الموت
مجرد سفر*
عبد الفتاح علي جمعة الجمل..
رفيق خمس سنوات من عمري، منذ فكرتُ في إعداد ملف عنه لأول مرة عام 2015، وكان بالنسبة لي اسمًا مبهمًا، لا أعرف عنه شيئًا تقريبًا، سوى ما يقوله أدباء الستينيات والسبعينيات أثناء حديث كل منهم عن بداياته. أما الآن فقد صار واضحًا لي كالشمس بعدما قطعتُ مئات الكيلومترات للبحث في أثره، ما بين القاهرة ودمياط والإسكندرية، فضلًا عن عدد من أحياء القاهرة كالزمالك ومدينة نصر.
كانت معرفتي الأولى به من أستاذي الكاتب الراحل صلاح عيسى، الذي أخذ يحكي عنه بمحبة غامرة، واصفًا إياه بأنه «رجل لا يرد الموهبة»، وبعض مما قاله لي عن لقائهما الأول وجدته مرة أخرى بقلمه في كتاب «شخصيات لها العجب» الذي خصص واحدًا من فصوله لعبد الفتاح الجمل تحت عنوان «مسئول شؤون الهمزات»، وفيه يقول: «في ركن قصي من جريدة المساء وجدته يجلس إلى مكتبه، وأمامه إحدى صفحات الملحق يقوم بتصميمها، وبعض تجارب الطبع يراجعها، وكان منهمكًا في ذلك تمامًا حين دخلنا عليه، فصافحنا ببساطة بدت لي يومها عدم اكتراث، وتركنا نتخذ لأنفسنا مقاعد لنجلس عليها، واستمع بذهن شارد إلى الكلمات التي قدمني له بها صديقي، ولم يعقب بشيء بل مد يده إليَّ فسلمته المقال، وألقى نظرة عابرة على عنوانه، ثم ألقى به في درج على يساره، كان مليئًا حتى حافته بالورق، بطريقة أيقنت معها أنه سينزلق منه إلى سلة المهملات التي تقبع تحته، عند أول فرصة، ثم عاد إلى ما كان مشغولًا به، ليستغرق فيه، ودون أن يقول شيئًا أو يتبادل معنا كلامًا، وحين مرّ عامل البوفيه – أشار له علينا، دون أن يتكلم، وعندما أستأذناه في الانصراف لم يلح في بقائنا، وصافحنا بنفس الطريقة البسيطة. ومضينا وقد تحول شعوري بالندم لأنني أوقعت نفسي في هذا المأزق إلى غضب عارم على صديقي الذي ورطني في موقف محرج، بل ومهين.. وأدهشني أنه لم يجد فيما حدث شيئًا يدعو للغضب، بل أخذ يضحك وكأن شيئًا لم يحدث وهو يقول ببساطة: هذا هو عبد الفتاح الجمل».
نعم، هذا هو عبد الفتاح الجمل، قدرٌ كبيرٌ من التناقضات؛ بين ما يبدو عليه للوهلة الأولى من جهامة وعدم مبالاة وقسوة ثم «طولة لسان» وحدّة في المواقف، وبين ما تكتسي به روحه من رهافة وخجل وطفولة ورومانسية. رجلٌ لا تملك خيارًا إلا أن تحبه في النهاية، وتحترمه، وتقدِّر كل إنتاج أو فعل يصدر عنه، حتى وإن كانت ورقة بيضاء طواها ووضعها داخل كتاب يقرأه.
يكمل صلاح عيسى: «بعد أربعة أيام فقط، كان إحساسي خلالها بالإهانة قد تحوَّل إلى مرارة، صدر العدد الجديد من ملحق «المساء» فإذا بي أجد مقالي يتصدر صفحته الثالثة، وأجد اسمي منشورًا بنفس الطريقة التي تُنشر بها أسماء الكتاب الراسخين، ومع أنني ذهلت لتلك النتيجة التي بدت لي متناقضة تمامًا مع الانطباع الذي خرجت به من لقائنا، بل وكتبت مقالًا آخر لكي أقدمه له، إلا أنني قررت أن أتجنب لقاءه، فذهبت إلى «المساء» في يوم إجازته، وألقيت بالمقال في الدرج نفسه الذي علمت أنه يخصصه لما يتلقاه من مقالات وقصص وأشعار، ويأخذ محتوياته معه عند انصرافه، ليعكف في بيته على قراءتها ويختار ما يستحق النشر، وصدر العدد التالي من الملحق لأجد المقال منشورًا بالاحتفاء نفسه، ومع ذلك فقد ظللت لشهور طويلة أتعمد أن أترك له المقال في الدرج، وأتجاهل الرسائل التي كان يرسلها لي مع صديقي بأن أمُرَّ في يوم غير يوم إجازته، إلى أن كنت أهم يومًا بالانصراف بعد أن دسست المقال في الدرج، حين سمعت صوتًا يصيح بي من الطرف الآخر للصالة: ظبطتك يابن الـ (.......) يا (.......) ثم وصلة من الشتائم المنتقاة التي تعودنا نحن المصريين أن نعبر بها عن إعجابنا كما نعبر بها عن نفورنا، وعن حبنا كما نعبر عن كرهنا، وكان الصائح هو عبد الفتاح الجمل، الذي قطع الصالة عدوًا وهو يواصل شتائمه لي، لأجد نفسي بين أحضانه الدافئة، وليضع ذراعه في ذراعي ويقول لي إنه جاء في يوم إجازته خصيصًا لكي يقبض عليّ ويدعوني للغداء».
***
المرة الثانية لي مع سيرة الجمل كانت في نفس العام، بعد شهور قليلة من لقائي بصلاح عيسى، في احتفالية «أخبار الأدب» بسبعينية الكاتب الراحل جمال الغيطاني، والتي نُشرت بتاريخ 10 مايو 2015، وبنفس القدر من المحّبة قال الغيطاني حينها: «رَزقنا الله بشخص اسمه عبد الفتاح الجمل، أتذكر بعد عام 1967 كتبتُ قصة باسم «هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة» وأخذتها له في جريدة المساء، وكان من النوع الذي إذا أحب أحدًا جدًا يسبّه، فطلب مني الجلوس، وبعد قراءته للقصة فوجئت به يعتلي الكرسي ويقف فوق المكتب ويرقص ويقول «حاجة جديدة يا ولاد..... حاجة جديدة»، والجالسون كانوا محمد البساطي ومحمد كامل القليوبي ورسامًا اسمه محمد عثمان هاجر فيما بعد للدنمارك، جلس يقرأ لهم القصة بصوت عال، فأخذت أقول لنفسي إنه يجاملني، ما الجديد الذي فعلته؟!».
واستطرد الغيطاني: «استخدمتُ اللغة في القصة كقناع، لدرجة أن عبد الفتاح الجمل عندما ذهب بها للرقيب قال له «شوف الراجل المجنون ده اللي لقى مخطوط وجايبه»، فنشرها الرقيب بالفعل على أنها كذلك».
***
في مستهل رحلتي، أول ما فعلت كان البحث عن معلومات حول عبد الفتاح الجمل عبر شبكة الإنترنت، لكني لم أجد إلا القليل، وروابط تشير إلى ندوات متفرقة أقيمت في ذكرى وفاته خلال السنوات العشرة الأخيرة. حتى عناوين كتبه كانت متداخلة مع كتب أديب وباحث آخر يحمل نفس الاسم، لدرجة أن موقع القراء الشهير «جودريدز» نسب له كتابا لا يخصّه.
صِرت في كل لقاء لي مع أديب من معاصريه، أحرص على سؤاله عنه، فأسمع ما يزيد حماسي للاقتراب من عالم هذا الرجل. لكن عند السؤال عن أعماله وإن كانت متوفرة منها نُسخ يمكنني الاطلاع عليها، تكون الإجابة «تائهة بين كتب كثيرة ومن الصعب العثور عليها حاليًا، لكنني سأحاول».
نزلتُ إلى سور الأزبكية لأبحث عن أعماله القليلة، بعدما توصلتُ فقط إلى نسخة إلكترونية من رواية «محب». وجدتُ الباعة يضعون صفًا لكل كاتب ممن اكتشفهم الجمل وأتاح لهم الفرصة حتى أصبحوا نجومًا في عالم الأدب، لكني لم أجد أحدًا يعرفه بينهم، حتى وإن ادعى البعض ذلك.
كثيرون منهم اختصروا الطريق من البداية بإجابة قاطعة تفيد عدم وجود كتب لعبد الفتاح الجمل، فهو غير معروف لديهم، إلا أن هناك من أخذوا يسألونني عن أسماء أعماله، فيومئ واحد برأسه ويؤكد أنه يعرفه لكنه لا يملك كتبه، بينما يثني آخر على معلوماتي قائلًا «فعلا؛ دي روايته» قبل أن يسأل عن اسم عمل آخر ليعيد عليَّ الرد «ودي كمان روايته أيوَه» ثم بأسف وتأثر يخبرني بأنه لا يملك أي منها في دكانه. وثالث نظر لي وبكل ثقة قال «أيوَه عارفه، ده أستاذ قانون» فاعتذرت منه لخطأ المعلومة وأكملتُ طريقي.
***
ذات يوم، وقع بين يدي العدد 712 من مجلة العربي، ويعود تاريخه إلى مارس 2018، متضمنًا حوارًا للدكتور محمد زكريا عناني، يقول في جزء منه «لقد تنبه مدرس اللغة العربية في المدرسة الابتدائية إلى هذه النزعة الأدبية، وإذا به يهدي إليَّ من مكتبة المدرسة ما رأى أنه يفيد وأن منه نسخًا مكررة.... هذا المدرس كان يحمل اسم عبد الفتاح الجمل؛ المشرف – فيما بعد – على الملحق الثقافي لجريدة المساء، والذي كان الأب الروحي لجيل الستينيات».
هاتفتُ الدكتور عناني على الفور لأتفق معه على موعد للقائه في الإسكندرية، وتحديدًا عند المدرسة الابتدائية، فرحّب بشدة. استغرقت جولتنا ما يقرب من خمس ساعات، شاهدنا خلالها ما طرأ على المدينة من تغيرات، واجتررنا ذكريات تعود إلى أكثر من سبعين عامًا مضت، حول مدرسته، وأستاذه الذي «قَلَب دِماغه».
***
بمرور الوقت أصبح عبد الفتاح الجمل «هوسًا» بالنسبة لي، أتتبع أثر أي قصاصة تحمل اسمه، إلى أن عثرتُ على الباب الصحيح الذي حوّل الفكرة لواقع ثري يمكن التعامل معه.
تواصلتُ مع الأصدقاء في محافظة دمياط؛ الكاتب الشاب إسلام عشري الذي ساعدني في الوصول لعنوان العائلة الصحيح في «أرض الجمل»، ثم الكاتب الخبير سمير الفيل، الذي يندر ألا تجد عنده معلومة عن شخص يعرفه أو تعامل معه.
بعد أسابيع قليلة وجدتُ أمامي عددًا من أرقام التليفونات التي تخص أفراد من عائلة عبد الفتاح الجمل، أخوته وأبناء عمومته، مع رسالة تحذيرية بأن أهالي دمياط لا يأمنون للغرباء وبالتالي - غالبًا - لن يكن مُرحبًا بي هناك.
لا أعرف أيًا منهم، لكني توّسمتُ في أن الأصغر سنًا ربما يكون أكثر تفهمًا لما أريد، وربما تكون طِباع دمياط أقل أثرًا في تعامله، وبين اثنين من شباب العائلة اتصلتُ بـ «علي الجمل» الذي يحمل اسم جدّه، وهو الابن الأصغر للأخ «أسامة الجمل»، فكان متعاونًا لدرجة كبيرة، بدءًا من تحديد موعد مناسب لسفري إليهم، ثم إخبار كبار العائلة ممن عاصروا عبد الفتاح؛ أخيه أسامة، وابن عمه طه، وابن أخيه عوض أحمد الجمل، ثم مرافقتي إلى البيت القديم الذي شهد نشأته في قرية «محِّب»، وإلى مقابر العائلة بعد ذلك.
***
وجدتُ لدى العائلة في دمياط بعضًا من مؤلفات عبد الفتاح الجمل وصوره والكتابات القديمة عنه، والبعض الآخر كان في انتظاري عند أخته الصغرى «تحية» وزوجها «محمد سناء السعيد» اللذين عاش معهما في نفس البيت خلال العشرين عامًا الأخيرة من حياته بمدينة نصر.
خرجتُ من بيتها إلى عالم أكثر ثراءً، حيث مكتبته في «مكتبة القاهرة الكبرى» بالزمالك، التي لا يعلم أحد بوجودها هناك، فالكتب تبدو وكأنها لم تُفتَح منذ قدومها. رحلة موازية، غير هيّنة، استغرقت شهورًا أخرى لأتمكن من الاطلاع على ما يوازي عشرين بالمائة فقط من كتبه، بعدما اضطررتُ إلى تفنيدها كتابًا تلو الآخر، إذ لم تعد المكتبة مستقلة باسم عبد الفتاح الجمل، وإنما فقط كتب مفرَّقة بين الأرفف وسط آلاف الكتب، كلٌ حسب مجال تخصصه!
***
الآن، بعد خمس سنوات – تقريبًا – من التفكير وتحسس الطريق، وستة شهور من العمل المتواصل، أشعر بأن عبد الفتاح الجمل رفيق حياة، وليس رفيق تلك المُدة فقط. أراه في مخيلتي وهو يخطو بكل مرحلة من حياته. أجدني واقفة إلى جانبه وهو يقرأ و«يحمِّض» الصور داخل غرفته بدمياط، وهو واقفٌ في الفصل يدرِّس لتلاميذ الابتدائية، وهو يرسم صفحات الملحق الأدبي والفني بجريدة المساء، وهو يلعب «الطاولة» على مقهى «فينيكس» بشارع عماد الدين، وهو يروي نباتاته في شقته بمدينة نصر، وأخيرًا وهو ساندٌ يديه على سور «بلكونته» يتلمس ضوء ودفء الشمس وعلى وجهه ابتسامة طفولية تنّم عن رضائه باختياراته في الحياة وفخره بمقدرته على تطويعها وعدم الانحناء أمام عقباتها.
***
في السطور التالية؛ نتجوّل داخل قريته محِّب وفي محيط بيت العائلة الذي لم يعد موجودًا، ونزور المدرسة التي شهدت أول عمل له في حياته بالإسكندرية، ونستعرض تفاصيل انخراطه في عالم الصحافة ورحلته مع الملحق الأدبي والفني بجريدة المساء، ثم انتقاله به لجريدة الأخبار لمدة 12 أسبوعًا، وتقاعده المبكِّر بعد عودته لبيته، وعمله بدار الفتي العربي لمدة ست سنوات.
ننفرد بنشر أول قصيدة لأخته «تحية» كتبتها عنه بعد وفاته بأربعة أعوام، وكانت المحاولة الأولى لها، توالى بعدها الكثير دون أن تنشر أيًا منها. ونستخرج الحكايات التي تحويها كتبه بما عليها من إهداءات، بأقلام نجيب محفوظ والأبنودي والغيطاني والبساطي والمخزنجي وبدر الديب وخيري شلبي وعبده جبير وسعيد الكفراوي ويوسف القعيد وغيرهم. ونتساءل: لماذا لم تُجمَع أعمال عبد الفتاح الجمل حتى الآن؟ يجيبنا وزراء الثقافة السابقين، ويرحب أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة بإصدار تلك الأعمال.
وفي النهاية؛ نعرض مقالين للمحِّب سارت بينهما حياته و37 سنة من الكتابة، الأول عام 1956 بجريدة المساء وكان باكورة إنتاجه الصحفي في باب «يوميات الشعب»، والثاني هو الأخير في سلسلة مقالاته التي نشرها تحت عنوان «أزعرينة» بجريدة «أخبار الأدب» عام 1993 قبل وفاته بأقل من أربعة شهور. وللعثور عليهما تطلب الأمر قدرًا كبيرًا من البحث في «الأرشيف»، داخل مؤسسة أخبار اليوم، ومركز المعلومات بدار التحرير.
ونختتم الملف بمعرض صور بعدسة عبدالفتاح الجمل، إذ كان التصوير هوايته الأثيرة منذ سنوات مراهقته وحتى شيخوخته، وقد حصلنا عليها من أرشيف صور العائلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من قصيدة «المتهم» لعبد الرحمن الأبنودي
«قرية محِّب»
غيّرت العنوان
في قرية محِّب بدمياط، بيتٌ ريفي واسع، لا تقل مساحته عن ثمانمائة متر، تتضمن حدوده جنينة، بها فُرن للخَبيز وغرفتان للفراخ والبط والوز، ويتناثر في زواياها النخل وأشجار الجوافة و«عنبتين» و«توتة»، ومبنى من دورين يسكنه أخوان (علي وأحمد)، كلا منهما بعائلته.
رُزق الأخ الأكبر «علي» - تاجر الغلال - بمحمد، ثم عبد الفتاح في 22 يوليو 1923، ومن بعده ولدان وبنت. خمسة أطفال تركتهم الأم بعد سنوات قليلة من وصولهم إلى الحياة، فتزوج الأب من ابنة أختها، لتصبح «بنت خالة الأولاد» أمًا ثانية لهم، وتمنحهم خمسة إخوة آخرين.
***
في محيط البيت، وقفتُ أتأمل المكان، بعد مضي ما يقرب من القرن، أبحث عن تلك القرية التي هام في عشقها عبد الفتاح الجمل، وكانت عنوانًا للكتاب الأهم والأبرز في مسيرته الروائية. لم أجدها حرفيًا، واكتشفتُ أن الرواية وحدها هي الباقية، بينما المكان غيّر عنوانه.
لا أحد من الأجيال الحالية يعرف محِّب، ومن يعرفونها من الأكبر سنًا يلزمهم بعض الوقت ليتذكروها، هي الآن «المِنية»، المليئة بوِرش الخشب ومحال الموبيليا. أما البيت فقد تهدّم وبُني على مساحته أربعة بيوت، لم ينج من ذكراه سوى غرفة من الطوب اللبن تبدو كـ «مكعّب» صغير، وشجرة ضخمة تتجاوز ما حولها طولًا وتحتل بأغصانها المترامية قدرًا غير يسير من الأرض، وبجانبها «منزة» جافة كانت تأتي بمائها من شارع الوزير لتسقي الزرع بواسطة شادوف، وفي المنتصف بين بيتين يقف جذع نخلة مقطوع الرأس.
***
كبِر عبد الفتاح وسط عائلة أفرادها كثر، أحبَّهم، لكن خاله «إبراهيم عرنسة» ظل الأقرب لقلبه، وعلى دربه سار، إذ كان «عُمدة»، وكانا يجلسان سويًا ويتحدثان في السياسة والثقافة وغيره. معه عرف القراءة والأدب، وعلى الطريق أغوته الفنون، فاكتفى بذلك عما سواه.
كان له جناح خاص، أقرب إلى صومعة، لا يدخله الآخرون، ولا ينقصه شيء. يضم سريرًا وحمّامًا، وركنًا للكتب داخل الحائط، وطاولة صغيره مرفقًا بها كرسي، وكاميرا «كوداك» قديمة تشبه الصندوق، وزاوية لتحميض الصور.
***
عند ناصية الشارع، على بُعد أمتار قليلة من البيت، يقع «جامع محب»، المعلَم الأقدم الذي مازال محافظًا على هيئته، لكن ذلك لا يمنع أنه خضع للتجديد مرتين، وتهدّمت مآذنه. يعلوه الآن دار تعمل كحضانة في أوقات الدراسة، وكُتَّاب أثناء الأجازة، ووُضعت «يافطة» مكتوب عليها «دار حضانة الأنصار الإسلامية».
أخبرني ابن عمه طه الجمل أن عبد الفتاح في صغره كان يعشق تسلق النخل، وصنع الطائرات الورقية وإطلاقها في الهواء. ولعل ذلك هو سر وجود النخلة في معظم كتاباته، ففي «محب» مثلًا يقول عنها: «النخلة عمود حياتنا، إذ هي فضلًا عن منافعها المعهودة، مقياسنا للزمن، وحساباتنا بظلها لا تخيب أبدًا، بالرغم من اختلاف طول الظل واتجاهه مع خطوات الفصول التي لا تتوقف، ونمو ظلها نفسه مع خطى الأيام».
وفي «آمون وطواحين الصمت» كتب: «لا شيء في النخلة يذهب هدرًا، النخلة لا تعرف الهباء، النخلة التي تجعل من خدها للإنسان مداسًا، ومن قلبها الجمار له طعامًا وشرابًا سائغًا ومشعًا، يطلق روحه كالحمامات من أبراجها، ومن جسدها مأوى وملبسًا ومعبرًا ووقودًا ونارًا ودفئًا، ومن أطرافها أدوات، ومن سعفها حمى وطقوسًا وظلالًا وغناء وحجابًا واقيًا ورجمًا بالغيب واستشفافًا للمخبأ».
***
رغم سفره إلى الإسكندرية منذ سن صغيرة واستقراره في القاهرة بعد ذلك، إلا أن علاقته بعائلته وإخوته ظلت قوية، إذ يحرص على النزول إلى دمياط مرتين على الأقل كل عام، لم تكن زيارته تطول عن بضعة أيام وفي جزء كبير منها ينشغل بالكتابة، لكنها كانت تمثل عيدًا للعائلة.
أما بقية العام فكان يراسلهم خلاله، حتى وهو خارج مصر، فمن بين أوراقه، التي انفردنا بالحصول عليها، يظهر «كارت بوستال» مُرسَل من سويسرا إلى السيد أحمد علي الجمل (منية، دمياط) يحكي له فيه تفاصيل من يوميات رحلته هناك، يقول: «لا تؤاخذني إذا كتبت إليك، لأن قلمي في هذه الأيام مصاب بالإسهال، ويريد أن يطرطش عليك، ولا شيء يوقفه أبدًا، أسوِّد كل يوم عشرات الصفحات، وقد ملأت جميع الورق الذي اصطحبته معي، واشتريت غيره من هنا بالغلا. تصور أنني حلقت اليوم بما يعادل ثمانين قرشًا صاغًا، ولكن الحياة هنا جميلة رائعة، ولن يثنيني شيء عن السفر كل عام.. كل يوم أعقد عشرات من الصداقات، من إيران وإيطاليا وإنجلترا حتى الآن، وبعد ثلاثة أيام أقفز إلى النمسا.. سلامي إلى سقاطة باب المنزة وعسى أن يكون طه بخير.. اتمسوا بالخير. عُبد الورد، انترلاكن سويسرا في 11/8».
عندما استغربتُ التوقيع، أخبرني عوض الجمل أن «عُبد الورد» كانت كنية يستخدمها عمّه لنفسه، وحينما يرسل معه سلامًا لأحد يطلب منه أن يخبره قائلًا «عُبد الورد بيسلِّم عليك».
ما يتضمنه الخطاب يشير إلى أن تلك هي الرحلة التي ذهب فيها عبد الفتاح الجمل بصحبة الدكتور أحمد مختار الجمال وأسرته، وذكرها الجمال في مقاله (رحلة عمر، مجلة الثقافة الجديدة، 1992): «قمنا معًا عبد الفتاح وأنا وأسرتي برحلة العمر بالسيارة من قطر إلى المملكة المتحدة، ومررنا ببلاد كثيرة منها السعودية والكويت والعراق ولبنان وسوريا وتركيا ويوغوسلافيا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا والنمسا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، ثم العودة إلى مصر من جديد عبر تركيا».
***
«لم نعرف قيمته سوى بعد وفاته». تكررت تلك العبارة على مسامعي من أفراد عائلته، وكان الأكثر حرصًا عليها هو أخوه «أسامة الجمل»، الذي يصغره بثلاثين عامًا، وينعته بالأستاذ عبده. يقول: «أقيمت له احتفالات، وجاءتنا جوابات من منظمات وجمعيات في كل دول العالم، واستمرت لبعد وفاته بمدة طويلة. وفي العزاء بمسجد عمر مكرم وجدنا أجانب وشخصيات مهمة، نجيب محفوظ كان موجودًا».
كان عبد الفتاح، الوحيد بين أشقائه الخمسة، الذي أكمل دراسته. يقول طه الجمل، الأقرب سنًا له إذ يصغره بخمس عشرة سنة فقط، إن تلك نباهة منه، لكنه لا ينكر أن والد عبد الفتاح «الحاج علي» شجّعه عندما وجده متفوقًا، إذ كان معفيًا من المصاريف. ويتذكر ابن أخيه عوض موقفًا حكاه له بطل رحلتنا: «الملك فاروق قابله وسلّم عليه لاجتهاده في الكلية، وعندما رآه قال له اجمد يا جمل».
وعلى ذِكر الجمل، يحكي المخرج محمد كامل القليوبي في مقال بعنوان «زمن عبد الفتاح الجمل» كتبه في الذكرى الحادية والعشرين لوفاة ابن محِّب (الأهرام، 13 فبراير 2015): «كان عبد الفتاح يعلِّق على جدران منزله بين العديد من اللوحات لعدد من الفنانين المصريين، صورة فوتوغرافية لجمل يطّل برأسه من خلف حائط قام بتصويرها بنفسه، وعرضها في معرض للتصوير الفوتوغرافي أقامه في مدينة أسيوط عام 1953 عندما كان يعمل بالتدريس وقبل أن ينتقل للعمل بجريدة المساء عام 1956، وكان يشير إلى الصورة ضاحكًا وهو يقول (صورة جدي)».
في عام 1992، طبع عبد الفتاح على روايته الأخيرة «محب» إهداءً إلى أخيه «علي» يقول فيه: «إلى أخي الحاج علي، أهدي هذا العمل، منذ أن أسعفتني ذاكرته في القريب من الأحداث، أما البعيد الموغل فهو لي، منذ أن جَنحت مني الملعونة وحرَنت، ونامت في الخط هناك، وقد زحفت بأظلاف قطعانها المدينة، والتهمت في معدتها الزلط، من محب، الإيقاع والملامح والنفَس والنكهة. عبده».
تضمنت الرواية أحداثًا وشخصيات حقيقية، بأسمائهم، لذا أحدثت صدامًا بعد نشرها، ولهذا السبب أخبر عبد الفتاح الجمل ابن أخيه عوض قبل شهر من صدور «محب»، بأنه لن يستطيع القدوم إلى القرية مرة أخرى. وبعد صدور الرواية وما أصابته من نجاح وكتابة قراءات نقدية كثيرة حولها، قال له «أنا أول شخص يحضر تأبينه قبل وفاته».
***
حين وُلد أسامة كان عبد الفتاح قد ترك دمياط واستقر في القاهرة، مستأجرًا شقة صغيرة بميدان الجامع في مصر الجديدة، تتكون من غرفتين وصالة ومطبخ وحمّام، لا يقضي فيها وقتًا طويلًا، لأن معظم يومه كان إما بجريدة «المساء» حيث يعمل صحفيًا، أو على مقهى فينيكس بشارع عماد الدين يلعب «الطاولة» مع أدباء «جيل الستينيات».
يقول محمود الورداني (أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «كان حريف طاولة وينخرط في اللعب باهتمام بالغ، إلا أنه مع ذلك كان يشارك في النقاشات الدائرة بلا كلل».
لأسامة ولدان، علي ومحمد، يقول إن محمد كان يسافر إلى عمّه بالقاهرة في الأجازات، وهو من كتب عنه سمير الفيل ذات مرة (سبعة وجوه للرحيل، أخبار الأدب، 1998): «ابن أخ عبد الفتاح نفسه تلميذ لي، أدرِّس له وقائع الحملة الفرنسية، فيتنطط لأنه لا يريد أن يحفظ التواريخ، ولا تعجبه صورة نابليون، يترك كل ذلك ويحدثني عن عمّه البارع جدًا في التصوير الفوتوغرافي. لا أخبره أنني أعرفه شخصيًا حتى لا يفلت عيار الولد الذكي المشاغب».
***
اعتاد إخوته وأبناء عمومته زياته في القاهرة، والبيات معه أحيانًا في المنزل. ما يتذكرونه أن حياته كلها كانت كُتب، والشقة مكدّسة بها حتى السقف. يستيقظ في الفجر ليقرأ ويكتب على نغمات الموسيقى الهادئة. يقول عوض الجمل: «كان من أنصار الفن للحياة لا الفن للفن. ولم يحب التملق أو المظاهر، حتى الأوبرا كان يذهب إليها ببنطلون وقميص».
يزيد طه الجمل: «لم أره يومًا ببدلة».
وتنزهًا عن دنيا المظاهر، كان عبد الفتاح يحب الجلوس مع العمّال والنجارين في دمياط، وكذلك في القاهرة، يقول يوسف القعيد (المصور، 25 فبراير 1994): «في الوقت الذي انسحب فيه من دنيا المثقفين كان مقبلًا على حياة أولاد البلد. عندما امتلك سيارة مستعملة لأول مرة، طلب مني أن أعرّفه على ميكانيكي جيد وعندما توثقت صلته بأحمد الميكانيكي أصر على دعوته على الغداء في نقابة الصحفيين».
مدرِّس
لغة عربية بأبو قير الابتدائية
تلميذه النجيب زكريا عناني:
وجدني أرسم في حصة الإنشاء فقال لي تعال بكرة ومعاك مِخلة
حذرني من الوقوع في أسر كامل كيلاني.. ونصحني بالنظر حولي والكتابة من الواقع
أهداني مجموعة كتب لا تُنسى.. على رأسها «الأيام» و«يوميات نائب من الأرياف»
فور تخرجه في كلية الآداب بجامعة فاروق (الإسكندرية حاليًا) عام 1945، عمِل عبد الفتاح الجمل مدرسًا للغة العربية بمدرسة «أبو قير» الابتدائية للبنين، التي أنشأها رهبان كنيسة الآباء الفرنسيسكان في ثلاثينيات القرن الماضي. كانت تواجهها آنذاك محطة قطار، صارت الآن بعيدة بعض الشيء، ويفصلهما شارع عريض تسكنه المحلّات التجارية على الجانبين.
كان محمد زكريا عناني (مواليد سبتمبر 1936) حينها تلميذًا في الصف الرابع، يهوى قراءة القصص الخيالية والأساطير، ويهيم في مؤلفات كامل الكيلاني، حتى تقابل مع الأستاذ الجديد عبد الفتاح الجمل، و «قلَب دِماغه» كما يقول، بل وحياته أيضًا، إذ تألق عناني في مساره الأدبي كناقدٍ وأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، حتى توّج مشواره عام 2017 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.
استقليت القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، وفي محطة «أبو قير» بدأت زيارتي إلى محل العمل الأول لعبد الفتاح الجمل، حيث اصطحبني الدكتور عناني إلى المدرسة، الكائنة بشارع نجريج – نسبة لسكانه القدامى من اليونانيين –، وفي الطريق أخذ يحكي لي عن المدينة في تلك الفترة من الماضي قائلًا: «كانت أبو قير تختلف عن الواقع الحاضر خلافًا بينًا، السكان عددهم قليلًا، يحترفون مهنة الصيد وما يتبعها كبناء السفن، والسوق به بائعي السمك والصناعات الشعبية البسيطة للغاية، لم تكن في البلد مساكن ذات طابع راقي فخيم، ربما فقط على الساحل وعند بعض الكازينوهات المطلة على البحر، أما الغالبية العظمى من البيوت فكانت بسيطة أو لنقل فقيرة».
تعلّم محمد زكريا عناني المبادئ الأساسية للغة العربية والحِساب وحفظ القرآن، في «طابية طوسون» ذات الفصول الخالية من الشبابيك والنوافذ، إلى أن قيل لهم إن مدرسة ابتدائية سوف تفتح أبوابها في غد قريب، وكان الغد ماثلًا في كنيسة ليست قبطية، ضخمة وقريبة من محطة القطار، مبنية بالطوب الأحمر ويبدو عليها الوقار. يتذكر عناني: «كل ما أملكه عن هذه الفترة صورة وأنا في الصف الأول الابتدائي، تضم ناظر المدرسة الأستاذ طنطاوي وعدداً من الأساتذة، بينهم ثلاثة مطربشون، وستين أو سبعين تلميذًا من بينهم هذا التلميذ الذي يرتدي الجاكتة والقميص الأبيض ويقف في قلق من أن يأتي بشيء يدفعهم إلى توقيع العقاب عليه، وهو المدعو زكريا عناني».
نظر عناني إلى الصورة متمعنًا، لم يكن بين الأساتذة عبد الفتاح الجمل، فنفَذ من «شبابيك» الفصل الخشبي البادي من الخلف، إلى أغوار الذاكرة، محاولًا استجماع مشهد واضح لأول مرة رآه فيها، يقول: «كانت حصة إنشاء فيما أعتقد، بدت شخصيته مختلفة تمامًا عن الأساتذة جميعًا، كان نحيفًا ومعظمهم ممتلئي الأجساد، يدخّن سجائر - فيما أذكر - والآخرون لا يدخنون، وكان منعزلًا عنهم شيئًا ما. في تلك الحصة المحظوظة، أو المشئومة، مرّ لكي يراجع ما كتبناه في مادة التعبير، ونظر إلى ورقتي فلمح رسمًا، كنت معتادًا على فعل ذلك قبل الكتابة. نظر إليَّ غاضبًا، قُلت لعله سيستخدم المسطرة فورًا، لكنه أمسك بالورق، وكأنما رأى شيئًا، قال لي اجلس في الوراء، ففعلت، ثم طلب مني الصعود إليه في مكتبة المدرسة بعد الحصة، فذهبت إليه، ويا للدهشة! لم يكن غاضبًا مني، وإنما قال لي ببساطة شديدة: تعال بكرة وهات مِخلة معاك».
نظرتُ للدكتور عناني متعجبة وأنا أتساءل «مِخلة؟!»، فأخبرني أن ذلك كان رد فعله أيضًا، لكن كلمات الجمل جاءته سريعة وحاسمة «اسمع الكلام وما تقولش لحد». يكمل: «ذهبت للمدرسة في اليوم التالي ولم أجده في قاعة المدرسين، صعدتُ إلى المكتبة فوجدته قد اختار لي مجموعة من الكتب لا أنساها في حياتي، على رأسها كتاب «الأيام» لطه حسين، الذي ظل يلازمني أعوامًا طولاً حتى حفظت صفحاته، وكتاب «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، و «نداء المجهول» لمحمود تيمور، وكان نصه صعبًا عليّ حينذاك، لكني ظللت على مدى سنوات أحتفظ به وعندي أمل أن أستوعب هذا الجانب الغريب فيه، وكتاب اسمه «حكايات شكسبير»، اكتشفت فيما بعد أنه يضم نصوصًا لمسرحيات شكسبير كُتبت على أنها حكايات وقصص وليست أعمال مسرحية».
ابتدع زكريا عناني منهجًا لنفسه في القراءة، بأن يفعلها وهو «يتمشى» على البحر، فكان يصادف أن يرى الجمل يمشي وحيدًا، لا يعرف لماذا، لكنه لا ينسى كلماته «يا محمد، لا تجعل نفسك أسيرًا لقصص كامل كيلاني. انظر واكتب مما يدور حولك، والتقط من الواقع والأرض».
ظلت تلك الكلمات تطن في أذني محمد، إلى أن كتب قصته الأولى «إني راحل» في نهاية المرحلة الابتدائية، عن طفل لديه عاهة في قدمه، يضيق بالناس الذين يمرون، لأن بعضهم يركله وبعضهم يصيح فيه أن يبتعد، وأخيرًا يقرر الولد الانتقام بإشعال النار في شيء ما ليتلذذ بها وهي تعوي من حوله.
وانتقالًا من الابتدائية إلى المرحلة الثانوية بمدرسة الرمل، شعر عناني بتحقيق شيء من النجاح فيما يلقي من نصوص في خطبة الصباح أو ينشر من كتابات، فخطَّ كتابه الأول «طريق الحياة» في يوليه 1954، قبل أن يتم عامه الثامن عشر، وفي مقدمته أشار إلى أن صاحب الفضل الأول في توجيهه هو الأستاذ عبد الفتاح الجمل، المدرس بكلية أسيوط الآن.
لا يعلم عناني من أين جاء بمعلومة «كلية أسيوط الآن» أو ماذا تعني، لكنه طمح في إيصال نسخة من الكتاب إلى أستاذه، وظل الأمر في نفسه حتى أنهى دراسته الجامعية عام 1961 وذهب إليه في جريدة المساء، فاستقبل منه الكتاب بكل رضا، وعرّفه حينها للمحيطين به قائلًا «هذا تلميذي من مدرسة أبو قير الابتدائية».
طلب الجمل من محمد عناني أن يتشجع ويحضر له مقالاته، لكن عناني سافر إلى خارج مصر لفترة طويلة، نال خلالها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، وبعدما عاد عرف من الأصدقاء أن أستاذه صار أستاذًا لجيل بأكمله.
ينهي عناني حديثه قائلًا: «هذا الرجل العظيم لن يتكرر أبدًا». ويتساءل: «لماذا نترك هذا الكم من مقالاته بدون جمع؟ لقد كان دؤوبًا، وأتصور أنه لم يكتب شيئًا لا يستحق أن يُنشر مرة أخرى».
قلمٌ
لا ينحني لـ «سُلطان»
انتقل عبد الفتاح الجمل، مدرس اللغة العربية، من الإسكندرية إلى أسيوط، وهناك استمر في ممارسة هوايته في التصوير، إلى أن أقام معرضًا للتصوير الفوتوغرافي هناك عام 1953.
إلى جانب تلك الهواية، كان عبد الفتاح يهوى السفر، يقول محمد القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994): «عندما كان طالبًا بكلية الآداب بجامعة فاروق اعتاد في كل صيف أن يضع نفسه على سطح أية سفينة مبحرة إلى أوروبا ليحضر عروض المسرحيات والأوبرات والباليهات العالمية، ويشاهد المتاحف والمعارض ويتسكع بين المكتبات ومحال الأسطوانات».
ذات يوم أثناء تواجده بالإسكندرية، ذهب إلى الميناء وصعد على ظهر سفينة، دون أن تكون له وجهة محددة، وإنما ظل سائحًا في بلاد الدنيا لمدة تقرب من عام، قبل أن يعود إلى القاهرة ويعمل مدرسًا مرة أخرى في الجامعة الأمريكية.
كانت تلك محطته الأخيرة في التدريس قبل الولوج إلى عالم الصحافة، واستبدال البدلة بالقميص والبنطلون. ولذلك الانتقال قصة يرويها عبد الرحمن فهمي (الجمل والصقر، جريدة الجمهورية، 21 فبراير 1994): «كنا في جريدة المساء قبل أن يصدر أول عدد في أكتوبر عام 1956، وكان معنا الصديق رائد العطار سكرتير التحرير، وكان يزوره شخص خجول متواضع، لا تفارق الابتسامة وجهه الهادئ، وكانت الصفحة الأخيرة في المساء فيها يوميات قصيرة يتبادل الكتابة فيها عدد من كبار الكتاب مثل لطفي الخولي ومحمد عودة ومحمد عبد القادر حمزة ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وغيرهم من الشوامخ.. فإذا بهذا الضيف الهادئ الباسم يكتب اليوميات ذات مرة، فيصعد الأخ مصطفى بهجت بدوي (مدير إداري جريدة المساء في ذلك الوقت) من الدور الأول حيث الإدارة إلى الدور الثالث حيث التحرير، ويبدي إعجابه الشديد بهذا الكاتب الجديد عبد الفتاح الجمل، ويقرأ خالد محيي الدين اليوميات، فيمط شفتيه كعادته إعجابًا بهذا الكاتب المميز صاحب الأسلوب الجديد.. خلط العامية في اللغة العربية الفصحى بطريقة العجين المتماسك الذي يخرج لك خبزًا أدبيًا شهيًا.. ساخنًا.. والسخونة هنا تأتي من الموضوع الذي يمس به أعصاب وأوتار الناس.. كل الناس.. فقد كان عبد الفتاح يعبِّر عن هموم الشارع المصري بطريقة رائعة.. وهنا تقرر تعيينه في جريدة المساء.. فصرخ عبد الفتاح رافضًا، إنه مدرس لغة عربية في الجامعة الأمريكية ويتقاضى مرتبًا كبيرًا، وله تلاميذ ومريدون، فضلًا عن أن هوايته التدريس والأدب.. فتقرر أن يعمل بعقد دون تعيين. وفجأة.. قرر عبد الفتاح الجمل تقديم استقالته من الجامعة الأمريكية مضحيًا بالمرتب الكبير.. لقد استهوته روح الصحافة ومناخها».
استمر الجمل في نشر مقالاته في باب «يوميات الشعب»، إلى أن صار في أواخر 1961 مسئولًا عن الصفحة الأخيرة بأكملها وتجميع مادتها وتصميمها، وكانت تمثل احتفاءً صحفيًا خاصًا بالآداب والفنون.
بدءًا من أواخر عام 1962 ظهر الملحق الأدبي والفني للمساء تحت إشرافه، في أربع صفحات تصدر مساء الأربعاء من كل أسبوع، تظهر فيها عدة سمات يشير إليها فتحي فرغلي (صفحة المساء، مجلة القاهرة، مارس 1994): «ندرة أو انعدام المادة الإخبارية إذ أتاح الملحق فرصة لما هو أكثر من الأخبار، التنوع في المادة والتوسع في تناول الموضوعات المتعلقة بالفكر عامة وبالمجتمع في تلك الفترة التي كان يعتبر الفن فيها من الكماليات شديدة الترف والرفاهية بالنظر إلى ظروف المجتمع الذي يخوض الحروب ويواجه التحديات ومعارك البناء، الاهتمام بالترجمة إلى حد نشر روايات وأعمال طويلة مسلسلة لعدة أيام، نافذة للإبداع العربي، وتقديم الأصوات الجديدة جنبًا إلى جنب مع الأسماء المعروفة».
يصفه جمال الغيطاني في تلك الفترة (طفولة عبد الفتاح الجمل الدائمة، عالم اليوم، 10 يوليو 1992): «مكتبه قديم الطراز، أمامه أوراق الماكيت، ومسطرة طويلة، وأقلام رصاص، وأستيكة وبروفات على ورق مستطيل، ومخطوطات شتى، وأحلام وإبداعات جيل بأكمله، الجيل الذي عرف في تاريخ الثقافة المصرية بجيل الستينيات أو ظاهرة الستينيات».
بعد حرب 1967 بفترة، أجريت بعض التغييرات في الهيكل التحريري والإداري لدار التحرير وصدر قرارًا بإيقاف الملحق، يذكر محمود الورداني حالة عبد الفتاح الجمل حينذاك (صاحب المعطف الذي خرج منه جيل الستينيات، أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «ذهبتُ ذات ظهر لزيارته بالجريدة فوجدته واقفًا بحذائه فوق مكتبه، يهتف بصوته الجهوري: مات المساء الأدبي والفني! مات المساء الأدبي والفني!.. كان يلقيها مدعيًا الجدية والرصانة، ثم ينفجر فجأة: هاهاي.. وبدأ يخطو ماشيًا فوق صف المكاتب ضاحكًا: مات المساء الأدبي والفني! وكأنه منادي القرية يبلغ أهلها بموت ميت، وظل يدور على هذه الحال دورات عديدة».
تولى محمود أمين العالم رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم عام 1968، وقد كان ملمًا بتجربة عبد الفتاح الجمل في المساء، فانتدبه وكلّفه بمهمة الإشراف على المحلق الأدبي والفني لجريدة الأخبار. يقول خيري شلبي (عصر عبد الفتاح الجمل، مجلة القاهرة، 1994): «بدأ عبد الفتاح يخطط لملحق يحقق في الحياة الثقافية العربية حضورًا وفعالية. ونجح بالفعل في ذلك. صدرت الأعداد الأولى من ملحق الأخبار على ورق أبيض، وبإخراج بديع، وتفاءل الجميع، وبتنا نتوقع أن يشهد الملحق تطورات أكثر فعالية في السنوات المقبلة، وأن يكون حقلًا خصيبًا لاستنبات المواهب الأدبية».
اتخذ ملحق الأخبار شكلًا مختلفًا عن شكل الجريدة، إذ انقسمت كل صفحة من القطع المعتاد إلى صفحتين، لتشمل الأربع صفحات ثمان صفحات ذات قطع صغير ومطوية كالمجلة، يتم توزيعها يوم الأحد من كل أسبوع، وقد صدر العدد الأول في 29 يونيه 1969، بافتتاحية لمحمود أمين العالم استعار فيها فكر عبد الفتاح الجمل ومهّد لقوانينه وشروطه التي يفرضها على صفحاته، بألا يتدخل أحد في اختياراته ولا يفرض عليه أي كاتب. يقول العالم: «قالوا لي: لا تبدأ الملحق الأدبي والفني بقصة لكاتب مجهول الاسم، مهما كان المستوى الرفيع لقصته. ابدأها بقصة كاتب لامع الاسم، أيا كان مستواها، فهذا أضمن لنجاح هذا المشروع الجديد. والحق، إني ترددتُ قليلًا. قلت لنفسي، لماذا لا أبدأ بالكاتب اللامع الاسم، فأضمن أولًا نجاح المشروع، ثم أتزود بهذا النجاح لتقديم الكاتب المجهول الاسم بعد ذلك؟؟ ترددت، لأن المشروع الأدبي والفني هو جزء من مشروع اقتصادي أكبر.. هو الصحافة.. إلا أني سرعان ما أحسست أن ترددي هذا هو تردد في المشروع الأدبي والفني نفسه.. تردد في فلسفته التي اخترناها بوعينا وإرادتنا.. إنه من أجل الجديد في أدبنا وفننا وثقافتنا عامة. لهذا سرعان ما تخلصتُ من ترددي وقلت: فلتتبوأ القصة التي لم يشتهر كاتبها بعد، مكان الصدارة في أول ملحق أدبي وفني نقدمه، ما دامت تحمل روح الجديد».
كان الاسم الجديد هو محمد البساطي، وقصته «لعبة المطاردة» التي أفرِدت على صفحتين من الملحق. وتوالت بعدها الأعداد متضمنة قصصًا لأصوات شابة آنذاك، مثل جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، بهاء طاهر، محمود درويش، عائد خصباك، أسامة أنور عكاشة، ونواف أبو الهيجاء، بالإضافة إلى قصص مترجمة، ومقالات متنوعة لأدباء ونقاد وفنانين لمعت أسماؤهم فيما بعد. وتخللت الأعداد رسائل من أثينا ولندن لرشدي صالح كانت تتصدر الصفحة الأولى من الملحق.
لم يستطع عبد الفتاح الجمل المقاومة وفرض شروطة لمدة طويلة، خاصة مع تصاعد تساؤلات استنكارية حول الاستعانة بشخص من الخارج وتنحية كل الكوادر ذوات الحق من داخل الدار، يكمل خيري شلبي: «لقى عبد الفتاح صنوف العنت والمقاومة. وكان جديرًا بأن يحتمل كل هذا وأن يقاومه بالتحدي والإصرار على النجاح. إلا أن حملات الإرهاب بدأت تطارده أشكالًا وألوانًا، تضع في طريقه العراقيل والمعوقات. وكان يحتمل، إلى أن ذهب لعمله صباح ذات يوم بمؤسسة الأخبار.. فلم يجد مكتبه، ولما شرع في البحث عنه فوجئ بأنه سيقطع رحلة في متاهة دونها متاهة مستر كاف بطل رواية المحاكمة لكافكا، خشى أن تفضي به الرحلة بعد خطوات قليلة إلى التشكيك في وجوده نفسه، فرضى من الغنيمة بالإياب، وبات الملحق محض ذكريات».
كان العدد الثاني عشر بتاريخ 14 سبتمبر 1969 هو الأخير لعبد الفتاح الجمل في دار أخبار اليوم. تولى مسئولية الملحق من بعده رشدي صالح وأنيس منصور، واتخذ شكل الصفحة العادية في الجريدة، متضمنًا أخبارًا وتقارير أقرب إلى الترفيهية، وكانت القصة الرئيسية لذلك العدد لأنيس منصور. يصفه محمد البساطي (يومها جلسنا في المقهى نلعب الطاولة بحماس شديد، مجلة الثقافة الجديدة، 1992): «كان شيئًا عجيبًا. ألغوا شكله المميز وجعلوه في حجم صفحات الجريدة وكأنهم يزيلون أي أثر للملحق السابق. أما عن مادته فكانت أشد عجبًا. فرقعات فنية. وقفشات وأخبار النجوم. أشياء مسلية تقرأها وأنت شارد الذهن مثل ما نراه الآن يملأ صحافتنا».
عاد عبد الفتاح الجمل إلى المساء ليباشر الصفحة الأدبية لعدة سنوات أخرى، مع كتابة مقالاته اليومية والأسبوعية، ونشر إبداعاته، وفي السنوات الأخيرة بالعقد الثامن من القرن الماضي، تقدّم بطلب «معاش مبكِّر» لأن الأجواء لم تعد محتمَلة، ففضّل التقاعد بكبرياء وفي هدوء.
يقول د.محمد كامل القليوبي (زمن عبد الفتاح الجمل، الأهرام، 13 فبراير 2015)، إن مقالاته اليومية اتسمت بالموضوعية ولم تشوبها كلمة في مدح سُلطة أو صاحب سلطان، بل وتسببت كتاباته ومواقفه في إحداث مشاكل أحيانًا كثيرة، تحمل وحده تبعاتها، ولكنه لم يتخل للحظة عن مبادئه وأفكاره. ويضيف: «هو صاحب أغرب قرار بتعيين مدير تحرير لإحدى الصحف القومية، إذ وضع شرطًا لترقيته التي كان لابد منها لمنصب مدير تحرير، بأن يكون مديرًا لتحرير الصفحات الداخلية فقط حتى لا يصبح مسئولا عن الكذب في الصفحة الأولى.... وكانت صفحته هي المنفذ الوحيد للنشر في مصر لكاتبينا الكبيرين صلاح عيسى الذي نشر له في حلقات دراسته الهامة عن الثورة العرابية، وإبراهيم فتحي الذي نشر له حلقات دراسته المتميزة «العالم الروائي نجيب محفوظ» وكان الاثنان ممنوعين من النشر بسبب مواقفهما السياسية المعارضة للنظام، ولم يكن المنع رسميًا وإنما عرفيًا».
***
بعد تقاعده عن العمل بجريدة المساء، التحق عبد الفتاح الجمل بدار الفتى العربي الفلسطينية المختصة بأدب الأطفال والفتيان، كرئيس هيئة التحرير في الفترة من 1979 إلى 1985، أصدر خلالها كتابه «حكايات شعبية من مصر» مصحوبًا برسومات الفنان إيهاب شاكر، كما ترجم كتاب «حكايات أيسوب» بجزءيه، وترجم كتابًا عن أطفال الانتفاضة بعنوان «يوم العلم» وكلها نُشرت في دار الفتى العربي.
بحسب مديرة الدار حسناء مكداشي، كان الفنان عدلي رزق الله، المدير الفني للدار حينذاك، أول من دعا الجمل للعمل معهم، تتذكر له: «كان عبد الفتاح الجمل أول من استقطب الدكتور محمد المخزنجي ونشر له كتاب «الآتي» الذي رسمه الفنان الكبير حامد ندا، كما استقطب الكاتب أحمد زحام ونشر له كتاب «حصان العم رضوان» و«السلطان والقمر». وقبل استقالته شكّل الأستاذ عبد الفتاح لجنة من الأدباء لتقديم «ألف ليلة وليلة: للفتية العرب» وتألفت اللجنة من الناقدة والأكاديمية العراقية الدكتورة فريال جبوري غزول والدكتور صبري حافظ والشاعر محمد عفيفي مطر، لكن المشروع لم يُنشر».
كان مشروع «ألف ليلة وليلة» واحدًا من مشروعين اقترحهما الجمل في الدار، أما الثاني فكان سلسلة «الشعر والشعراء للصغار»، وقد تم، ونُشر فيه كتاب «مختارات من الشاعر العراقي سعدي يوسف» من إعداد د.فريال غزول ورسوم إيهاب شاكر. تقول د.فريال: «اقترحتُ أن نوظف الصفحة التراثية حيث يكون النص محوطًا من الجوانب الأربعة في الصفحة بتعليقات وشروح معاني الكلمات التي قد تستعصى على الفتى أو الفتاة، بالإضافة إلى تقديم الأبعاد البلاغية بشكل مبسط وإضافة رسوم فنية مستوحاة من القصيدة ومقدمة تعرّف القارئ بالشاعر».
كما أعدّ الناقد صبري حافظ كتابًا مماثلًا عن محمود درويش برسوم عمّار سلمان، وأعدّ الشاعر محمد عفيفي مطر كتابًا على هذا النسق عن محمود سامي البارودي برسوم نبيل تاج. تكمل غزول: «كان وراء التصميم فكرة أن يقرأ الفتى القصيدة المؤطرة ذاتها دون الرجوع إلى الشروح المواكبة على الصفحة إن اكتفى بتذوقها وإن استعصى عليه فهم بيت أو رغب في الاستزادة عن سياق القصيدة أو جمالياتها، فما عليه إلا قراءة ما هو خارج إطار الصورة. لم تستمر التجربة لشح الميزانية لكنها تبقى نموذجًا يمكن إحياؤه».
وعن سبب عدم اكتمال المشروع، تقول د.فريال: «كان عبد الفتاح الجمل إنسانًا جميلًا ومفجّرا لطاقات الآخرين، لكن في مشروع «ألف ليلة وليلة» اختلفتُ معه حول مقاربته. كان يرى ضرورة «تهذيب» القصص قبل تقديمها للصغار، وكنت أرى في ذلك نوعًا من الابتسار لتراث شعبي، واقترحتُ أن نختار من القصص ما يوائم الصغار مما لا يحتاج إلى «تهذيب» حتى يتذوق القارئ العمل كما وصلنا. لكن السبب في عدم تحقيق المشروع لم يكن اختلاف الرؤى، بل بسبب الميزانية».
أما صاحب دعوته إلى الدار، عدلي رزق الله فيصفه (الجمل.. الرجل الذي علمني الكتابة، 1995): «كان ذلك الرجل رقيقًا وحادًا مثل الشفرة، كثيرًا ما ينطق ألفاظًا تعارف الجميع على أنها بذيئة، لكنها على لسان ذلك الرجل تفقد كل بذاءتها حتى في حضرة النساء». ويتساءل: «هل لدينا من يقوم بدراسة عن ملحق المساء الأدبي ويعطينا إحصاء دقيقًا أو أكثر؟».
للجَمل في اللغة حياة
في فترة السنوات الست التي قضاها الجمل بدار الفتى العربي، نشر كتابه «حكايات شعبية من مصر» متضمنًا مقدمة طويلة عن اللغة العربية، إذ لم تكن بالنسبة له مجرد تخصص درس فيه أو وظيفة عمل بها، وإنما ركنًا مهمًا في ممارسة حياته اليومية، بحث فيها ومن خلالها عن الاختلاف والتميز، ولم يكن يطيق إدخال الكلمات الإنجليزية على الجُمل أثناء الحديث، ويلفظ من يصّر على ذلك.
ظل ابن دمياط حريصًا على اللغة حتى قبيل وفاته، لدرجة إصراره على مراجعة مقالاته الأخيرة في أخبار الأدب بنفسه، يقول عزت القمحاوي (عليه العوض، أخبار الأدب، 27 فبراير 1994): «كان شديد الغضب من فاصلة تحركت من موضعها أو سقطت سهوًا من أصابع جامعي الحروف وعيون المصححين، يحتج في خطاب يتراوح بين الرقة والعنف حسب الجرم المرتكب من جانبنا في حق طفله المبسوط على هذه الصفحة».
ويدلل القمحاوي بموقفٍ في مقال آخر بعد عام من وفاته (بكل أدب، أخبار الأدب، 19 فبراير 1995): «نالنا في أخبار الأدب شيء من لهيب غيرته على لغته الفريدة عندما تغيرت «من الفور» لتصير على يد الزملاء في التصحيح إلى «على الفور» وكان مقاله التالي في الفرق بين الحرفين «من» و«على» درسًا لمن أراد أن ينعم بأسرار هذه اللغة أو يشقى بحب الفن ويسعد».
ظهرت هذه العناية باللغة في كتابات عبد الفتاح الجمل، وفي مفرداته الفريدة التي يعيدها من اندثارها، يقول محمد كامل القليوبي، صديقه المقرّب والذي أهداه عبد الفتاح كتابه «وقائع عام الفيل»، (زمن عبد الفتاح الجمل، الأهرام، 13 فبراير 2015): «أحيانًا ما يتصور البعض أن عبد الفتاح الجمل يستخدم اللغة العامية في ثنايا كتاباته، وهو أمر لم يفعله قط، ولكن معرفته الدقيقة باللغة العربية كانت تجعله محيطًا بأصول الكلمات وما تم هجره منها، ويرى في ذلك انحطاطًا أصاب المجتمعات العربية وكيف أصبحنا نعبر أو على الأصح نثرثر بالجملة بدلًا من أن نعبّر بالكلمة».
يشير بدر الديب إلى خبرة الجمل اللغوية وما يمتلكه من صفات وكلمات وتشبيهات (لغته الفريدة وضآلة ما فعل من أجله، جريدة المساء، 1 مارس 1994): «لقد خص الله عبد الفتاح بعبقرية لغوية تجعل كلماته تتقلب في طاسات جمله وتعبيراته كما يتقلب السمك الحي إذا خرج من الماء أو وضع فوق النار. كانت رؤيته وتعابيره اللغوية حية حياة فريدة وساخنة حارقة كأنها خارجة من النار، ومع ذلك كان يقدمها لنا ويشجعنا على تناولها دون أن تحرق أيدينا أو أفواهنا ولكنها تعطينا نعمة كبيرة من الإحساس والمعرفة والرؤية للوجود وللكينونة. كان عبد الفتاح يعرف النحو والصرف واللغة العامية وتعابير الفئات الاجتماعية معرفة خاصة ناقدة ومحيطة وكان يعطينا كل هذا الثراء بسهولة ويسر في كتبه التي يجب أن نعتبرها ثورة ثقافية نادرة لم تتكرر في أدبنا وستظل فريدة مدى طويلًا حتى نستطيع أن ندرسها الدرس الحقيقي وأن نعلمها لكل أولئك الكتاب الذين قدمهم وساهم في إظهارهم. وما أضأل ما فعلوا له مقابل ذلك كله».
ويضيف خيري شلبي (عصر عبد الفتاح الجمل، مجلة القاهرة، 1994): «لغته مصرية أصيلة لأن مفرداتها ديمقراطية لا فضل فيها لمفردة لفصاحتها على مفردة لعاميتها، إلا بقدر اتساع المفردة لشحنه الشعور والمعنى. وأنت ترى المفردات القاموسية العتيقة جنبًا إلى جنب مع المفردات العامية المصرية في نسق بديع كاصطفاف المصلين في صلاة الجمعة. مع ذلك فكل مفردة عامية يستخدمها إنما هي عربية فصحى قلبًا وقالبًا، كل ما هنالك أنها حينما انسلكت في جملة أخذت محلها من الإعراب فانتفت عاميتها وكسبنا نحن ما تحمله من تجارب شعورية ومداليل غنية اكتسبتها بطول تردادها على الألسنة في الواقع اليومي».
ويتفق إبراهيم فتحي مع شلبي (عبد الفتاح الجمل مبدعًا وناقدًا، جريدة الأهالي، 9 مارس 1994): «لم تكن اللغة عنده زخرفة أو تأنقًا، بل اكتشافًا لكنوز من «المعنى» مختبئة في الطبقات المتراكمة من اللغة التراثية الفصحى المتدفقة في أشكال وأنواع الثقافة القومية، فنجد لغته كثيفة ممتلئة حتى الحافة».
***
نشر عبد الفتاح الجمل، إبداعيًا، خمسة كُتب هي «الخوف» (ط1، 1972/ ط2، الهيئة العامة للكتاب 1986)، «آمون وطواحين الصمت» (الهيئة العامة للكتاب، 1974)، «وقائع عام الفيل» (ط1، دار الفكر المعاصر، 1979/ ط2، دار الوحدة، 1981)، «حكايات شعبية من مصر» (دار الفتى العربي، 1985)، و«محب» (ط1، روايات الهلال، 1992/ ط2، دار الشروق، 2008)، وكتابٌ مترجم هو «خرافات أيسوب» (دار الفتى العربي، 1987)، بالإضافة إلى بعض الكتابات التي لم تُجمع بعنوان «خرافات أيسوب المصري».
هذه الأعمال يصفها د.محمد كامل القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994) قائلًا: «أعمال رائدة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، تتميز بمذاقها الخاص وآفاقها الرحبة، نوع من الكتابة يندر أن يوجد مثيل له في الأدب العربي المعاصر، تمتزج فيها السرائر والمكونات بطين الأرض وسمائها، وحكاياتها الشفهية والمتوارثة تجد لها امتدادات في الأدب المعاصر، وتتميز بشفافية خاصة خالصة، تتوحد داخلها الأنواع الأدبية وتنصهر خلال أسلوبه الخاص جدًا والمميز في صياغة الكلمات ونحتها».
أخٌ
لم يمهله القدر لاكتشاف موهبة أخيرة
في عام 1973، قدِمت الأخت الصغرى لعبد الفتاح الجمل «تحية» إلى القاهرة، بعد زواجها، لتسكن البيت الذي بناه أبيها بالمناصفة مع زوجها في مدينة نصر. حينها عرضوا على «أبيه عبده» - كما اعتادت «تحية» أن تناديه - أن ينتقل للعيش معهم في شقة أكثر اتساعًا وراحة، فوافق، لكن بعد تصميمها بمواصفات خاصة.
صحيح أن الحياة والأدب والمستقبل، وحب عبد الفتاح للمغامرة، اضطروه لمغادرة قريته، إلا أن روحه ظلت عالقة بالريف وطبيعته، لذا طلب أن تكون الشقة بدون سقف لتدخلها الشمس ويمكنه زراعة النباتات فيها، وهو ما يصعب تحقيقه بالضبط، لأنها في الدور الرابع ويليه آخر، فكان البديل أن تكون بها غرفة بدون سقف، ومثلها «البلكونة»، وامتد نفس النظام إلى الشقة الأعلى بالدور الخامس.
أما الطلب الثاني، فهو ألا يتم تقسيمها إلى غرف، وإنما غرفة واحدة للنوم، ويجاورها الحمّام، والمساحة المتبقية مفتوحة كساحة المنزل الريفي. كما رفض استخدام أي شيء صناعي في النوافذ أو الأثاث، لا كراسي ولا سجاد ولا موكيت....إلخ، ولا حتى بورسلين. ترك البلاط في الأرض وأحضر خمس صفائح من دهان الزيت بألوان مختلفة، أخضر وأزرق وأحمر وغيرها، ألقى بهم في الصالة، فتداخلت وأصبحت بعد جفافها كلوحة سيريالية. واقتنى من خان الخليلي «طبلية»، فوقها «صينية» نحاس وحولها كراسي من الجريد.
على الباب وضع «دقاقة» على شكل يد نحاسية، بدلًا من الجرس، وبجانبها جملة «اخلع نعليك». تقول تحية: «كان لا يفتح بابه لأي شخص إن لم يكن بميعاد مسبق عن طريق التليفون، حتى نحن، إن لم نهاتفه قبل الصعود لا يستقبلنا».
كان عبد الفتاح في النصف الثاني من عقده الرابع حينما وُلدت تحية، اختار لها الاسم وأحبها كأنها ابنته، أخبرها بأنه كان يحملها وهي في شهورها الأولى ويتغزل في جمالها أمام أصدقائه، قائلًا إنها تمتلك عيني كيلوباترا. اقتربت منه تحية وعرفته جيدًا، وبعد وفاته بكته أكثر من بكائها على أبيها وأمها، حتى «بحَّ» صوتها، تقول عنه: «كان أخ حنون ولا يُعوَّض. بسيط في كل شيء. لا يحب الأضواء أو الظهور. كنت أجلس هنا على «الكنبة» وأسمع صوت ضحكته الجميلة تجلجل، لازالت ترّن في أذني حتى الآن. هو من علمني الذوق وكل شيء».
عن عدم حب عبد الفتاح للأضواء أو الظهور يقول محمد القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994): «بقدر ما كان عبد الفتاح الجمل يدرك أهمية ما يصنعه، بقدر ما كان يكره الظهور والأضواء، فرفض الظهور في أي برنامج تلفزيوني، أو الحديث في أي برنامج إذاعي، أو حضور أية ندوة أدبية تناقش أيًا من أعماله، ورغم حرصه على الابتعاد عن الأضواء إلا أنه كان أكثر حضورًا من الكثيرين الذين يحرصون على البقاء في دائرتها وعبر كافة وسائل الإعلام ولأطول فترة ممكنة».
تزوجت تحية في سن صغيرة جدًا، عقب حصولها على شهادة الثانوية العامة. فكّرت جديًا في استكمال دراستها الجامعية، لكن ظروف ومشاغل الحياة حالت دون ذلك. وعلى مدار عشرين عامًا تقريبًا في كنف أخيها عبد الفتاح، ظلّ يطلب منها أن تمسك القلم وتكتب، بعدما قرأ جملة قصيرة كتبتها ذات يوم، إذ كانت تحب اللغة العربية والإنشاء. وصار كلما ينشر مقالًا ينزل إليها في الدور الأول ويتركه لها طالبًا رأيها، فكانت تتساءل في نفسها: ماذا يرى فيَّ؟
من بين أعماله أخرجت تحية كتابين يحملان إهداءً من أخيها؛ الأول «حكايات شعبية من مصر» كتب لها عليه: «إلى تحية، أرق وأجدع أخت، أهدي حواديت من إنتاج بلدنا». والثاني هو «محَّب»، وقد أهداه لها بكلمات مشابهة بتاريخ 19 يناير 1992 قائلًا: «تحية، يا أرق وأجدع وأحب وأجمل عيون أخت في الدنيا، إليك.. مُحِبِّك عبد الفتاح».
بعد أربع سنوات من وفاته، بدأت تحية كتابة الخواطر الشعرية، وتحديدًا في مارس عام 1998 بقصيدة «ذكرى عطرة» التي تنشرها للمرة الأولى، لرثاء أخيها «أبيه عبده»، متمنية لو أنه لا يزال موجودًا ليتبناها ويوجهها مثلما فعل مع جيلين سابقين.
ذكرى عطرة
تحية الجمل
كان لي أخ كبير اسمه عبد الفتاح .. أديب ومبدع ويخطط الجرنال
يألف ويكتب ولا ساحر فنان .. كان لي أخ وأب وآخ يا خسارة دا راح
راح عند رب كريم في السابع من رمضان
كان له قلب كبير مليان بالإحساس .. بلون البفتة البيضا وف براءة الأطفال
مفتوح لكل حبايبه وعمران بالإخلاص .. يهوى الطبيعة ويربي النباتات
له ضحكة حلوة مجلجلة وجنان .. يحب قوي البساطة وكل شيء كما خلقه الرحمن
كان له ودن حلوة تتذوق القرآن .. وقلبه يتجلى بسيمفونية الأوزان
عشق الموسيقى واقتنى ياما سيمفونيات
باخ وبيتهوفن وكمان شوبان .. ذوقه راقي ولا أجدع فنان
رسم الطبيعة وصورها بالحروف والكلام .. كأنها لوحة بديعة لأعظم رسام
جريء ويكتب وعمره ما خاف .. متواضع وطيب ويكره الأضواء
كتب وألف وقال الشعر كمان .. وأثرى اللغة واتعمق وكتب ياما حكايات
ألف الخوف وطواحين الصمت .. ومحب تشهد له بالعبقرية يا سلام
صحاها من نومها وحرك الشخصيات .. قامت وحكت ع اللي كان بيحصل زمان
ذكي وعبقري وفي إيده مفتاح .. فتح به ياما للشباب أبواب
اتجمعوا حواليه كوكبة من الشبان .. مشوا على دربه اللي عمره ما خاب
نور لهم طريقهم وعطاهم فرص وبقوا عال العال .. أصبحوا الآن نجوم وكواكب تفخر بها الأجيال
زي البساطي والغيطاني والأبنودي .. وغيرهم وغيرهم لمع منهم أسماء
تلامذته وصحابه يتعدوا بالميات. . وكلهم حبايبه ويتمنوا رضاه
منهم رسام وشاعر ومؤلف ومخرج وزجال
بيته كان متحف كأنه مرسم لفنان .. ذوقه راقي مرهف الإحساس
ترك فراغ مكانه عمر ما يملاه إنسان .. وزي ما قال البساطي بيكتب بالخمس حواس
ترك وراه أعماله تنور للكتاب .. وساب للتراث بصمة تشهد لها الأجيال
كان له طريق فريد لفنه .. وليحيى حقي طريق تاني كمان
تحب تشوف وتقرأ .. روح مكتبة القاهرة الكبرى
هتشوف كتبه وتأليفه وكل ما جمع من ثروات .. هدية منه غالية تركها للقراء
كان لما يشوفني يقولي الله عليكي الله .. مجامل وذوق ومحب لكل الناس
كنت أشتكي له همي ميستغناش .. كان بذكائه يوجهني برفع المعنويات
ما لقيت مثيلك أخ يا زين الجمال .. دي محب من فرحتها خلدت ذكراك
وهتفضل أعمالك على الطريق نبراس
سمتني اسمي تحية .. تحياتي وحبي لحد ما ألقاك
رحت بعيد وأبدا عمري ما هنساك .. ولا هتبقى يوم واحد في طي النسيان
أختك المحبة تحية
20/3/1998
توفى 18/2/1994
الموافق الجمعة 7 رمضان
Comments
Post a Comment