدِّم ثقافتهم. الأسماء والصفات الأوروبية لا تعني للجابونيين شيئًا، والدليل أنني عندما بدأت باستخدام الصفات باللغة المحلية في رواياتي صاروا يطلقونها على أبنائهم بكل سعادة، مثل «إسينا» التي تعني المرأة الأكثر ثراء و«يني» بمعنى أوفر النساء حظًا.

أعتقد أن رسالتي بترجمة لغتي الجابونية للفرنسية وصلت إلى هدفها، حيث وجد الناس فيها ضالتهم، كما وجدوا كرامتهم وشخصيتهم.

من الكُتَّاب الأفارقة الذين اهتَّموا لأمر اللغة أيضًا الكيني «نجوجي وا ثيونغو» المرشح شبه الدائم لجائزة نوبل، فبعدما حقق شهرة عالمية بأعماله المكتوبة بالإنجليزية، بدأ في السنوات الأخيرة يكتب بلغته المحلية «الكيكويو». ما رأيك في هذا الاتجاه؟

هذا اتجاه جيد في العمل، لكن تطبيقه لن ينجح في الجابون، لأنني لو كتبتُ بلغة غير الفرنسية، لن يفهمها ويتمكن من قرائتها سوى القليل جدًا من الشعب، بينما في كينيا، تعليم اللغة المحلية متقدِّم جدًا.

في بدايتي كتبتُ بالفرنسية، ثم اتجهتُ للإنجليزية، حينما عملتُ مدرِّسًا للغة الإنجليزية، لكنها لم تُنشَر. هذا جعلني أتحقق من ضرورة الحفاظ على قضية اللغة الجابونية والرجوع لها، فاللغة الفرنسية في الجابون أصبحت خليطًا بين اللغتين الفرنسية والجابونية، والمصطلحات التي أستخدمها غالبًا في رواياتي تكون مكتوبة باللغة الفرنسية لكنها غير مفهومة للفرنسيين، لأن الشعب الجابوني أحدث فيها نوعًا من التأطير. (مثل تعريب كلمة إنجليزية باللهجة العامية المصرية)

ARF_5913

ما رأيك فيما يقوله البعض حول خضوع الأدب في البلدان الأفريقية إلى ثقافات أخرى، وخاصة الفرنسية؟

لا أعتقد ذلك. ربما يتأثر البعض بالثقافة الفرنسية وغيرها لأنهم يعيشون في الخارج لفترات طويلة، لكن الأدب الأفريقي له خصوصيته، مثل الثقافة الأفريقية تمامًا. لو كنت أعيش في مصر، لتأثرتُ بالتأكيد بثقافتها، ولكن إلى جانب ثقافتي الأفريقية. أنصح من يقول ذلك أن يقرأ نادين جورديمر، أندريه برينك، تشينوا أتشيبي، يامبو وولوجين، وولي سوينكا، برنار دادييه، أحمدو كوروما، كامارا لاي، تشيكايا أوتامسي، سوني لابو تانسي… إلخ.

لكن لا يمكن إنكار أن الأدب الفرنسي والإنجليزي يطغى. في رأيك؛ ما أسباب ضعف التبادل الأدبي بين الدول الأفريقية؟

بسبب الحدود والحواجز بين المواطنين الأفارقة. الكاميرونيون لا يعرفون ما تنشره الجابون، ولا يعلم الكونغوليون ما ينشره الغينيون. لا يوجد نشر أو توزيع كتب بين العديد من البلدان في أفريقيا. من ينشر باللغة الفرنسية يتم قراءة كتابه من قِبل الدولة الفرنسية، ومن ينشر باللغة الإنجليزية، سيكون الأمر كذلك.

وماذا عن اللغة العربية؟                   

الأمر صعب للغاية. لا أحد في جنوب أفريقيا يتكلم العربية بطلاقة. ولا توجد مترجمات كثيرة عن العربية في الجابون.

لكنك قرأت لنجيب محفوظ. أليس كذلك؟

نعم، قرأتُ محفوظ للمرة الأولى في الجابون، بالفرنسية. اشتريتُ روايته «المرايا» وبدأتُ بقرائتها. وجدتُ أنه يتحدًّث عن حياة بلاده، ورأيت فيه نموذجًا للجيل الجديد في أفريقيا. أراد إخبارهم بأن من لا يؤمن بثقافته الخاصة لن يستطع فعل أي شيء، فهي الوحيدة القادرة على بناء شخصيته وكرامته، ولن تتمكن أي ثقافة أخرى من مساعدته في ذلك. وفي الثقافتين الصينية واليابانية نجد مثلًا جيدًا يقول: «لا تعطي شخصًا ما سمكة، ولكن ساعده على صيدها، هكذا ستفيده طوال حياته».

هناك آراء ترى أن ثلاثيتك «الكالباس» تشبه ثلاثية محفوظ. هل تجد ذلك صحيحًا؟

ربما. الفكر في النهاية واحد، ومن يقرأ قد يجد تشابهًا نابعًا من طبيعتنا. مثل أن تقابلي شخصًا في فرنسا وتشعرين أنه يشبه شخصًا تعرفينه هنا في القاهرة.

ARF_5885

تكتب في معظم أعمالك عن الواقع في الجابون، الذي يعرفه الجابونيين جيدًا. هل يعني ذلك أنك توجِّه كتاباتك للخارج بالأساس؟ أم هناك أبعادًا أخرى ترمي إليها يمكن أن تساعد المواطن الجابوني، أو الأفريقي بشكل عام، على التفكير فيما يحدث حوله؟

الاستنتاج الأول هو الأصح، فأنا بالفعل أكتب للخارج بشكل أكبر وليس للجمهور الجابوني. أريد أن يعرف العالم كله ما يحدث في بلدي.

أخبرني عما يحدث في بلدك. ألم تنل الجابون استقلالها عن فرنسا عام 1960؟ أي قبل ميلادك بعامين.

الجابون مثل معظم دول أفريقيا، ليست مستقلة بشكل حقيقي وكامل. لازالت مقاطعة فرنسية. والدليل أننا نتبعها في كل شيء. ففي 2016 أُجريت انتخابات وكان الشعب كله يريد شخصًا واحدًا، إلا أن فرنسا فعلت كل ما بوسعها لكي لا ينجح هذا الشخص، ودعمت انتخابات مزيفة. ورغم أن الشعب يريده، إلا أنه لم يتمكن من الحكم حتى الآن.

هل هناك أمل أن تنال الجابون استقلالها الكامل يومًا ما؟

الجابون تخوض معركة كبيرة حقًا لتحصل على استقلالها. إذا قرأتِ الأخبار التي تنشرها الصحف حولها، ستكتشفين أن مسألة استقلال الجابون وهمية. لابد أن ننال استقلالنا لنحكم بلادنا بأنفسنا. كل ما نراه هذه الأيام أن الحكومة الفرنسية هي التي تحكم بلادنا، لأننا لا نعرف أين رئيسنا منذ مرِض في 24 أكتوبر 2018، رغم أنه وفقًا للمادة 13 من الدستور، ينبغي في هذه الحالة أن يتسلم رئيس مجلس الشيوخ السلطة، لكن حتى الآن لم يحدث ذلك. الأمر نفسه حدث من قبل عندما توفى رئيسنا الأول «ليون إمبا» في نوفمبر 1967.

كل ذلك يوضِّح أننا لسنا مستقلين تمامًا. سياستنا تحكمها فرنسا، وأي انتخابات تُجرى على أرض الجابون تتحكم فيها فرنسا. لابد من الحصول على موافقتها أولًا.

ARF_5890

في ظل ما يشهده جزء من أفريقيا – الوطن العربي – في السنوات الحالية من ثورات. ألا يمكن للجابون أن تلحق بهم؟

صعب. الجابون بلد صغيرة وشعبها عدده قليل؛ مليون و800 ألف نسمة، لذلك ما حدث في ميدان التحرير لا يمكن أن يتكرر في الجابون.

لكن الجابون سبق لها القيام بثورة من قبل للتحرر من الاستعمار. ما الذي استجد هذه المرة؟

وقتها كان الشعب متعطشًا لفكرة الحرية، وكانت هناك حركة عامة موجودة في أفريقيا والعالم ضد الاحتلال، ورغم أن العدد كان قليلًا، إلا أن الجيش كان منظمًا جدًا ومسلحًا، فاستطاع المقاومة. هذا ليس الوضع الآن، لا هم منظَّمين ولا مسلَّحين.

ما الأوضاع حاليًا؟

قام الحرس الجمهوري يوم 7 يناير بعمل اعتراض، ونشر رسالة عبر التليفزيون يدعو فيها الجيش والشعب إلى أن يتخذوا موقفهم لاستعادة السلطة لأن الرئيس مريض. وهناك ضباط جيش في كل مكان بالشوارع لحفظ الأمن. لكن الجيش نفسه منقسم؛ جزء مع الشعب وجزء مع الحكومة بالرئيس.

باعتبارك ممثلا وكاتب مسرح قديما، هل ترى أن المسرح بإمكانه أن يسهم في تغيير الأوضاع بالدول الأفريقية؟

المسرح هو أساس الأدب الأفريقي. أدبنا حيوي لأن الحياة الأفريقية كلها عبارة عن مسرح. وقد سبق للكاتب الجابوني «فينسنت دي بول نيوند» أن قال: «كل شيء مسرح». وأنا أؤيد ذلك؛ كل فعل بشري هو مسرح.

Comments