بومدين بلكبير: أغلب الأوطان العربية طاردة لأبنائها


  • يجب تسجيل المواقف في أوقاتها لا بعد ذبح الثور وتساقط الأصنام

  • المغرب والجزائر «شعب واحد» لن تفرقهما السياسة

  • هناك حنين إلى الماضي الجميل رغم قبحه

  • أتجرد من ذاتي أثناء الكتابة.. وسرد الأحداث اليومية لأنصاف المبدعين يضيّع وقت القارئ

  • ردود الأفعال على الرواية تراوحت بين الإشادة بالجرأة والشجاعة من ناحية والسب والقذف والتخوين من ناحية أخرى

  • الكتابة هي التخفف من ثقل هذا العالم الجاثم على إنسانيتنا

  • الرواية عندي ليست ترفًا أو أداة لتمضية الوقت بقدر ما هي حفر في عمق الموضوعات الإنسانية الحساسة التي تقض مضاجعنا

أشارت له والدته بالنهوض ليغادرا بيت أخيها، وعند الباب لاحظت أن حقيبة ابنها منتفخة ولا تبدو على طبيعتها. انتشلتها منه لتكتشف ما بها، ففوجئت بالكتب وهي تتهاوى من داخلها في تتابع. نال الابن ما يستحق من التوبيخ حينها، لكن خاله، مدير المدرسة المثقف والمحب للكتب، انتبه لاهتمام ابن أخته المبكر بالقراءة، فأخذ يغذي ذلك فيه وصارت علاقتهما أقوى، لدرجة شعوره في بعض الأحيان بأن خاله يفضِّله على أبنائه.

طفلا (2).jpg

من مكتبة هذا البيت، اكتشف بومدين بلكبير عشرات المجلات والدوريات، قبل أن يبدأ في اقتناء القصص من «العيدية» التي يحصل عليها مرتين في العام. ثم اقتنى دفترًا صغيرًا، مازال يحتفظ به، وصار يرسم «بورتريهات» للكتَّاب ويضع إلى جانبها ترجمة بسيطة لسيرة الكاتب. وفي المرحلة الثانوية كانت البداية الحقيقية، مع تكوين مكتبته الشخصية من ناحية، وكتابة النصوص الشعرية والمقالات من ناحية أخرى.

اعتاد بلكبير أن يقرأ الكتب من الغلاف إلى الغلاف، حتى وإن لم يجد في بعضها ما يحفزه على الاستمرار، كي يعطيها فرصة كاملة ويكون حكمه النهائي عليها موضوعيًا. يقرأ كثيرًا وفي أي مكان، لكنه يفضِّل القراءة أثناء السفر، بل والكتابة أيضًا، فروايته الأولى «خرافة الرجل القوي» كتبها خلال أسفاره.

تخصص بومدين في الاقتصاد وصار أستاذًا جامعيًا يمتلك عددًا من المؤلفات في مجاله، منها «إدارة التغيير والأداء المتميز في المنظمات العربية» 2009، «عصر اقتصاد المعرفة» 2012، «دراسات ميدانية في إدارة الأعمال» 2013، «قضايا معاصرة في إشكالية تقدم المجتمع العربي» 2014، «الربيع العربي المؤجل» 2015، «الثقافة التنظيمية في منظمات الأعمال» 2016.

لكنه اختار مؤخرًا أن يضع أفكاره في قالب روائي، لما للرواية – حسب رؤيته – من حساسية وقدرة على تناول مواضيع شتى، وما تتمتع به من قبول وانتشار واسع بين مختلف فئات المجتمع دون استثناء، وبالتالي قدرتها على المساهمة في رفع مستوى الوعي وتنمية الإدراك بالقضايا الجوهرية للأمة. ومن هذا المنطلق استكمل المسيرة وأصدر روايته الثانية «زوج بغال»، التي تتناول أزمة إغلاق معبر حدودي بنفس اسم الرواية، بين الجزائر والمغرب، وما ترتب على ذلك من مآسٍ، إذ مُزّقت عائلات على ضفتي البلدين، لا تفصل بينها سوى دقائق لتتزاور وتطمئن على بعضها، لكن الحدود المغلقة حالت دون ذلك، بل إن بعضها لم ير البعض الآخر منذ إغلاق الحدود، فيما يضطر آخرون إلى السفر مئات الكيلومترات بالطائرة لصلة أرحامهم. حول الرواية وما سبقها ويليها من خطوات يدور حوارنا التالي:

بومدين بلكبير (6)

ألم تخش التطرق إلى الأزمة الحدودية بين المغرب والجزائر؟ فهو أمر شائك ويتطلب قدرًا كبيرًا من الموضوعية وجنسيتك الجزائرية قد تضعك في حرج وتحمِّل الرواية مقاصد أخرى.

إطلاقًا، تطرقتُ للأزمة بين الجزائر والمغرب من باب أدوار ومسئوليات المثقف في بناء الجسور وتهديم الأسوار والجدران الوهمية بين شعبين جارين، تجمعهما ثقافة واحدة، وتاريخ مشترك، ودين واحد، ولغة واحدة، فالأشياء التي تجمع بين البلدين أكثر من تلك التي تفرقهما. أعرف أن الكتابة في هكذا مواضيع بمثابة المشي في حقل مليء بالألغام، لكن يجب المغامرة وخصوصًا أن السرد الروائي الجزائري لم يتطرق لهذا الموضوع من قبل، لأنه يعتبر من التابوهات السياسية التي يخشاها الجميع، كما أنني أعتقد أن الموقف يجب أن يسجل في وقته، أي في اللحظة التاريخية المناسبة، لا بأثر رجعي بعد تساقط الأصنام السياسية، فالجميع يصبحون أصحاب مواقف بعد ذبح الثور. بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب وخلفيات من وراء كتابة رواية «زوج بغال»، والتطرق لهذا الموضوع الشائك سرديًا وسياسيًا، موضوع العلاقة المغربية الجزائرية المتوترة، فهذا يدخل ضمن مشروعي الروائي الذي أشتغل عليه، وقد ابتدأته برواية «خرافة الرجل القوي»، فالرواية عندي ليست ترفًا أو أداة لتمضية الوقت، بقدر ما هي حفر في عمق الموضوعات الإنسانية الحساسة التي تقض مضاجعنا، كما أن الكتابة بالنسبة لي ليست تمظهرات تقنية تبقى أسيرة الشكل بقدر ما هي تمثلات تصبو نحو المعنى والجوهر.

كيف كانت ردود الأفعال التي لمستها تجاه الرواية؟

كانت متباينة، إذ لمستُ من خلال تواصلي المباشر مع القراء في صالون الجزائر الدولي للكتاب في نوفمبر 2018، وكذلك صالون 2019، وأيضًا في معرض الدار البيضاء للكتاب 2019؛ اهتمامًا كبيرًا بالموضوع الذي تناولته، كما لاحظتُ أن تيمة الرواسة حفّزت في داخلهم طرح الكثير من الأسئلة حول مضامينها وتفاصيلها، وبالأساس حول موضوع العلاقات الجزائرية المغربية. ومن جهة أخرى هناك اهتمام واسع بالرواية خصوصًا من  قبل القراء الذين يقيمون بالمدن المغربية الجزائرية، كوهران وسيدي بلعباس وتلمسان ومستغانم وتيارت. هذا بالإضافة إلى الرسائل التي تصلني باستمرار من قبل القراء بالمغرب يسألون فيها عن كيفية الحصول على الرواية والأماكن المتوافرة بها، وهل الرواية متوفرة بالمغرب أم لا، وقد التقيتُ بناشرين من المغرب أبدوا استعدادًا لطبع الرواية كدار الأمان ودار أفق.  أما في مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، فتراوحت الاستجابة بين التنويه بأهمية العمل والتحمس لقراءته، والإشادة على جرأة الطرح وشجاعة الكاتب، وبين السب والشتم والقذف والتخوين.

تناولت مفهوم الغربة في روايتيك بشكل ما. في الأولى كانت الغربة عن الوطن حيث يقيم البطل في فرنسا، وفي الثانية جاءت الغربة داخل الوطن، في المغرب؛ الاغتراب وسط الأهل والأصدقاء، ويبدو أحيانًا أنك تحمِّل جزءًا من ذلك للسياسات. ألا ترى أن السبب الرئيسي هم البشر أنفسهم؟ فلو أن محمد المريبط وصديق عبد القادر في «زوج بغال» ما تزوج حبيبته أو سطا عمه على ميراث أبيه، ربما لم يكن ليصبح ناقمًا على تطوان بأكملها، ويشعر بهذا الاغتراب الكبير

أغلب الأوطان العربية طاردة لأبنائها، وسبق وتعرضت لذات الموضوع بكل أبعاده ومتغيراته في كتابي «العرب وأسئلة النهوض.. البحث في إشكالية رأس المال البشري»، فالأمر ليس وليد اللحظة، هناك تدفقات بشرية تقدر بالملايين هجرت أوطانها قبل موجات الحروب والنزاعات، فالكويت على سبيل المثال على الرغم من صغر حجمها وأنها تحوز على أكبر دخل فردي بالمنطقة، بالإضافة إلى أنها من أكثر المناطق الجاذبة للمهاجرين في منطقة الخليج، إلا أنها تفوقت على كامل دول المنطقة في عدد هجرة الكفاءات إلى الخارج، إذ بلغ نصيبها 16 ألفًا من الكفاءات.

أعتقد أن الغربة التي يعيشها الإنسان العربي في بلده هي الدافع للمنفى، وليست فقط الحروب والنزاعات. يهرب الناس من الاستبداد السياسي، وانعدام العدالة، أو نتيجة لانتشار البطالة والفقر واستشراء البيروقراطية والفساد الاقتصادي، أو لعدم توفر الحد الأدنى من شروط الحياة، كما يأتي الاغتراب الاجتماعي في مرتبة تالية. ففي رواية «زوج بغال«، غادر عبد القادر الركراكي تطوان المغربية إلى الجزائر، لاجتماع كل تلك الأسباب الآنفة الذكر. أما في رواية «خرافة الرجل القوي» فالبطل يقوم بهجرة عكسية إلى وطنه الأم، ليكتشف أن البقاء في بلده يقود إلى الانتحار المادي كما انتحر عمه وفاروق أسميرة ولمين مرير وعبد الله بوخالفة وصالح زايد، أو الانتحار المعنوي (الهجرة على قوارب الموت) كما فعل سليم زهري وغيره.

لماذا وأنت جزائري اخترت أن تكون راويًا مغربيًا؟

بطل رواية «زوج بغال»، عبد القادر الركراكي ابن مدينة تطوان المغربية، ترمي به الأقدار بين مدن مغربية (تطوان، طنجة) وجزائرية (مغنية، تلمسان، عنابة)، عبر ثلاث تجارب زواج وحياة صاخبة، يشارك في الثورة الجزائرية ليتعرّض مثله مثل أي جزائري لشتى أصناف التعذيب من طرف المستعمر الفرنسي، وليجد نفسه عقب الاستقلال في قلب أزمة سياسية بين البلدين قد تعصف بمستقبل أسرته في الجزائر والمغرب، ولن تسلم عائلة الركراكي من تداعيات فترة الإرهاب التي ستزج بولديه في أتون الداعشية، ليقتل الأخ أخاه في لحظة عبثية.

لماذا جاءت أغلب فصول الرواية على لسانه؟ الأمر بسيط جدًا، الإنصات لصوت الآخر هو جزء من علاج المشكلة، خصوصًا إذا كانت مسببات الأزمة وهمية، ولكن لها تداعيات تسببت في مآسي وجراحات ومعاناة مئات العائلات الجزائرية المغربية المشتتة بين ضفتي البلدين بسبب ما حدث سنة 1975، من خلال القرار الذي نتج عنه طرد كل بلد مواطني البلد الآخر، وما لحقه من توترات سياسية مستمرة ومن بينها غلق المعبر الحدودي في منطقة زوج بغال عام 1994، الذي فاقم الوضع المأساوي أكثر، وساهم في توسيع الهوة أكثر وتسبب في تعميق الفجوة بصفة تنذر بالخطر بين البلدين. لذلك حاولت الابتعاد عن السياسة والتحيز لطرف على حساب الآخر قدر الإمكان، والاهتمام بالجانب الإنساني، إذ حرصت من خلال فصول الرواية على الحياد والموضوعية في تناول هذا الموضوع الحساس، حول بلدين يتداخل فيهما الإنساني بالتاريخي، والجغرافي بالثقافي، مازال يفصل بينهما معبر بارد اسمه «زوج بغال«، هذا الاسم الإشكالي الصادم الذي اخترته أن يكون مفتاحًا لتساؤلي السردي والإنساني الكبير حول مستقبل العلاقة الجزائريّة المغربية.

بدوت في الرواية مغربيًا بامتياز، ولو أنني لا أعلم أنك جزائري لكنت على يقين بأن وطنك هو المغرب. هل قصدت ذلك أم أن شدة التقارب بين البلدين جعلت كتابتك هكذا دون أن تشعر؟

لا توجد فروقات جوهرية بين المغربي والجزائري، لو زرت المغرب والجزائر ستلاحظين اللهجة في المدن التي تقع غرب الجزائر كوهران وتلمسان وسيدي بلعباس وغيرها قريبة جدًا (إلى حد التطابق) من اللهجة في المدن المغربية، كما أن المتجول في مدينة كتلمسان يرى الأسواق واللباس التقليدي والعادات والتقاليد والطبوع الغنائية والموسيقية لا تختلف عنها في فاس أو مكناس، ومن يزور مدينة وهران أو عنابة بالجزائر يشعر بذات المعمار والهموم في كازابلانكا أو طنجة وهكذا.

زرت المغرب عدة مرات، ورأيت كيف يرحب بي الجميع ويقدمون لي الشاي فرحين بمجرد أن يعرفوا بأنني قادم من الجزائر، ورأيت مغاربة في أوروبا يقدّرون الجزائري، والأمر ذاته بالنسبة للمغاربة الذين يزورون الجزائر، نحن أقرب إلى بعضنا من كل الشعوب في المنطقة. لأن كل من التقيت بهم يتّفقون على جملة واحدة هي «نحن شعبان أخَوان لن تفرّقنا السياسة». لذلك تحدثت في الرواية عن التاريخ المشترك بين الشعبين وخاصة النضال والمقاومة في زمن الاستعمار، وأثرتُ قضية الجغرافيا المشتركة واللهجة المشتركة والعمران المشترك واللباس المشترك، كل ذلك لأقول «إننا شعب واحد».

بومدين بلكبير (5)

تحدثت بجرأة عن الصدمة وخيبة الأمل في الصداقة والأصدقاء وبدا التأثر واضحًا في تعبيراتك، فهل عانيت من ذلك فعلًا؟ أم أن الأمر بعيد تمامًا عن ذاتك؟

أحاول قدر الإمكان أثناء الكتابة أن أتجرد من ذاتي، وأن أضع حدودًا فاصلة بين حياتي الخاصة وبين الشخوص في رواياتي. حتى أفسح المجال لشخوصي أن تتحرك بحرية واستقلالية وبدون إملاءات مسبقة. الشخصيات في رواياتي ليست تابعة لي، ولا سُلطة لي أو وصاية عليها؛ حتى إنها تفاجئني بسلوكياتها وأفعالها وأقوالها من حين لآخر! ما أقوم به هو بناء سمات وصفات الشخصيات في إطار هيكل محدد، أما البقية فهي نتاج تفاعلاتها (بكل ما تمتلكه من صفات وسمات بدنية ونفسية) مع الزمان والمكان والشخصيات الأخرى في الرواية، حتى أنها كثيرًا ما تتمرد وتنقلب عليَّ بمجرد أن أحاول أن أضع لها مسارًا محددًا، فما بالك أن أتدخل في مصائرها.

لحد الآن هذا منهجي في الكتابة؛ وضع حدود بين الخيال والحقيقة (السيرة الذاتية)، لأنني أمتلك قناعة فحواها: أن الأدب هو أولًا وقبل كل شيء تخييل وتجريب وليس نقل أمين للأحداث اليومية التي يعيشها الكاتب مع أسرته وجيرانه وأصدقائه وزملائه في العمل، كما يفعل أنصاف المبدعين في الكثير من الأعمال والنصوص المستعجلة والتقريرية، والتي لا تضيف قراءتها أي قيمة للقارئ عدا الملل والرتابة والتكرار الفج، ما ذنب القارئ أن يقرأ عن بطولات ونرجسيات دنكوشوتية بطلها صاحب النص، وأن يضيّع وقته في روايات لا تتحدث سوى بصوت واحد، هو صوت الكاتب، وعن حياة الكاتب، وللأسف هذا ما تمتلئ به الساحة الأدبية اليوم. ممكن مع الزمن تتغير قناعتي تلك، وأكتب أعمالًا روائية سيرية، هذا وارد جدًا، شرط أن أضع على الغلاف «سيرة روائية»، أو أن أعترف بالأمر وأعلنه، لا الادعاء بأن ما جاء في العمل هو مجرد خيال بعيد عن الواقع. وهناك عدة نماذج ناجحة في هذا المجال، فعلى سبيل المثال لا الحصر غالبية ما كتبه تشارلز بوكوفسكي كان نقلًا حرفيًا لما حدث في حياته، وهذا لم ينقص من جمالية وإبداعية نصوصه الروائية، لأنه يمتلك أدوات وشروط الكتابة الروائية.

أما الصداقة؛ فأنا  كغيري من البشر لديَّ صداقات ما زالت متينة مع أصدقاء قريبين في المسافة أو يقيمون في بلدان بعيدة وقارات أخرى، هناك صداقات تلاشت مع الزمن والظروف وتقلبات النفوس البشرية، وهناك صداقات مازالت باقية إلى اليوم، فالصداقة من الأشياء القليلة والجميلة (والنادرة أيضًا في زمننا هذا) التي تجعلنا نستمر رغم قبح وبشاعة هذا العالم الأعمى والأصم.

أشار بطل روايتك «عبد القادر» منذ البداية أن لديه مصادفة غريبة مع الرقم ثلاثة، لكنها مصادفة لا تبدو خاصة به فقط، وحينما يكون الخيار أمامك ككاتب لتحديد عدد يكون هو، في كل أجزاء الرواية تقريبًا، كثلاثة أيام، ثلاثة أشخاص، ثلاث حقائب، ثلاثة أزرار، ثلاثة خواتم، ثلاثة أشهر، ثلاث سنوات، ثلاثة كلاب، وغيرها الكثير. حتى إهداءك في صدر الرواية كان لثلاث حبيبات، وقسّمت الرواية إلى ثلاثة أجزاء. هل هناك دلالة خاصة للأمر؟

الأمر لا يتعدى الرمزية في الرواية، فالرقم ثلاثة له دلالات في حياة بطل الرواية عبد القادر الركراكي داخل النص، دلالات بمثابة مفاتيح للاقتراب من شخصية ونفسية البطل والإمساك بالمضامين المتوارية وغير المدركة، ولا علاقة لي ككتاب من بعيد أو من قريب بتوظيف هذا الرقم في الرواية. دومًا أحاول أن أحتفظ بخصوصياتي وأشيائي الحميمة خارج النص الذي أكتبه، وأترك فسحة رحبة للتخييل والاهتمام بفكرة النص وهيكلته وبنائه.

في روايتيك، وفي «زوج بغال» خاصة، شعرت منك بحنين إلى الزمن الغابر وما فُقد. هل هذا صحيح؟

تمامًا، رغم منسوب الغضب والحزن من الناس والأمكنة، والظروف القاسية التي خبرها بطل الرواية وبعض شخوصها، والتي دفعت تدريجيًا إلى الوحدة والعزلة عن العالم الخارجي كخيار وحيد أمام هذا العالم القاسي والظالم، هناك إحساس بالحنين إلى الماضي الجميل، رغم تناقضات الصورة بسبب قبح هذا الماضي؛ خسارات وخيبات متتالية وصفعات متكررة، رغم كل ذلك وأكثر، اصطبغت نبرة الركراكي بمسحة من الوحشة والأنس بالأمكنة والأصدقاء والحكايات والشقاوة. فبطل الرواية عبد القادر الركراكي يستعيد ذلك الزمن المفقود بعد أن قضى شطرًا كبيرًا من حياته متنقلًا في مدن مغربية وجزائرية مختلفة بشيء من الحسرة والحنين على ذلك الماضي الذي لن يعود.

ما الذي كان في هذا الزمان وفقدناه في أيامنا الحالية؟

إنسان اليوم يعيش الغربة والمنفى في بلده، مهما ابتعد عنه، مهما كان حاجز المسافة. في كل قارات العالم هناك دومًا حنين إليه. إنسان هذا العالم الأعمى يسير نحو حتفه، ينقلب إلى كائنات خرافية متوحشة من دون أن يعي بهذا التحول الخطير، وما سينتج عنه من تدمير ذاتي لكل شروط بقائه واستمراره، حقًا ما أتعس الإنسان!

بومدين بلكبير (2)

نرى بلدان اتحدت رغم الاختلافات الكبيرة في اللغة والثقافة والتاريخ، على خلاف دولنا العربية التي يجمعها تاريخ ولغة مشتركين ولكنها تزداد فرقة. فهل هذا سببه جهلنا وقلة وعينا أم أن هناك عوامل خارجية تسهم في ذلك؟

باختصار شديد المشكلة فينا، لا في غيرنا، دومًا ما نعلق فشلنا وعجزنا على الآخر. وللأسف الشديد أنصار نظرية المؤامرة في تزايد كبير بالمنطقة العربية.

ما الذي يستحقه الإنسان العربي ولم ينله بعد؟

الإنسان العربي يستحق أولًا وقبل كل شيء أن يعيش كغيره من أبناء الدول المتحضرة مواطنته كاملة غير منقوصة. ذلك لأن هذا «الإنسان العربي» يلاقي في حياته اليومية الكثير من أشكال الظلم والتعدي على «مواطَنته». هذا الوضع جعله في مأزق وجودي كبير، فتارة يصاب بحالة مزمنة من «الأنوية» جراء الحالة المتقدمة من الاكتئاب والكآبة وفقدان الأمل في تغير الوضع، وطورا نجده يحاول «الهرب إلى حياة أخرى موازية».

تتسم كتاباتك الأدبية بالبساطة والسلاسة الشديدة مع الحفاظ على قيمة ورونق اللغة العربية في توازن يصعب توفره هذه الأيام، خاصة أنك أستاذ جامعي. يدفعني هذا لأن أسألك ماذا تعني الكتابة لك؟

الكتابة هي أن تتخفف من ثقل هذا العالم الجاثم على إنسانيتنا. أن تستشعر وجودك في عالم يقدّس كل فنون الموت. أن تبقى حيًا وسط تفاصيل الخراب وصور أجداث الموتى التي تمطرنا بها فضائيات تتنافس كل واحدة منها على تجريم طرف على حساب طرف آخر. أن تكتب يعني أن تبحث عن إنسانيتك بين ركام ضياع الإنسان العربي. أن تكتب يعني أن تقوم بأفعال متنوعة قد تبدو متناقضة في الوقت ذاته. أن تكتب يعني أن تهرب من بؤس يكاد يطبق عليك من كل الجهات، تكون شاهدًا على عصرك، وعندما تصل إلى نقطة تدرك فيها أن لا جدوى من الكتابة فاعرف أن هذا العالم الأعمى هزمك.

قبل أن نتوقف؛ أخبرني عمن تأثرت بهم من الكُتّاب؟

تأثرتُ بالعشرات والمساحة لا تتسع لذكرهم جميعًا، وهنا يجب أن أقف عند كلمة التأثر؛ فالتأثر بكاتب ما لا تعني التبعية وتقليد الأسلوب، إنما تعني الاعتراف بقوة نصوصهم وعمقها وابتكاريتها، وقوة تأثير تلك النصوص عليك كقارئ، أو ككاتب؛ من خلال الشك وطرح الأسئلة المورّطة، فأنت دومًا غير راض وغير مقتنع أثناء عملية الكتابة، وهذا ما يدفعك باستمرار للتجديد والتغيير ومحاولة طرح الموضوعات والقضايا غير المطروقة وتناول التيمات غير النمطية في الكتابة، وفي هذا الصدد يمكن الحديث، على سبيل المثال لا الحصر، عن: ستيفان زفايغ، كارل تشابك، بوهوميل هرابال، خوان خوسيه مياس، جون دومينيك بويي، سكوت فيتزجيرالد، أفونسو كروش، بيدرو ميرال، بول أوستر، تشارلز بوكوفسكي، محمد شكري، رشيد بوجدرة، ياسمينة خضرا، محمد زفزاف، عبد الحميد بن هدوقة، محمد ديب، جورج طرابيشي، وغيرهم الكثير.

ما القادم لديك؟ سواء قيد الكتابة أو النشر.

سيصدر لي قريبًا في سلسلة كتاب الجيب عن دار الوطن اليوم، كتاب بعنوان «الجزائر.. البحث عن التغيير المفقود».  وهناك مشروع سردي أعمل عليه منذ ما يزيد على السنة والنصف، ولم أفرغ منه بعد، وأعتقد أنه مازال يحتاج لفترة أطول من الزمن كي يصبح جاهزًا للنشر.

Comments