وديع إدوارد سعيد: محفوظ حصل على جائزة نوبل بسبب نشاطات والدي عنه

فوتوغرافيا: منى عبد الكريم

  • هجمات 11 سبتمبر غيَّرت الصورة وأظهرت العنصرية الأمريكية بشكل واضح

  • القضية الفلسطينية لا تخضع للقانون منذ البداية وبالتالي حلّها لن يأتي من المحاكم والساحات الدولية

  • مُنعت من دخول فلسطين مرتين وأعادوني على نفس الطائرة بعد احتجازي عشرة ساعات في «زنزانة»

  • الدستور الأمريكي يكفل حق المقاطعة والولايات تصادره

  • تشويه صورة العربي والمسلم شيء مقصود ويُصنع عمدًا

  • عشتُ في مصر أربع سنوات وحصلتُ على دورة لمدة عام في اللهجة العامية

  • جزء كبير من تعليم اللغة العربية الفصحى هو قراءة الروايات

  • والدي فلسطيني مائة بالمائة ودفنه في لبنان كان قرارًا شخصيًا لا علاقة له بالانتماء

  • ترجمة جديدة من «الاستشراق» قريبًا عن دار الآداب

  • علمني أبي أن أكون نزيهًا وأسير ضد التيار

في طريقنا من البهو، حيث كنت أنتظره، متجهين إلى حديقة الفندق، فاجأني قائلًا: «أنتِ طبعًا فاكراني خواجة. لكن أنا مش كده خالص». ثم استطرد: «يمكن 30% بس» فسألته مشددِّة وأنا أضحك «30% ؟!». لم يفكر، ربما استغرق ثانيتين فقط لالتقاط أنفاسه، قبل أن يكمل: «في الحقيقة، ولا حتى 1%». ابتسمتُ وسِرت صامتة. ظننتُ أن تلك كلمات دبلوماسية يحاول أن يستخدمها لتظهره في صورة أفضل وأكثر حميمية. لكني سرعان ما تيقنت، خلال ساعتين، أنه بعيد تمامًا عن ذلك. بل على العكس؛ يتحدث بعفوية مذهلة ولا يحاول أن يقول شيئًا بخلاف الحقيقة وما يصدِّقه، ملتزمًا بما تعلمه من والده؛ المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد؛ بأن يكون «نزيهًا».

DSC_3791

جاء وديع إدوارد سعيد إلى القاهرة الأسبوع الماضي، في إطار زيارة نظمتها الجامعة الأمريكية لمدة ثلاثة أيام، لإلقاء محاضرتين؛ الأولى في مقرها بالتحرير عن والده بمناسبة ذكرى ميلاده، أدارتها الناقدة العراقية د.فريال غزول، والثانية بمقر التجمع الخامس حول المفهوم الأمريكي للإرهاب باعتباره متخصصًا في القانون، حيث يعمل أستاذًا في جامعة ساوث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية وله كتاب بعنوان «جرائم الإرهاب: القانون والسياسة في قضايا الإرهاب الفيدرالية».

أثناء ذلك تواصلنا معه، بمساعدة د.فريال، وطلب منه الكاتب الصحفي طارق الطاهر، رئيس التحرير، أن يكون ضيف أخبار الأدب في حوار هذا العدد، فرحَّب وديع سعيد، وفي الموعد المتفق عليه دار لقاؤنا، لنتنقل بين الولايات المتحدة وفلسطين ولبنان ومصر، خلال أزمنة مختلفة. تحدَّثنا عن الأب والأم والأخت، وعن الشعوب والأوطان وقضاياها، تذكرنا أم كلثوم وتحية كاريوكا، تطرقنا إلى سيرة بهاء طاهر وغسان كنفاني وجمال الغيطاني وغيرهم، وقبل أن نغادر المكان أفصح عن رأيه بأن مسلسل «الشهد والدموع» أفضل من «ليالي الحلمية».

DSC_3870

تحدَّث وديع (مواليد نوفمبر 1971) في المحاضرة عن مواقف والده الشخصية والسياسية، التي أثرت عليه لفترة طويلة وعلى زياراته لفلسطين، إذ كان ممنوعًا من دخولها بقرار من السلطات الإسرائيلية. وبناء عليه؛ مرَّ ما يزيد على أربعين عامًا منذ غادرها في 1947، ليتمكن من زيارتها مرة أخرى عام 1992، في رحلة تمت بصعوبة أيضًا واستغرقت إجراءاتها أكثر من عام.

خصصت نجلا إدوارد سعيد صفحات من كتابها «البحث عن فلسطين» الصادر عام 2013، للحديث عن تلك الرحلة، حينها كانت في الثامنة عشرة من عمرها، ويظهر في سردها مدى ما سببته لها هوياتها المتعددة من معاناة، زادت مع التجربة القاسية التي عاشتها في زيارتها خلال ذلك العام، حيث صُدمت بالأسلاك الشائكة واختبرت مشاعر متداخلة بين التوتر والرعب والغضب. وفي محاضرة عن مسرحيتها «فلسطين» ذكرت أن أخاها وديع كان يحزن عندما تدندن إحدى أغنيات «الكريسماس» التي تعلمتها في المدرسة عن الملك الذي وُلد في إسرائيل، فيقول لها ناهيًا: «قولي أن الملك وُلد في فلسطين المحتلة».


غلاف كتاب البحث عن فلسطين

هذا الاختلاف في الموقف بين نجلا وأخيها كان له أسباب بالتأكيد، حاول أن يوضِّحها وديع في إطار فهمه لها، قائلًا: أعتقد أن الاهتمام لديَّ كان مختلفًا عنها. هي ممثلة وميولها فنية بشكل أكبر، أما أنا فأسمع منذ طفولتي عن فلسطين وقضاياها، كما كان الوالد يأخذني لأتعرف على بعض رموز الثورة، في لبنان والولايات المتحدة، من الناشطين العرب الفلسطينيين الذين بادروا لتقديم صورة غير تلك النمطية التي كنا نعاني منها في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت صورة أسوأ ألف مرة من الآنية؛ السيئة بطبيعة الحال ومشوبة بقدر كبير من عدم الفهم.

ويستطرد شارحًا: حينها كانت الكراهية طاغية، وكلمة فلسطيني تعادل إرهابيًا، ولفظ «فلسطين» محظور استخدامه. مررنا بظروف قاسية جدًا، وكنت أتابع جهود والدي لمناهضة هذه الأفكار الخاطئة، لكن أختي بسبب صغر سنها لم تع هذا التوجه الموجود في الولايات المتحدة ونيويورك، كانت تعاني منه بطرق مغايرة. وقد يكون السبب هو النظام الأبوي الموجود في بلادنا ويجعل اهتمام الولد بهذه القضايا الجدية أكبر من البنت، فمتابعة التطورات والانضمام إلى دوائر الوالد كان أكثر سهولة بالنسبة لي عنها.

DSC_3838

لكن يبدو أن الأمر اختلف كثيرًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر، فقد قدَّمت نجلا عام 2010 مسرحية بعنوان «فلسطين»، لاحظتُ في الأجزاء التي شاهدتها منها على الإنترنت أنها تغلبت على أزمتها السابقة بشأن الهوية. أليس كذلك؟

نعم. كل ما سبق كان في الماضي ونحن صغار. هجمات 11 سبتمبر – للأسف – غيَّرت الصورة، وأظهرت العنصرية بشكل واضح. أي شخص له اسم عربي أو خلفية إسلامية شعر بهذه النزعة التي برزت بعد الحادث مباشرة، خاصة سكان نيويورك، ونحن منهم. هذا الحدث التاريخي ساهم بشكل كبير في تطوير أفكارها، وأصبحت أعمالها تحمل بُعدًا سياسيًا وتعبِّر عن انتماءاتها بشكل أكثر وضوحًا.

لماذا لم تحضر معكم في هذه الزيارة؟

علمتُ أن هناك اقتراحًا بتوجيه دعوة لها للمجيء في العام القادم أو ما بعده لإلقاء محاضرة عن إدوارد سعيد. ربما تأتي.

***

ينتمي وديع لأسرة أدبية فنية عريقة، فوالده مفكر كبير، وجدَّته وداد مقدسي كاتبة لبنانية معروفة، أورثت حب الفنون لابنتها مريم قرطاس سعيد، والدته، والتي تدير حاليًا أكاديمية بارنبويم سعيد التي أسسها زوجها الراحل مع صديقه عازف البيانو «دانييل بارنبويم»، وأخته كما أوضحنا قبل قليل، ممثلة وكاتبة مسرحية، لكنه اختار الالتحاق بكلية الحقوق لدراسة القانون.

DSC_3887

لماذا القانون؟

شعرتُ أنه قد يسهم في إحداث تغيير إيجابي للشعوب المضطهدة والمحرومة، وهدفي الأساسي بالطبع كان فلسطين، لكني عندما التحقت بالجامعة اكتشفتُ أن مجال حقوق الإنسان محدود نوعًا ما، ولن يتيح لي فرصًا كبيرة لتطوير إمكانياتي العملية كما ستفعل المرافعات في المحاكم. إلا أنني عندما عملتُ في أحد المكاتب الكبرى بنيويورك؛ لم أسعد تمامًا. كانت أكثر القضايا تخص الدفاع عن شركات كبرى وأغنياء، لا عن الفقراء والمحتاجين، فتركته وانضممت لمكتب الدفاع العام، المسئول عن توفير محامي في القضايا الجنائية الفيدرالية لمن لا يمكنه ذلك.

لكنك حسب المعلومات الواردة في سيرتك الذاتية، تركت هذا العمل منذ فترة طويلة واكتفيت بالحقل الأكاديمي. لماذا؟

لأن المبادئ القانونية ليست فاعلة عمليًا في كثير من الأحيان، خاصة عندما نتحدث عن مفهوم الإرهاب ومحاكمة الإرهابيين جنائيًا. الدستور الأمريكي يقول الكثير ويتضمن بنود عدة تكفل المحاكمات العادلة، وعند الكتابة والبحث يمكنني أن أشرح القانون العادل في نظري، لكن في المرافعات مستحيل، الأمر مختلف.

يمكن القول إنك وجدت إمكانية تحقيق العدل في الكتب الأكاديمية لا المرافعات العملية.

(بنبرة محبَطة) يا ليت العدل يتحقق في أي شيء بالعالم. على الأقل الآن يمكنني تسجيل رأيي بشكل أوضح وأكثر تفصيلًا عند الكتابة والبحث، لأن المرافعة تتدخل فيها اعتبارات أخرى.

والقضية الفلسطينية.

(قبل أن أكمل سؤالي قاطعني مشددًا) مازالت موجودة.

DSC_3822

هل يمكن أن يكون لها حل قانوني يومًا ما؟

لا. الأمر لم يكن قانونيًا منذ البداية. إذا راجعنا نصوص القانون الدولي والمواثيق الدولية، سنجد الكثير من البنود والمبادئ التي تقول إن الشعب الفلسطيني له حق تقرير المصير وحق العودة وهكذا، لكننا لا يمكن أن نتوقع تقديم حل للقضية من المحاكم والساحات الدولية، لأنها قضية سياسية. إذا كان الفيصل هو البُعد القانوني كنا أنهينا هذا النقاش منذ زمن، فالاحتلال العسكري لهذه الفترة الطويلة غير مجاز في القانون الدولي.

هذا حال المنطقة العربية كلها للأسف الشديد، وليس فلسطين فقط. من الصعب أن تُسمَع إرادة الشعب أو تتمثل عند السلطة، وفلسطين ليست استثناء، بل إنها تعاني من الاحتلال والسُلطة في آن واحد.

هل ترى أن المقاومة الداخلية في فلسطين قد تساهم في التخلص من الاحتلال ذات يوم؟

هذا مأزق. هناك عدة اعتبارات، لكن أعتقد ان أي شعب يعاني ويقع تحت الاحتلال الذي يحرمه من ممارسة حقوقه سيختار المقاومة، نسميها في فلسطين الصمود، وهناك سجل حافل بالإعلاميين الغربيين الذين ينصحون الشعب الفلسطيني بممارسة المقاومة السلمية. لكن للأسف القانون أحيانًا يتم التحايل عليه.

DSC_3875

كيف؟

يوجد في أمريكا وأوروبا حاليًا تحرك شعبي، لكنه يواجه صعوبات، مثل حركة المقاطعة «BDS» السلمية التي تطالب بمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية وخاصة في المجال الأكاديمي والجامعات، والتي جاء الرد عليها من قبل الكثير من الجهات الأمريكية معاديًا، خاصة على المستوى الرسمي. فمثلا؛ ساوث كارولينا التي أعيش بها، كانت ثاني ولاية تقريبًا تصدر قانونا يمنع مقاطعة إسرائيل، والآن وصل العدد إلى 29 ولاية صدقت على قوانين مماثلة، رغم أن هذا يتناقض كليًا مع دستورية حق المقاطعة. والأكثر غرابة أن من كانوا يطالبون بممارسة مثل هذه الأساليب السلمية، لم يدعموا هذه الحركة التي تحاول النهوض والاستمرار.

حسب التعديل الأول للدستور الأمريكي، وأنا أتحدث هنا عن حرية الرأي والتعبير والانتماء، حق المقاطعة مكفول، والقانون يمنع الحكومة من معاقبة أي شخص بسبب ممارسته لأي حق مشروع، وبالتالي هذا القانون بمنع المقاطعة غير دستوري على الإطلاق.

هل يعني ذلك أن الأمل في حل الأزمة بعيد جدًا؟

مع مرور الوقت نرى أن هناك تقبلا أكثر لاستيعاب ما يحدث في فلسطين، وبالتالي هناك أمل أن تُسمَع وجهة النظر الفلسطينية بشكل أكبر في هذه الفترة. لكن نظام الحكومة الأمريكية معقد جدًا، والمشكة أن الأمر ليس متوقفًا فقط على الرئيس، فالبلدة بها 330 مليون شخص ونظام حكومة موزع على ثلاث جهات، اثنتان منها تنتخبان من الشعب والسُلطة الثالثة قضائية يتم تعيينها، وكل منطقة لها ممثلوها. تغيير موقف هذه الجهات يتطلب أن يغيِّر الشعب فكره وأن يقتنع كذلك بأن القضية الفلسطينية مهمة، لأن الأفراد عادة يهتمون بتوفير التأمين الصحي والتضامن الاجتماعي والقضايا الاقتصادية والمصيرية لهم، فأين تأتي فلسطين وسط كل ذلك؟ الأمر معقد نوعًا ما.

***

عائلة إدوارد سعيد

تظهر في إجابات وديع سعيد ونبرته الحماسية عند الحديث عن فلسطين مدى تأصل الجذور داخله، ورغم أنه مواطن أمريكي، إلا أن هويته العربية واضحة بدون أي التباس، لا تحتاج إلى جنسية أو جواز سفر لتثبتها، ولم يؤثر عليها رفض السلطات اللبنانية منحه وأخته جنسية موطن والدته. ومثله؛ لم يكن والده في حاجة لزيارة فلسطين كثيرًا لتظل باقية في قلبه. لكن:

كانت لإدوارد سعيد أكثر من هوية أيضًا. لأيها كان انتماؤه الأكبر في رأيك؟

فلسطين، ألف بالمائة.

ولماذا اختار أن يُدفن في بيروت؟

كان قرارًا شخصيًا لا علاقة له بالوطنية أو الانتماء. ربما لأن فلسطين دخولها ليس سهلًا، والأمر لا يتوقف على قرار أي طرف فلسطيني. كنا بالتأكيد سنواجه مضايقات وتعقيدات. إلى جانب أننا، من الناحية الشخصية والعائلية، لدينا مدفن لعائلة الوالدة وقد أعجبته فكرة أن يُدفن فيه، فهو مكان معلوم ومريح، في الجبال ويطل على البحر وحوله أشجار.

بعد وفاته أقيمت في لبنان أمسية مفتوحة لذكراه، وتفضل وزير لبناني بإلقاء كلمة، فقال جملة لا يمكن أنساها وهي إنه «كان فلسطينيًا بقدر ما هو لبناني، وكان لبنانيًا بقدر ما هو فلسطيني». أنا أختلف مع ذلك مائة بالمائة. بالطبع كانت له تجاربه في لبنان، وأقارب لبنانيون. كما أقام في مصر فترة طويلة وبالتالي لديه بُعد مصري. لكن هويته الأساسية فلسطينية بلا شك. هذا شيء قد يختلف معي عليه آخرون في العائلة لكني أعتقد أنهم مخطئون. هذه قناعتي الثابتة.

DSC_3782

وبالنسبة لك. هويتك فلسطينية أم أمريكية أم لبنانية؟    

أعتقد أن الشخص الفلسطيني لا يمكنه الهروب من هويته الأساسية. السؤال يبدو صعبًا لأني مواطن أمريكي ومقيم في الولايات المتحدة. لكن هذا شيء معروف عني، أنني ابن المفكر الراحل إدوارد سعيد.

تحمل اسم جدك وديع، وتحمل نجلا اسم عمة والدتك، والاسمان عربيان. ألم تسأله يومًا عن سبب اختيار أسماء عربية لكما وأنتما تعيشان في مجتمع غربي، رغم أنه لطالما ذكر معاناته بسبب اسمه الأجنبي وهو يعيش في بلاد عربية. أليس الأمر سيان؟

أظن أن اختيار اسمي كان نوعًا من التكريم لجدي، الذي توفى في عام ميلادي 1971، رحل في شهر يناير وأنا وُلدت في نوفمبر. قابلنا معاناة بالطبع، لكن في أمريكا الأمر مضحك إلى حد ما، عندما يكون الشخص صغيرًا في العمر يتعرض للسخرية و«التريقة»، بسبب «العقلية التعبانة»، لكنه عندما يكبر يبحث عن الشيء المميز، وإن كان له اسم فريد يصير مصدر فخر وامتياز، أن يملك هذا الاسم الذي لا يملكه غيره. وقد فوجئت عند دخولي للجامعة أن بعض الشباب الذين كانوا معي في المدرسة ولهم أسماء أمريكية معتادة، قرروا فيما بعد استخدام اسمهم الأول الحقيقي الذي يعود لأصول أخرى، ليصبح متميزًا.

DSC_3804

تعرضت لبعض المضايقات بسبب الاسم في صغرك، هل سببت لك مواقف والدك مصاعب عندما كبرت، خاصة أنك تعمل في المجال الأكاديمي؟

بشكل مباشر لا. لكن هو كان يعاني من بعض الأعداء في المجال الأكاديمي، أشخاص لم يجرأوا على مواجهته فكانوا يلجأون إلى بعض الأساليب الملتوية. فى مجال القانون آراؤه غير مرحَّب بها بالطبع، ليس فقط آراؤه عن فلسطين ولكن أيضًا عن موضوع القانون الجنائي وإلى آخره. لا شك أنني أشعر بمواقف سلبية ضدي بسبب هويتي واحتسابي على والدي، وكل هذه الاعتبارات تلعب دورًا في عدم تقبلي لدى الآخر، لكن الأمر ليس ملموسًا مائة في المائة.

من أهم كتب إدوارد سعيد، والتي تسببت في الموقف المهاجم له غربيًا كان «الاستشراق». ما موقفك من الكتاب؟ هل تتفق معه كليًا أم لك ملاحظات عليه؟

بالتأكيد أنا معه إلى حد كبير، وقد حاول هو على مدار سنوات بعد إصدار الكتاب أن يرد على النقد الموجه له بخصوصه. أنا لا يمكن أن أتحدث بصوته أو أوضح ما كتبه، لكن من نظرة خارجية أقول إن هذه ظاهرة لا نزال نعاني منها. فمثلًا؛ الأفلام التي لا تزال تنتجها هوليود تعاني من كل هذه الصفات السلبية التي لخصّها الوالد في كتاب الاستشراق. وفيما بعد أصدر كتابًا آخر عن تغطية الإسلام، وصف فيه الظاهرة إعلاميًا، بعدما وصفها أكاديميًا في الاستشراق، وعند جمعهما معًا تكون النتيجة أن صورة العربي والمسلم وصورة الآخر مشوَّهة وهذا شيء مقصود، يُصنَع عمدًا.

هل ستصدر طبعة جديدة من كتاب «الاستشراق» قريبًا؟

نعم. هناك ترجمة جديدة ستصدر قريبًا جدًا عن دار الآداب البيروتية، ترجمة د.محمد عصفور ومراجعة د.محمد شاهين.

***

DSC_3837

منذ بدء الحوار، لا يكتفي وديع سعيد بالإجابة على أسئلتي باللغة العربية، وإنما يستمر في المزاح وإلقاء بعض الكلمات المصرية مثل «جايز»، «زي الفل»، «مش وِحش»، فضلًا عن ضرب الأمثال والاستشهاد بشخصيات درامية مثل «أبو العلا البشري». كل ذلك جعلني أسأله:

أين تعلمت العربية؟

(مازحًا) أنا تعلمت العربية! كويس. مبسوط.

ثم استطرد: كان الحديث بين والديَّ في البيت أكثر الأحيان بالعربية، ثم حصلت على دروس خاصة في اللغة العربية بالمنزل وأنا في عمر 14 عاما، وحينما عملتُ في التدريس هنا بمصر لمدة 4 سنوات في الجامعة الأمريكية، قبل ربع قرن، حصلتُ على دورة لمدة عام في اللهجة العامية المصرية.

ومتى كانت آخر زيارة لك إلى مصر؟

منذ 15 سنة. ولم أزر البلاد العربية بشكل عام منذ 14 سنة.

وماذا عن فلسطين؟

آخر زيارة لفلسطين كانت 1999. حاولتُ دخولها مرتين فيما بعد لكني مُنعت. المرة الأولى كانت على حدود الضفة الغربية والأردن، تم رفضي بعد احتجاز طال لست ساعات وتحقيق كامل من قبل الأمن الداخلي الإسرائيلي.

أما الثانية فكانت وأنا موظف حكومي أمريكي في مكتب الدفاع العام عام 2004، قدمتُ طلبًا كاملًا يتضمن كل تفاصيل الزيارة للقنصلية الإسرائيلية، وحصلت على التأشيرة، لكنهم أعادوني من مطار «اللد». بعد وصولي تم حجزي على الفور وتفتيش الحقائب واتهامي بالمجيء بسبب أعمال دعائية للقضية الفلسطينية، حاولتُ أن أكشف تفاصيل الزيارة والشهود الذين نريد الجلوس معهم كفريق دفاع أمريكي، وكنت حينها أحمل جواز سفر أمريكيا رسميا لموظفين حكوميين وفي أسفله مكتوب أن حامل هذا الجواز يقوم بمهمة رسمية من قبل الولايات المتحدة. رغم كل هذا تم منعي وتوجيه التُهم لي. وبعد التفتيش وإبلاغي بالرفض احتجزوني في «زنزانة» لمدة عشر ساعات، وبعد ذلك أعادوني إلى الولايات المتحدة على نفس الطائرة.

ألم يروا أن معك تأشيرة؟

قالوا إن التأشيرة مجرد اقتراح من قبل الخارجية بالسماح لدخول هذا الزائر، لكن القرار النهائي والحاسم في يد وزارة الداخلية.

DSC_3931

عودة إلى حديثنا عن اللغة العربية؛ هل تقرأ كتبًا بها؟

بالطبع. قرأتُ لبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، وغسان كنفاني، وسلوى بكر، ورضوى عاشور، وإلياس خوري، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ومريد البرغوثي، وجمال الغيطاني، ولكثيرين غيرهم. عندما كنت أدرس هنا كان جزء كبير من تعليم اللغة العربية الفصحى هو قراءة الروايات أكثر من أي شيء.

كيف تحصل عليها؟  

أشتري أغلب الكتب من لبنان، وأحيانًا من مصر. ولأنني لم أسافر منذ فترة طويلة، أطلب من والدتي الكتب التي أريدها لتجلبها لي معها، فهي تذهب إلى لبنان كل عام وتقضي ربع السنة تقريبًا.

ألا تفكر الأسرة في إنشاء مؤسسة ثقافية تحمل اسم إدوارد سعيد؟

تداولنا الفكرة من قبل، لكن أمي تهتم بالمشروع الموسيقي. الفكرة تستحق التنفيذ، ولابد أن ذلك سيحدث يومًا ما، لكني للأسف لست قادرًا عليها في الوقت الحالي بسبب ظروفي العائلية، فأنا لديَّ ولدين، ونعيش في منطقة معزولة. هنا في المجتمعات العربية يوجد أُسر وأقارب لهم دور في الحياة، بينما نحن نعيش بنفس المبدأ لأننا عرب، لكن بمفردنا. ساوث كارولينا بعيدة، وأهلي في نيويورك وأهل زوجتي في كاليفورنيا. تربية الأبناء والاهتمام بهم علينا بشكل كامل. لا أملك – للأسف – المزيد من الوقت للاهتمام بمشاريع ليست أساسية لحياتنا حاليًا.

DSC_3928

هل تتذكر مكتبة والدك وأهم الكتب فيها؟

نعم. كانت تضم الكثير من الأسماء المهمة التي اهتم والدي بالكتابة عنها ودعمها، مثل الكاتب البولندي الإنجليزي جوزيف كونراد، كما كان أول من يروج لنجيب محفوظ عند القارئ الإنجليزي ويشجع على ترجمته، وأعتقد أن نشاطاته ساهمت بشكل كبير في منح نجيب محفوظ جائزة نوبل في الآداب. وكتب كذلك عن الطيب صالح، وعبد الرحمن منيف، وليانا بدر، وأسماء كثيرة. كل ذلك موجود حاليًا بجامعة كولومبيا في نيويورك، حيث اشتروا مكتبته ورسائله، وأي زائر للمكتبة العامة هناك يستطيع تصفحها في الغرفة رقم 616.

أعلم أن البعض سيتساءل: لماذا لم توضع كتبه في جامعة مثل بيرزيت بفلسطين؟ أعتقد أن الأمر كان متقبلًا ومطروحًا من حيث المبدأ، لكن عمليًا كان تنفيذه شبه مستحيل. كما أن كولومبيا جامعته التي قضى فيها 40 عامًا.

أخيرًا؛ ما الذي ترى أنه تبقي فيك من إدوارد سعيد، وفيما تختلف عنه؟

شكلا؛ أشبهه وأملك صوته. إلى جانب ذلك؛ أعتقد أنني أحاول الحفاظ على المبادئ، ونزاهة وصدق كلامي، فقد علمني أن نزاهة الشخص شيء مهم جًدا، وألا أتنازل عن أفكاري حتى وإن كانت لا تسير مع التيار السائد.

أما الاختلاف فهو أنني أتابع الثقافة والموسيقى العربية أكثر منه. أبي كان خبيرًا في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. أتذكر أننا في إحدى المرات كنا نتناقش، وفجأة تطرق للحديث عن أم كلثوم فقلت له إن معي حفلتها التي تغني فيها «الحب كله» فقال لي: «تعرف إني حضرت لأم كلثوم حفلة في أوائل الخمسينيات». سألته: «لماذا لم تخبرني؟» أجابني: «مش مهم. ما عملته أني بقيت أقف وأصفق وأجلس، وهكذا، وظلت هي تغني نفس الكلمات، شيء بيزهق». فتعجبت قائلًا: «ما بيصير تحكي هيك عن أم كلثوم». لا أتصور شعور الشخص حقًا عندما يحضر حفلًا لأم كلثوم.

لكنه كان مهتمًا بالفن بشكل عام. أتذكر أنه ذهب لزيارة تحية كاريوكا في أول رحلة لنا إلى مصر عام 1989، وبعد ذلك صِرت أتابع أفلامها، وشاهدتُ «شباب امرأة». أما هو فكتب عنها مقالًا.

DSC_3763

Comments