بين سطور أوراق ذاكرة مصر المعاصرة

منذ أربع سنوات، وحوالي ثلاثة أشهر، أجريتُ تحقيقًا نُشر ضمن ملف بعنوان «25 يناير.. ثورة جيل لم يهدأ»، تناولتُ خلاله الوثائق المتاحة حينها حول الثورة، وتحدَّثتُ مع القائمين على المشروعات التوثيقية، وعلى رأسها مشروع «ذاكرة مصر المعاصرة» الذي أطلقته مكتبة الإسكندرية، متضمنًا توثيقًا لآخر مائتي عام من تاريخ مصر الحديث من خلال مواد مختلفة، منها: الوثائق والصور والتسجيلات الصوتية والمرئية والخرائط والمقالات والعملات والأختام وغيرها، في الفترة ما بين حكم محمد على باشا عام 1805 وحتى نهاية فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1981.

سألتُ وقتذاك عن الأعوام التي تلت ذلك التاريخ، فأخبرني د.خالد عزب أن العمل جار عليها وستتوقف عند عام 2014 مع تولي الرئيس السيسي حكم مصر، لكن «الأمر سيستغرق عامين على الأقل» ولم يحدد الموعد الأقصى لإتمام ذلك. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جمع المعلومات المتاحة على الموقع حاليًا استغرق أكثر من أربع سنوات ليخرج إلى النور بهذا الشكل.

منذ أسابيع عُدت لتصفح الموقع مرة أخرى، وعندما قارنته بما كان عليه في مطلع 2015، وجدته لم يتغير كثيرًا، اللهم إلا زيادة طفيفة في عدد الوثائق والأفلام والطوابع، وأكثر منها بعض الشيء في العملات والمواد الصحفية. وهذا الاختلاف رغم محدوديته، إلا أنه يدل على متابعة مستمرة للموقع، خاصة أن عدد الصور انخفض بمقدار ما يزيد على 400 صورة، مما يعني أن هناك إضافة وحذف ومراجعة للمحتوي، والذي ربما يبشّر بالمزيد في القريب.

لكن؛ لا شك أن ما يحويه الموقع الآن كنز يجب الالتفات إليه، إلا أنه ينقصه فقط بعض العناية والدقة في التعامل معه من قِبل مكتبة الإسكندرية، من حيث التوثيق والوصف الذي يأتي أحيانًا مناقضًا للمنطق وإعمال العقل، فضلًا عن أن «اللينك» الخاص بقسم المقدمات والأبحاث، الذي يشير إلى وجود 6471 مادة داخله، لا يعمل.

في الصفحات التالية اخترنا أن نقلِّب بين أوراق أربع شخصيات عملوا في مجالات مختلفة، كل مجال منها له مناسبة خاصة خلال شهر مارس. نلقي الضوء على أهم المحطات في مشوار كل شخصية، ونشير إلى بعض مواضع الخلل في المعلومات المكتوبة عنها أحيانًا، والتي يمكن تداركها بسهولة فيما بعد.

 

 المرأة ومحررها

قاسم أمين: غاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى المقام الرفيع

انقطاع معاش ابنتيه بعد بلوغهما سن 16 عامًا.. وفي 1942 قرر مجلس الوزراء منح أرملته معاشًا خاصًا قدره 15 جنيهًا بدلًا من جنيه و822 مليمًا

1 قاسم بك أمين

يشهد شهر مارس من كل عام؛ الاحتفال بيوم المرأة العالمي في اليوم الثامن منه، كما نحتفل في مصر يوم 21 بمناسبة أخرى وهي «عيد الأم». وعندما تُذكَر المرأة يصبح الاسم الأقرب للأذهان هو قاسم أمين أو «محرر المرأة» حيث كان يرى أن تربية النساء هي أساس كل شيء، وتؤدي إلى إقامة المجتمع المصري الصالح، وتخرِج أجيالًا صالحة من البنين والبنات.

يتضمن الموقع سيرة ذاتية لأمين، متضمنة معلومات حول نشأته وميلاده في الإسكندرية، لأم مصرية من الصعيد، وأب تركي كان واليًا على إقليم كردستان قبل مجيئه إلى مصر واستقراره بها. التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، وبعد تخرجه بفترة قصيرة عمل بالمحاماة في مكتب صديق والده مصطفى باشا فهمي، وكان في ذلك الوقت يحضر دروس جمال الدين الأفغاني، فتعرف على الإمام محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم وأديب إسحاق وغيرهم.

سافر أمين في بعثة إلى فرنسا، وبعد عودته إلى مصر، أقام مبدأ الحرية ومبدأ التقدم على أسس من الثقافة العربية المسلمة، وكان متفقًا مع رأي الإمام محمد عبده في الإصلاح، بأن كثير من العادات الشائعة لم يكن أساسها الدين. وفي عام 1891 عُيِّن قاضٍ في محكمة الاستئناف وتدرج في مناصب القضاء حتى أصبح مستشارًا عام 1894.

من الوثائق المتوافرة عن تلك الفترة؛ إفادة بتاريخ 1 يونيو 1896 صادرة من نظارة الحقانية إلى محكمة الاستئناف بإجازات القضاة العاملين فيها وبينهم قاسم أمين والشيخ محمد عبده وسعد زغلول ويحيى إبراهيم. وإفادة أخرى في ذات الموضوع ولكن بعد عام بتاريخ 10 يونيو 1897.

كان آخر أعمال قاسم أمين توليه رئاسة اللجنة الخاصة بإنشاء الجامعة المصرية خلفًا لسعد زغلول، بعد تعيينه ناظرًا للمعارف، قبل وفاته في 23 إبريل 1908 عن عمر ناهز 45 عامًا.

زوجته وابنتاه

أما على صعيد حياته الشخصية، فقد تزوج عام 1894 من السيدة زينب كريمة أمين توفيق، التي أنجبت له بنتين: الكبرى سيدة عام 1892، والصغرى جلسن عام 1904، استحققن جميعهن معاشًا من وزارة الحقانية منذ 15 يوليو 1908، ويظهر في «سركي معاش» خاص بالسيدة زينب هانم أرملته بتاريخ 1 يناير عام 1938، أنها تصرف معاشًا شهريًا قدره جنيه واحد وثمانمائة واثنان وعشرون مليمًا. وفي 14 إبريل عام 1942 أرسل وكيل المالية خطابًا إلى إدارتي صرف المعاش والمعاشات بخصوص ورثة المرحوم قاسم أمين، يوضِّح أن معاش ابنتيه قد قُطِع حينما تخطيا سن السادسة عشر، عملًا بقانون المعاشات الصادر في 21 يونيو 1887، وكان يبلغ أربعة جنيهات و858 مليمًا لكل منهما، ومن حين انقطاعه لم يتغير معاش أرملته، لذا تقرر إعطاؤها معاشًا خاصًا وقدره 15 جنيهًا شهريًا مدى الحياة، طبقًا لقانون توفيق باشا وقرار مجلس الوزراء لعام 1942. (إلا أن الوصف الذي وضعه مسئولو الموقع جاء فيه «تقرر قطع معاش ابنتي قاسم أمين وذلك بسبب أنهما تخطتا سن السادسة عشرة وقد تقرر إعطاء السيدة زينب هانم أرملة قاسم أمين معاشا.......» مما يعني أن قطع المعاش عن ابنتيه جاء في نفس القرار الذي صدر عام 1942، أي بعد وفاة قاسم أمين بأربعة وثلاثين عامًا، فكيف تكون ابنتاه في السادسة عشرة؟! فالكبرى في ذلك الحين كانت في الخمسين من عمرها والصغرى في الثامنة والثلاثين).

كتبوا عنه ومنه

في ركن الصحافة وُضِع 22 مقالًا من صحف مختلفة، كُتِبت جميعًا عن قاسم أمين والمرأة المصرية، فيما عدا واحدًا نشرته مجلة الهلال في مارس 1956 تحت عنوان «تحرير المرأة.. أكبر حادث في تاريخ مصر» نبوءة بقلم المرحوم قاسم أمين، يقول في بعض منه: «كان الأوربيون يرون رأينا اليوم في النساء، وأن أمرهن مقصور على النقص في الدين والعقل، وأنهن لسن إلا عوامل الفتنة وحبائل الشيطان، وكانوا يقولون إن (ذات الشعر الطويل والفكر القصير) لم تُخلَق إلا لخدمة الرجل، وكان علماؤهم وفلاسفتهم وشعراؤهم وقسسهم يرون من العبث تعليمها وتربيتها، ويسخرون بالمرأة التي تترك صناعة الطعام وتشتغل بمطالعة كتب العلم، ويرمونها بالتطفل على ما كانوا يسمونه خصائص الرجال، فلما انكشفت عنهم غشاوة الجهل، ودخل حال المرأة تحت انتقاد الباحثين، اكتشفوا أنهم هم أنفسهم منشأ انحطاطها وسبب فسادها، وعرفوا أن طبيعتها الأدبية والعقلية قابلة للترقي كطبيعة الرجل، وشعروا أنها إنسان مثلهم لها الحق في أن تتمتع بحريتها وتستخدم قواها وملكتها، وأن من الخطأ حرمانها من الوسائل التي تمكنها من الانتقاع منها. ومن ذلك الحين، دخلت المرأة الغربية في طور جديد، وأخذت في تثقيف عقلها وتهذيب أخلاقها شيئًا فشيئًا، ونالت حقوقها واحدًا بعد الآخر. ولم يمض على ذلك زمن طويل حتى اختفت من عالم الوجود تلك الأنثى، تلك الذات البهيمية التي كانت مغمورة بالزينة، متسربلة بالأزياء، منغمسة في اللهو، وظهر مكانها امرأة جديدة، هي المرأة شقيقة الرجل، وشريكة الزوج، ومربية الأولاد، ومهذبة النوع. هذا التحويل هو كل ما نقصد إليه... غاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع، وأن تخطو هذه الخطوة على سلم الكمال، فتُمنَح نصيبها من الرقي في العقل والأدب ومن سعادة الحال في المعيشة وتحسن استعمال ما لها من النفوذ في البيت. إذا تم ذلك فنحن على يقين لا يزعزعه أدنى شك من أن هذه الحركة الصغيرة تكون أكبر حادثة في تاريخ مصر».

طابع وظرف

في 23 إبريل 1958 تم إصدار طابع بريد بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة قاسم أمين، مكتوب عليه «قاسم أمين 1856-1908.. نصير المرأة». بالإضافة إلى ظرف تذكاري يحمل الطابع وصورة له وأعلاها جملة «مصلح اجتماعي.. أول من نادي بتحرير المرأة في مصر سنة 1899».

 

الشعر وغاياته

حافظ إبراهيم بين الشعب والقصر

شاعر النيل في استقبال اللورد كرومر بعد حادثة دنشواي: إن ضاق صدرُ النيل عما هاله يوم الحمام فَإن صدرك أَرحبُ

5 حافظ بك إبراهيم

بالتزامن مع «عيد الأم» بمصر، يحتفل العالم في 21 مارس بيوم الشعر، الذي أعلنته منظمة اليونسكو عام 1999، بهدف تعزيز القراءة والكتابة، ونشر وتدريس الشعر في جميع أنحاء العالم.

وواحدٌ من أهم شعرائنا في القرن العشرين الملقَّب بشاعر الشعب وشاعر النيل، هو حافظ إبراهيم، الذي وُلِد على متن سفينة كانت راسية أمام قرية بمركز ديروط في محافظة أسيوط، لأب مصري وأم تركية. توفى والداه وهو صغير، لكن أمه قبل وفاتها أتت به إلى القاهرة، فنشأ بها يتيمًا تحت كفالة خاله محمد نيازي المهندس في مصلحة التنظيم، والتحق بمدرسة القلعة الابتدائية الخيرية ثم بمدرسة المبتديان فالمدرسة الخديوية، فكان زميل دراسة مع الزعيم مصطفى كامل.

انتقل خاله إلى مدينة طنطا، وهناك التحق حافظ بالمعهد الأحمدي، فاتصل بالشيخ عبد الوهاب النجار الذي كان يدفعه إلى مطالعة دواوين الشعراء الأوائل، وظل يعيش في كنف خاله فترة من الوقت ثم رحل عنه بعدما أحس بضيق حاله، وانتهى به الأمر إلى مكتب المحامي محمد أبو شادي، أحد زعماء ثورة 1919، وهناك اطلع على كتب الأدب، ثم ترك المهنة وسافر إلى القاهرة وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة، وفي عام 1888 التحق بالمدرسة الحربية وتخرج منها عام 1891 ضابطًا برتبة ملازم ثان في الجيش المصري وعُيِّن ضابطًا في نظارة الحربية.

في عام 1896 أرسِل إلى السودان مع الحملة المصرية بقيادة كتشنر، وفي عام 1899 شبت ثورة في السودان واتهم في «حادثة الجباخانة» التي عاد على إثرها إلى القاهرة، ومنذ عام 1901 - وعلى مدار عشر سنوات كاملة - كان ينظم الشعر، وفي تلك الفترة تعرَّف على الإمام محمد عبده، والشيخ على يوسف صاحب جريدة «المؤيد» الذي أطلق عليه لقب «شاعر النيل».

عند مطالعة شعر حافظ إبراهيم في تلك الفترة يبدو جليًا أنه كان يستطيع تطويعه حسب احتياجاته لتحقيق ما يصبو إليه من أهداف، وهو ما يدل عليه مقال أحمد حسن الزيات في افتتاحية مجلة «الرسالة» في عددها رقم 108 عام 1935، الذي وصف حافظ قائلًا: «كان حافظ في ميعة شبابه يطلب الثروة على قدر طموحه، والحظوة على قدر نبوغه؛ ولكنه طلبهما من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، لا من طريق الواجب الذي يؤديه كل إنسان إلى المجتمع». وفي موضع آخر يقول: «كانت ثقافة حافظ ثقافة الشاعر العربي الأول: يتزود لمجالس الملوك بالإخبار والطرف، ولمحافل الأدباء بالأشعار واللغة، ويستعين على ذلك بسلامة الذوق، وصفاء الطبع، وقوة الحافظة، وكثرة الاطلاع، وجودة الاستماع، وإلحاح الحاجة؛ ولحافظ في كل أولئك موضع منفرد ومكان بارز».

ويشير الزيات إلى أن حافظ إبراهيم كان مبدؤه الأدبي مبدأ اليوم، كما كانت حياته المادية حياة الساعة، حيث رأى الآمال تتهافت حيناً من الدهر على أريكة الخديوية في مصر، وعرش الخلافة في الآستانة، فجرى لسانه بالشعر المطبوع في مدح عباس وتمجيد عبد الحميد؛ ثم اتصل بالإمام وشيعته من سراة البلاد وشيوخ الأمة، ولهم يومئذ في الإنجليز رجاء موصول وظن حسن، فصدرت عنه في هذه الفترة قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، وقصيدة في تتويج الملك إدوار السابع، وقصيدتان في وداع اللورد كرومر، عبَّر بهما عن الرأي السياسي الأرستقراطي في ذلك الحين.

وإلى جانب ذلك تُظهِر المواد الصحفية المرفقة لحافظ إبراهيم في «ذاكرة مصر المعاصرة» أنه نظم قصيدة نشرتها مجلة الهلال في نوفمبر عام 1906 لاستقبال اللورد كرومر بعد عودته من بلاد الإنجليز في أواسط أكتوبر، يشكو إليه ما أصاب دنشواي في أثناء الصيف من شنق بعض أهلها وجلد أخرىن على أثر حادثتها المشهورة، وخلاصتها – كما كُتب في مقدمة المجلة – أن «بعض الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في ضواحي دنشواي فلقيهم بعض أهلها وضربوهم فمات أحدهم، فتشكلت محكمة مخصوصة حاكمت المتهمين وحكمت بشنق أربعة من أهل تلك البلدة وجلد أخرىن على كيفية أردوا بها الإرهاب أكثر مما أرادوا العدل. فشق ذلك على المصريين وتحدثت به جرائدهم فقام شاعرهم النابغة يعبر عن إحساسهم بقصيدة يوم قدوم اللورد كرومر» وهذا نصها:

قَصرَ الدُبارَةِ هَل أَتاكَ حَديثُنا

فَالشَرقُ ريعَ لَهُ وَضَجَّ المَغرِبُ

أَهلاً بِساكِنِكَ الكَريمِ وَمَرحَباً

بَعدَ التَحِيَّةِ إِنَّني أَتَعَتَّبُ

نَقَلَت لَنا الأَسلاكُ عَنكَ رِسالَةً

باتَت لَها أَحشاؤُنا تَتَلَهَّبُ

ماذا أَقولُ وَأَنتَ أَصدَقُ ناقِلٍ

عَنّا وَلَكِنَّ السِياسَة تَكذِبُ

عَلَّمتَنا مَعنى الحَياةِ فَما لَنا

لا نَشرَئِبُّ لَها وَما لَكَ تَغضَبُ

أَنَقِمتَ مِنّا أَن نُحِسَّ وَإِنَّما

هَذا الَّذي تَدعو إِلَيهِ وَتَندُبُ

أَنتَ الَّذي يُعزي إِلَيهِ صَلاحُنا

فيما تُقَرِّرُهُ لَدَيكَ وَتَكتُبُ

إِن ضاقَ صَدرُ النيلِ عَمّا هالَهُ

يَومَ الحَمامِ فَإِنَّ صَدرَكَ أَرحَبُ

أَوَ كُلَّما باحَ الحَزينُ بِأَنَّةٍ

أَمسَت إلى مَعنى التَعَصُّبِ تُنسَبُ

رِفقاً عَميدَ الدَولَتَينِ بِأُمَّةٍ

ضاقَ الرَجاءُ بِها وَضاقَ المَذهَبُ

رِفقاً عَميدَ الدَولَتَينِ بِأُمَّةٍ

لَيسَت بِغَيرِ وَلائِها تَتَعَذَّبُ

إِن أَرهَقوا صَيّادَكُم فَلَعَلَّهُم

لِلقوتِ لا لِلمُسلِمينَ تَعَصَّبوا

وَلَرُبَّما ضَنَّ الفَقيرُ بِقوتِهِ

وَسَخا بِمُهجَتِهِ على مَن يَغصِبُ

في دِنشِواي وَأَنتَ عَنّا غائِبٌ

لَعِبَ القَضاءُ بِنا وَعَزَّ المَهرَبُ

حَسِبوا النُفوسَ مِنَ الحَمامِ بَديلَةً

فَتَسابَقوا في صَيدِهِنَّ وَصَوَّبوا

نُكِبوا وَأَقفَرَتِ المَنازِلُ بَعدَهُم

لَو كُنتَ حاضِرَ أَمرِهِم لَم يُنكَبوا

خَلَّيتَهُم وَالقاسِطونَ بِمَرصَدٍ

وَسِياطُهُم وَحِبالُهُم تَتَأَهَّبُ

جُلِدوا وَلَو مَنَّيتَهُم لَتَعَلَّقوا

بِحِبالِ مَن شُنِقوا وَلَم يَتَهَيَّبوا

شُنِقوا وَلَو مُنِحوا الخِيارَ لَأَهَّلوا

بِلَظى سِياطِ الجالِدينَ وَرَحَّبوا

يَتَحاسَدونَ على المَماتِ وَكَأسُهُ

بَينَ الشِفاهِ وَطَعمُهُ لا يَعذُبُ

مَوتانِ هَذا عاجِلٌ مُتَنَمِّرٌ

يَرنو وَهَذا آجِلٌ يَتَرَقَّبُ

وَالمُستَشارُ مُكاثِرٌ بِرِجالِهِ

وَمُعاجِزٌ وَمُناجِزٌ وَمُحَزِّبُ

يَختالُ في أَنحائِها مُتَبَسِّماً

وَالدَمعُ حَولَ رِكابِهِ يَتَصَبَّبُ

طاحوا بِأَربَعَةٍ فَأَردَوا خامِساً

هُوَ خَيرُ ما يَرجو العَميدُ وَيَطلُبُ

حُبٌّ يُحاوِلُ غَرسَهُ في أَنفُسٍ

يُجني بِمَغرِسِها الثَناءُ الطَيِّبُ

كُن كَيفَ شِئتَ وَلا تَكِل أَرواحَنا

لِلمُستَشارِ فَإِنَّ عَدلَكَ أَخصَبُ

وَأَفِض على بُندٍ إِذا وَلِي القَضا

رِفقاً يَهَشُّ لَهُ القَضاءُ وَيَطرَبُ

قَد كانَ حَولَكَ مِن رِجالِكَ نُخبَةٌ

ساسوا الأُمورَ فَدَرَّبوا وَتَدَرَّبوا

أَقصَيتَهُم عَنّا وَجِئتَ بِفِتيَةٍ

طاشَ الشَبابُ بِهِم وَطارَ المَنصِبُ

فَاِجعَل شِعارَكَ رَحمَةً وَمَوَدَّةً

إِنَّ القُلوبَ مَعَ المَوَدَّةِ تُكسَبُ

وَإِذا سُئِلتَ عَنِ الكِنانَةِ قُل لَهُم

هِي أُمَّةٌ تَلهو وَشَعبٌ يَلعَبُ

وَاِستَبقِ غَفلَتَها وَنَم عَنها تَنَم

فَالناسُ أَمثالُ الحَوادِثِ قُلَّبُ

في عام 1911 أصدر مدحت باشا ناظر المعارف قرارًا بتعيين حافظ إبراهيم رئيسًا للقسم الأدبي بدار الكتب، فأخذ يتدرج في المناصب حتى أصبح مديرًا لها إلى أن أحيل إلى المعاش عام 1932. وفي عام 1912 حصل على لقب «البكوية» ووسام من الخديوي عباس حلمي الثاني.

في يونيو 1914 نشرت مجلة رعمسيس قصيدتين ألقى إحداهما حافظ إبراهيم والثانية أحمد شوقي، في حفل تكريم واصف بك غالي في فندق شبرد، الذي تبارى فيه العلماء والشعراء بإلقاء الخطب والقصائد، وفي مطلع قصيدته يقول حافظ:

يا صاحِبَ الرَوضَةِ الغَنّاءِ هِجتَ بِنا

ذكرى الأَوائِلِ مِن أَهلٍ وَجيرانِ

نَشَرتَ فَضلَ كِرامٍ في مَضاجِعِهِم

جَرَّ الزَمانُ عَلَيهِم ذَيلَ نِسيانِ

إِنّي أُحَيِّيكَ عَنهُم في جَزيرَتِهِم

وَفي العِراقِ وَفي مِصرٍ وَلُبنانِ

ومن المناسبات التي أنشد حافظ بك فيها شعره بكفاءة؛ حفل تكريم أحمد شوقي ومبايعته أميرًا للشعر في دار الأوبرا عام 1927، وقال فيها: أمير القوافي قد أتيت مبايعًا.. وهذي وفود الشرق قد بايعت معي.

تفيد سيرته الذاتية في «ذاكرة مصر المعاصرة» أن حافظ إبراهيم أصابه في الفترة الممتدة من 1911 إلى 1932 داء اللامبالاة والكسل وعدم العناية بتنمية مخزونه الفكري. وفي مقاله المنشور بمجلة الهلال في أكتوبر 1982 تحت عنوان «حافظ أشهر وهؤلاء أشعر» يقول كمال النجمي: «عاش حافظ أكثر من خمسة وستين عامًا.. كان شعره في أول أمره، خليطًا من شكوى الزمان والقول في شئون الوطن ومحنته بالاحتلال، فضلا عن المدح وغيره من الأغراض. وبعد أن تعب حافظ من مجاهدة الزمان، وجاوز الأربعين من عمره، عينه الوزير أحمد حشمت باشا موظفًا كبيرًا في دار الكتب سنة 1911، فالتزم الابتعاد التام عن شعر الوطنيات إلا أبياتًا أو مقطعات لم ينشرها في حينها».

وبعد هذه المسيرة المليئة بالجدل والنجاحات والسقطات؛ توفى حافظ إبراهيم يوم 21 يونيو 1932 في بيته الصغير بضاحية الزيتون في القاهرة، وهو ذات العام الذي توفى فيه رفيق دربه وأمير الشعراء أحمد شوقي. وفي أكتوبر 1957 أصدر البريد المصري طابعًا بمناسبة ذكرى رحيلة الخامسة والعشرين، مكتوبًا عليه أحد أبياته القائل: «أيها الشرقي شمر لا تنم.. وانفض العجز فإن الجد قاما». بالإضافة إلى ظرف تذكاري يجمعه مع أحمد شوقي وعليه «الذكرى الخامسة والعشرون لوفاة الشاعرين حافظ وشوقي».

 

الفريق أول أركان حرب عبد المنعم رياض

الشهيد الذي عشق العِلم والوطن حتى انتهى أجله

جميع الوثائق الرسمية تحمل اسم «عبد المنعم» والسيرة الذاتية جعلته «محمد»

انتسب لكلية التجارة في سن السابعة الأربعين

8 عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري 1967- 1969

في يوم الأحد 9 مارس عام 1969، استشهد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب الجيش المصري، متأثرًا بجراحه أثناء تفقده لأحد المواقع بالجبهة، ومن حينها تم إعلان هذا التاريخ باعتباره «يوم الشهيد» تخليدًا لذكراه.

وُلِد الفريق - كما جاء في المستخرج الرسمي لشهادة ميلاده بتاريخ 8 أغسطس 1936 بناء على طلب عبد المنعم أفندي رياض (وهو على أعتاب عامه السابع عشر) - في قرية سبرباي بمدينة طنطا محافظة الغربية يوم 22 أكتوبر 1919، باسم «عبدالمنعم محمد رياض عبد الله»، وهو الاسم الموجود في جميع أوراقه الرسمية، بدءًا من شهادة الميلاد وشهاداته الدراسية وحتى براءة ترقيته لرتبة فريق أول عقب استشهاده، ورغم أن كل تلك الوثائق متوفرة على موقع «ذاكرة مصر المعاصرة» إلا أنهم وضعوا في سيرته الذاتية أن اسمه محمد عبد المنعم محمد رياض، ويبدو أنهم استعانوا في ذلك بموسوعة ويكيبيديا، دون وجود مصدر لذلك الاسم.

درس عبد المنعم رياض في كُتَّاب القرية وتدرج في التعليم، وفي 29 يناير 1931 استوفى استمارة دخول امتحان إتمام المرحلة الابتدائية، البالغة رسومه جنيهين مصريين، ومكتوب خلف الاستمارة أنه على الطالب أن يحررها بخط يده. وإذا كان تابعا لمدرسة أميرية فعلى ناظرها أن يشهد بأن البيانات الواردة فيها قد كتبها الطالب كلها بخط يده وأنها مطابقة للبيانات الواردة في دفاتر المدرسة. وإن كان ذلك صحيحًا؛ فهو شيء يدعو للدهشة، لأن الخط الموجود في الاستمارة خط نسخ منضبط ومشكَّل، يبدو أكثر نضجًا من عمره وقتها، وهو 11 عامًا و7 شهور، كما ورد في الاستمارة، حيث كُتِب اسمه باللغة العربية عَبْد اَلْمُنْعِمْ مُحَمَّدْ رِيَاضْ عَبْدُاللَّهِ، التابع لمدرسة الرمل الابتدائية الأميرية، وعنوانه الخاص الذي يمكن مكاتبته به بسهولة: الإسكندرية. سيدي بشر. حضرة المحترم محمد بك رياض قومندان الأورطة الثانية، واسم المدرسة التي سيلتحق بها عند نجاحه في الامتحان «العباسية الثانوية» بالإسكندرية.

وفي 22 مارس 1932 تسلَّم عبد المنعم شهادته من وزارة المعارف، والتي جاء فيها: تشهد وزارة المعارف العمومية أن عبد المنعم محمد رياض عبدالله بن محمد رياض بك عبدالله المولود في طنطا سبرباي سنة 1919 الميلادية نجح في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية في شهر يونيه سنة 1931 وكان ترتيبه في جدول الامتحان ستمائة واثنين وتسعين بالنسبة إلى مجموع الناجحين البالغ عددهم عشرة آلاف ومائتين وستة وتسعين طالبا. القاهرة في رجب سنة 1350 من الهجرة (ونوفمبر سنة 1931 من الميلاد).

لم يلتحق عبد المنعم رياض بمدرسة العباسية كما كتب في الاستمارة السابق الإشارة لها، وإنما بمدرسة الخديو إسماعيل الخاضعة للتفتيش بالسيدة زينب، وتأتي استمارة دخول امتحان القسم الأول فيها المؤرخة بأول يناير 1934 مختلفة بعض الشيء هذه المرة، فالخط «رِقعة» وليس نسخًا، واختار اللغة الفرنسية كلغة أوروبية ثانية إلى جانب الإنجليزية، وتظهر البيانات أن والده توفى، حيث كُتِب بجوار اسم والد الطالب «المرحوم القائمقام محمد بك رياض» وصناعته «كان ضابطًا».

في استمارة دخول امتحان القسم الثاني من الثانوية العامة، وتاريخها 26 يناير 1936، تتجلى بعض السمات المختلفة، فلم يعد يهتم بتشكيل الاسم، رغم أن ذلك مطلوب نصًا، وإنما جاء بخط الرِقعة وكأن الاستمارة كُتِبت على عجل، وصارت مدرسته التابع لها «الخديو إسماعيل الثانوية الأميرية»، قسم العلوم، ومقدار عمره في تاريخ الامتحان على حسب التقويم الأفرنجي 16 سنة و7 شهور و21 يوما، والمدرسة التي سيلتحق بها بعد تخرجه هي «المدرسة الحربية».

تذكر السيرة الذاتية – نقلًا عن ويكيبيديا أيضًا – أن عبد المنعم رياض التحق بكلية الطب بعد حصوله على الثانوية العامة (أي في النصف الثاني من عام 1936) بناءً على رغبة أسرته، لكنه (بعد عامين) من الدراسة فضَّل الالتحاق بالكلية الحربية وتخرج فيها برتبة ملازم ثان في عام 1938، فكيف التحق بها بعد عامين وتخرَّج في الوقت ذاته؟! خاصة أن شهادة ترقيته إلى رتبة الملازم الثاني جاء فيها منحه تلك الرتبة في سلاح المدفعية الملكية من فبراير 1938. وقد صرَّحت د.عزة الخولي، ابنة شقيقته، لإحدى الصحف منذ خمسة أعوام إنه دخل كلية الطب وقضى بها شهرين ثم تركها وانضم للكلية الحربية، وهذا الأقرب للمنطق.

بعد ذلك تدرج رياض في الرُتب بدءًا من ملازم أول عام 1940 ويوزباشي 1941، ثم صاغ 1948 وبكباشي 1950. ورغم أنه التحق بأعمال الدورة السابعة لنيل درجة الماجستير في العلوم العسكرية عام 1944، إلا أنه حصل على الشهادة في يناير 1953، كما جاء فيها «بعد الإطلاع على المرسوم بقانون رقم 15 لسنة 1953 بنظام كلية أركان الحرب، وعلى تقرير مجلس الكلية عن أعمال الضباط الذين حضروا الدورة السابعة لسنة ألف وتسعمائة وأربع وأربعين ميلادية، وبناء على توصية المجلس الأعلى للكلية، قررنا إعطاء حضرة اليوزباشي أركان الحرب عبد المنعم محمد رياض عبدالله، درجة ماجستير في العلوم العسكرية».

ومما جاء في سيرته كذلك، أنه تولى في عام 1951 قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات، وعُيِّن عام 1953 قائدًا للواء الأول المضاد للطائرات في الإسكندرية، في الفترة من يوليو 1954 إلى إبريل 1958، ثم سافر في بعثة تعليمية إلى الاتحاد السوفيتي، وأتمها عام 1959، وفي عام 1960 بعد عودته شغل منصب رئيس أركان سلاح المدفعية، ثم عُيِّن في عام 1961 نائبًا لرئيس شعبة العمليات برئاسة أركان حرب القوات المسلحة وأُسنِد إليه منصب مستشار قيادة القوات الجوية لشئون الدفاع الجوي، وفي عام 1964 عين رئيسًا لأركان القيادة العربية الموحدة، ثم ترقى إلى رتبة فريق في عام 1966، وأتم في السنة نفسها دراسته بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، وحصل على زمالة كلية الحرب العليا، ونال كذلك وسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى.

بمجرد إتمامه للدراسة بأكاديمية ناصر، التحق عبد المنعم رياض بكلية التجارة جامعة عين شمس، منتسبًا، وهو ما يتضح من تصريح حضور الامتحان للطالب عبد المنعم محمد رياض في السنة الدراسية الأولى، تحريرًا في 8 مايو 1967. ويبدو أنه عقب انتهاء امتحاناته طار إلى الأردن، حيث اندلعت حرب 1967 وتم تعيينه قائدًا عامًا للجبهة الأردنية، وبعث في 6 يونيو ببرقية من عمان إلى الرئيس جمال عبد الناصر حول الوضع العسكري في الضفة الغربية، كتب فيها: «الموقف في سبيله إلى التدهور السريع في الضفة الغربية. هجوم مركز على مختلف المحاور مع قصف جوي عنيف ليل نهار. القوات الجوية الأردنية والسورية والعراقية في (ه3) والقاذفات عمليا دمرت. بعد التشاور مع الملك حسين طلب مني إبلاغكم أن هناك حلا من ثلاثة: 1.قرار سياسي نافذ بإيقاف القتال اليوم يفرض من جهة خارجية (أميركا – روسيا – مجلس الأمن). 2.إخلاء الضفة الغربية الليلة. 3.البقاء ليوم واحد زيادة يؤدي إلى قطع الجيش الأردني بالكامل وتدمره. طلب مني الملك حسين عرض الموضوع عليكم للرد بما ترون وعاجلا».

بعد يومين بعث له المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة، ببرقية يخبره فيها: «عرض علينا الاتحاد السوفيتي مشروع إيقاف القتال على أساس رجوع الأطراف إلى خطوط الهدنة مع فتح خليج العقبة. قبلنا وقف القتال على هذا الأساس على أن يوقف القتال على الأكثر فجر اليوم بضمان الاتحاد السوفيتي. منتظرين الرد مع أطيب تحياتي وتمنياتي».

في 19 يونيو 1967 أرسل الفريق رياض برقية عرض ومناقشة وضعهما لسير العمليات في الجبهة الأردنية، عليها عبارة «سري للغاية»، جاء فيها: «سير العمليات في الجبهة الأردنية والاستنتاجات والدروس المستفادة منها؛ لم تكن هذه المعركة من وجهة نظر مسرح عمليات الجبهة الأردنية معركة متكافئة بأي حال من الأحوال، ولم يكن في الإمكان أن تنتهي إلا إلى النتيجة التي انتهينا إليها فعلا. فمن ناحية قد أدت المفاجأة التي منيت بها القوات الجوية في ج.ع.م إلى حصول العدو على السيطرة الجوية عمومًا منذ أولى ساعات العمليات، وبالتالي تكبدت القوات الجوية السورية خسائر كبيرة استبعدتها عمليًا من جو المعركة، مما أدى إلى خوض المعركة في الجبهة الأردنية بلا معاونة أو غطاء جوي يذكر، وأصبح العدو في موقف متميز إلى حد كبير، إذ كان يقوم بتدمير قواتنا جوًا ثم يتقدم بقواته البرية عندئذ بلا عناء. ولو أن القوات الجوية العراقية والأردنية قدمت كل ما في طاقاتها المحدودة عددًا، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا بأي حال لمعاونة القوات البرية أو لتغطية عملياتها جوًا، وذلك يرجع أساسًا إلى قلة عدد الطائرات وعدم وجود مطارات في الجبهة الأردنية تسمح للمقاتلات العراقية المحدودة المدى بالعمل منها لتغطية عمليات القوات البرية الأردنية».

وعن العامين الأخيرين في حياته، كتبت نشوى الحوفي في جزء من مقالها بجريدة المصري اليوم، تحت عنوان «الجنرال الذهبي» - الموضوع ضمن المواد الصحفية - أنه منذ تولى منصبه رئيس أركان حرب القوات المسلحة في 11 يونيو 1967، بدأ في إعادة بناء ذلك الصرح الذي انهار مع النكسة، وتستكمل: «حانت اللحظة الحاسمة في حياته، حينما أصر على الإشراف بذاته على تدمير جزء من مواقع خط بارليف. في الثامن من مارس عام 1969، تنطلق النيران على طول خط الجبهة، وتقع الخسائر على الجانب الإسرائيلي الذي لم يتوقع ذلك الهجوم. ينتهي اليوم الأول، ويجيء صباح يوم التاسع من مارس، فيبادر عبد المنعم رياض بالتوجه للجبهة لمتابعة المعركة عن قرب. ولا يكتفي بذلك فيذهب للموقع السادس بالإسماعيلية الذي كان لا يبعد سوى 250 مترًا فقط عن مرمى المدفعية الإسرائيلية، ويستثمر العدو وجود شخصية مهمة في الموقع فيكثف نيرانه، فيقع الفريق عبد المنعم رياض شهيدًا، تصعد روحه إلى بارئها، ويظل جسده في الأرض دافعًا لجنوده وزملائه الذين واصلوا المعركة التي أشرف عليها وبدأها».

عقب استشهاده منحه الرئيس جمال عبد الناصر ترقية استثنائية لرتبة فريق أول، بتاريخ يسبق ذلك بيوم، أي 8 مارس 1969، وصدرت براءتها يوم 13 مارس، بناء على قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 333 لسنة 1969. وفي الذكرى الثالثة لرحيله، أصدر البريد طابًعا عام 1972 كُتِب عليه «ذكرى الشهداء».

 

بين الفن والوظيفة

زكي طليمات أول عميد لمعهد فن التمثيل

الطلاق والنفقة لم يكونا نهاية طريقه مع روزاليوسف.. وبعد وفاتها كتب: انتقلت إلى الرفيق الأعلى وفي يدها قلم وعلى رأسها تاج

19 زكي طليمات

يمر في السابع والعشرين من شهر مارس كل عام، اليوم العالمي للمسرح، وتقام الأنشطة والاحتفاليات إحياءً لهذه المناسبة، وقد اخترنا أن نحتفي بأحد رواد المسرح المصري والعربي «زكي طليمات» المولود لأب من أصل عربي وأم شركسية، في حي عابدين بالسيدة زينب يوم 29 إبريل عام 1894، الساعة التاسعة صباحًا، كما جاء في محضر ولادته في دفتر عقود مواليد جهة المحروسة.

حصل عام 1916 على شهادة إتمام البكالوريا (الثانوية العامة) بالقسم الأدبي، وفي عام 1917 انضم إلى فرقة عبد الرحمن رشدي المحامي عندما كَّون فرقته المسرحية، وعقب حلَّها في يناير 1921، انضم إلى فرقة جورج أبيض، لكنه لم يستمر فيها طويلاً، إذ أنه فضَّل الوظيفة الحكومية، وتم تعيينه بمصلحة وقاية الحيوانات.

بالرجوع إلى وثائق هذه الفترة، نجد أن الوثيقة الأقدم في الذاكرة مؤرخة بيوم 7 نوفمبر 1911، أي وهو في السابعة عشر من عمره، وفي وصفها: «كشف بمدة خدمة زكي طليمات عن الأجازات التي تصرحت له وعن القرارات التي صدرت لنقله وعن المرتبات التي كان يتقاضاها وعن المصالح التي تبع لها وعن بعثته التي تصرحت له من وزارة المعارف العمومية». كل ذلك وهو في هذه السن الصغيرة؟! فمن الواضح أن مسئولي الموقع لم يتحروا الدقة في وضع التاريخ، خاصة وأن الوثيقة نفسها لا يظهر فيها أي تواريخ، وإنما فقط رقم المستند واسم زكي «تليمات» بالعربية والإنجليزية.

بدأت إجراءات تعيين طليمات عقب ثورة 1919 مباشرة، حيث أحضر في 17 مارس نتيجة الكشف الطبي التي أوضحت أنه لائق طبيًا، وشهادة حسن سير وسلوك بتاريخ 17 مايو موقَّعة باسم اثنين من موظفي الحكومة لا تقل ماهية كل منهما عن عشرة جنيهات شهريًا. وفي 26 يونيو صدر قرار وزاري بتعيينه لمدة عام تحت التجربة.

في 3 إبريل 1920 طلب أجازة مرضية لمدة 15 يوما، بخطاب مكتوب بالإنجليزية، كبقية خطابات المصلحة، وقبل انتهائها أرسل خطابًا آخر لمدها ثلاثة أيام أخرى. وفي يوليو 1920 أرسل المدير العام للمصلحة خطابًا رسميًا إلى السكرتير العام لوزارة الأشغال العمومية بشأن تثبيت زكي طليمات ككاتب بمصلحة الحيوان براتب 11 جنيهًا.

في نوفمبر 1925 أوفد طليمات في بعثة إلى فرنسا لتلقي فن التمثيل والإخراج، وعليه صدر قرار وزاري بشطبه من سجل مستخدمي وزارة الأشغال العمومية لنقله إلى وزارة المعارف العمومية. وفي أكتوبر 1928 عاد من بعثته وتم إسناد وظيفة جديدة له هي كاتب بإدارة الفنون الجميلة، وبعد عام نُقِل لوظيفة معاون بدار الأوبرا الملكية بدءًا من ديسمبر 1929.

في نوفمبر 1930 تم افتتاح معهد التمثيل وعُيِّن زكي طليمات مشرفًا إداريًا له ومدرِّسًا للإلقاء، ولكن المعهد أغلق في صيف 1931 بحجة مخالفته للتقاليد والآداب، وفي عام 1934 عُيِّن مديرًا لاتحاد الممثلين الذي ألف بدعم من الدولة لحل أزمة المسرح، ولكن الفرقة لم تستمر طويلًا.

أنشِئت الفرقة القومية المصرية عام 1935، كأول فرقة مسرحية تشرف عليها الدولة وتم تعيين زكي طليمات عضوًا للجنة الإشراف عليها ومخرِجًا لها. وفي عام 1937 أوفدته وزارة المعارف إلى أوروبا لتمثيل مصر في مؤتمر التعليم الثانوي ومؤتمر المسرح المدرسي ولدراسة المسرح الشعبي. وفي أغسطس 1942 تم تعيينه مديرًا فنيًا للفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى التي حلت محل الفرقة القومية، وفي نفس العام افتتح المعهد العالي لفن التمثيل العربي وعُيِّن زكي طليمات أول عميد له.

في عام 1954 سافر طليمات إلى تونس بدعوة من حكومتها لتأسيس الفرقة القومية والمشاركة في إنشاء معهد الفنون المسرحية هناك. كما عهدت إليه حكومة الكويت في عام 1961 بتأسيس مسرحها القومي وعُيِّن مشرفًا عامًا على مؤسسة المسح والفنون بها. وعقب عودته من الكويت عام 1971 أصبح مستشارًا فنيًا للهيئة العامة للمسرح والسينما والموسيقى.

حصل زكي طليمات على جائزة الدولة التشجيعية في الإخراج المسرحي عن مسرحيته «يا ليل يا عين». كما حصل على الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون 1975، وجائزة الدولة التقديرية عام 1976.

أخرج طليمات العديد من المسرحيات منها: «أهل الكهف»، «تاجر البندقية»، «نشيد الهوى»، «الفاكهة المحرمة»، «الناصر»، «حواء الخالدة» وغيرهم. كما شارك ممثلًا في عدة أفلام من بينها: «ابنتي»، «أرض النيل»، «مغامرات عنتر وعبلة»، «من أجل امرأة»، «يوم من عمري»، و«الناصر صلاح الدين». وتوفى في 22 ديسمبر 1982.

روزاليوسف.. ويبقى الودّ

في العشرينيات من عمره التقى زكي طليمات بروزاليوسف وتزوَّج منها، واستمرا معًا لمدة تزيد على العشرين عامًا، إلا أن الانفصال وقع بينهما في 6 إبريل 1939، وقبل هذا التاريخ بعام تقريبًا بدأت بينهما الخلافات التي ذهبت بهما إلى ساحات القضاء.

ففي عام 1938 حصلت روزاليوسف على حكم شرعي بطريق الحجز تحت يد وزارة المعارف على «ماهية» زكي طليمات مقداره خمسة جنيهات و530 مليمًا، وكذلك نفقة لها ولابنتها آمال طليمات. لكنها في سبيل الحصول على الطلاق تنازلت عن كليهما؛ الحجز والنفقة، حيث كتبت إقرارًا جاء فيه: «أقر أنا الموقعة على هذا فاطمة اليوسف الشهيرة بروزاليوسف بأنني تنازلت عن تنفيذ الحكم الشرعي الصادر من محكمة عابدين الشرعية في 21 فبراير سنة 1938 قضية رقم 91 فيما يختص بالنفقة الشرعية الواجبة لي شرعًا حتى انقضاء العدة شرعًا وعما تجمد من النفقة لي ولابنتي آمال طليمات بهذا الحكم لغاية شهر مارس 1939 وهذا إقرار مني بذلك». وقد وقَّعت باسمها الحقيقي واسم الشهرة، ووقَّع أيضًا وكيلها محمد عارف.

ورغم اختلافهما، إلا أن الاحترام والوِدّ يتجليان في علاقتهما، حيث تفاهما في النهاية. وبعد سبعة أعوام من وفاة روزاليوسف، كتب زكي طليمات في عدد أغسطس 1965 من مجلة الهلال، مقالًا عنها بعنوان «زوجتي روزاليوسف» يقول في مستهله: «ختمت الفنانة الممثلة روزاليوسف جهادها في المسرح المصري عام 1925 إذ تركته وانشأت مجلتها الأولى، ثم انتقلت إلى الرفيق الأعلى في 10 إبريل 1958 وفي يدها قلم، وعلى رأسها تاج». ويضيف في موضع آخر: «أذكر، ضمن ما أذكر، أنني كنت أحس قصوري عن أن أصل إلى مستواها في التعبير، وهي صامتة، هذا في حين أنني كنت أعبر بالصوت العالي وبالحركة الطليقة.. وأذكر أنها كانت إذا أطلقت جملها القصيرة، مهدت لها باختلاجات في الجسم وفي قسمات الوجه، وكأنها تحفر أعماقًا لما ستقوله، وتقيم خلفية له من التعبير الصامت تعمل على زيادة تجسيمه وإبرازه».

وبمناسبة مرور 15 عامًا على رحيله، أصدر البريد – أيضًا – طابعًا عام 1997 يحمل صورة واسم زكي طليمات.

Comments