عبد الفتاح الجمل .. السيرة المنسية للراعي الصالح

الموت

مجرد سفر*   

 

عبد الفتاح علي جمعة الجمل..

رفيق خمس سنوات من عمري، منذ فكرتُ في إعداد ملف عنه لأول مرة عام 2015، وكان بالنسبة لي اسمًا مبهمًا، لا أعرف عنه شيئًا تقريبًا، سوى ما يقوله أدباء الستينيات والسبعينيات أثناء حديث كل منهم عن بداياته. أما الآن فقد صار واضحًا لي كالشمس بعدما قطعتُ مئات الكيلومترات للبحث في أثره، ما بين القاهرة ودمياط والإسكندرية، فضلًا عن عدد من أحياء القاهرة كالزمالك ومدينة نصر.

كانت معرفتي الأولى به من أستاذي الكاتب الراحل صلاح عيسى، الذي أخذ يحكي عنه بمحبة غامرة، واصفًا إياه بأنه «رجل لا يرد الموهبة»، وبعض مما قاله لي عن لقائهما الأول وجدته مرة أخرى بقلمه في كتاب «شخصيات لها العجب» الذي خصص واحدًا من فصوله لعبد الفتاح الجمل تحت عنوان «مسئول شؤون الهمزات»، وفيه يقول: «في ركن قصي من جريدة المساء وجدته يجلس إلى مكتبه، وأمامه إحدى صفحات الملحق يقوم بتصميمها، وبعض تجارب الطبع يراجعها، وكان منهمكًا في ذلك تمامًا حين دخلنا عليه، فصافحنا ببساطة بدت لي يومها عدم اكتراث، وتركنا نتخذ لأنفسنا مقاعد لنجلس عليها، واستمع بذهن شارد إلى الكلمات التي قدمني له بها صديقي، ولم يعقب بشيء بل مد يده إليَّ فسلمته المقال، وألقى نظرة عابرة على عنوانه، ثم ألقى به في درج على يساره، كان مليئًا حتى حافته بالورق، بطريقة أيقنت معها أنه سينزلق منه إلى سلة المهملات التي تقبع تحته، عند أول فرصة، ثم عاد إلى ما كان مشغولًا به، ليستغرق فيه، ودون أن يقول شيئًا أو يتبادل معنا كلامًا، وحين مرّ عامل البوفيه – أشار له علينا، دون أن يتكلم، وعندما أستأذناه في الانصراف لم يلح في بقائنا، وصافحنا بنفس الطريقة البسيطة. ومضينا وقد تحول شعوري بالندم لأنني أوقعت نفسي في هذا المأزق إلى غضب عارم على صديقي الذي ورطني في موقف محرج، بل ومهين.. وأدهشني أنه لم يجد فيما حدث شيئًا يدعو للغضب، بل أخذ يضحك وكأن شيئًا لم يحدث وهو يقول ببساطة: هذا هو عبد الفتاح الجمل».

نعم، هذا هو عبد الفتاح الجمل، قدرٌ كبيرٌ من التناقضات؛ بين ما يبدو عليه للوهلة الأولى من جهامة وعدم مبالاة وقسوة ثم «طولة لسان» وحدّة في المواقف، وبين ما تكتسي به روحه من رهافة وخجل وطفولة ورومانسية. رجلٌ لا تملك خيارًا إلا أن تحبه في النهاية، وتحترمه، وتقدِّر كل إنتاج أو فعل يصدر عنه، حتى وإن كانت ورقة بيضاء طواها ووضعها داخل كتاب يقرأه.

يكمل صلاح عيسى: «بعد أربعة أيام فقط، كان إحساسي خلالها بالإهانة قد تحوَّل إلى مرارة، صدر العدد الجديد من ملحق «المساء» فإذا بي أجد مقالي يتصدر صفحته الثالثة، وأجد اسمي منشورًا بنفس الطريقة التي تُنشر بها أسماء الكتاب الراسخين، ومع أنني ذهلت لتلك النتيجة التي بدت لي متناقضة تمامًا مع الانطباع الذي خرجت به من لقائنا، بل وكتبت مقالًا آخر لكي أقدمه له، إلا أنني قررت أن أتجنب لقاءه، فذهبت إلى «المساء» في يوم إجازته، وألقيت بالمقال في الدرج نفسه الذي علمت أنه يخصصه لما يتلقاه من مقالات وقصص وأشعار، ويأخذ محتوياته معه عند انصرافه، ليعكف في بيته على قراءتها ويختار ما يستحق النشر، وصدر العدد التالي من الملحق لأجد المقال منشورًا بالاحتفاء نفسه، ومع ذلك فقد ظللت لشهور طويلة أتعمد أن أترك له المقال في الدرج، وأتجاهل الرسائل التي كان يرسلها لي مع صديقي بأن أمُرَّ في يوم غير يوم إجازته، إلى أن كنت أهم يومًا بالانصراف بعد أن دسست المقال في الدرج، حين سمعت صوتًا يصيح بي من الطرف الآخر للصالة: ظبطتك يابن الـ (.......) يا (.......) ثم وصلة من الشتائم المنتقاة التي تعودنا نحن المصريين أن نعبر بها عن إعجابنا كما نعبر بها عن نفورنا، وعن حبنا كما نعبر عن كرهنا، وكان الصائح هو عبد الفتاح الجمل، الذي قطع الصالة عدوًا وهو يواصل شتائمه لي، لأجد نفسي بين أحضانه الدافئة، وليضع ذراعه في ذراعي ويقول لي إنه جاء في يوم إجازته خصيصًا لكي يقبض عليّ ويدعوني للغداء».

***

المرة الثانية لي مع سيرة الجمل كانت في نفس العام، بعد شهور قليلة من لقائي بصلاح عيسى، في احتفالية «أخبار الأدب» بسبعينية الكاتب الراحل جمال الغيطاني، والتي نُشرت بتاريخ 10 مايو 2015، وبنفس القدر من المحّبة قال الغيطاني حينها: «رَزقنا الله بشخص اسمه عبد الفتاح الجمل، أتذكر بعد عام 1967 كتبتُ قصة باسم «هداية أهل الورى لبعض ما جرى في المقشرة» وأخذتها له في جريدة المساء، وكان من النوع الذي إذا أحب أحدًا جدًا يسبّه، فطلب مني الجلوس، وبعد قراءته للقصة فوجئت به يعتلي الكرسي ويقف فوق المكتب ويرقص ويقول «حاجة جديدة يا ولاد..... حاجة جديدة»، والجالسون كانوا محمد البساطي ومحمد كامل القليوبي ورسامًا اسمه محمد عثمان هاجر فيما بعد للدنمارك، جلس يقرأ لهم القصة بصوت عال، فأخذت أقول لنفسي إنه يجاملني، ما الجديد الذي فعلته؟!».

واستطرد الغيطاني: «استخدمتُ اللغة في القصة كقناع، لدرجة أن عبد الفتاح الجمل عندما ذهب بها للرقيب قال له «شوف الراجل المجنون ده اللي لقى مخطوط وجايبه»، فنشرها الرقيب بالفعل على أنها كذلك».

***

في مستهل رحلتي، أول ما فعلت كان البحث عن معلومات حول عبد الفتاح الجمل عبر شبكة الإنترنت، لكني لم أجد إلا القليل، وروابط تشير إلى ندوات متفرقة أقيمت في ذكرى وفاته خلال السنوات العشرة الأخيرة. حتى عناوين كتبه كانت متداخلة مع كتب أديب وباحث آخر يحمل نفس الاسم، لدرجة أن موقع القراء الشهير «جودريدز» نسب له كتابا لا يخصّه.

صِرت في كل لقاء لي مع أديب من معاصريه، أحرص على سؤاله عنه، فأسمع ما يزيد حماسي للاقتراب من عالم هذا الرجل. لكن عند السؤال عن أعماله وإن كانت متوفرة منها نُسخ يمكنني الاطلاع عليها، تكون الإجابة «تائهة بين كتب كثيرة ومن الصعب العثور عليها حاليًا، لكنني سأحاول».

نزلتُ إلى سور الأزبكية لأبحث عن أعماله القليلة، بعدما توصلتُ فقط إلى نسخة إلكترونية من رواية «محب». وجدتُ الباعة يضعون صفًا لكل كاتب ممن اكتشفهم الجمل وأتاح لهم الفرصة حتى أصبحوا نجومًا في عالم الأدب، لكني لم أجد أحدًا يعرفه بينهم، حتى وإن ادعى البعض ذلك.

كثيرون منهم اختصروا الطريق من البداية بإجابة قاطعة تفيد عدم وجود كتب لعبد الفتاح الجمل، فهو غير معروف لديهم، إلا أن هناك من أخذوا يسألونني عن أسماء أعماله، فيومئ واحد برأسه ويؤكد أنه يعرفه لكنه لا يملك كتبه، بينما يثني آخر على معلوماتي قائلًا «فعلا؛ دي روايته» قبل أن يسأل عن اسم عمل آخر ليعيد عليَّ الرد «ودي كمان روايته أيوَه» ثم بأسف وتأثر يخبرني بأنه لا يملك أي منها في دكانه. وثالث نظر لي وبكل ثقة قال «أيوَه عارفه، ده أستاذ قانون» فاعتذرت منه لخطأ المعلومة وأكملتُ طريقي.

***

ذات يوم، وقع بين يدي العدد 712 من مجلة العربي، ويعود تاريخه إلى مارس 2018، متضمنًا حوارًا للدكتور محمد زكريا عناني، يقول في جزء منه «لقد تنبه مدرس اللغة العربية في المدرسة الابتدائية إلى هذه النزعة الأدبية، وإذا به يهدي إليَّ من مكتبة المدرسة ما رأى أنه يفيد وأن منه نسخًا مكررة.... هذا المدرس كان يحمل اسم عبد الفتاح الجمل؛ المشرف – فيما بعد – على الملحق الثقافي لجريدة المساء، والذي كان الأب الروحي لجيل الستينيات».

هاتفتُ الدكتور عناني على الفور لأتفق معه على موعد للقائه في الإسكندرية، وتحديدًا عند المدرسة الابتدائية، فرحّب بشدة. استغرقت جولتنا ما يقرب من خمس ساعات، شاهدنا خلالها ما طرأ على المدينة من تغيرات، واجتررنا ذكريات تعود إلى أكثر من سبعين عامًا مضت، حول مدرسته، وأستاذه الذي «قَلَب دِماغه».

***

بمرور الوقت أصبح عبد الفتاح الجمل «هوسًا» بالنسبة لي، أتتبع أثر أي قصاصة تحمل اسمه، إلى أن عثرتُ على الباب الصحيح الذي حوّل الفكرة لواقع ثري يمكن التعامل معه.

تواصلتُ مع الأصدقاء في محافظة دمياط؛ الكاتب الشاب إسلام عشري الذي ساعدني في الوصول لعنوان العائلة الصحيح في «أرض الجمل»، ثم الكاتب الخبير سمير الفيل، الذي يندر ألا تجد عنده معلومة عن شخص يعرفه أو تعامل معه.

بعد أسابيع قليلة وجدتُ أمامي عددًا من أرقام التليفونات التي تخص أفراد من عائلة عبد الفتاح الجمل، أخوته وأبناء عمومته، مع رسالة تحذيرية بأن أهالي دمياط لا يأمنون للغرباء وبالتالي - غالبًا - لن يكن مُرحبًا بي هناك.

لا أعرف أيًا منهم، لكني توّسمتُ في أن الأصغر سنًا ربما يكون أكثر تفهمًا لما أريد، وربما تكون طِباع دمياط أقل أثرًا في تعامله، وبين اثنين من شباب العائلة اتصلتُ بـ «علي الجمل» الذي يحمل اسم جدّه، وهو الابن الأصغر للأخ «أسامة الجمل»، فكان متعاونًا لدرجة كبيرة، بدءًا من تحديد موعد مناسب لسفري إليهم، ثم إخبار كبار العائلة ممن عاصروا عبد الفتاح؛ أخيه أسامة، وابن عمه طه، وابن أخيه عوض أحمد الجمل، ثم مرافقتي إلى البيت القديم الذي شهد نشأته في قرية «محِّب»، وإلى مقابر العائلة بعد ذلك.

***

وجدتُ لدى العائلة في دمياط بعضًا من مؤلفات عبد الفتاح الجمل وصوره والكتابات القديمة عنه، والبعض الآخر كان في انتظاري عند أخته الصغرى «تحية» وزوجها «محمد سناء السعيد» اللذين عاش معهما في نفس البيت خلال العشرين عامًا الأخيرة من حياته بمدينة نصر.

خرجتُ من بيتها إلى عالم أكثر ثراءً، حيث مكتبته في «مكتبة القاهرة الكبرى» بالزمالك، التي لا يعلم أحد بوجودها هناك، فالكتب تبدو وكأنها لم تُفتَح منذ قدومها. رحلة موازية، غير هيّنة، استغرقت شهورًا أخرى لأتمكن من الاطلاع على ما يوازي عشرين بالمائة فقط من كتبه، بعدما اضطررتُ إلى تفنيدها كتابًا تلو الآخر، إذ لم تعد المكتبة مستقلة باسم عبد الفتاح الجمل، وإنما فقط كتب مفرَّقة بين الأرفف وسط آلاف الكتب، كلٌ حسب مجال تخصصه!

***

الآن، بعد خمس سنوات – تقريبًا – من التفكير وتحسس الطريق، وستة شهور من العمل المتواصل، أشعر بأن عبد الفتاح الجمل رفيق حياة، وليس رفيق تلك المُدة فقط. أراه في مخيلتي وهو يخطو بكل مرحلة من حياته. أجدني واقفة إلى جانبه وهو يقرأ و«يحمِّض» الصور داخل غرفته بدمياط، وهو واقفٌ في الفصل يدرِّس لتلاميذ الابتدائية، وهو يرسم صفحات الملحق الأدبي والفني بجريدة المساء، وهو يلعب «الطاولة» على مقهى «فينيكس» بشارع عماد الدين، وهو يروي نباتاته في شقته بمدينة نصر، وأخيرًا وهو ساندٌ يديه على سور «بلكونته» يتلمس ضوء ودفء الشمس وعلى وجهه ابتسامة طفولية تنّم عن رضائه باختياراته في الحياة وفخره بمقدرته على تطويعها وعدم الانحناء أمام عقباتها.

***

في السطور التالية؛ نتجوّل داخل قريته محِّب وفي محيط بيت العائلة الذي لم يعد موجودًا، ونزور المدرسة التي شهدت أول عمل له في حياته بالإسكندرية، ونستعرض تفاصيل انخراطه في عالم الصحافة ورحلته مع الملحق الأدبي والفني بجريدة المساء، ثم انتقاله به لجريدة الأخبار لمدة 12 أسبوعًا، وتقاعده المبكِّر بعد عودته لبيته، وعمله بدار الفتي العربي لمدة ست سنوات.

ننفرد بنشر أول قصيدة لأخته «تحية» كتبتها عنه بعد وفاته بأربعة أعوام، وكانت المحاولة الأولى لها، توالى بعدها الكثير دون أن تنشر أيًا منها. ونستخرج الحكايات التي تحويها كتبه بما عليها من إهداءات، بأقلام نجيب محفوظ والأبنودي والغيطاني والبساطي والمخزنجي وبدر الديب وخيري شلبي وعبده جبير وسعيد الكفراوي ويوسف القعيد وغيرهم. ونتساءل: لماذا لم تُجمَع أعمال عبد الفتاح الجمل حتى الآن؟ يجيبنا وزراء الثقافة السابقين، ويرحب أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة بإصدار تلك الأعمال.

وفي النهاية؛ نعرض مقالين للمحِّب سارت بينهما حياته و37 سنة من الكتابة، الأول عام 1956 بجريدة المساء وكان باكورة إنتاجه الصحفي في باب «يوميات الشعب»، والثاني هو الأخير في سلسلة مقالاته التي نشرها تحت عنوان «أزعرينة» بجريدة «أخبار الأدب» عام 1993 قبل وفاته بأقل من أربعة شهور. وللعثور عليهما تطلب الأمر قدرًا كبيرًا من البحث في «الأرشيف»، داخل مؤسسة أخبار اليوم، ومركز المعلومات بدار التحرير.

ونختتم الملف بمعرض صور بعدسة عبدالفتاح الجمل، إذ كان التصوير هوايته الأثيرة منذ سنوات مراهقته وحتى شيخوخته، وقد  حصلنا عليها من أرشيف صور العائلة.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من قصيدة «المتهم» لعبد الرحمن الأبنودي

 

00000001 (26)

«قرية محِّب»

غيّرت العنوان

 

في قرية محِّب بدمياط، بيتٌ ريفي واسع، لا تقل مساحته عن ثمانمائة متر، تتضمن حدوده جنينة، بها فُرن للخَبيز وغرفتان للفراخ والبط والوز، ويتناثر في زواياها النخل وأشجار الجوافة و«عنبتين» و«توتة»، ومبنى من دورين يسكنه أخوان (علي وأحمد)، كلا منهما بعائلته.

رُزق الأخ الأكبر «علي» - تاجر الغلال - بمحمد، ثم عبد الفتاح في 22 يوليو 1923، ومن بعده ولدان وبنت. خمسة أطفال تركتهم الأم بعد سنوات قليلة من وصولهم إلى الحياة، فتزوج الأب من ابنة أختها، لتصبح «بنت خالة الأولاد» أمًا ثانية لهم، وتمنحهم خمسة إخوة آخرين.

***

في محيط البيت، وقفتُ أتأمل المكان، بعد مضي ما يقرب من القرن، أبحث عن تلك القرية التي هام في عشقها عبد الفتاح الجمل، وكانت عنوانًا للكتاب الأهم والأبرز في مسيرته الروائية. لم أجدها حرفيًا، واكتشفتُ أن الرواية وحدها هي الباقية، بينما المكان غيّر عنوانه.

لا أحد من الأجيال الحالية يعرف محِّب، ومن يعرفونها من الأكبر سنًا يلزمهم بعض الوقت ليتذكروها، هي الآن «المِنية»، المليئة بوِرش الخشب ومحال الموبيليا. أما البيت فقد تهدّم وبُني على مساحته أربعة بيوت، لم ينج من ذكراه سوى غرفة من الطوب اللبن تبدو كـ «مكعّب» صغير، وشجرة ضخمة تتجاوز ما حولها طولًا وتحتل بأغصانها المترامية قدرًا غير يسير من الأرض، وبجانبها «منزة» جافة كانت تأتي بمائها من شارع الوزير لتسقي الزرع بواسطة شادوف، وفي المنتصف بين بيتين يقف جذع نخلة مقطوع الرأس.

***

كبِر عبد الفتاح وسط عائلة أفرادها كثر، أحبَّهم، لكن خاله «إبراهيم عرنسة» ظل الأقرب لقلبه، وعلى دربه سار، إذ كان «عُمدة»، وكانا يجلسان سويًا ويتحدثان في السياسة والثقافة وغيره. معه عرف القراءة والأدب، وعلى الطريق أغوته الفنون، فاكتفى بذلك عما سواه.

كان له جناح خاص، أقرب إلى صومعة، لا يدخله الآخرون، ولا ينقصه شيء. يضم سريرًا وحمّامًا، وركنًا للكتب داخل الحائط، وطاولة صغيره مرفقًا بها كرسي، وكاميرا «كوداك» قديمة تشبه الصندوق، وزاوية لتحميض الصور.

***

عند ناصية الشارع، على بُعد أمتار قليلة من البيت، يقع «جامع محب»، المعلَم الأقدم الذي مازال محافظًا على هيئته، لكن ذلك لا يمنع أنه خضع للتجديد مرتين، وتهدّمت مآذنه. يعلوه الآن دار تعمل كحضانة في أوقات الدراسة، وكُتَّاب أثناء الأجازة، ووُضعت «يافطة» مكتوب عليها «دار حضانة الأنصار الإسلامية».

أخبرني ابن عمه طه الجمل أن عبد الفتاح في صغره كان يعشق تسلق النخل، وصنع الطائرات الورقية وإطلاقها في الهواء. ولعل ذلك هو سر وجود النخلة في معظم كتاباته، ففي «محب» مثلًا يقول عنها: «النخلة عمود حياتنا، إذ هي فضلًا عن منافعها المعهودة، مقياسنا للزمن، وحساباتنا بظلها لا تخيب أبدًا، بالرغم من اختلاف طول الظل واتجاهه مع خطوات الفصول التي لا تتوقف، ونمو ظلها نفسه مع خطى الأيام».

وفي «آمون وطواحين الصمت» كتب: «لا شيء في النخلة يذهب هدرًا، النخلة لا تعرف الهباء، النخلة التي تجعل من خدها للإنسان مداسًا، ومن قلبها الجمار له طعامًا وشرابًا سائغًا ومشعًا، يطلق روحه كالحمامات من أبراجها، ومن جسدها مأوى وملبسًا ومعبرًا ووقودًا ونارًا ودفئًا، ومن أطرافها أدوات، ومن سعفها حمى وطقوسًا وظلالًا وغناء وحجابًا واقيًا ورجمًا بالغيب واستشفافًا للمخبأ».

***

رغم سفره إلى الإسكندرية منذ سن صغيرة واستقراره في القاهرة بعد ذلك، إلا أن علاقته بعائلته وإخوته ظلت قوية، إذ يحرص على النزول إلى دمياط مرتين على الأقل كل عام، لم تكن زيارته تطول عن بضعة أيام وفي جزء كبير منها ينشغل بالكتابة، لكنها كانت تمثل عيدًا للعائلة.

أما بقية العام فكان يراسلهم خلاله، حتى وهو خارج مصر، فمن بين أوراقه، التي انفردنا بالحصول عليها، يظهر «كارت بوستال» مُرسَل من سويسرا إلى السيد أحمد علي الجمل (منية، دمياط) يحكي له فيه تفاصيل من يوميات رحلته هناك، يقول: «لا تؤاخذني إذا كتبت إليك، لأن قلمي في هذه الأيام مصاب بالإسهال، ويريد أن يطرطش عليك، ولا شيء يوقفه أبدًا، أسوِّد كل يوم عشرات الصفحات، وقد ملأت جميع الورق الذي اصطحبته معي، واشتريت غيره من هنا بالغلا. تصور أنني حلقت اليوم بما يعادل ثمانين قرشًا صاغًا، ولكن الحياة هنا جميلة رائعة، ولن يثنيني شيء عن السفر كل عام.. كل يوم أعقد عشرات من الصداقات، من إيران وإيطاليا وإنجلترا حتى الآن، وبعد ثلاثة أيام أقفز إلى النمسا.. سلامي إلى سقاطة باب المنزة وعسى أن يكون طه بخير.. اتمسوا بالخير. عُبد الورد، انترلاكن سويسرا في 11/8».

عندما استغربتُ التوقيع، أخبرني عوض الجمل أن «عُبد الورد» كانت كنية يستخدمها عمّه لنفسه، وحينما يرسل معه سلامًا لأحد يطلب منه أن يخبره قائلًا «عُبد الورد بيسلِّم عليك».

00000001 (4)

ما يتضمنه الخطاب يشير إلى أن تلك هي الرحلة التي ذهب فيها عبد الفتاح الجمل بصحبة الدكتور أحمد مختار الجمال وأسرته، وذكرها الجمال في مقاله (رحلة عمر، مجلة الثقافة الجديدة، 1992): «قمنا معًا عبد الفتاح وأنا وأسرتي برحلة العمر بالسيارة من قطر إلى المملكة المتحدة، ومررنا ببلاد كثيرة منها السعودية والكويت والعراق ولبنان وسوريا وتركيا ويوغوسلافيا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا والنمسا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر، ثم العودة إلى مصر من جديد عبر تركيا».

***

«لم نعرف قيمته سوى بعد وفاته». تكررت تلك العبارة على مسامعي من أفراد عائلته، وكان الأكثر حرصًا عليها هو أخوه «أسامة الجمل»، الذي يصغره بثلاثين عامًا، وينعته بالأستاذ عبده. يقول: «أقيمت له احتفالات، وجاءتنا جوابات من منظمات وجمعيات في كل دول العالم، واستمرت لبعد وفاته بمدة طويلة. وفي العزاء بمسجد عمر مكرم وجدنا أجانب وشخصيات مهمة، نجيب محفوظ كان موجودًا».

كان عبد الفتاح، الوحيد بين أشقائه الخمسة، الذي أكمل دراسته. يقول طه الجمل، الأقرب سنًا له إذ يصغره بخمس عشرة سنة فقط، إن تلك نباهة منه، لكنه لا ينكر أن والد عبد الفتاح «الحاج علي» شجّعه عندما وجده متفوقًا، إذ كان معفيًا من المصاريف. ويتذكر ابن أخيه عوض موقفًا حكاه له بطل رحلتنا: «الملك فاروق قابله وسلّم عليه لاجتهاده في الكلية، وعندما رآه قال له اجمد يا جمل».

وعلى ذِكر الجمل، يحكي المخرج محمد كامل القليوبي في مقال بعنوان «زمن عبد الفتاح الجمل» كتبه في الذكرى الحادية والعشرين لوفاة ابن محِّب (الأهرام، 13 فبراير 2015): «كان عبد الفتاح يعلِّق على جدران منزله بين العديد من اللوحات لعدد من الفنانين المصريين، صورة فوتوغرافية لجمل يطّل برأسه من خلف حائط قام بتصويرها بنفسه، وعرضها في معرض للتصوير الفوتوغرافي أقامه في مدينة أسيوط عام 1953 عندما كان يعمل بالتدريس وقبل أن ينتقل للعمل بجريدة المساء عام 1956، وكان يشير إلى الصورة ضاحكًا وهو يقول (صورة جدي)».

في عام 1992، طبع عبد الفتاح على روايته الأخيرة «محب» إهداءً إلى أخيه «علي» يقول فيه: «إلى أخي الحاج علي، أهدي هذا العمل، منذ أن أسعفتني ذاكرته في القريب من الأحداث، أما البعيد الموغل فهو لي، منذ أن جَنحت مني الملعونة وحرَنت، ونامت في الخط هناك، وقد زحفت بأظلاف قطعانها المدينة، والتهمت في معدتها الزلط، من محب، الإيقاع والملامح والنفَس والنكهة. عبده».

تضمنت الرواية أحداثًا وشخصيات حقيقية، بأسمائهم، لذا أحدثت صدامًا بعد نشرها، ولهذا السبب أخبر عبد الفتاح الجمل ابن أخيه عوض قبل شهر من صدور «محب»، بأنه لن يستطيع القدوم إلى القرية مرة أخرى. وبعد صدور الرواية وما أصابته من نجاح وكتابة قراءات نقدية كثيرة حولها، قال له «أنا أول شخص يحضر تأبينه قبل وفاته».

***

حين وُلد أسامة كان عبد الفتاح قد ترك دمياط واستقر في القاهرة، مستأجرًا شقة صغيرة بميدان الجامع في مصر الجديدة، تتكون من غرفتين وصالة ومطبخ وحمّام، لا يقضي فيها وقتًا طويلًا، لأن معظم يومه كان إما بجريدة «المساء» حيث يعمل صحفيًا، أو على مقهى فينيكس بشارع عماد الدين يلعب «الطاولة» مع أدباء «جيل الستينيات».

يقول محمود الورداني (أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «كان حريف طاولة وينخرط في اللعب باهتمام بالغ، إلا أنه مع ذلك كان يشارك في النقاشات الدائرة بلا كلل».

لأسامة ولدان، علي ومحمد، يقول إن محمد كان يسافر إلى عمّه بالقاهرة في الأجازات، وهو من كتب عنه سمير الفيل ذات مرة (سبعة وجوه للرحيل، أخبار الأدب، 1998): «ابن أخ عبد الفتاح نفسه تلميذ لي، أدرِّس له وقائع الحملة الفرنسية، فيتنطط لأنه لا يريد أن يحفظ التواريخ، ولا تعجبه صورة نابليون، يترك كل ذلك ويحدثني عن عمّه البارع جدًا في التصوير الفوتوغرافي. لا أخبره أنني أعرفه شخصيًا حتى لا يفلت عيار الولد الذكي المشاغب».

***

اعتاد إخوته وأبناء عمومته زياته في القاهرة، والبيات معه أحيانًا في المنزل. ما يتذكرونه أن حياته كلها كانت كُتب، والشقة مكدّسة بها حتى السقف. يستيقظ في الفجر ليقرأ ويكتب على نغمات الموسيقى الهادئة. يقول عوض الجمل: «كان من أنصار الفن للحياة لا الفن للفن. ولم يحب التملق أو المظاهر، حتى الأوبرا كان يذهب إليها ببنطلون وقميص».

يزيد طه الجمل: «لم أره يومًا ببدلة».

وتنزهًا عن دنيا المظاهر، كان عبد الفتاح يحب الجلوس مع العمّال والنجارين في دمياط، وكذلك في القاهرة، يقول يوسف القعيد (المصور، 25 فبراير 1994): «في الوقت الذي انسحب فيه من دنيا المثقفين كان مقبلًا على حياة أولاد البلد. عندما امتلك سيارة مستعملة لأول مرة، طلب مني أن أعرّفه على ميكانيكي جيد وعندما توثقت صلته بأحمد الميكانيكي أصر على دعوته على الغداء في نقابة الصحفيين».

 

00000001 (25)

مدرِّس

لغة عربية بأبو قير الابتدائية

تلميذه النجيب زكريا عناني:

  • وجدني أرسم في حصة الإنشاء فقال لي تعال بكرة ومعاك مِخلة

  • حذرني من الوقوع في أسر كامل كيلاني.. ونصحني بالنظر حولي والكتابة من الواقع

  • أهداني مجموعة كتب لا تُنسى.. على رأسها «الأيام» و«يوميات نائب من الأرياف»

 

فور تخرجه في كلية الآداب بجامعة فاروق (الإسكندرية حاليًا) عام 1945، عمِل عبد الفتاح الجمل مدرسًا للغة العربية بمدرسة «أبو قير» الابتدائية للبنين، التي أنشأها رهبان كنيسة الآباء الفرنسيسكان في ثلاثينيات القرن الماضي. كانت تواجهها آنذاك محطة قطار، صارت الآن بعيدة بعض الشيء، ويفصلهما شارع عريض تسكنه المحلّات التجارية على الجانبين.

كان محمد زكريا عناني (مواليد سبتمبر 1936) حينها تلميذًا في الصف الرابع، يهوى قراءة القصص الخيالية والأساطير، ويهيم في مؤلفات كامل الكيلاني، حتى تقابل مع الأستاذ الجديد عبد الفتاح الجمل، و «قلَب دِماغه» كما يقول، بل وحياته أيضًا، إذ تألق عناني في مساره الأدبي كناقدٍ وأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، حتى توّج مشواره عام 2017 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.

استقليت القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، وفي محطة «أبو قير» بدأت زيارتي إلى محل العمل الأول لعبد الفتاح الجمل، حيث اصطحبني الدكتور عناني إلى المدرسة، الكائنة بشارع نجريج – نسبة لسكانه القدامى من اليونانيين –، وفي الطريق أخذ يحكي لي عن المدينة في تلك الفترة من الماضي قائلًا: «كانت أبو قير تختلف عن الواقع الحاضر خلافًا بينًا، السكان عددهم قليلًا، يحترفون مهنة الصيد وما يتبعها كبناء السفن، والسوق به بائعي السمك والصناعات الشعبية البسيطة للغاية، لم تكن في البلد مساكن ذات طابع راقي فخيم، ربما فقط على الساحل وعند بعض الكازينوهات المطلة على البحر، أما الغالبية العظمى من البيوت فكانت بسيطة أو لنقل فقيرة».



محمد زكريا عناني

تعلّم محمد زكريا عناني المبادئ الأساسية للغة العربية والحِساب وحفظ القرآن، في «طابية طوسون» ذات الفصول الخالية من الشبابيك والنوافذ، إلى أن قيل لهم إن مدرسة ابتدائية سوف تفتح أبوابها في غد قريب، وكان الغد ماثلًا في كنيسة ليست قبطية، ضخمة وقريبة من محطة القطار، مبنية بالطوب الأحمر ويبدو عليها الوقار. يتذكر عناني: «كل ما أملكه عن هذه الفترة صورة وأنا في الصف الأول الابتدائي، تضم ناظر المدرسة الأستاذ طنطاوي وعدداً من الأساتذة، بينهم ثلاثة مطربشون، وستين أو سبعين تلميذًا من بينهم هذا التلميذ الذي يرتدي الجاكتة والقميص الأبيض ويقف في قلق من أن يأتي بشيء يدفعهم إلى توقيع العقاب عليه، وهو المدعو زكريا عناني».



أقدم صورة لمحمد زكريا عنانى خلال سنواته الأولى بمدرسة أبو قير الابتدائية فى أربعينيات القرن الماضى

نظر عناني إلى الصورة متمعنًا، لم يكن بين الأساتذة عبد الفتاح الجمل، فنفَذ من «شبابيك» الفصل الخشبي البادي من الخلف، إلى أغوار الذاكرة، محاولًا استجماع مشهد واضح لأول مرة رآه فيها، يقول: «كانت حصة إنشاء فيما أعتقد، بدت شخصيته مختلفة تمامًا عن الأساتذة جميعًا، كان نحيفًا ومعظمهم ممتلئي الأجساد، يدخّن سجائر - فيما أذكر - والآخرون لا يدخنون، وكان منعزلًا عنهم شيئًا ما. في تلك الحصة المحظوظة، أو المشئومة، مرّ لكي يراجع ما كتبناه في مادة التعبير، ونظر إلى ورقتي فلمح رسمًا، كنت معتادًا على فعل ذلك قبل الكتابة. نظر إليَّ غاضبًا، قُلت لعله سيستخدم المسطرة فورًا، لكنه أمسك بالورق، وكأنما رأى شيئًا، قال لي اجلس في الوراء، ففعلت، ثم طلب مني الصعود إليه في مكتبة المدرسة بعد الحصة، فذهبت إليه، ويا للدهشة! لم يكن غاضبًا مني، وإنما قال لي ببساطة شديدة: تعال بكرة وهات مِخلة معاك».

نظرتُ للدكتور عناني متعجبة وأنا أتساءل «مِخلة؟!»، فأخبرني أن ذلك كان رد فعله أيضًا، لكن كلمات الجمل جاءته سريعة وحاسمة «اسمع الكلام وما تقولش لحد». يكمل: «ذهبت للمدرسة في اليوم التالي ولم أجده في قاعة المدرسين، صعدتُ إلى المكتبة فوجدته قد اختار لي مجموعة من الكتب لا أنساها في حياتي، على رأسها كتاب «الأيام» لطه حسين، الذي ظل يلازمني أعوامًا طولاً حتى حفظت صفحاته، وكتاب «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، و «نداء المجهول» لمحمود تيمور، وكان نصه صعبًا عليّ حينذاك، لكني ظللت على مدى سنوات أحتفظ به وعندي أمل أن أستوعب هذا الجانب الغريب فيه، وكتاب اسمه «حكايات شكسبير»، اكتشفت فيما بعد أنه يضم نصوصًا لمسرحيات شكسبير كُتبت على أنها حكايات وقصص وليست أعمال مسرحية».

ابتدع زكريا عناني منهجًا لنفسه في القراءة، بأن يفعلها وهو «يتمشى» على البحر، فكان يصادف أن يرى الجمل يمشي وحيدًا، لا يعرف لماذا، لكنه لا ينسى كلماته «يا محمد، لا تجعل نفسك أسيرًا لقصص كامل كيلاني. انظر واكتب مما يدور حولك، والتقط من الواقع والأرض».

المدرسة من الخارج

ظلت تلك الكلمات تطن في أذني محمد، إلى أن كتب قصته الأولى «إني راحل» في نهاية المرحلة الابتدائية، عن طفل لديه عاهة في قدمه، يضيق بالناس الذين يمرون، لأن بعضهم يركله وبعضهم يصيح فيه أن يبتعد، وأخيرًا يقرر الولد الانتقام بإشعال النار في شيء ما ليتلذذ بها وهي تعوي من حوله.

وانتقالًا من الابتدائية إلى المرحلة الثانوية بمدرسة الرمل، شعر عناني بتحقيق شيء من النجاح فيما يلقي من نصوص في خطبة الصباح أو ينشر من كتابات، فخطَّ كتابه الأول «طريق الحياة» في يوليه 1954، قبل أن يتم عامه الثامن عشر، وفي مقدمته أشار إلى أن صاحب الفضل الأول في توجيهه هو الأستاذ عبد الفتاح الجمل، المدرس بكلية أسيوط الآن.


مقدمة المجموعة القصصية الأولى لمحمد زكريا عنانى وهو فى المرحلة الثانوية وتتضمن إشارة لعبد الفتاح الجمل صاحب الفضل الأول فى توجيهه

لا يعلم عناني من أين جاء بمعلومة «كلية أسيوط الآن» أو ماذا تعني، لكنه طمح في إيصال نسخة من الكتاب إلى أستاذه، وظل الأمر في نفسه حتى أنهى دراسته الجامعية عام 1961 وذهب إليه في جريدة المساء، فاستقبل منه الكتاب بكل رضا، وعرّفه حينها للمحيطين به قائلًا «هذا تلميذي من مدرسة أبو قير الابتدائية».

طلب الجمل من محمد عناني أن يتشجع ويحضر له مقالاته، لكن عناني سافر إلى خارج مصر لفترة طويلة، نال خلالها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، وبعدما عاد عرف من الأصدقاء أن أستاذه صار أستاذًا لجيل بأكمله.

ينهي عناني حديثه قائلًا: «هذا الرجل العظيم لن يتكرر أبدًا». ويتساءل: «لماذا نترك هذا الكم من مقالاته بدون جمع؟ لقد كان دؤوبًا، وأتصور أنه لم يكتب شيئًا لا يستحق أن يُنشر مرة أخرى».

00000001 (39)

قلمٌ 

لا ينحني لـ «سُلطان»

 

انتقل عبد الفتاح الجمل، مدرس اللغة العربية، من الإسكندرية إلى أسيوط، وهناك استمر في ممارسة هوايته في التصوير، إلى أن أقام معرضًا للتصوير الفوتوغرافي هناك عام 1953.

إلى جانب تلك الهواية، كان عبد الفتاح يهوى السفر، يقول محمد القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994): «عندما كان طالبًا بكلية الآداب بجامعة فاروق اعتاد في كل صيف أن يضع نفسه على سطح أية سفينة مبحرة إلى أوروبا ليحضر عروض المسرحيات والأوبرات والباليهات العالمية، ويشاهد المتاحف والمعارض ويتسكع بين المكتبات ومحال الأسطوانات».

ذات يوم أثناء تواجده بالإسكندرية، ذهب إلى الميناء وصعد على ظهر سفينة، دون أن تكون له وجهة محددة، وإنما ظل سائحًا في بلاد الدنيا لمدة تقرب من عام، قبل أن يعود إلى القاهرة ويعمل مدرسًا مرة أخرى في الجامعة الأمريكية.

كانت تلك محطته الأخيرة في التدريس قبل الولوج إلى عالم الصحافة، واستبدال البدلة بالقميص والبنطلون. ولذلك الانتقال قصة يرويها عبد الرحمن فهمي (الجمل والصقر، جريدة الجمهورية، 21 فبراير 1994): «كنا في جريدة المساء قبل أن يصدر أول عدد في أكتوبر عام 1956، وكان معنا الصديق رائد العطار سكرتير التحرير، وكان يزوره شخص خجول متواضع، لا تفارق الابتسامة وجهه الهادئ، وكانت الصفحة الأخيرة في المساء فيها يوميات قصيرة يتبادل الكتابة فيها عدد من كبار الكتاب مثل لطفي الخولي ومحمد عودة ومحمد عبد القادر حمزة ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وغيرهم من الشوامخ.. فإذا بهذا الضيف الهادئ الباسم يكتب اليوميات ذات مرة، فيصعد الأخ مصطفى بهجت بدوي (مدير إداري جريدة المساء في ذلك الوقت) من الدور الأول حيث الإدارة إلى الدور الثالث حيث التحرير، ويبدي إعجابه الشديد بهذا الكاتب الجديد عبد الفتاح الجمل، ويقرأ خالد محيي الدين اليوميات، فيمط شفتيه كعادته إعجابًا بهذا الكاتب المميز صاحب الأسلوب الجديد.. خلط العامية في اللغة العربية الفصحى بطريقة العجين المتماسك الذي يخرج لك خبزًا أدبيًا شهيًا.. ساخنًا.. والسخونة هنا تأتي من الموضوع الذي يمس به أعصاب وأوتار الناس.. كل الناس.. فقد كان عبد الفتاح يعبِّر عن هموم الشارع المصري بطريقة رائعة.. وهنا تقرر تعيينه في جريدة المساء.. فصرخ عبد الفتاح رافضًا، إنه مدرس لغة عربية في الجامعة الأمريكية ويتقاضى مرتبًا كبيرًا، وله تلاميذ ومريدون، فضلًا عن أن هوايته التدريس والأدب.. فتقرر أن يعمل بعقد دون تعيين. وفجأة.. قرر عبد الفتاح الجمل تقديم استقالته من الجامعة الأمريكية مضحيًا بالمرتب الكبير.. لقد استهوته روح الصحافة ومناخها».


IMG_20200217_141317

استمر الجمل في نشر مقالاته في باب «يوميات الشعب»، إلى أن صار في أواخر 1961 مسئولًا عن الصفحة الأخيرة بأكملها وتجميع مادتها وتصميمها، وكانت تمثل احتفاءً صحفيًا خاصًا بالآداب والفنون.

بدءًا من أواخر عام 1962 ظهر الملحق الأدبي والفني للمساء تحت إشرافه، في أربع صفحات تصدر مساء الأربعاء من كل أسبوع، تظهر فيها عدة سمات يشير إليها فتحي فرغلي (صفحة المساء، مجلة القاهرة، مارس 1994): «ندرة أو انعدام المادة الإخبارية إذ أتاح الملحق فرصة لما هو أكثر من الأخبار، التنوع في المادة والتوسع في تناول الموضوعات المتعلقة بالفكر عامة وبالمجتمع في تلك الفترة التي كان يعتبر الفن فيها من الكماليات شديدة الترف والرفاهية بالنظر إلى ظروف المجتمع الذي يخوض الحروب ويواجه التحديات ومعارك البناء، الاهتمام بالترجمة إلى حد نشر روايات وأعمال طويلة مسلسلة لعدة أيام، نافذة للإبداع العربي، وتقديم الأصوات الجديدة جنبًا إلى جنب مع الأسماء المعروفة».

يصفه جمال الغيطاني في تلك الفترة (طفولة عبد الفتاح الجمل الدائمة، عالم اليوم، 10 يوليو 1992): «مكتبه قديم الطراز، أمامه أوراق الماكيت، ومسطرة طويلة، وأقلام رصاص، وأستيكة وبروفات على ورق مستطيل، ومخطوطات شتى، وأحلام وإبداعات جيل بأكمله، الجيل الذي عرف في تاريخ الثقافة المصرية بجيل الستينيات أو ظاهرة الستينيات».

بعد حرب 1967 بفترة، أجريت بعض التغييرات في الهيكل التحريري والإداري لدار التحرير وصدر قرارًا بإيقاف الملحق، يذكر محمود الورداني حالة عبد الفتاح الجمل حينذاك (صاحب المعطف الذي خرج منه جيل الستينيات، أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «ذهبتُ ذات ظهر لزيارته بالجريدة فوجدته واقفًا بحذائه فوق مكتبه، يهتف بصوته الجهوري: مات المساء الأدبي والفني! مات المساء الأدبي والفني!.. كان يلقيها مدعيًا الجدية والرصانة، ثم ينفجر فجأة: هاهاي.. وبدأ يخطو ماشيًا فوق صف المكاتب ضاحكًا: مات المساء الأدبي والفني! وكأنه منادي القرية يبلغ أهلها بموت ميت، وظل يدور على هذه الحال دورات عديدة».

00000001 (22)

تولى محمود أمين العالم رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم عام 1968، وقد كان ملمًا بتجربة عبد الفتاح الجمل في المساء، فانتدبه وكلّفه بمهمة الإشراف على المحلق الأدبي والفني لجريدة الأخبار. يقول خيري شلبي (عصر عبد الفتاح الجمل، مجلة القاهرة، 1994): «بدأ عبد الفتاح يخطط لملحق يحقق في الحياة الثقافية العربية حضورًا وفعالية. ونجح بالفعل في ذلك. صدرت الأعداد الأولى من ملحق الأخبار على ورق أبيض، وبإخراج بديع، وتفاءل الجميع، وبتنا نتوقع أن يشهد الملحق تطورات أكثر فعالية في السنوات المقبلة، وأن يكون حقلًا خصيبًا لاستنبات المواهب الأدبية».

اتخذ ملحق الأخبار شكلًا مختلفًا عن شكل الجريدة، إذ انقسمت كل صفحة من القطع المعتاد إلى صفحتين، لتشمل الأربع صفحات ثمان صفحات ذات قطع صغير ومطوية كالمجلة، يتم توزيعها يوم الأحد من كل أسبوع، وقد صدر العدد الأول في 29 يونيه 1969، بافتتاحية لمحمود أمين العالم استعار فيها فكر عبد الفتاح الجمل ومهّد لقوانينه وشروطه التي يفرضها على صفحاته، بألا يتدخل أحد في اختياراته ولا يفرض عليه أي كاتب. يقول العالم: «قالوا لي: لا تبدأ الملحق الأدبي والفني بقصة لكاتب مجهول الاسم، مهما كان المستوى الرفيع لقصته. ابدأها بقصة كاتب لامع الاسم، أيا كان مستواها، فهذا أضمن لنجاح هذا المشروع الجديد. والحق، إني ترددتُ قليلًا. قلت لنفسي، لماذا لا أبدأ بالكاتب اللامع الاسم، فأضمن أولًا نجاح المشروع، ثم أتزود بهذا النجاح لتقديم الكاتب المجهول الاسم بعد ذلك؟؟ ترددت، لأن المشروع الأدبي والفني هو جزء من مشروع اقتصادي أكبر.. هو الصحافة.. إلا أني سرعان ما أحسست أن ترددي هذا هو تردد في المشروع الأدبي والفني نفسه.. تردد في فلسفته التي اخترناها بوعينا وإرادتنا.. إنه من أجل الجديد في أدبنا وفننا وثقافتنا عامة. لهذا سرعان ما تخلصتُ من ترددي وقلت: فلتتبوأ القصة التي لم يشتهر كاتبها بعد، مكان الصدارة في أول ملحق أدبي وفني نقدمه، ما دامت تحمل روح الجديد».

 كان الاسم الجديد هو محمد البساطي، وقصته «لعبة المطاردة» التي أفرِدت على صفحتين من الملحق. وتوالت بعدها الأعداد متضمنة قصصًا لأصوات شابة آنذاك، مثل جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، بهاء طاهر، محمود درويش، عائد خصباك، أسامة أنور عكاشة، ونواف أبو الهيجاء، بالإضافة إلى قصص مترجمة، ومقالات متنوعة لأدباء ونقاد وفنانين لمعت أسماؤهم فيما بعد. وتخللت الأعداد رسائل من أثينا ولندن لرشدي صالح كانت تتصدر الصفحة الأولى من الملحق.


215152

لم يستطع عبد الفتاح الجمل المقاومة وفرض شروطة لمدة طويلة، خاصة مع تصاعد تساؤلات استنكارية حول الاستعانة بشخص من الخارج وتنحية كل الكوادر ذوات الحق من داخل الدار، يكمل خيري شلبي: «لقى عبد الفتاح صنوف العنت والمقاومة. وكان جديرًا بأن يحتمل كل هذا وأن يقاومه بالتحدي والإصرار على النجاح. إلا أن حملات الإرهاب بدأت تطارده أشكالًا وألوانًا، تضع في طريقه العراقيل والمعوقات. وكان يحتمل، إلى أن ذهب لعمله صباح ذات يوم بمؤسسة الأخبار.. فلم يجد مكتبه، ولما شرع في البحث عنه فوجئ بأنه سيقطع رحلة في متاهة دونها متاهة مستر كاف بطل رواية المحاكمة لكافكا، خشى أن تفضي به الرحلة بعد خطوات قليلة إلى التشكيك في وجوده نفسه، فرضى من الغنيمة بالإياب، وبات الملحق محض ذكريات».

كان العدد الثاني عشر بتاريخ 14 سبتمبر 1969 هو الأخير لعبد الفتاح الجمل في دار أخبار اليوم. تولى مسئولية الملحق من بعده رشدي صالح وأنيس منصور، واتخذ شكل الصفحة العادية في الجريدة، متضمنًا أخبارًا وتقارير أقرب إلى الترفيهية، وكانت القصة الرئيسية لذلك العدد لأنيس منصور. يصفه محمد البساطي (يومها جلسنا في المقهى نلعب الطاولة بحماس شديد، مجلة الثقافة الجديدة، 1992): «كان شيئًا عجيبًا. ألغوا شكله المميز وجعلوه في حجم صفحات الجريدة وكأنهم يزيلون أي أثر للملحق السابق. أما عن مادته فكانت أشد عجبًا. فرقعات فنية. وقفشات وأخبار النجوم. أشياء مسلية تقرأها وأنت شارد الذهن مثل ما نراه الآن يملأ صحافتنا».


47

عاد عبد الفتاح الجمل إلى المساء ليباشر الصفحة الأدبية لعدة سنوات أخرى، مع كتابة مقالاته اليومية والأسبوعية، ونشر إبداعاته، وفي السنوات الأخيرة بالعقد الثامن من القرن الماضي، تقدّم بطلب «معاش مبكِّر» لأن الأجواء لم تعد محتمَلة، ففضّل التقاعد بكبرياء وفي هدوء.

يقول د.محمد كامل القليوبي (زمن عبد الفتاح الجمل، الأهرام، 13 فبراير 2015)، إن مقالاته اليومية اتسمت بالموضوعية ولم تشوبها كلمة في مدح سُلطة أو صاحب سلطان، بل وتسببت كتاباته ومواقفه في إحداث مشاكل أحيانًا كثيرة، تحمل وحده تبعاتها، ولكنه لم يتخل للحظة عن مبادئه وأفكاره. ويضيف: «هو صاحب أغرب قرار بتعيين مدير تحرير لإحدى الصحف القومية، إذ وضع شرطًا لترقيته التي كان لابد منها لمنصب مدير تحرير، بأن يكون مديرًا لتحرير الصفحات الداخلية فقط حتى لا يصبح مسئولا عن الكذب في الصفحة الأولى.... وكانت صفحته هي المنفذ الوحيد للنشر في مصر لكاتبينا الكبيرين صلاح عيسى الذي نشر له في حلقات دراسته الهامة عن الثورة العرابية، وإبراهيم فتحي الذي نشر له حلقات دراسته المتميزة «العالم الروائي نجيب محفوظ» وكان الاثنان ممنوعين من النشر بسبب مواقفهما السياسية المعارضة للنظام، ولم يكن المنع رسميًا وإنما عرفيًا».

***

بعد تقاعده عن العمل بجريدة المساء، التحق عبد الفتاح الجمل بدار الفتى العربي الفلسطينية المختصة بأدب الأطفال والفتيان، كرئيس هيئة التحرير في الفترة من 1979 إلى 1985، أصدر خلالها كتابه «حكايات شعبية من مصر» مصحوبًا برسومات الفنان إيهاب شاكر، كما ترجم كتاب «حكايات أيسوب» بجزءيه، وترجم كتابًا عن أطفال الانتفاضة بعنوان «يوم العلم» وكلها نُشرت في دار الفتى العربي.

بحسب مديرة الدار حسناء مكداشي، كان الفنان عدلي رزق الله، المدير الفني للدار حينذاك، أول من دعا الجمل للعمل معهم، تتذكر له: «كان عبد الفتاح الجمل أول من استقطب الدكتور محمد المخزنجي ونشر له كتاب «الآتي» الذي رسمه الفنان الكبير حامد ندا، كما استقطب الكاتب أحمد زحام ونشر له كتاب «حصان العم رضوان» و«السلطان والقمر». وقبل استقالته شكّل الأستاذ عبد الفتاح لجنة من الأدباء لتقديم «ألف ليلة وليلة: للفتية العرب» وتألفت اللجنة من الناقدة والأكاديمية العراقية الدكتورة فريال جبوري غزول والدكتور صبري حافظ والشاعر محمد عفيفي مطر، لكن المشروع لم يُنشر».

كان مشروع «ألف ليلة وليلة» واحدًا من مشروعين اقترحهما الجمل في الدار، أما الثاني فكان سلسلة «الشعر والشعراء للصغار»، وقد تم، ونُشر فيه كتاب «مختارات من الشاعر العراقي سعدي يوسف» من إعداد د.فريال غزول ورسوم إيهاب شاكر. تقول د.فريال: «اقترحتُ أن نوظف الصفحة التراثية حيث يكون النص محوطًا من الجوانب الأربعة في الصفحة بتعليقات وشروح معاني الكلمات التي قد تستعصى على الفتى أو الفتاة، بالإضافة إلى تقديم الأبعاد البلاغية بشكل مبسط وإضافة رسوم فنية مستوحاة من القصيدة ومقدمة تعرّف القارئ بالشاعر».

كما أعدّ الناقد صبري حافظ كتابًا مماثلًا عن محمود درويش برسوم عمّار سلمان، وأعدّ الشاعر محمد عفيفي مطر كتابًا على هذا النسق عن محمود سامي البارودي برسوم نبيل تاج. تكمل غزول: «كان وراء التصميم فكرة أن يقرأ الفتى القصيدة المؤطرة ذاتها دون الرجوع إلى الشروح المواكبة على الصفحة إن اكتفى بتذوقها وإن استعصى عليه فهم بيت أو رغب في الاستزادة عن سياق القصيدة أو جمالياتها، فما عليه إلا قراءة ما هو خارج إطار الصورة. لم تستمر التجربة لشح الميزانية لكنها تبقى نموذجًا يمكن إحياؤه».

وعن سبب عدم اكتمال المشروع، تقول د.فريال: «كان عبد الفتاح الجمل إنسانًا جميلًا ومفجّرا لطاقات الآخرين، لكن في مشروع «ألف ليلة وليلة» اختلفتُ معه حول مقاربته. كان يرى ضرورة «تهذيب» القصص قبل تقديمها للصغار، وكنت أرى في ذلك نوعًا من الابتسار لتراث شعبي، واقترحتُ أن نختار من القصص ما يوائم الصغار مما لا يحتاج إلى «تهذيب» حتى يتذوق القارئ العمل كما وصلنا. لكن السبب في عدم تحقيق المشروع لم يكن اختلاف الرؤى، بل بسبب الميزانية».

أما صاحب دعوته إلى الدار، عدلي رزق الله فيصفه (الجمل.. الرجل الذي علمني الكتابة، 1995): «كان ذلك الرجل رقيقًا وحادًا مثل الشفرة، كثيرًا ما ينطق ألفاظًا تعارف الجميع على أنها بذيئة، لكنها على لسان ذلك الرجل تفقد كل بذاءتها حتى في حضرة النساء». ويتساءل: «هل لدينا من يقوم بدراسة عن ملحق المساء الأدبي ويعطينا إحصاء دقيقًا أو أكثر؟».

للجَمل في اللغة حياة

في فترة السنوات الست التي قضاها الجمل بدار الفتى العربي، نشر كتابه «حكايات شعبية من مصر» متضمنًا مقدمة طويلة عن اللغة العربية، إذ لم تكن بالنسبة له مجرد تخصص درس فيه أو وظيفة عمل بها، وإنما ركنًا مهمًا في ممارسة حياته اليومية، بحث فيها ومن خلالها عن الاختلاف والتميز، ولم يكن يطيق إدخال الكلمات الإنجليزية على الجُمل أثناء الحديث، ويلفظ من يصّر على ذلك.

ظل ابن دمياط حريصًا على اللغة حتى قبيل وفاته، لدرجة إصراره على مراجعة مقالاته الأخيرة في أخبار الأدب بنفسه، يقول عزت القمحاوي (عليه العوض، أخبار الأدب، 27 فبراير 1994): «كان شديد الغضب من فاصلة تحركت من موضعها أو سقطت سهوًا من أصابع جامعي الحروف وعيون المصححين، يحتج في خطاب يتراوح بين الرقة والعنف حسب الجرم المرتكب من جانبنا في حق طفله المبسوط على هذه الصفحة».

ويدلل القمحاوي بموقفٍ في مقال آخر بعد عام من وفاته (بكل أدب، أخبار الأدب، 19 فبراير 1995): «نالنا في أخبار الأدب شيء من لهيب غيرته على لغته الفريدة عندما تغيرت «من الفور» لتصير على يد الزملاء في التصحيح إلى «على الفور» وكان مقاله التالي في الفرق بين الحرفين «من» و«على» درسًا لمن أراد أن ينعم بأسرار هذه اللغة أو يشقى بحب الفن ويسعد».


31.10.1993

ظهرت هذه العناية باللغة في كتابات عبد الفتاح الجمل، وفي مفرداته الفريدة التي يعيدها من اندثارها، يقول محمد كامل القليوبي، صديقه المقرّب والذي أهداه عبد الفتاح كتابه «وقائع عام الفيل»، (زمن عبد الفتاح الجمل، الأهرام، 13 فبراير 2015): «أحيانًا ما يتصور البعض أن عبد الفتاح الجمل يستخدم اللغة العامية في ثنايا كتاباته، وهو أمر لم يفعله قط، ولكن معرفته الدقيقة باللغة العربية كانت تجعله محيطًا بأصول الكلمات وما تم هجره منها، ويرى في ذلك انحطاطًا أصاب المجتمعات العربية وكيف أصبحنا نعبر أو على الأصح نثرثر بالجملة بدلًا من أن نعبّر بالكلمة».

يشير بدر الديب إلى خبرة الجمل اللغوية وما يمتلكه من صفات وكلمات وتشبيهات (لغته الفريدة وضآلة ما فعل من أجله، جريدة المساء، 1 مارس 1994): «لقد خص الله عبد الفتاح بعبقرية لغوية تجعل كلماته تتقلب في طاسات جمله وتعبيراته كما يتقلب السمك الحي إذا خرج من الماء أو وضع فوق النار. كانت رؤيته وتعابيره اللغوية حية حياة فريدة وساخنة حارقة كأنها خارجة من النار، ومع ذلك كان يقدمها لنا ويشجعنا على تناولها دون أن تحرق أيدينا أو أفواهنا ولكنها تعطينا نعمة كبيرة من الإحساس والمعرفة والرؤية للوجود وللكينونة. كان عبد الفتاح يعرف النحو والصرف واللغة العامية وتعابير الفئات الاجتماعية معرفة خاصة ناقدة ومحيطة وكان يعطينا كل هذا الثراء بسهولة ويسر في كتبه التي يجب أن نعتبرها ثورة ثقافية نادرة لم تتكرر في أدبنا وستظل فريدة مدى طويلًا حتى نستطيع أن ندرسها الدرس الحقيقي وأن نعلمها لكل أولئك الكتاب الذين قدمهم وساهم في  إظهارهم. وما أضأل ما فعلوا له مقابل ذلك كله».

ويضيف خيري شلبي (عصر عبد الفتاح الجمل، مجلة القاهرة، 1994): «لغته مصرية أصيلة لأن مفرداتها ديمقراطية لا فضل فيها لمفردة لفصاحتها على مفردة لعاميتها، إلا بقدر اتساع المفردة لشحنه الشعور والمعنى. وأنت ترى المفردات القاموسية العتيقة جنبًا إلى جنب مع المفردات العامية المصرية في نسق بديع كاصطفاف المصلين في صلاة الجمعة. مع ذلك فكل مفردة عامية يستخدمها إنما هي عربية فصحى قلبًا وقالبًا، كل ما هنالك أنها حينما انسلكت في جملة أخذت محلها من الإعراب فانتفت عاميتها وكسبنا نحن ما تحمله من تجارب شعورية ومداليل غنية اكتسبتها بطول تردادها على الألسنة في الواقع اليومي».

ويتفق إبراهيم فتحي مع شلبي (عبد الفتاح الجمل مبدعًا وناقدًا، جريدة الأهالي، 9 مارس 1994): «لم تكن اللغة عنده زخرفة أو تأنقًا، بل اكتشافًا لكنوز من «المعنى» مختبئة في الطبقات المتراكمة من اللغة التراثية الفصحى المتدفقة في أشكال وأنواع الثقافة القومية، فنجد لغته كثيفة ممتلئة حتى الحافة».

***

نشر عبد الفتاح الجمل، إبداعيًا، خمسة كُتب هي «الخوف» (ط1، 1972/ ط2، الهيئة العامة للكتاب 1986)، «آمون وطواحين الصمت» (الهيئة العامة للكتاب، 1974)، «وقائع عام الفيل» (ط1، دار الفكر المعاصر، 1979/ ط2، دار الوحدة، 1981)، «حكايات شعبية من مصر» (دار الفتى العربي، 1985)، و«محب» (ط1، روايات الهلال، 1992/ ط2، دار الشروق، 2008)، وكتابٌ مترجم هو «خرافات أيسوب» (دار الفتى العربي، 1987)، بالإضافة إلى بعض الكتابات التي لم تُجمع بعنوان «خرافات أيسوب المصري».

هذه الأعمال يصفها د.محمد كامل القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994) قائلًا: «أعمال رائدة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، تتميز بمذاقها الخاص وآفاقها الرحبة، نوع من الكتابة يندر أن يوجد مثيل له في الأدب العربي المعاصر، تمتزج فيها السرائر والمكونات بطين الأرض وسمائها، وحكاياتها الشفهية والمتوارثة تجد لها امتدادات في الأدب المعاصر، وتتميز بشفافية خاصة خالصة، تتوحد داخلها الأنواع الأدبية وتنصهر خلال أسلوبه الخاص جدًا والمميز في صياغة الكلمات ونحتها».

00000001 (34)

أخٌ 

لم يمهله القدر لاكتشاف موهبة أخيرة

في عام 1973، قدِمت الأخت الصغرى لعبد الفتاح الجمل «تحية» إلى القاهرة، بعد زواجها، لتسكن البيت الذي بناه أبيها بالمناصفة مع زوجها في مدينة نصر. حينها عرضوا على «أبيه عبده» - كما اعتادت «تحية» أن تناديه - أن ينتقل للعيش معهم في شقة أكثر اتساعًا وراحة، فوافق، لكن بعد تصميمها بمواصفات خاصة.

صحيح أن الحياة والأدب والمستقبل، وحب عبد الفتاح للمغامرة، اضطروه لمغادرة قريته، إلا أن روحه ظلت عالقة بالريف وطبيعته، لذا طلب أن تكون الشقة بدون سقف لتدخلها الشمس ويمكنه زراعة النباتات فيها، وهو ما يصعب تحقيقه بالضبط، لأنها في الدور الرابع ويليه آخر، فكان البديل أن تكون بها غرفة بدون سقف، ومثلها «البلكونة»، وامتد نفس النظام إلى الشقة الأعلى بالدور الخامس.

أما الطلب الثاني، فهو ألا يتم تقسيمها إلى غرف، وإنما غرفة واحدة للنوم، ويجاورها الحمّام، والمساحة المتبقية مفتوحة كساحة المنزل الريفي. كما رفض استخدام أي شيء صناعي في النوافذ أو الأثاث، لا كراسي ولا سجاد ولا موكيت....إلخ، ولا حتى بورسلين. ترك البلاط في الأرض وأحضر خمس صفائح من دهان الزيت بألوان مختلفة، أخضر وأزرق وأحمر وغيرها، ألقى بهم في الصالة، فتداخلت وأصبحت بعد جفافها كلوحة سيريالية. واقتنى من خان الخليلي «طبلية»، فوقها «صينية» نحاس وحولها كراسي من الجريد.

على الباب وضع «دقاقة» على شكل يد نحاسية، بدلًا من الجرس، وبجانبها جملة «اخلع نعليك». تقول تحية: «كان لا يفتح بابه لأي شخص إن لم يكن بميعاد مسبق عن طريق التليفون، حتى نحن، إن لم نهاتفه قبل الصعود لا يستقبلنا».

عائشة المراغى مع تحية الجمل وزوجها المهندس محمد سناء السعيد (2)

كان عبد الفتاح في النصف الثاني من عقده الرابع حينما وُلدت تحية، اختار لها الاسم وأحبها كأنها ابنته، أخبرها بأنه كان يحملها وهي في شهورها الأولى ويتغزل في جمالها أمام أصدقائه، قائلًا إنها تمتلك عيني كيلوباترا. اقتربت منه تحية وعرفته جيدًا، وبعد وفاته بكته أكثر من بكائها على أبيها وأمها، حتى «بحَّ» صوتها، تقول عنه: «كان أخ حنون ولا يُعوَّض. بسيط في كل شيء. لا يحب الأضواء أو الظهور. كنت أجلس هنا على «الكنبة» وأسمع صوت ضحكته الجميلة تجلجل، لازالت ترّن في أذني حتى الآن. هو من علمني الذوق وكل شيء».

عن عدم حب عبد الفتاح للأضواء أو الظهور يقول محمد القليوبي (البحث عن الجمال، مجلة القاهرة، 1994): «بقدر ما كان عبد الفتاح الجمل يدرك أهمية ما يصنعه، بقدر ما كان يكره الظهور والأضواء، فرفض الظهور في أي برنامج تلفزيوني، أو الحديث في أي برنامج إذاعي، أو حضور أية ندوة أدبية تناقش أيًا من أعماله، ورغم حرصه على الابتعاد عن الأضواء إلا أنه كان أكثر حضورًا من الكثيرين الذين يحرصون على البقاء في دائرتها وعبر كافة وسائل الإعلام ولأطول فترة ممكنة».

تحية الجمل 

تزوجت تحية في سن صغيرة جدًا، عقب حصولها على شهادة الثانوية العامة. فكّرت جديًا في استكمال دراستها الجامعية، لكن ظروف ومشاغل الحياة حالت دون ذلك. وعلى مدار عشرين عامًا تقريبًا في كنف أخيها عبد الفتاح، ظلّ يطلب منها أن تمسك القلم وتكتب، بعدما قرأ جملة قصيرة كتبتها ذات يوم، إذ كانت تحب اللغة العربية والإنشاء. وصار كلما ينشر مقالًا ينزل إليها في الدور الأول ويتركه لها طالبًا رأيها، فكانت تتساءل في نفسها: ماذا يرى فيَّ؟

من بين أعماله أخرجت تحية كتابين يحملان إهداءً من أخيها؛ الأول «حكايات شعبية من مصر» كتب لها عليه: «إلى تحية، أرق وأجدع أخت، أهدي حواديت من إنتاج بلدنا». والثاني هو «محَّب»، وقد أهداه لها بكلمات مشابهة بتاريخ 19 يناير 1992 قائلًا: «تحية، يا أرق وأجدع وأحب وأجمل عيون أخت في الدنيا، إليك.. مُحِبِّك عبد الفتاح».

بعد أربع سنوات من وفاته، بدأت تحية كتابة الخواطر الشعرية، وتحديدًا في مارس عام 1998 بقصيدة «ذكرى عطرة» التي تنشرها للمرة الأولى، لرثاء أخيها «أبيه عبده»، متمنية لو أنه لا يزال موجودًا ليتبناها ويوجهها مثلما فعل مع جيلين سابقين.


ذكرى عطرة

تحية الجمل

 

كان لي أخ كبير اسمه عبد الفتاح .. أديب ومبدع ويخطط الجرنال

يألف ويكتب ولا ساحر فنان .. كان لي أخ وأب وآخ يا خسارة دا راح

راح عند رب كريم في السابع من رمضان

كان له قلب كبير مليان بالإحساس .. بلون البفتة البيضا وف براءة الأطفال

مفتوح لكل حبايبه وعمران بالإخلاص .. يهوى الطبيعة ويربي النباتات

له ضحكة حلوة مجلجلة وجنان .. يحب قوي البساطة وكل شيء كما خلقه الرحمن

كان له ودن حلوة تتذوق القرآن .. وقلبه يتجلى بسيمفونية الأوزان

عشق الموسيقى واقتنى ياما سيمفونيات

باخ وبيتهوفن وكمان شوبان .. ذوقه راقي ولا أجدع فنان

رسم الطبيعة وصورها بالحروف والكلام .. كأنها لوحة بديعة لأعظم رسام

جريء ويكتب وعمره ما خاف .. متواضع وطيب ويكره الأضواء

كتب وألف وقال الشعر كمان .. وأثرى اللغة واتعمق وكتب ياما حكايات

ألف الخوف وطواحين الصمت  .. ومحب تشهد له بالعبقرية يا سلام

صحاها من نومها وحرك الشخصيات .. قامت وحكت ع اللي كان بيحصل زمان

ذكي وعبقري وفي إيده مفتاح .. فتح به ياما للشباب أبواب

اتجمعوا حواليه كوكبة من الشبان .. مشوا على دربه اللي عمره ما خاب

نور لهم طريقهم وعطاهم فرص وبقوا عال العال .. أصبحوا الآن نجوم وكواكب تفخر بها الأجيال

زي البساطي والغيطاني والأبنودي .. وغيرهم وغيرهم لمع منهم أسماء

تلامذته وصحابه يتعدوا بالميات. . وكلهم حبايبه ويتمنوا رضاه

منهم رسام وشاعر ومؤلف ومخرج وزجال

بيته كان متحف كأنه مرسم لفنان .. ذوقه راقي مرهف الإحساس

ترك فراغ مكانه عمر ما يملاه إنسان .. وزي ما قال البساطي بيكتب بالخمس حواس

ترك وراه أعماله تنور للكتاب .. وساب للتراث بصمة تشهد لها الأجيال

كان له طريق فريد لفنه .. وليحيى حقي طريق تاني كمان

تحب تشوف وتقرأ .. روح مكتبة القاهرة الكبرى

هتشوف كتبه وتأليفه وكل ما جمع من ثروات .. هدية منه غالية تركها للقراء

كان لما يشوفني يقولي الله عليكي الله .. مجامل وذوق ومحب لكل الناس

كنت أشتكي له همي ميستغناش .. كان بذكائه يوجهني برفع المعنويات

ما لقيت مثيلك أخ يا زين الجمال .. دي محب من فرحتها خلدت ذكراك

وهتفضل أعمالك على الطريق نبراس

سمتني اسمي تحية .. تحياتي وحبي لحد ما ألقاك

رحت بعيد وأبدا عمري ما هنساك .. ولا هتبقى يوم واحد في طي النسيان

أختك المحبة تحية

20/3/1998

توفى 18/2/1994

الموافق الجمعة 7 رمضان

 

في أيامه الأخيرة وضع عبد الفتاح الجمل جرسًا بجانب سريره يرِّن عند سرير تحية، ظلّ موجودًا حتى وقت قريب. قبل وفاته بيومين كان الجرس يرِّن كثيرًا، إذ اشتد عليه المرض، يحكي المهندس محمد سناء تفاصيل اليوم الأخير: «نزل نام هنا وكنت أنا في العمل، وعندما عُدت وجدته مريضًا جدًا فقُلت لابد من الذهاب للمستشفى، أخذته في السيارة وكان معنا صديقه محمد البساطي، وفي الواحدة مساء طلب من تحية أن تعود للمنزل وظل البساطي بجانبه، الذي اتصل في السادسة صباحًا ليخبرنا أنه توفى».

وطبقًا لما يرويه جمال الغيطاني، فقد  شعر عبد الفتاح بدنو أجله مبكرًا، إذ يقول (عبد الفتاح الجمل.. غروب حقبة، أخبار الأدب، 27 فبراير 1994): «في المساء اتصل عبد الفتاح بصديق عمره محمد البساطي، وقال إنه متعب وإنه يشعر وكأنه سيموت الليلة، كان يشعر بآلام شديدة في صدره».





المهندس محمد سناء السعيد

لم يقنع عبد الفتاح الجمل يومًا بحقيقة مرضه، ولم يخبر أحدًا عنه، مهما كان قريبًا، لذا كانت وفاته فاجعة، لم تسبقها أي أخبار أو إشارات، يقول محمد البساطي (اللحظات الأخيرة، مجلة القاهرة، مارس 1994):  «له أكثر من عامين في صراع مع المرض، لم يفصح عنه إلا في الشهرين الأخيرين حين عجز عن قيادة سيارته. إحدى عينيه انطفأت، والأخرى مهددة. ضمور في أوعيتها الدموية. آلام رهيبة في ساقيه وكتفيه تمنعه عن الحركة أيامًا. ظنها روماتيزم. عالجها مرة بالكي عند أعرابي. خلف الكي بؤرتين محترقتين بمعصم قدمه. طبيب الروماتيزم الأخير شك في ورم فأحاله لطبيب أورام الذي طلب تحليلًا. رفض عبد الفتاح وهاج وانصرف، كان عنيفًا في غضبه حين كنا ندفعه لإجراء التحاليل».

انطفاء عينه ألقى بالرعب إلى قلبه، خوفًا من فقدان القدرة على القراءة، لذا كان طبيب العيون هو الوحيد الذي يحرص على زيارته، إذ كانت المستشفيات عدوه الأكبر، لا يطيق الذهاب إليها أو المكوث فيها، وحينما اضطر إلى ذلك توقف قلبه عن النبض وآثر مغادرة الحياة منتصرًا.

***

في يوم وفاته، الجمعة 18 فبراير 1994، كانت عطيات الأبنودي على موعد معه، ليتفقا على يوم لتناول «أكلة السمك» التي وعد بها أسماء يحيى الطاهر عبدالله، احتفالًا بأنها أصبحت طالبة جامعية في عامها الأول بكلية الزراعة.

ظلت عطيات صديقته المقرّبة على مدار خمسة وثلاثين عامًا، حتى آخر يوم في حياته، ومن زواره الدائمين، تقول أخته تحية: «كانت عطيات الأبنودي أكثر من يزوره، وبعدما توفى استمرت في زيارتنا كل شهر مرة أو مرتين. كان هو سبب لقائها بعبد الرحمن الأبنودي وتعارفهما».

تحكي عطيات عن بداية معرفتها بعبد الفتاح الجمل (الدهشة الدائمة، مجلة القاهرة، مارس 1994): «تعرفتُ عليه عام 1959، كنت أنا لاعبة بمسرح العرائس وكان هو صحفيًا، وكنت قارئة مستديمة للملحق الأدبي لجريدة المساء، ودعاني لزيارته في مكتبه بالجريدة ومن هنا بدأت.. علمني كيف تكون الصداقة الحقيقية بين الناس، لا فرق بين رجل وامرأة. كنت أهابه وأخشاه وأحتفي به وأصدقه. لقد كان أخي الذي لم تلده أمي. تعرفتُ على كل أبناء وبنات جيلي من كتاب وفنانين تشكيليين ومسرحيين وشعراء في مكتب عبد الفتاح الجمل بجريدة المساء. تعرفتُ على الأبنودي في مكتبه وكان يقرأ قصيدته «قهوة الشعب» قبل أن يأخذها منه عبد الفتاح، وتُنشر على صفحة كاملة، ويرسمها نبيل تاج، وينشر اسم الشاعر والرسام بالبنط العريض. علمني كيف أشاهد الأفلام الجديدة... وعرّفني طريق مسرح الأوبرا والأوركسترا السيمفوني، وكيف أستمتع بمشاهدة الباليه. علمني كيف يكون وضوح الرؤية، وكيف يكون اللون الأبيض أبيض، والأسود أسود، وكرهت مثله اللون الرمادي».



IMG-20200206-WA0009

تخبرني أسماء يحيى الطاهر بأن أمها كانت تحبّه جدًا، ودائمة الحكي عنه، لدرجة أن صورته تتوسط الحائط في المنزل، على اليسار صورة قديمة لعطيات الأبنودي، وعلى اليمين صورة تجمع بين عطيات وأسماء اُلتقطت عام 1981، وفي المنتصف بينهما صورة عبد الفتاح الجمل، ومازالت الصور الثلاث على وضعها حتى اليوم.

***

بدلًا من أن يلتقي بعطيات الأبنودي، رافقه البساطي  إلى مستشفى «الابتسامة» بمصر الجديدة، وعن «اللحظات الأخيرة» يستكمل: «كنا نقترب من الثالثة. قال إنه يريد أن يقف قليلًا ودلى ساقيه من الجانب الآخر، يشد معه أنبوبي المحلول والأكسجين. رفعت حامل المحلول، قبل أن أصل إليه تهاوى أمام السرير. وضعت الحامل جانبًا وضغطت الجرس. لحظتها كان يطوي ذراعه على كتفي فسقطت، وكان يتنفس هادئًا. لحقت بي الممرضة وحملناه إلى الفراش، وأعادت وضع قناع الأكسجين وأنبوب المحلول وخرجت. قال وهو يأخذ نفسًا عميقًا إنه يريد أن يجلس على المقعد، ولن يقع هذه المرة. ثمة شيء طفولي في صوته. قال إنه لن يقع، سيمسك بجانب المقعد ولن يقع. أجلسته على مقعد بجوار الفراش. يجلس مهتزًا يردد بصره حوله. قال إنه سيعود للسرير بشرط أن يظل جالسًا. خاض معركته التي توقعها ما بين الثالثة والرابعة. معه الدكتور والممرضة. كان الألم ينهشه في قسوة. يضرب صدره بقبضتيه. خرجت من الحجرة. عدت إليها بعد خروج الطبيب. ينام في هدوء. غفوت على مقعد بجواره. انتبهت على صوته يناديني. وحين أجبت عاد إلى نومه. ناداني مرة أخرى في السادسة. اقتربت منه. أمسك يدي. ينظر حوله كأنما يبحث عن شيء. فجأة. أخذ جسده يتقلص، وانتفخت عروق رقبته. أضغط الجرس. يأتي الطبيب مندفعًا. سكنت حركته مرة واحدة. أنظر إلى الطبيب غير مصدق ضغط صدره مرتين متتاليتين. صدرت عنه شهقة. قال الطبيب: لو سمحت. خرجت. ممرضة تدخل وتخرج تكاد تجري. تحمل حقنًا وأدوية. خرج الطبيب وتقدم نحوي. جلستُ في بهو المستشفى بانتظار الأصدقاء».

أول الأصدقاء كانا د.محمد كامل القليوبي والقاص سعيد الكفراوي، وحينما سألتُ الكفراوي عن ذلك اليوم، قال: «كان يوم جمعة في رمضان، والمستشفى ليس بها «صريخ ابن يومين». جاء المغسِّل وطلب أن يساعده أحدنا. البساطي والقليوبي لم يقدرا على فعل ذلك، فخلعتُ ملابسي وذهبت معه لتغسيل عبد الفتاح وتكفينه، وعلى باب «الابتسامة» ودّعناه».

مقابر عائلة الجمل

توالى قدوم بقية الأصدقاء، يتذكر محمود الورداني (صاحب المعطف الذي خرج منه جيل الستينات، أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «عندما بلغني الخبر اتصلتُ بصديقي إبراهيم أصلان الذي كان جاري في السكن، ثم اتصلت بصديقي حسين عيد أيضًا، وذهبنا ثلاثتنا من أقصى جنوب القاهرة إلى أقصى شمالها، وأخذنا نسأل عن مكان المستشفى الذي علمنا أنه مات فيه، حتى عثرنا عليه، وصلنا متأخرين، كانت السيارة التي يرقد داخلها نعشه تستعد للتحرك به إلى قريته محب التي أوصى بأن يُدفن فيها».

إلى جانب تلك الوصية، أوصى عبد الفتاح الجمل زوج أخته بشيئين آخرين؛ الأول أن تكون الصلاة عليه في «عمر مكرم»، والثاني أن يُدفن بجانب والده، وقد حدث، يقول المهندس محمد سناء: «ذهبت تحية إلى دمياط مباشرة، وذهبتُ إلى المستشفى لإنهاء الإجراءات، ثم مررنا على عمر مكرم في طريقنا وصلينا عليه، ومنه ذهبنا إلى دمياط، وصلنا بعد العصر، فصلّوا عليه مرة أخرى في جامع الشرباصي هناك، ثم دُفن إلى جانب والده».

 

IMG_20200219_183900

مكتبة 

القاهرة الكبرى تقتل عبد الفتاح الجمل

 

بعد وفاة الجمل بأيام؛ أعلن الفنان فاروق حسني، أن وزارة الثقافة ستقيم عزاء للأديب عبد الفتاح الجمل يوم 21 فبراير 1994 بمسجد عمر مكرم، وانتهى الخبر بتلك الجملة «قرر وزير الثقافة فاروق حسني أن تقوم الوزارة باستقبال العزاء في فقيد الأدب المصري».

وفي الأسبوع التالي للوفاة، وتحديدًا يوم 27 فبراير 1994، نشرت «أخبار الأدب» خبرًا بعنوان «وزارة الثقافة تقتني مكتبة الجمل» تقول فيه: «أبدى الفنان فاروق حسني وزير الثقافة استعداده لبدء الإجراءات الخاصة باقتناء مكتبة الراحل تقديرًا له، وضمها إلى مكتبة القاهرة الكبرى، أو قصر ثقافة دمياط، تخليدًا لذكرى صاحبها، جاء ذلك بعد اتصال أخبار الأدب بوزير الثقافة أثر ما تردد عن رغبة بعض أقاربه في عرضها للبيع، تضم المكتبة مراجع نادرة في التراث العربي، وعددًا ضخمًا من التسجيلات الموسيقية العالمية النادرة، وكتب الفن».

رغم أن الخبر تضمن مكانين محددين يمكن العثور في أي منهما على مكتبة الجمل، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.

حينما وجدتُ قصر ثقافة دمياط مغلقًا – كعادته في الآونة الأخيرة – توجهتُ بالسؤال لعائلته، أكدوا أن الكتب كلها اقتنتها وزارة الثقافة في القاهرة، لكنهم لا يعلمون المكان تحديدًا.

في القاهرة سألتُ أخته «تحية» وزوجها، فأخبراني بأن الكتب كلها موجودة في ركن يحمل اسم عبد الفتاح الجمل بمكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك. يقول المهندس محمد سناء: «كان كمّ الكتب كبيرًا جدًا، لا يقل عن 20 أو 30 ألف كتابًا، لدرجة أن سقف الشقة في الدور الأسفل «مال» عندما أحضرنا بقية كتبه من شقته الأخرى بمصر الجديدة. كان اختيار مكتبة القاهرة الكبرى قائمًا على أنها ليس بها استعارة، فالاستعارة تضيع الكتب. أرسلت الوزارة لجنة مكوّنة من خمسة أفراد، ظلوا يأتون يوميًا لمدة ثلاثة أو أربعة شهور حتى انتهوا من تسجيل كل الكتب، وبعد الحصر وجدوا عددها كبيرًا فقالوا سنضعها في ركن خاص باسم عبد الفتاح الجمل».

***

داخل مكتبة القاهرة الكبرى، بحثتُ أولًا عن الركن الذي يحمل اسم عبد الفتاح الجمل، انطلاقًا من كلمات زوج أخته، واستنادًا على ما جاء في الخبر منسوبًا إلى وزير الثقافة حينها بأن اقتناء مكتبة الراحل «تقديرًا له» و«تخليدًا لذكرى صاحبها». لم أجد شيئًا، ووجدني نائب مدير المكتبة تائهة فسألني عما أريد، أخبرته وتلقيتُ إجابة أذهلتني قدر ما أسعدتني. قال إن كُتب الجمل موجودة بالفعل، ولحسن الحظ كان هو شابًا صغيرًا - وقتذاك - وشهد واقعة تسليمها للمكتبة، لكنها ليست في ركن يحمل اسم صاحبها، وإنما تم إدراج كل كتاب فيها حسب التخصص الذي ينتمي إليه!

حاول مشكورًا أن يساعدني بأن أتاح لي البحث على أحد أجهزة الحاسب الآلي الموجودة، مؤكدًا أنه حرص قبل تفريق الكتب على تسجيلها وكتابة جملة إلى جانبها تدل عليها، وهي (هدية من مكتبة الأديب عبد الفتاح الجمل). وجدتُ الكتب بالفعل مسجّلة هكذا، لكن عددها فقط ستمائة! في البداية تخيّلتُ أن المهندس محمد ربما بالغ بعض الشيء عندما قال إنها تزيد على عشرين ألف كتاب، إلا أن (600) عدد قليل أيضًا بالنسبة لمسيرة عبد الفتاح الجمل، وهو ما تأكدتُ منه بمرور الوقت، وفسرتُ الأمر بأن تلك – فقط – الكتب التي كان نائب المدير مسئولًا حينذاك عن تسجيلها وليست جميعها.

***

لا أعلم من صاحب قرار تفنيد الكتب، إلا أن التساؤل الذي يراودني على الدوام «أي تقدير وأي تخليد هذا؟!». الكتب محمَّلة بالأتربة وأوراقها صارت مهترئة، وهو أمر طبيعي بفعل الزمن، لكنها وُضعت في المكتبة من أجل الحفاظ عليها بوضع ملائم، لا تكديسها بما يساهم في تلفها بشكل أكبر. الأمر الآخر أنها صارت كتبا كآلاف الكتب الموجودة في المكتبات، لن تعرف أنها تخص عبد الفتاح الجمل إلا إذا صادفتك نُسخة مهداة ووقعت عيناك على صفحتها الأولى.

ما فعلته مكتبة القاهرة الكبرى هو أنها قتلت الرجل مرة أخرى بعد وفاته، عندما ضنّت عليه بمساحة تحمل اسمه وتوضَع فيها كتبه، خاصة أن عددها كبير، ما رأيته منها فقط في القاعة الرئيسية يتعدى الألفين، بخلاف ما تلف وما تتضمنه قاعة الفنون – الخاضعة للإصلاحات! – وغيرها. تلك الكتب كانت تمثّل نصف مقتنيات المكتبة – تقريبًا – إن لم يكن أكثر، عندما تم تسليمها، إذ تحمل جميعها تاريخي ورود هما (15/11/1995) و(1/12/1995) أي بعد عشرة أشهر فقط من افتتاح المكتبة في يناير 1995.

***

واظبتُ على الذهاب إلى المكتبة مرة أسبوعيًا لما يزيد على شهرين، وفي كل مرة أتجه إلى واحدة من خزانات الكتب لأطَّلع على كل رف بما يحويه من كتب، واحدًا تلو الآخر، كي أتعرف من بينها على تلك الخاصة بعبد الفتاح الجمل، إذ لاحظتُ سماتها بعد مطالعة عدة كتب، وعلى رأسها كما ذكرت قبل قليل؛ تاريخ الورود إلى المكتبة. بالإضافة إلى حرف «ج» مكتوبًا بالقلم «الفلوماستر» الأخضر أو «الجاف» الأسود، أو أن يتضمن الكتاب ورقة بين صفحاته بها نقدٌ للعمل، وغالبيتها من مقالات «عصير الكتب» لعلاء الديب، أو ورقة بيضاء يحدد بها الصفحة التي يقرؤها، أو أن يحمل إهداءً على صفحته الأولى، يبدأ غالبًا بـ «إلى الفنان»، وتلك الإهداءات كثيرة جدًا، نستعرض في الصفحات التالية أبرز ما جاء فيها، ولنا مع البقية لقاء آخر.

 

محمد البساطي : رفقة العمر الطويل

يوجد في المكتبة عدد غير قليل من كتب محمد البساطي، بعضها جاء بدون إهداء مثل المجموعة القصصية «منحنى النهر» (الهيئة العامة للكتاب، 1992) التي طوى الجمل بداخلها مقالًا لعلاء الديب في عصير الكتب بعنوان «القصة في منحنى النهر» ودوّن التاريخ في نهايتها بالقلم الجاف الأسود (25/6/92)، أما الغالبية فكان مدوَّنًا عليها كلمات حميمة من البساطي للجمل مثل «العزيز» على «مؤلفات محمد البساطي1» (الهيئة العامة للكتاب، 1992)، و«الأخ العزيز» على المجموعة القصصية «هذا ما كان» (الهيئة العامة للكتاب، 1988) التي جاء إهداؤها في الشهر التالي للصدور مباشرة، ومعه نسخة أخرى مطابقة أهديت في اليوم ذاته «إلى السيدة سارة، إعزازًا وتقديرًا. محمد البساطي 30/7/1988» لكن يبدو أنها لم تصل لصاحبتها.

وأحيانًا جملة قصيرة ذات دلالة كالتي داخل المجموعة القصصية «ضوء ضعيف لا يكشف شيئًا» (دار شرقيات، 1993) وكتب فيها: «العزيز عبد الفتاح الجمل، رفقة العمر الطويل» أو على روايتي «المقهى الزجاجي والأيام الصعبة» (دار ابن رشد، 1979): «إلى كاتب (آمون وطواحين الصمت) عبد الفتاح الجمل. وفي انتظار ما يأتي»، وقد صدرت من نفس الكتاب طبعة ثانية عام 1982 عن مطبوعات القاهرة، لكن النسخة الموجودة منها في المكتبة غير مهداة.

وفي نفس العام أهداه البساطي مجموعته القصصية «أحلام رجال قصار العمر» (دار الفكر المعاصر، 1979) بتاريخ 16 أغسطس، وكتب له: «إلى أخي عبد الفتاح الذي تعلمنا منه الكثير خلقًا وفنًا».

وكلما عُدنا بالسنوات إلى الوراء، ازدادت الإهداءات طولًا، ومشاغبة، إذ نجد على رواية «التاجر والنقاش» (دار الثقافة الجديدة، 1976) بتاريخ 19 سبتمبر: «ويا سي عبده ماحدش أحسن من حد، والرواية بابها واسع، إنما قليلون اللي بيعرف الخوف ويكتب عنه، وتحياتي».

أما مجموعته القصصية الأولى «الكبار والصغار» (دار الكاتب العربي، 1968) فكتب البساطي بتاريخ 20 مارس: «إلى الصديق العزيز جدًا جدًا والذي رأت هذه القصص النور على يديه.. والفنان الذي يرفض تمامًا أن أقرأ له أعماله.. إلى عبد الفتاح الجمل، تقديرًا وإعزازًا».

البساطي هو الصديق الذي رافق الجمل حتى لحظاته الأخيرة، وحمل همّ مخطوطاته بعد رحيله، يقول المهندس محمد سناء: «كان البساطي يعرف أن هناك أعمالا كتبها عبد الفتاح ولم تُنشر، فطلب أن يصعد معي إلى الشقة بعد وفاته وصار يخرجها من بين مقتنياته، كان كشكولاً  مليئًا بالصفحات المكتوبة بخط يده».

لم أتيقن بعد إن كانت تلك المخطوطات هي نفسها الخاصة بخرافات أيسوب المصري التي نُشرت بعد وفاة الجمل، أم أنها لازالت مجهولة في مكان ما.

 

عبد الرحمن الأبنودي : ذو الحسن والخجل

في فبراير 1961 نشر عبد الفتاح الجمل في الصفحة الأدبية لجريدة المساء أول قصيدة للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي بعنوان «النعش.. طار»، وبجانبها تعريف مختصر عنه يقول فيه: «مولود ببندر قنا عام 1939. أتم دراسته الثانوية بمدرسة قنا. يكتب الأغنية والشعر الشعبي ويؤمن بالتخصص. مازالت الصبغة الرومانسية تسيطر على معظم أشعاره. يكتب ملحمة عن الأرض يستوحيها من رواية عبد الرحمن الشرقاوي، أحداثها وجوه من أبنود».

بعد ثلاث سنوات أصدر الأبنودي ديوانه الأول «الأرض والعيال» (أشعار بالعامية المصرية، 1964) متضمنًا إهداءً لأمه أبنود، وأهدى منه نسخة للجمل بالقلم الرصاص: «أخى الحبيب الصادق ذو الحسن والخجل عبد الفتاح الجمل.. أكتب إهدائي بالقلم الرصاص.. دليل المودة والإخلاص».

وبعد ثلاث سنوات أخرى، أصدر الطبعة الأولى من ديوان «الزحمة» 1967، وأهداه كذلك لقريته (إلى أمي أبنود مرة أخرى)، وكتب للجمل في نوفمبر 1967: «أخي عبد الفتاح الجمل، ليس أحق بأول نسخة تخرج منه من المطبعة سواك.. فهو مدين لك بأعوص قصائده في أعوص الفترات... إذا كان له من قيمة فأنت أحد الأوصياء عليها. أخوك المخلص لك جدًا، المحب لك جدًا عبد الرحمن الأبنودي».

في عام 1976 أصدر الأبنودي طبعة ثانية للديوان عن الهيئة العامة للكتاب، وكتب عليها للجمل بخط مرسوم «إلى عبد الفتاح الجمل، صديقي الدائم». وبعد عشر سنوات تغيّر الإهداء المطبوع على الكتاب من أبنود إلى الجمل، في الطبعة الثالثة الصادرة عن مكتبة مدبولي عام 1986، ليصبح «إلى عبد الفتاح الجمل.... الأب.. والأخ.. والصديق... أول من اعتبر كلماتي.. ووضعها في صدر صحيفة. عبد الرحمن الأبنودي (واحد من جيل الستينات)».

وعلى ديوانه «الموت على الأسفلت» (المركز المصري العربي، 1988) كتب الأبنودي بالقلم الجاف الأزرق: «إلى عمِّنا الجبل عبد الفتاح الجمل... البركان الذي يقذف بحمم النسائم، واحد من آبائي الشرعيين رغم طفولته... (طلباتك أوامر).. لذلك أصدرته.. مع حب دائم لك. أخوك الأبنودي».

 

جمال الغيطاني : أصفى من قابلت نفسًا

نشر الكاتب جمال الغيطاني مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» في 1969، متضمنًا إهداءً مطبوعًا يقول فيه: «إلى صديقي الفنان عبد الفتاح الجمل، الذي أعطى الفرصة لجيلنا»، وقد تكرر الإهداء مع كل طبعة جديدة من المجموعة، والسبب في ذلك أن قصص تلك المجموعة الخمس نُشرت كلها في الملحق الأدبي لجريدة المساء تحت إشراف عبد الفتاح الجمل.

وفي المكتبة كذلك، عدد كبير من كتب الغيطاني المهداة لعبد الفتاح الجمل، تعبّر عن علاقة متينة وعريقة بينهما، لخصها جمال الغيطاني في بداية مقاله الافتتاحي «نقطة عبور» (عبد الفتاح الجمل.. غروب حقبة، أخبار الأدب، 27 فبراير 1994): «برحيله ينطوي جزء من عمري».

أنهى الغيطاني عددا من إهداءاته بتوقيع «أخوك الصغير»، مثل مجموعته القصصية «أرض.. أرض» (الهيئة العامة للكتاب، 1972) التي كتب عليها لعبد الفتاح في 22 نوفمبر 1972: «إلى الفنان والأستاذ والصديق، وأصفى من قابلت نفسًا والذي أشعر أمامه بالخجل لنقائه، إلى من أسهم في وجودنا الأدبي والفني.. عبد الفتاح الجمل، صاحب الخوف وأعمال أخرى عظيمة نرجو أن تتحقق».. ورواية «الزويل» (منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية، 1975) في 20 أبريل 1975: «إلى عبد الفتاح الجمل، المعنى الذي سيظل في حياتنا مشرقًا ونقيًا ودائمًا».

.. و«كتاب التجليات.. السفر الثالث» (دار المستقبل العربي، 1987) في 9 مارس 1987: «إلى أستاذنا عبد الفتاح الجمل، الإنسان النقي الذي مهد لنا الطريق، وأتاح الفرصة حتى كانت هذه التجليات، مع الحب والمودة العميقة». وبداخله مقال مطوي عن الكتاب بعنوان «التجليات» بقلم أحمد بهجت في مقاله «صندوق الدنيا».

وبين صفات «الصديق» و«الأخ» و«العم» جاءت إهداءاته الأخرى، إذ كتب على المجموعة القصصية «حكايات الغريب» (كتاب مجلة الإذاعة والتليفزيون، 1976)  في 30 نوفمبر 1976: «الصديق العزيز الأستاذ عبد الفتاح الجمل، مع حبي واحترامي». وعلى مجموعة «إتحاف الزمن بحكاية جلبي السلطان» (دار المستقبل العربي، 1984) كتب في 28 يوليو 1984: «أخي الأكبر وصاحب الفضل أبدًا ودائمًا عبد الفتاح الجمل، مع حبي العميق». وكذلك كتابه «رسالة البصائر في المصائر» (روايات الهلال، 1988) في 26 مارس 1989: «أخي الأكبر عبد الفتاح الجمل، حبًا في الأصالة والنبل والحرية والإبداع».

أما «شطح المدينة» (روايات الهلال، 1990)، آخر كتاب أهداه له تقريبًا؛ كتب عليه الغيطاني في 22 يوليو 1991 إهداءً متشابهًا مع إهدائه الأول المطبوع، يقول فيه: «إلى عمنا عبد الفتاح الجمل، صاحب الفضل علينا جميعًا نحن أبناء الستينات، مع الحب والمودة».

 

يوسف القعيد : نور وسط العتمة

شهد عام 1969 أيضًا نشر أول رواية للكاتب محمد يوسف القعيد بعنوان «الحِداد» (كتاب الطليعة، 1969)، باسمه الثلاثي، قبل أن يستغنى عن «محمد» فيما بعد، وكتب عليها للجمل في 27 فبراير 1969: «الأستاذ عبد الفتاح الجمل الذي قدّم للحياة الأدبية جيلًا كاملًا من الأدباء، مع الود والتقدير».

وبنفس الاسم الثلاثي أهداه رواية «أخبار عزبة المنيسي» (الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1971): «الصديق الكبير الأستاذ عبد الفتاح الجمل، مع أمنية حارة وصادقة أن أرى روايتك قريبًا جدًا ومع الود والعرفان الصادق بالجميل». و«أيام الجفاف» (مكتبة مدبولي القاهرة/ دار العودة بيروت، 1973): «عبد الفتاح الجمل.. الذي لم أستطع الوصول إلى إنسانيته الفياضة حتى الآن».

بعد انتقال الجمل إلى شقته الجديدة في مدينة نصر، اعتاد القعيد على زيارته، وأهداه خلال خمس سنوات ثلاثيته «شكاوي المصري الفصيح»، الجزء الأول بعنوان «نوم الأغنياء» (دار الموقف العربي، 1981) كتب عليه بتاريخ 19 مايو 1981: «إلى عبد الفتاح الجمل.. النور وسط العتمة.. والدفء الإنساني في مواجهة صقيع الزمن الموحش».

أما الجزءان الآخران فأهداهما له في يوم واحد، بتاريخ 10 فبراير 1986، وكتب على «المزاد» (دار الوحدة، 1983): «الأخ العزيز عبد الفتاح الجمل.. برغم كل محاولات نباتات الظل، جامعو أعقاب سجائر الواقع الثقافي في مصر.. ستبقى أنت دائمًا.. الأخ الأكبر والمعلم والملاذ». وعلى «أرق الفقراء» (دار المستقبل العربي، 1985): «الأخ الأكبر.. عبد الفتاح الجمل.. صاحب المعطف الذي خرجنا منه جميعًا، لولا أياديك البيضاء ما كنا جميعًا».

وفي نفس اليوم أهداه كتاب ثالث هو «الحرب في بر مصر» (مطبوعات القاهرة، 1985) وكانت تلك طبعته الثالثة، والأولى في مصر، بعدما صدر عن دار ابن رشد في بيروت عام 1978 ثم عن دار صلاح الدين بالقدس في فلسطين المحتلة. وقد كتب للجمل على تلك الطبعة المهداة: «عبد الفتاح الجمل، لك وحدك الفضل في صدور هذه الرواية في مصر.. ولكن كل ما لدينا من كلمات لا يستطيع أن يوفيك القليل من حقك».

وبعد ثلاث سنوات، عاد القعيد ليؤكد مجددًا على امتنانه لراعي الجيل، على رواية «وجع البعاد» (روايات الهلال، 1989) مستخدمًا إهداء الغيطاني الأول، فكتب بتاريخ 15 يناير 1989: «إلى الصديق الكبير عبد الفتاح الجمل.. الذي أعطى جيلنا الفرصة كلها».

وعلى رواية «مرافعة البلبل في القفص» (روايات الهلال، 1991) كتب له بتاريخ 28 ديسمبر 1991: «عمنا الجليل عبد الفتاح الجمل.. قيمة هذه الرواية أنها صادرة في سلسلة تصدر رواية لك بعدها.. مع حبي». وبالفعل صدرت «محِّب» في الشهر التالي، يناير 1992.

إذا أعدنا قراءة إهداءات يوسف القعيد سنجدها مطابقة ومعبّرة عن رأي القعيد الذي أفصح عنه في مقاله (صانع الأدباء الكبار.. وداعًا، المصور، 25 فبراير 1994) بأن: «عبد الفتاح الجمل إنسان دور، الدور الذي قام به أهم إنجازاته». وأضاف واصفًا له: «من يتعامل مع عبد الفتاح بصورة عابرة سيقول إنه براوي أو خشن أو قاس. ولكن من يتسلل ويعبر المسافة العامة التي تحيط به، لابد وأن تصادفه منطقة من الإنسانية والعذوبة والرقة.... لا يعرف الحلول الوسط، يرفض الدبلوماسية الناعمة في التعبير عن آرائه ومواقفه، الأبيض أبيض والأسود أسود، ويرفض القول إن هناك ألف درجة من الأسود، ولم يجبر نفسه على التعامل مع أحد انصياعًا لضرورات الحياة».

 

نجيب محفوظ : تحياتي وتقديري

في 27 فبراير 1994، نشرت «أخبار الأدب» رثاء بعنوان «عبد الفتاح الجمل لا نقول وداعًا» وقع عليه 162 مثقفًا وأديبًا وفنانًا، في مقدمتهم نجيب محفوظ. ويقول محمود الورداني (أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «كان نجيب محفوظ حريصًا على قراءة المساء في مقهى ريش والتحدث عن موادها».

وكما حرص محفوظ على قراءة المساء وموادها، كان حريصًا كذلك على إهداء كتبه إلى عبد الفتاح الجمل، إذ يوجد في المكتبة سبعة كتب لمحفوظ، هي «المرايا»، «حضرة المحترم»، «حكايات حارتنا»، «دنيا الله»، «شهر العسل»، «قلب الليل»، و«ميرامار». وجميعها تتضمن كلمات متشابهة: «الأستاذ عبد الفتاح الجمل، تحية وتقديرًا. نجيب محفوظ».

الاختلاف الطفيف أحيانًا يكون في الكلمات الوسطى، كأن يكتب بدلًا منها «تحياتي وتقديرى» أو «تحية وإعجابًا» أو «تقديري ومودتي». وبعض الكتب تحمل إلى جانب الإهداء كلمة «المساء»، مما يشير – ربما – إلى أنه يحدد عددًا من النُسخ ليرسلها إلى الصحافة، مع كلمات رسمية في الصفحة الأولى كإهداء.

 

خيري شلبي : الحبيب الفنان

اعتاد خيري شلبي على نعت الجمل في الإهداءات بالأخ الحبيب، والفنان. كتب له على المجموعة القصصية «السنيورة» (الهيئة العامة للكتاب، 1978) بتاريخ 6 مارس 1978: «إلى أخي الحبيب.. صديقي الفنان عبد الفتاح الجمل.. فضل عظيم جدًا – بما لا يُقاس – في كتابة هذه المجموعة المتواضعة».

وفي نفس العام أهداه رواية «الأوباش» (روزاليوسف، 1978) بتاريخ 7 نوفمبر وعليها: «إلى أخي الحبيب.. الفنان عبد الفتاح الجمل.. أهديه بعض ما علمني، مع التحية والتقدير». واكتفى في إهدائه على رواية «المنحنى الخطر» (دار الهلال، 1983) بجملة: «إلى أخي الحبيب عبد الفتاح الجمل، مع خالص الود والحب».

لم تكن كلمة «الحبيب» مجرد صفة حميمة يحافظ عليها شلبي، وإنما حقيقة شعر بها وأظهرها، واستفاض في حديثه عنها (عصر عبد الفتاح الجمل، مجلة القاهرة، 1994): «إن أبرز خصيصة في هذا الفلاح الدمياطي هي قدرته على الحب، الحب للحب، المجرد من الهوى الشخصي، المنزه عن الأغراض؛ يحب الناس جميعًا، حتى من يتطاولون عليه يقدم لهم الخير؛ يحب الأدب والفن أكثر من حياته نفسها، بينه وبين الأدب عشق صوفي؛ كلاهما يفنى في الآخر ولذا فقد خدم الأدب خدمات جليلة بأن قدم له أكثر من جيلين».

 

بدر الديب :  سامحنا يا رجل

وجدتُ كتابًا واحدًا يحمل إهداءً من الكاتب بدر الديب، رئيس تحرير جريدة المساء بين عامي 1967 و1986، وهو المجموعة القصصية «حديث شخصي» (الهيئة العامة للكتاب، 1982)، مكتوبًا عليها في مايو 1983: «إلى أخي العزيز عبد الفتاح الجمل، تحية تقدير وإجلال وشكر».

لكن بعد وفاة عبد الفتاح بأيام، كتب الديب مرثية وداع بعنوان «كل آن للموت هو متأخر» مع مقاله (تحية وداع وتذكير بالقيمة، مجلة إبداع، مارس 1994)، يقول في جزء منها: «إن كل ما كتبت وصنعت من جمل/ أفضل من أي حياة/ ولكنك أبدًا لم ترضَ ولم تقنع». وفي الختام: «كان عليك يا عبد الفتاح أن تتوقف بنا/ وألا ترحل حتى نعرف كيف نودعك/ وكيف نرعى متاعك الذي تركت معنا/ مع مَنْ تركته، ولمن تركته؟/ حتى في حياتك اعتبرتنا جميعًا أمواتًا/ فلم يكن لنا قدرة على أن نقدم لك شيئًا/ وقد رفضت وتعاليت بوحدتك وبسخريتك/ أن يقدم أحد شيئًا/ فهل نكتفي بذلك أم علينا أن نرعاك/ تحت التراب؟!/ ولم نَرعَك وأنت معنا تعاني الحياة/ كجملة سيئة التركيب والوضع والمعنى/ سامحنا يا رجل ولا أظنك تستطيع!/ فنحن حقيقة لا نستحق».

أما المقال نفسه فينتقد خلاله الجملة التي تُذكر إلى جانب اسم عبد الفتاح الجمل دائمًا لوصفه «قدّم الكثير من كتاب الستينيات وأدبائها أيام كان رئيسا للقسم الثقافي في المساء» ويتساءل: «هل هذا هو كل ما فعله عبد الفتاح الجمل؟» ويجيب بشكل قاطع: «لا بالطبع. فهذا في نظري أقل وأضأل ما فعل. وهو عبارة عن محاولة من أولئك الذين قدمهم وساهم في إظهارهم لإخفاء عجزهم عن إدراكه ومعرفته معرفة حقيقية والتمعن فيما كتب وقدم، وتقديره حق قدره. وهو انشغال بأنفسهم عن القيمة الحقيقية لعبد الفتاح الجمل وعن كتبه».

 

إسماعيل فهد إسماعيل : صوت أصيل

تضم المكتبة ثلاثة كتب للأديب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل أهداها للجمل، آخرها عام 1982 وهو المجموعة القصصية «الأقفاص واللغة المشتركة» (دار العودة، 1974)، وكتب عليه: «الجمل الحبيب، مع الاعتزاز».

أما الاثنان الآخران فكانا بتاريخ 9 يوليو 1972، الأول لرواية «المستنقعات الضوئية» (دار العودة، 1971): «أسعدني.. وهزني، أن أكتشف صوتًا أصيلًا، مكثفًا وحبيبًا وبرمز متطور وفهم موضوعي.. إلى الذي شدني إليه بخوفه... إلى عبد الفتاح الجمل». والثاني على رواية «كانت السماء زرقاء» (دار العودة، 1970): «هي خطوة أولى ولن تصل إلى أسفل سلّم خطواتك الأولى... إن خوفك أكبر وأعمق وأحب مني... مني.. ماذا؟!.. لا أدري... المهم أنت فنان رهيب... إلى حبيبي عبد الفتاح الجمل».

 

خيرية البشلاوي وسامي خشبة : أحببناه معًا

داخل تلك الرواية لإسماعيل فهد إسماعيل «كانت السماء زرقاء»، يستقر كارت بوستال عليه صورة لمحطة حافلات برلين، أرسلته الناقدة خيرية البشلاوي من برلين إلى القاهرة، تحدّثه فيه عن روايته «الخوف» وشخصياتها. على يمين الكارت يقع شعار الدُب الخاص ببرلين وتحتها باللغة الإنجليزية «Cairo – Egypt» ثم «عبد الفتاح الجمل (جريدة المساء) 24 شارع زكريا أحمد – مؤسسة دار التحرير»، وعلى اليسار كتبت: «الصديق العزيز عبد الفتاح بك الجمل، هذه السطور على عكس البرودة الشديدة التي نعاني منها هنا وتحمل كل حرارة الشرق الأوسط (ولا أقول أزمة الشرق الأوسط)، يرافقني كلب الشيخ متولي كلما حل المساء واستبد الصمت.. أرجوك أن تستعين بالحاج عطوة حتي أصل وتكون كل الأمور على ما يرام.. لعلك راضي.. وإلى اللقاء.. على فكرة بعت نسخة من الخوف لكمال الملاخ (!!!!) خيرية البشلاوي 2/11/72».

خيرية البشلاوي - كارت بوستال3

وبعد عام؛ أهدته البشلاوى نسخة من كتاب زوجها الكاتب سامي خشبة «قضايا معاصرة في المسرح» (مطبعة الجمهورية - بغداد، 1972) في 10 أبريل 1973: «إلى الصديق الذي أحببناه واحترمناه معًا – أنا وسامي – نهدي هذا الكتاب، لعله يجد فيه ما يرضيه عنا».

قال سامي خشبة عن الجمل عقب وفاته (مواطنو جمهورية عبد الفتاح الجمل يتحدثون بعد رحيله، الحياة، 25 فبراير 1994) إن «مهمته الأساسية كانت مساعدة أبناء هذا الجيل على اكتشاف أنفسهم بأنفسهم، ولذلك فهو موجود في كل فرد فيه».

وعندما ذكرتُ اسم عبد الفتاح الجمل أمام خيرية البشلاوي، قالت: «عندما نُقِلنا، أنا وسامي، من الجمهورية إلى المساء، وكنا شبه مغضوب علينا، قابلنا وأتاح لنا حرية الكتابة والنشر، واستطعتُ بفضل وجوده التعبير عن أفكاري بدون قمع أو كبح. كان لديه قدر كبير من السخرية والفكاهة، والنظرة التأملية غير المتحذلقة، والقدرة على وزن الناس جيدًا، وتواضع شديد. نفتقد الآن، للأسف، لمثل هذا «الراعي الصالح» الذي يمكنه اكتشاف البراعم ودعمهم».

 

زين العابدين فؤاد : عملة نادرة

كتابان للشاعر زين العابدين فؤاد، وجدتُ في إهدائهما صفة «العملة النادرة» مكررة، الأول على ديوان «وش مصر» (كتاب الغد، 1971) الذي استغرق سبع سنوات حتى حصل على موافقة الرقابة آنذاك، وعليه: «إلى عبد الفتاح الجمل العملة النادرة»، وهذا الديوان وردت منه نسخة أخرى مع مكتبة الجمل بدون إهداء.

كان زين العابدين فؤاد أحد مرافقي الجمل في رحلته الأخيرة إلى مثواه بدمياط، لكن اللقاء الأول بينهما يعود إلى عام 1957، حينما كان فؤاد طالبًا في المرحلة الثانوية وأشار عليه أحد مدرسيه أن يجري حوارًا مع عبد الفتاح الجمل. مرّت السنوات ونسى كلاهما ذلك اللقاء، وأخذ زين العابدين يذهب إلى صالة التحرير في «المساء» تاركًا قصائده فيجدها منشورة بعد أيام في الملحق الأدبي، وفي ذلك، كما يقول فؤاد، «العملة النادرة»، أن ينشر النصوص دون أن يعرف أصحابها، معياره الوحيد هو الجودة.

أما الإهداء الثاني على ديوان «الحلم في السجن» (دار ابن خلدون بيروت، 1978)، فجاء فيه بتاريخ 23 أبريل 1981: «إلى عبد الفتاح الجمل عملة نادرة لا تتكرر. النسخة الوحيدة من هذا الديوان أتشرف بإهدائها لك. وأنا غير مسئول عن المقدمة».

سألتُ زين العابدين فؤاد مستفسرة عن قصة النسخة الوحيدة والمقدمة، فأجابني: «الديوان كما يتضح من عنوانه، كتبته في سجون مختلفة، وتم تهريبه من سجن «أبو زعبل» عام 1977، ووصلتني منه نسخة داخل السجن عام 1978. عندما خرجت لم يكن لديّ بالفعل سوى نسختين، لأنه لم يدخل إلى مصر، فاحتفظتُ بنسخة لي والأخرى أهديتها لعبد الفتاح الجمل، وهو نفس الديوان الذي نُشر فيما بعد بعنوان «مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر». أما المقدمة التي كتبها الناقد سيد خميس فأنا غير مسئول عنها لأني لم أعلم عنها شيئا، وقد ورد بها بعض المعلومات التي لم أتفق معها».

 

زينب الكردي : الصديق الذي كرهته

زينب الكردي هي زوجة رسام الكاريكاتير الفنان حاكم، وهي حسبما جاء على الغلاف الخلفي لمجموعتها القصصية «عيوني الليلة لا تعطي دمعًا» (دار العربي للنشر والتوزيع، 1985): «سودانية من وادي حلفا. أنجبت ثلاث بنات: منى، ياسمين، رباب. مارست العمل الصحفي بالكويت منذ 1968. كتبت العديد من المسلسلات للإذاعة والتليفزيون. حاصلة على ليسانس الآداب في التاريخ عام 1975 من جامعة الإسكندرية».

أهدت عبد الفتاح الجمل مجموعتها الأولى تلك، وكتبت له: «الأخ والصديق الرائع عبد الفتاح، أعترف أنه لولاك لما كانت استمراريتي بهذه الجدية، ولما تأخر صدور هذا الكتاب 15 سنة بسبب خوفي ورعبي من الجادين أمثالك، فشكرًا من أعماقي لك».

لم يظهر في الإهداء سبب خوفها ورعبها منه، لكنها روت ذلك تفصيلًا في مقالها (كم كرهته بشدة، مجلة الثقافة الجديدة، 1992) إذ تقول: «كان أول لقاء حقيقي لي معه في الخمسينيات، وكان وقتها مسئولًا عن الصفحة الأدبية، وكنت أنا مجرد موظفة بسيطة في إدارة جريدة المساء.. أيامها كنت صبية صغيرة تحاول – في السر – أن تكتب الشعر لنفسها فقط، أما القصة القصيرة فقد كنت أقرؤها لمن أعرفهم من الأدباء والكتاب.. وكانوا يمتدحونها بالطبع من باب المجاملة لا أكثر، إلا أنني صدقتهم، وبدأت أعيش أجواء «الكاتبة الكبيرة»، ومن هذا المنطلق أعطيت إحدى قصصي لزوجي حسن حاكم رسام الكاريكاتير في الصحيفة، وطلبت منه أن ينشرها لي في الصفحة الأدبية، وعندما نشرت لي فعلًا دخل في روعي أنني «الطفلة المعجزة»، وأنني.. وأنني!! حتى كانت مكالمته التي يطالبني فيها بأن أدعوه هو ومصطفى حسين وجمال عزام على العشاء، ولأن الطلب غريب سألته دون أن أقصد لماذا؟!.. رد قائلًا ألم ننشر لك قصتك؟! تساءلت وأنا أحاول أن أكظم غيظي: ثمن؟! رد بسرعة: طبعًا!!..... تساءلت بهدوء: ولماذا الثمن؟! ألم تقتنع بها وقمت بنشرها؟ ورد هو على السؤال بسؤال آخر فقال: كيف أقتنع بعمل لم تقتنعي أنت نفسك به، وبدلًا من أن تتحملي مسئوليته وتواجهي العالم به، أرسلته مع زوجك، وتواريت خجلة!! ولعلمك النشر لا يعني بالضرورة جودة العمل!».

قضت هذه الكلمات على زهو زينب وغروها، فكرهت عبد الفتاح الجمل بشدة، رغم أنها مع مرور الوقت اعتبرته درسًا واقتنعت أنه في الفن بالذات على الوسطاء أن يمتنعوا، إلى أن كان اللقاء الثاني بعد عشر سنوات، تقول: «كنت قد تمرست على كتابة القصة، وخيل إليَّ أنني انتهزت فرصة زيارته لنا، وقدمت له مجموعة القصص التي كتبتها.. هو ابتسم لي ابتسامة مشاكسة وتناولها مني قائلًا: لا تتوقعي مني أية مجاملات!!..... لم يأكل يومها، وظل منكبًا على مجموعتي يقرؤها باهتمام بالغ، ثم نهض واتجه إلى الباب، وعندما سأله زوجي أن يبقى ويأكل مد يده لي بالمجموعة وهو يقول: كيف آكل وقد أفسدت امرأتك شهيتي!! يا بنتي شوفي لك حاجة تانية اعميلها.. مالك انت ومال الفن!، ثم أردف قائلًا: الفن ليس لقبًا يضاف إلى اسمك، ولا هو «وجاهة».. الفن عذاب!! جزء من فؤادك يحترق مع كل كلمة.. الفن مش لعبة يا ست زنوبة!!».

أعاد ذلك اللقاء مشاعر الغضب إليها من جديد، وصار تحديًا بالنسبة لها أن تسمع منه كلمة «برافو» ذات يوم. لكنها بعد سفرها إلى الكويت بأسبوع وجدت «طردا صغيرا» منه يحوي كتابًا عن فن القصة القصيرة، ومعه رسالة يخبرها فيها أنها تمتلك موهبة حقيقية، وإلا ما اهتم بالكتابة إليها، مضيفًا «يجب أن تنمي هذا الحس الفني كل دقيقة وكل ثانية من ثواني عمرك، بالثقافة الجادة الواعية، بأن تحبي الناس وأن تتأمليهم بحب، وأن تنحازي لهم». وأخبرها في النهاية «ما قلته يومذاك كان مجرد مشاغبة لا تخلو من شبهة التعمد، لأنني أردت أن أكسر حدة غرورك، فالفنان الحقيقي ينبغي أن يخاف ويرتعد عندما يقرر مواجهة الناس ليقولوا كلمتهم فيه، وأن يرضى أبدًا عن نفسه حتى لو صفقت له الدنيا بأسرها، فالفنان الحقيقي يزداد تواضعه كلما ازدادت عظمته!!».

بعد عودة زينب الكردي إلى مصر ونشرها لأول مقال بمجلة «كاريكاتير» تحقق حلمها ووقع الجمل على شهادة نجاحها، إذ هاتفها ليقول لها «هايل.. هايل.. أنتِ الآن كاتبة فعلًا».

 

عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل : قابلته مرة واحدة

كان الظن عند الكثيرين، أن الباحث عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل هو نفسه عبد الفتاح الجمل المشرف على الملحق الأدبي والفني بالمساء، لدرجة أن عناوين كتبهما تتداخل، خاصة وأن الاسم الثاني لعبدالفتاح الجمل لم يكن معروفًا، لذا كان سؤالي الأول لأخوته «ما الاسم الكامل لعبد الفتاح؟».

في كتب عبد الفتاح الجمل، وجدتُ أكثر من كتاب لعبد الفتاح عبد الرحمن الجمل، منها «كش ملك» (أدب الجماهير2) يتضمن نصوصًا لكل من: عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل، زكريا باهي، وجيه عبد الهادي، وفؤاد حجازي.

بالإضافة إلى المجموعة الأولى له «أحلام ترانزستور» (أدب الجماهير1) وعليها إهداء بتاريخ 31 أغسطس 1969 يقول فيه: «الأستاذ عبد الفتاح الجمل مع تمنياتي القلبية. المخلص، عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل. المنصورة. ص.ب 126».

ومن الإهداء يتضح أن الكتاب كان مرسلًا بالبريد، وهو ما أكده عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل حينما سألته، وأضاف: «لم أقابل عبد الفتاح الجمل سوى مرة واحدة، وكان حينها يحرر الملحق الأدبي والفني لجريدة الأخبار. عندما قابلته كنت بصحبة فؤاد حجازي وعبد الرحمن الأبنودي، وجدت شخص متوسط القامة يقف على الباب فعرّفته بنفسي فقال لي «الله يخرب بيت شيطانك، ده أنت خربت بيتي»، واكتشفت أن تشابه الاسم سبب له إزعاجًا كبيرًا وعرّضه للتحقيق بعدما نُشرت قصة لي باسم عبد الفتاح الجمل».

يوضِّح صاحب «أحلام ترانزستو»: «كان صلاح جاهين قد نشر لي قصتين بمجلة «روزاليوسف»، إحداهما باسمي والأخرى «رجل واحد ينازع البقاء» نشرها بدون عبد الرحمن، عندها أرسلت له لأخبره أن ما نُشرت به القصة ليس اسمي مع رجاء بتصحيح الوضع، فكتب مقالًا في العدد التالي بعنوان «عبد الفتاح عبد الرحمن الجمل.. زعلان ليه؟» لكن من عانى بسببها كان عبد الفتاح الجمل».

 

إيهاب شاكر : داخله بركان ثائر

أهدى إيهاب شاكر نسختين من الكتاب نفسه إلى عبد الفتاح الجمل، وهو «سعدي يوسف» (دار الفتى العربي، 1989) إعداد فريال جبوري غزول ورسوم إيهاب شاكر. يقول في أحدهما بتاريخ 17 أغسطس 1990: «إلى الإنسان الذي أنبت لنا عشرات الشعراء والأدباء... عبد الفتاح الجمل.. صديقي.. الذي أحبه». بينما يخلو الثاني من التاريخ، وجاء فيه: «إلى الملك الذي يحيا في مملكته ملوك وملكات.. إلى عبد الفتاح الجمل... مع محبتي».

كان إيهاب شاكر من الأصدقاء المقربين لعبد الفتاح، ورافقه في رحلة عمله بدار الفتى العربي، إلا أن علاقتهما تعود إلى ما قبل ذلك بسنوات، يقول شاكر (جمال كلماته رباني، مجلة الثقافة الجديدة، 1992): «عايشته في جريدة المساء حين عملت في «الجمهورية». ثم جاءت الفرصة بعد أن عدت من الخارج والتقينا مع رسم كتابه «حكايات شعبية من مصر». عبد الفتاح الجمل نقي نقاء غير عادي، خجول، لكن داخله بركانًا ثائرًا، لذا أحاط نفسه بمدفع رشاش، ليحمي فيضه الداخلي، لأنه لا يحتمل الزيف والنفاق، فيهاجم فورًا، ويضرب شوكته فيك، فيحرق (القش) من حوله، ويبقى المعدن النفيس الأصيل، يحتمل ليستوعب ويفهم وينمو».

نشرت مجلة «صباح الخير» في عددها بتاريخ 21 أبريل 1994، بعد وفاة الجمل، لوحة لإيهاب شاكر، وبجانبها جملة «من وحي رواية محب».

 

محمد المخزنجي : أبي الذي أحبه وأخشاه

كما أشارت حسناء مكداشي سابقًا، كان عبد الفتاح الجمل هو من استقطب محمد المخزنجي للنشر بدار الفتى العربي، وأصدر حينها مجموعته القصصية الأولى «الآتي» عام 1983، مصحوبة برسوم حامد ندا.

أهدى المخزنجي نسختين منها إلى عبد الفتاح الجمل، وتحمل كل منهما إهداء بمثابة رسالة، يقول في الأول: «يا عم عبد الفتاح.. تكفيرًا عن تأخري.. وإن كان الأمر هيبة.. أسارع بالثانية. فهل تقبل وتسامح؟!».

وعندما سارع بالثانية كتب: «جئت ولم أجدك يا أبي.. مازال أمر أن أهدي إليك كتابًا – حملته معي واحتملتني فيه – صعبًا غاية الصعوبة. فأنا مازلت أحبك وأخشاك.. تمامًا وكأنك أب وصاحب. ويضيع مني الكلام يا عم عبد الفتاح.. الجمل الأصيل العالي».

وبعد نعته بالعم والأب، بعث له المخزنجي برسالة ثالثة على صفحات مجلة الثقافة الجديدة عام 1992 يستهلها بـ «أخي العزيز الأستاذ الكبير» ثم يشكره على كتابه «آمون وطواحين الصمت» الذي أمضى معه ليلتين لم يستمتع بمثلهما منذ زمن، مضيفًا: «لا أذكر أنني رأيت تعاملًا مع اللغة بكل هذا الجمال، اللهم إلا في رباعة الإسكندرية للورانس داريل. لا أعتقد أنك أنهيت هذه اللوحات المذهلة في مدة تقل عن الثلاث سنوات.. فهذا مجهود لا يقدر عليه غير شاعر عظيم يعشق الكلمة، ويترهبن في صومعتها ومن ثمة أسلست له قيادها».

 

عبده جبير:  المعلم الكبير

يقول عبده جبير (جلجلة، مجلة القاهرة، 1994): «ذهبت خفية إلى مطبعة في التوفيقية لأطبع كتابًا على حسابي (ألف نسخة بـ35 جنيها) ولما عدت ذات مرة بالبروفات لأريها لعم عبده ارتسم الكرب على وجهه وذهب إلى ركن الصالة وأخذ في قراءتها ثم عاد وهو يرغي ويزبد: «الله يخرب بيوتكم وبيوت أبو اللي جابكم يا مجانين.. يا بهايم اللي نعملوه من هنا تنيلوه من هنا، امشي اسحبها وديها في ستين داهية». لم أفهم السبب، إلا بعد أن تعثرت طباعة الكتاب (لحسن الحظ بسبب أنني لم يكن معي بقية الـ35 جنيه التي كنت قد دفعت منها 15 جنيهًا) وبعد أن مرت الأيام، وأنا ليس معي بقية النقود، وزوغت من صاحب المطبعة، اكتشفت أن عبد الفتاح الجمل كان قد قدم لي أغلى نصيحة يقدمها راع مثله لكاتب شاب، بالفعل، فلو كان قد تم نشر هذا الكتاب (أبو قصص نيّة) في حينه، لظل يؤرقني طوال عمري».

لم يذكر جبير تاريخ تلك الواقعة وما إذا كانت في بدايته أم بعد ذلك، لكن الواضح أنه حرص على إهداء أعماله باستمرار لعبد الفتاح الجمل، ففي 28 يناير 1978 أهداه مجموعته «فارس على حصان من الخشب» (دار الثقافة الجديدة، 1976): «إلى الصديق الأستاذ الأديب الفنان عبد الفتاح الجمل». وفي 24 فبراير 1984 كتب له على رواية «ثلاثية سبيل الشخص» (دار التنوير، 1984): «الصديق المحبوب، المحب الرائد، عبد الفتاح الجمل، مع حبي وتقديري».

أما المجموعة القصصية «الوداع: تاج من العشب» (الهيئة العامة للكتاب، 1985) فيوجد منها نسختان بإهداءين مختلفين؛ الأول بتاريخ 8 أكتوبر 1985، جاء فيه: «الصديق والأخ الأكبر، الروائي والفنان عبد الفتاح الجمل، حبًا وتقديرًا». والثاني بعد حوالي ثلاثة أشهر بتاريخ 26 يناير 1986، وفيه: «المعلم الكبير عبد الفتاح الجمل، حبًا وتقديرًا».

 

سعيد الكفراوي : آمل في رضاك أستاذي

تعلّم القاص سعيد الكفراوي محبة الناس من ثلاثة؛ أمه وأنطوان تشيكوف وعبد الفتاح الجمل، لذا ظل حريصًا على كسب رضائه على الدوام، فكتب له على مجموعته «مدينة الموت الجميل» (دار كتب خانة، 1985): «العم الفنان عبد الفتاح الجمل، خرج الجميع من معطفك المبارك، آمل في الرضى والمحبة التي أعرف، ذكرى لما بذرت والذي لن يضيع، مع حب ابنك الوفي سعيد الكفراوي».

.. وعلى مجموعته التالية «ستر العورة» (الهيئة العامة للكتاب، 1989) يعيد الأمل: «أستاذي الفنان عبد الفتاح الجمل، كتابة للحقيقة التي أصبتها، آمل في رضاك، وفل عليك وورد عليك».

00000001 (36)

لماذا  

لم تُجمع أعماله إلى الآن؟

منذ بدأتُ البحث عن كتب عبد الفتاح الجمل ولم أجدها، ظل تساؤلًا لا يفارق ذهني، وهو: لماذا لم تُجمع أعماله إلى الآن ؟

بعد أسبوع من وفاة الجمل، كتب جمال الغيطاني مقالًا (عبد الفتاح الجمل.. غروب حقبة، أخبار الأدب، 27 فبراير 1994) يوجّه فيه رجاءً للدكتور سمير سرحان والفنان فاروق حسني، قائلًا: «أرجو أن يقدم الدكتور سمير سرحان على إصدار أعماله الكاملة والتي لن يتجاوز جمعها مجلدًا واحدًا، بما فيها آخر ما كتب، مقالاته التي نشرها في «أخبار الأدب» مع صدورها ولم يتوقف إلا مع بدء مرضه الذي لم يكن يدري حجم خطورته. ومن ناحية أخرى أرجو من الفنان فاروق حسني أن يبادر باتخاذ الإجراءات لكي تقوم وزارة الثقافة باقتناء مكتبته التي تضم نفائس فريدة من الأدب العربي والعالمي أخشى ما أخشاه أن يتبدد تراثه، سواء ما جمعه من كتب أو ما أبدعه من نثر جميل، ولن يهدأ لنا بال إلا بصدور أعماله، وباستقرار ما خلفه من كتب في مكان يليق بها، وبين أيد تعرف قيمتها».

وقبل نهاية العام التالي كتب عدلي رزق الله (الجمل.. الرجل الذي علمني الكتابة،  1995): «لم يكتب عبد الفتاح إلا دررًا، وحين أفكر في ذكراه الثانية التي ستحل بعد شهور قليلة لا أجد لائقًا للاحتفاء والاحتفال غير تقديم «كل» أعمال عبد الفتاح لمصر والمصريين الذين عشقهم، ولا أجد الآن غير المجلس الأعلى للثقافة لكي أتوجه إليه بتلك المهمة الجليلة التي تشرف من يفعلها. جابر عصفور أعرف أنك قادر عليها وأعدك بالإخراج الفني لمن أحب ولكتابات عشقتها حين كنت أتبادل الحديث مع إدوار الخراط عن حلمي لعبد الفتاح وأعماله الكاملة، قال: لا تنسوا جمع مقالات الرجل حتى لا يضيع تراثه بالتقادم. عبد الفتاح، إلى لقاء مع أعمالك الكاملة لجمهور متعطش هذه الأيام ليعرف أن هناك عشاقًا لمصر لا للمال».

وبعد عشر سنوات، تساءل محمد كامل القليوبي (في الذكرى العاشرة لوفاة عبد الفتاح الجمل.. دعوة لإنقاذ عقل مصر، أخبار الأدب، 22 فبراير 2004): «أين أعمال عبد الفتاح الجمل؟»، وطالب في مقاله أدباء ومثقفي مصر بتحدي قرار ورثة عبد الفتاح الجمل بمنع نشر كتاباته وأن يشاركوا جميعًا بدفع مبالغ مالية، كل حسب قدرته، لتمويل نشر أعماله الكاملة والمشاركة التضامنية في مسئولية النشر.

في عام 2015 كرر القليوبي مطلبه، مع توضيح لمسألة قرار الورثة بمنع نشر الكتابات (زمن عبد الفتاح الجمل، الأهرام، 13 فبراير 2015): «مما يدعو للحسرة، أن أعمال عبد الفتاح الجمل جميعها ممنوعة من النشر، إذ سيطر أحد السلفيين على عقول ورثته وأدخل في روعهم أن كتابات الجمل تنطوي على (كُفر) بيّن وينبغي منع نشرها، وهكذا حال هؤلاء الورثة دون نشر إبداعات الجمل وكتاباته، ورفضوا نشر أعماله الكاملة رغم موافقة د.سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب وسعيه لذلك، وفشلت وساطة الكاتب الكبير محمد البساطي في إقناع ورثته بالموافقة على النشر».

كان د.جابر عصفور آنذاك هو وزير الثقافة، فقرر نشر أعمال الجمل، حسبما جاء في خبر بالصفحة الأولى لجريدة الأهرام (عصفور ينقذ أعمال الجمل، 19 فبراير 2015): «تقديرًا لمكانة الأديب والروائي عبد الفتاح الجمل الأدبية، تفاعل الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة، مع مقال المخرج محمد كامل القليوبي بملحق «أهرام الجمعة» عنه في ذكرى رحيله الحادية والعشرين، حيث قرر تبني الدولة نشر أعماله الكاملة بعد أن أدخل أحد السلفيين في روع ورثة الأديب أن كتاباته تنطوي على (كُفر) بيّن وينبغي منع نشرها. وكلّف عصفور رئيس دار الكتب حلمي النمنم بنشر هذه الأعمال».

حينما عُدت لورثة عبد الفتاح الجمل، نفوا تمامًا ما تردد حول منعهم للنشر أو أن هناك من وصف كتابات عبد الفتاح بالكُفر، وأكد عوض الجمل أن أحدًا لم يتواصل معهم قبل عام 2008، حينما ذهب مع البساطي إلى دار الشروق لإصدار طبعة جديدة من «محِّب»، ثم فيما بعد عام 2015 عندما تقابل مع الشاعر شعبان يوسف والمخرج د.محمد كامل القليوبي وذهبا إلى د.جابر عصفور والكاتب الصحفي حلمي النمنم.

ومما يدلل على ما قاله عوض الجمل، أنه في الذكرى الأولى لرحيل عمّه، كتب عزت القمحاوي (بكل أدب بعد عام من وفاته، أخبار الأدب، 19 فبراير 1995)، مشيرًا إلى مخطوطات عبد الفتاح التي تُنشر لأول مرة بمبادرة من عوض: «ترجم خرافات أيسوب وأحبها، ونسج على منوالها خرافاته هو التي لم تُنشر من قبل، وحملها إلى أخبار الأدب عوض الجمل ابن شقيقه لنزين بها صفحاتنا في ذكراه، آملين أن ترى النور في كتاب ضمن أعماله الكاملة هذا العام».

أما القرار الخاص بعام 2015، فيقول عنه د.جابر عصفور: «كان ضمن المشاريع التي أعمل عليها أن ننشئ مركزًا لجمع التراث الأدبي الحديث في مصر، لكن الوقت لم يسعفني لاستكماله، وحينما خرجت من الوزارة ضاعت هذه الفكرة مع بقية الأفكار والمشاريع».

ويشير شعبان يوسف إلى أن القليوبي كانت لديه بالفعل عدة مجلدات قام بتجهيزها من مقالات الجمل، ولولا معارضة أخيه المتشدد لنُشرت أعمال عبد الفتاح منذ زمن، إذ كان سمير سرحان مرحبًا بذلك. وعما صار في 2015 يقول: «تقابلنا أنا وعوض ود.كامل القليوبي مع حلمي النمنم، وكان حينها رئيس دار الكتب، لكن في ذات اليوم أقيل د.جابر عصفور وتولى مسئولية وزارة الثقافة د.عبد الواحد النبوي».

من جهته، يقول د.عبد الواحد النبوي إن هذا الأمر لم يُعرض عليه إطلاقًا أثناء وجوده في الوزارة، ويضيف: «لم يأت أحد لمناقشته معي، ولم أر قرارًا يتحدث عن إنشاء ذلك المركز. وإنما كنا نفكر في شيء آخر، وهو عمل ذاكرة للأدباء والمفكرين المصريين، وكنت سأسند تنفيذه للمجلس الأعلى للثقافة، لكن الوقت لم يسعفنا لاتخاذ خطوات إجرائية في هذا الأمر».

توجهتُ للكاتب الصحفي حلمي النمنم، لسؤاله «لماذا مات الموضوع وأنت رئيس لدار الكتب؟ ولماذا لم يتجدد عندما صِرت وزيرًا للثقافة؟» فأجابني: «الموضوع لم يمت، لأنه من الأساس كان مجرد كلام بدون اتخاذ أية إجراءات. كان من المفترض أن يتم إنشاء المركز في دار الكتب، وهذا يتطلب قرارًا جمهوريًا، وبيانًا لماهيته؛ هل سيتبع دار الكتب أم أحد المراكز بها، خاصة أننا لدينا مركز تحقيق التراث، لذلك ظل الأمر مجرد كلام».

وأنهى النمنم حديثه مؤكدًا على أن مقالات الجمل إذا كانت جُمعت وعُرضت عليه لنشرها على الفور من دار الكتب أو هيئة الكتاب، لكن ذلك لم يحدث.

ما الوضع الآن؟ عرضتُ الأمر على الشاعر والكاتب الصحفي جرجس شكري، أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، فأبدى ترحيبه الشديد بنشر أعمال عبد الفتاح الجمل في الهيئة، تقديرًا منه لقيمة الكاتب الراحل ودوره العظيم في تقديم جيل الستينيات.

 

00000001 (21)

أول نشر

رفض عبد الفتاح الجمل في البداية أن يترك مهنته كمدرِّس من أجل العمل في الصحافة، لكن سحرها أصابه بعد فترة قصيرة فتقدَّم باستقالته من الجامعة الأمريكية وقبِل بالتعيين في دار التحرير. كانت بدايته في باب «يوميات الشعب» بجريدة المساء، الذي يتناوب على تحريره عدد من الكُتَّاب من بينهم: زينب صادق، طاهر أبو زيد، شفيق خالد، فهيم عبد الرازق، وأحمد حمروش، وقد انضم لهم الجمل في 13 نوفمبر 1956، أي بعد 38 يومًا من تأسيس الجريدة، ليُنشر أول مقال له بعنوان:

عندما تعوي صفارة الإنذار

صهيوني، انجليزي، فرنساوي.. ادوله.. قطعوه، قطعوه حتت.

تحت الطائرات المنقضة التي احتشدت فوق ميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، وداخل قذائف المدافع المصرية المضادة، احتشد الشعب وتوافدت الجموع وسط الميدان حتى صار ذلك الصهيوني نقطة داخل الدائرة النامية.

-  إيه الحكاية يا أخينا؟

-  صهيوني جاسوس نزل م الطيارة وهي بتتحرق.

-  نزل ببراشوت.

-  لا يا أخي دا نط منها واتلقفته الناس.

وهذه آنسة ممتلئة تقف أمام العمارة مع الخادم، تقول بانفعال ونشوة: أيوه كده، قطعوه ما تخلوش فيه حتة لحم، اهروه.

- إيه الحكاية بس ياناس؟

- ده واحد صهيوني ساكن هنا، واقف بيسب لمصر  والمصريين بالدين وموش  عاجبه حال الشعب المتحمس وخد كافيته.. يستاهل.

وعلى الرصيف يقف جزار مع أحد الذين ارتفعت دقات قلوبهم فوق قصف المدافع وانفجار القذائف، يقول: تخاف ياجدع؟ تخاف ازاي؟  هيه لعبة داحنا حننتصر.. حننتصر بإذن الله.. هو فيه حلاوة من غير نار، انت عايز انتصار من غير دم وهدم وموت وسلخ.. بص لقدام يا جدع.. دا المستقبل بتاعنا، هية لعبة، بس ينزل الجبنات دول، على اليمين أوضب لك عشرة منهم في نفس، بالساطور بتاعي اللي ما غيروش الزمان..

ويمضي الاستاذ عزت يخترق الميدان وأثر الصهيوني الذي اختطفه بوليس النجدة من الجمهور الثائر المتحمس مازال باقيا، ورجال الدفاع المدني يصفرون ويدفعون الجمهور بأيديهم إلى جوانب الميدان خوفا عليهم من غضب الطائرات وشظايا غضب مدافعنا، والجمهور المؤمن المتفائل المستهين، لايريد أن يتقي الجبناء تحت المباني، يمد يده إلى الطائرة.. ود لو حملت هذه اليد مدفعا يصليها بنيرانه.

ويمضي الاستاذ عزت إلى مطالع شارع هارون الرشيد حيث اتخذ أتوبيس 29 محطته الجديدة بعد أن أصبحت منطقة التريومف في خطر داهم.

وركب الأستاذ عزت، وألقى بسهمه إلى الركاب من حوله.. إلى رجل بوليس يقول في نشوة وسعت وجهه.

- أخبار طازه، لسه بشوكها، تلتميت طيارة ميج جت من روسيا شايله عشر تلاف صيني، وهيه فايته على قبرص حيت المعسكرات الإنجليزية بعض التحيات الثقيلة، ولسه لغاية دلوقتي موش قادرة تتحرك تحت ضغط التحيات المتفجرة.

- ماتنساش ياحضرة فضل الطيارين بتوعنا.. دول عيال نتف. أمال العدو حاطط عينه على مطاراتنا ليه؟ دول عيال ما ولدتهمش ولادة.

فيرد رجل البوليس وقد أدرك الخطأ الذي وقع فيه بتحمسه: أنا عايز أقول إن احنا ماحناش واقفين في الميدان لوحدنا، احنا معانا العالم الحر..

- عالم حر إيه ياحضرة، بلا حر بلا مر، هو احنا قليلين؟ عليّ الحلال دا العيال المدفعجية بتوعنا أولاد نشنجية بصحيح، دول تربية النبلة والزجلة، دا الواحد منهم يقف ورا المدفع حديد وعينه زي الصقر دول أولاد الطوريا والفاس والجاموسة دول فراعنة.. ماتخافش دا المستقبل بتاعنا ان شاء الله.

وتعوي الزمارة فيقف الأتوبيس، وينزل الركاب لا ليحتموا بالعمارات بل ليكشفوا السماء، ليكون لهم السبق في رؤية الطيارة واتجاه رياح هذه المعارك الدائرة.. وتمر عربات الجيش المصفحة محملة بالذخائر والجنود في وضع التحفز فيصفق أبناء العربة وعابرو السبيل بحرارة وحماسة، فيرد الجنود بالبسمات دون أن يتغير من أوضاعهم شيء، ويعلق أحد الواقفين: انتو عارفين دول مين؟ دول شباب الحرس الوطني، دول الشباب اللي كانوا بيتسكعوا في شارع فؤاد قدام الأمريكين ويعاكسوا البنات انتو شايفين ياناس.. احنا في عهد تاني خالص، دي القيامة والخلود، والموت للانجليز والفرنساويين.

ويقصف مدفع كبير، فتهتز القلوب بالنشوة: اضرب ياواد اضرب في الكلاب والخنازير.

وبعد ساعات يصل الأستاذ عزت وقد امتلأت جعبته بما رأى وسمع.. يصل إلى العتبة ويخترق حلقة ليلتقط من أحدهم قوله: دا الانجليز نزلوا بالبراشوت في مصر الجديدة.

فيقف ليسأل مشدوها: نزلوا فين؟

- في ميدان التريومف عند المطار ولكن المصريين استلموهم، وخدوهم م الدار للنار.

ويمضي وقد ازداد محصوله من هذه الإشاعات التي يتخذ معظمها ميدان التريومف حيث يسكن والتي تعبر عن الثقة والتضامن بيننا وبين العالم الحر، والتي تعبر عن الإيمان العميق بأنفسنا وقوتنا، وبأن المستقبل لنا.

وفي ترام 19 الخامل المتواضع يسمع أحدهم يقول وقد ومضت عيناه: دي سوريا تحرشت بإسرائيل وحتخش الحرب، ولبنان عقلها بيزأزأ.. حيا الله العرب.

- دا البترول في ايدين العرب، انتو شايفين البحرين عملت إيه، دا روح الغرب في ايدينا، واحنا لبعض، وإن شاء الله قريب الأمة العربية المتحدة.

- وليه تنسوا شمال أفريقية؟

- طب والسودان الحبيب اللي عاوز يقطع العلاقات ويألف الكتائب لمساعدتنا.

- والله دبور وزن على خراب عشه، الخراب للمستعمر اللي زي الحمى الراجعة، بعد ما توصل جمال عبدالناصر إلى اكتشاف الدواء المبيد والمصل.

وهنا يمر الرئيس عبدالناصر منصرفا من مسجد الأزهر بعد أداء الصلاة، فيقفز الركاب من النوافذ والأبواب، وتنفرط الحلقات جميعا وتمتلئ النوافذ.. لتذوب كل الحركات والاتجاهات والخلجات في حركة واتجاه وخلجة واحدة، مركزها ذلك البطل، الذي يقود معركتنا، والذي وقف في عربته عملاقا يحيي الجماهير التي جنت حوله كأنه قوس من أقواس النصر تتجه إليه عواصف العواطف والتصفيق عارمة حارة صادقة.

وهنا تعوي الصفارة.. إنها أتاحت لكل مواطن الفرصة لكي ينفعل مع المدفعجي المصري الذي لايعرفه، ومع سماء مصر، إنها علمت الناس كيف ينظرون إلى أعلى ويتطلعون إلى بعيد.. إلى المستقبل، وكيف يعيدون الطريق إليه بالثقة والإيمان والتضامن.

- اضرب اضرب.. يحميك ياواد يحميك يامصر، أهي أهي بتقع.. الطيارة بتقع.

- خلاص وقعت، وقعت عند أبو العلا.

وينفرط عقد الشعوب من الرصيف إلى عرض الشارع، وبائع الورق الأزرق.. ورق النور، يتناول لفة في يده يرفعها كالعصا راقصا على الدقة، دقة المدفع بين عربات الجيش المسرعة.

الكل في الشارع.. الناس والعربات والقصاصات والتراب والأستاذ عزت. الشعب كله والأمل والنصر والثقة والحيوية، تعربد فوق وجهه لتملأ فراغ الشارع.

- ينصرك يا جمال، ينصرك يامصر.

الكل مسرع في نشوة، وعزت في نشوة، دون ما حادث أو تذمر أو توقف إلى أبي العلا ليشهدوا طلائع النصر.. النصر الكبير.

وفي مصر الجديدة يجتاز الأستاذ عزت شارع نخلة المطيعي إلى ميدان التريومف، وهو يحمل بين جنبيه أصداء اليوم كله. يسير شبحا بل أشباحا غفيرة متجمهرة تشق الظلام والسكون والصمت، بين البيوت التي كانت تسبح في بحيرة من النور منذ أيام، وينظر إلى هذه المنازل الصامتة ليراها واثقة من عودتها سابحة في بحر بل محيط صاخب من الاضواء.. أضواء النصر الكبير.

ويدخل شقته التي نقل إليها حديثا وأرسى فيها قواعد وبث فيها من نفسه، دخل يهديه في ظلماتها أنسه. بمحتوياتها.. إلى الراديو ينير له وللأثاث من حوله، ويتزود بالأنباء، زاد المصريين اليوم بدل الطعام والشراب، وأمسك بجريدة ملقاة يتصفحها على نور الراديو، فطالعه  الإنذار الإنجليزي إلى السكان بجوار المطارات، بأن يزايلوا مساكنهم، فألقى بالجريدة جانبا وقهقه ضاحكا: الانجليز ينذرونني بالاخلاء، وأنا لم يمر عليَّ بهذا المكان إلا أيام؟ لا والله لن يكون، لن أكون إلا آخر من يغادر، وسأكون أول من يعود.. قدمت القاهرة من الريف لأكافح من أجل عمل جديد، بعد ان استقلت من عملي  الأول، لقد انتصرت على نفسى وعلى تلك الدعة والخلود إلى الراحة وروتينية المرتب التي استمرت تفد إلى حياتي أول كل شهر أكثر من عشر سنوات.. انتصرت على كل هذا وانتزعت نفسي منه، ثم يأتي الانجليز وينذرون بالإخلاء والرحيل ربما مع الراحلين إلى الريف، فيم إذن كانت الاستقالة وانقطاع المرتب الرتيب؟ لا والله لن يكون.

وأفاق الاستاذ عزت إلى صوت جمال عبدالناصر يذيع كلمته بصوته الهادئ الواثق، يتحدث عن مصر والمتربصين لها والمستقبل، وغاص بصيده هذا الثمين إلى نفسه، فيرى المستقبل، مستقبله ومستقبل مصر واضح المعالم محدد الأركان، ويقذف مدفع، فيردد في فرحة: ينصرك يامصر. وتلقى قذيفة، فيقول: شكرا للأعداء، فقد أثاروا الدوامة في البحر الهادئ، واستيقظ الشرق مرة أخرى، يبعث النور من جديد، على المشرق الفتي والمغرب العجوز.. شكرا لهم فقد عجلوا بيوم النصر.

IMG_20200219_183813

.. وآخر مقال

في السنة الأولى لصدور جريدة أخبار الأدب، شارك عبد الفتاح الجمل بكتابة عدد من المقالات فيها تحت عنوان «أزعرينة»، وهي كما يصفها عزت القمحاوي (أخبار الأدب، 27 فبراير 1994): «لم تكن مجرد كتابة وإنما كان نحتا في اللغة، وانتقاء لجواهرها من الطين، يشذبها ويلمعها، ويضعها في واجهة دكانه، فكانت درسًا أسبوعيًا في علمي اللغة والجمال». استمرت مقالات الجمل لمدة 16 أسبوع، منذ العدد الأول الذي صدر في 18 يوليو 1993، وحتى 31 أكتوبر 1993 الذي شهد مقاله الأخير في الصحافة المصرية، بعنوان:

العقل والنقل ونصف الحقيقة الغائب

كم سعدت حين صادفت قلما بصيرا يتصدى. ولي كلمتان: الأولى من الوزن الخفيف، والأخرى أعلم جيدا أنني سوف أمشي فيها على الجمر المتقد حتى أقول كلمة. وإيانا وجرى الكلام في دوائر كما حدث مع «النبرة» المبجلة وقد نصصت في كلمتي الأولى على أن الكتب القديمة تأخذ بها. إيانا إيانا ومدار الساقية.

لم يحدث - كما قال الأستاذ سالم في نهاية عموده - أنني خطأت أحدا في شيء قط. ولكنكم أنتم من فعلتم بي، ومن باب التعدي على الآمنين، فالبلد كله يكتب على الفور وشئون. ما دخلي أنا، وما شأني وهو البعيد عن ذقني؟!.. هل اعترضت على أحد كتابة أو شفاها؟!

ولكنني يا أستاذ سالم - وكلي يقين أنك معي - أغضب أشد غضب، لو مدوا أقلامهم - دون ما خطأ ارتكبت - يشطبونني ويكتبونهم «!!» هذه هي المسألة.

وليست الأولى والحبل طويل، إذ من أول مرة أكتب فيها عندكم، أراكم صححتم «بطئا» بـ «بطءا» وبلعتها وإن كنت لا أدري ما فلسفتكم في إغفال «شيئا» دون أن تصححوها بـ «شيءا» إيشمعنى، والطاء حرف يتصل من شطئيه وما أظنكم إلا كاتبيها هكذا «شطءيه» بل لم لم تجعلوها «بطأ» كما كتبها ابن منظور في لسان العرب؟.. إنها الحيص بيص.

أقول ما قلت من قبل، إن رسم الحروف مسألة نملكها نحن اليوم، وقد رأينا كيف أن الرحلة طويلة ومختلفة بين رسم حروف القرآن ورسمنا اليوم. والطريق للعقل مفتوح. والعائق أن العقل متهم دائما بأنه يدوس على ذيل النقل، حتى لا يوقف الحياة هناك.

وللأدباء المشغولين بأضواء الفن والعالمية المضمخة بشذا الخواجة نوبل، التي ترقد لهم في أرض الذرة، تقطع عليهم طريقهم يوما، أقول لهؤلاء المستائين من إهدار وقتهم الثمين مع هذه الترهات اللغوية، أن يطولوا بالهم علينا، وينظروا ولو شزرا، إلى حال اللغة التي يكتبون بها، ونفخت في صورهم وخلقهم، ألا.. داتكم فِرة تقشكم.

ثم تأتي نوبة الجمر المتقد، و يا هلا.

الآية القرآنية التي استشهد بها الأستاذ الفاضل عن نوح عليه السلام وقومه، والقائلة: «ونصرناه «من» القوم الذين كذبوا» ليستدل بها على نيابة حرف الجر «من» عن الحرف «على» لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض كما يقولون، وهي نصف الحقيقة. بغرض الافتاء بجواز استعمال «على» في «على الفور» أليس كذلك يا سيدنا؟ ولنمض الهويني في طريقنا:

تقول المعاجم: «نصره» «على» عدوه: أيده وأعانه عليه، ونصره «منه»: نجاه وخلصه».

ويقول معجم ألفاظ القرآن عن نصر في الآية: «ويقال نصره من عدوه: نجاه منه وأنقذه».

إذن يا صاحبي، الحرف «من» في الآية، أتى - متناوبا أو غير متناوب - عملا جديدا، ومضادا لاتجاه «على».

والحرف لا يلتحق بخدمة الفعل إلا ليسحبه إلى معنى جديد لا يخرج غالبا عن منابته أو جذوره كما يقول النحاة الإنجليز، وهي ظاهرة تعرفها جيدا الأفعال الإنجليزية، دون أن يقول أحدهم أنها تتناوب بلا معنى، لسبب بسيط أن الإنجليزية لغة محددة.

وأزعم وبميزان أرهف من ميزان الذهب، الذي يؤتاه كل فنان أو متذوق عاقر الفنون حياته لاسيما الموسيقا. أزعم ألا حركة في الجملة الفنية، فما البال بالقرآن، من رفع أو إسقاط، ومن زيادة أو نقصان، ومن تقديم أو تأخير، إلا لغرض، ولو كان مجرد ظل رهيف ليس إلا، وأكرر مجرد ظل أو جرس حرف، أؤكده حتى لا تدور الأسطوانة معلقة، وهو العبث الزنيم.

وهنا نذكر الآية القرآنية الأخرى التي استشهد بها سيدنا على ندب «على» التي سوت الهوايل، مكان «من» : «الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون» بمعنى - كما يقول - يكتالون من الناس. إى نعم إلا أنه المعنى العمومي المفرغ من شحنة التعبير. لأن المشتري هنا «يأخذ الشيء كاملا، ولا يدع منه شيئا» كنص كلام معجم ألفاظ القرآن. هو المهيمن على البائع حتى يأخذ كاملا، بدليل أنه إذا باع طفف. فالمشتري العادى يقال له: اكتال من البائع. أما المشتري اللبط فيقال له: اكتال على البائع، وهذا هو اللب.

هذه الهيمنة والسيطرة هي ظل «على» الذي ألقته في جو الآية، وهو ليس من شؤون النحو أو الصرف، بل التعبير وشحنة الصورة ولونها وعلم البلاغة باللغة القديمة. وهو النصف الآخر الغائب الضائع من الحقيقة وهنا أشكر لأستاذنا الفاضل شاهديه الدالين تماما.

والنحاة وهم غارقون إلى أذقانهم في رصدهم شواهدهم من القرآن والشعر وكلام الأقدمين، ومن البادية التي نأت بلسانها عن طراوة الحاضرة ولحن أعجمياتها. نظروا من الخارج بالطبع، فرأوا الحروف تتناوب، وتركوا الباقي لمن يهمهم الأمر.

هؤلاء المتخصصون الغارقون في السباق الدامي العظيم بين مدرستي البصرة والكوفة النحويتين. الديكان المتنافران المتقاتلان في الرأي في عصر الرواد العتاة الأول. أذكر منهم من باب رفع المعنويات في هذا القراع الشكلي. وفتح شباك للهوا. أبا الأسود الدؤلي، أول من ابتكر الضبط للعربية بالنقط قبل شرطنا، وتكتب بلون آخر من الحبر، نقطة فوق الحرف المفتوح، ونقطة تحت الحرف المكسور، ونقطة بين الحرف المضموم، ونقطتان للتنوين.

أليس هذا، والذي نفسي بيده، فتحا مبينا؟!

وتلميذه سيبويه إمام نحاة البصرة، وكتابه «الكتاب» الذي لقب أيامها وليس اليوم وإلا قامت قيامتنا الخاصة، لقب بـ «قرآن النحو». وما ألفه للعجب إلا بعد أن عاد - مهزوما مدحورا معتزلا الناس - من مناظرة مع «الكسائي» إمام الكوفة.

وابن جنى المتأخر الفذ، الذي اهتدى إلى الاشتقاق الكبير للغة من الطبيعة رأسا، بالتناغم بين الصوت والمعنى واللفظ، وسقوط الحروف من الجملة بحكم عوامل التعرية واندماجها في كلمة في كتابه «الخصائص» الذي اطلعت عليه مخطوطا قبل أن يظهر للناس، كان ذلك قبل الميلاد أيام الجامعة بالإسكندرية. أيام أن كانت جذوة حب الاستطلاع والاطلاع والنهم بخيرها، لم تركن كالساعة القديمة.

والجرجاني المتأخر صاحب إعجاز القرآن، ذلك «الناقد» الفحل الذي وضع يده على أسرار الصياغة في الجملة العربية.

وغيرهم من الأفذاذ الذين أقاموا صروح اللغة، وفجروا هذه البحور المتلاطمة بالنقاش الحاد الولَّاد، وبتراث من الكتب تضرب في الطريق المجهول لعلوم اللغة، يوم أن كانت مدغمة في نطفة واحدة، ولأول مرة قبل أن يشب كل علم ويحبو إلى طريقه. وكم أشكر للأستاذ سالم أن قذف بي إلى حميا هذا المخاض الذي لا يتكرر كثيرا في التاريخ. رحلات الريادة، والقدم تطأ لأول مرة أيضا بكرا مادية أو مجازية.

ثم..

نعود القهقري حتى لا نحس بالغربة أو نمرض بالاغتراب إلى عالم الأقزام بعد العمالقة، من الهامشيين وترزية القوانين والقواعد - أعطاهم الله العافية - والواحد منهم جاهز بالقاعدة قبل الشاهد النحوي، أي النص اللغوي القديم الذي يستخلص منه القاعدة، فإن لم يعثر عليه، ألفه ونحله شاعرا جاهليا، وقضية الانتحال قديمة ومعروفة، أثارها طه حسين منذ أوائل القرن، وهي ظاهرة تتفشى في الأمم ذات التراث الشفاهي.

لقد تركوا وظائف الحروف، حتى راحت في الرجلين، ولم يبق إلا شكلية النيابة والتناوب. وأشبهت المحلل الشكلي في الطلاق ذا التيس المستعار الذي ابتدعناه كدأب منا في الدوران حول القانون، وإفراغ كل ما تقع عليه أيدينا من مضمونه، لاسيما لو كان القانون سماويا.

وطالما انداحت حياتنا مبهوقة مزفلطة، لم يدق في ساحتها حديد يفصل بين الأشياء: العمولة والخنصرة، الرشوة والهدية، الديمقراطية والديمقراطية، وحلبة السباق الهائلة المنصوبة لغرس واحد أحد.

وطالما كانت هذه حياتنا، فعربد ياجذع «أي يا جدع» ولا حرج وأنِب ماشئت من حروف مكان حروف بتصريح شكلي بحت، مثل ما فعل سيادة النائب «على» في معضلتنا الكونية «على الفور» التي بررناها بالنيابة.

ثم..

من هذا الباب نفسه ما يعرف باسم المترادفات، التي كما علمونا في المدرسة الثانوية، أن اللغة العربية تتباهى يوم القيامة وتزهو وتتيه على لِداتها من لغات العالم بثرائها، والبرهان أن لكل من الأسد فيها والجمل مئة ونيفا من الأسماء.. «وأشكر لسيدنا التصريح لنا بكتابة «مائة» بلا زائدتها الدودية». وما الترادف إلا الخيبة والضياع، وشغل الذاكرة بسقط المتاع. وما المرادفات في الواقع إلا صفات ونعوت ووجوه وزوايا أوقفناها لتصير أسماء.

وفرق بين هذا وبين تسمية لغتنا للمطر، وهو العامل الاقتصادي الأول الذي يترقبونه أملا ورجاء ورخاء وسعة، فأن تلكأ أو تخلف أقاموا له صلاة الاستسقاء، فلكل لون منه أو كم أو وظيفة أو موقع بين السحاب والأرض في حركة سقوطه وملامسته الأرض اسم، وما هذا الا الثراء مع التحديد المذهل، ورحم الله أيام أن كانت الذاكرة تحتجز كل هذا حفية به مزهوة.

اللغة يا صاحبي ليست هبة سماوية، ولا لغزا أرضيا، ولا تكنولوجية كهنوتية ولا  هلضمة. بل يصنعها أهلها وهم يحفرون بأظافرهم حياتهم اليومية بوجدان لسانهم، تتحدد ما تحددوا، واللغة المحترمة هي التحديد فالتحدد. التحديد فالتحدد.

أي التحديد منا بسلوكنا - ومت يا حمار إلى أن يأتيك العليق - فالتحدد منها.

إذن العيب ليس في لغتنا، بل فينا نحن.

ويا أستاذنا لك كل العطر والتقدير.

وإلى لقاء أيها القارئ - الذي طالما تعذبت مع حماقات لغتي- في دروب الحياة وضروبها.

Comments