بعد فوزه بجائزة الشيخ زايد للكتاب المترجم.. محمد آيت ميهوب: أشعر أن ترجمتي أخذت أبعادًا جديدة

محمد آيت ميهوب

المترجم الرومنطيقي الحالم بأن يحكم الشعراء العالم

  • ما زلت لم أعط شيئًا للأدب.. بل هو الذي أعطاني كل شيء.. وأعطاني ذاتي في المقام الأول

  • حلمتُ منذ سنوات بترجمة الكتاب وإهدائه للمكتبة العربية بعدما أدركت قيمته المعرفية الكبيرة جدًا

  • أصدقائي يعتبرونني شخصًا رومنطيقيًا لكنني أعتقد أن كل من تمكّنت منه جرثومة الأدب والفن هو بالضرورة إنسان رومنطيقي

  • لديّ فترة كل سنة أعتكف فيها لأيام على قراءة الشعر فحسب.. ولا يستطيع ترجمة الشعر إلا من كان شاعرًا مبدعًا

  • أستحضر صفة الناقد وأنا أكتب النص السردي الإبداعي.. وأعتمد أثناء الترجمة على حس المبدع وطموحه إلى كتابة الأفضل على الإطلاق

  • البشرية اليوم تواجه الفيروس والمجهول في وقت واحد وربما نخرج من عصر الرواية لندخل عصر الشعر بعد أزمة الكورونا

  • كلما خضت تجربة ترجمة جديدة جعلتُ همّي الأول أن أبدع نصًا جديدًا لي تمامًا مثلما أفعل في كتاباتي السردية والنقدية

  • أحبذ التأني في عملي ولا أنزعج إن أمضيتُ أسبوعًا في ترجمة صفحة واحدة لأن موعدي الحقيقي مع الإبداع لا مع المحاسب المالي

  • الموسيقى تساعدني على مواجهة الصفحة البيضاء وتحفزني على البقاء أمامها

لم يكن قد أنهى عامه الخامس في المدرسة الابتدائية حينما وقف أمام معلِّم اللغة العربية ليجيب عن سؤال حول المهنة التي يحلم بها في مستقبل أيامه، قائلًا بكل ثقة وبساطة «أريد أن أصبح أديبًا»، فابتسم أستاذه سي محمد الخميري وردّ عليه «وأنا متأكد أنك ستصير أديبًا».

هكذا حسم الكاتب والناقد والمترجم التونسي محمد آيت ميهوب، موقفه مبكرًا، وهو في سن العاشرة. منذ ذلك الحين أخذ نجمه يلمع في المدرسة بفضل العلامة الكاملة التي يحصل عليها في «الإنشاء»، وصار يقرأ قصصًا وكتبًا تفوق مستواه بكثير، يتناول منها في الأسبوع ما يزيد على ما يتناوله من فطائر و«سندويتشات»، ثم يجمع أصدقائه في أوقات الراحة ويروي لهم قصصًا مما قرأ، ويشجعهم على المطالعة ويصحبهم إلى المكتبة العامة.

قبل أن يتجاوز الثالثة عشرة، شرع ابن بنزرت المولود عام 1968؛ في الترجمة  وكتابة القصص، وخلال عامين صار يرى اسمه مطبوعًا على المقالات في الصحف، وفي سن السادسة عشرة كان قد انتهى من كتابه النقدي الأول.

في ضوء الأدب سلك محمد ميهوب كل مساراته في الدراسة والعمل والحياة، وقد شجّعه ووجّهه إلى ذلك «جدّه»، الذي لا يتذكره إلا وهو منكب يقرأ، إذ كان يملك خزانة ممتلئة بمجلات الأربعينيات والخمسينيات. لكن التحذيرات ونصائح الكبار لازمته على الدوام، فأخذوا ينبهونه بأن طريق الأدب لا يؤدي إلا إلى الفقر والبؤس، يقول ميهوب: «كان يمكنني فعلًا أن أختار طريقًا أخرى تضمن لي حياة أسهل ووضعًا ماديًا أفضل لكنني صممتُ أذني وواصلتُ دربي أضع دائمًا في كل اختياراتي الأدب في الاعتبار الأول ثم أقرر. طبعًا لا أريد البتة أن أظهر هنا في مظهر البطل ولا في مظهر الضحية، وإنما هذا هو أنا. وأعترف بأنني ما زلت لم أعط الأدب شيئًا، بل هو الذي أعطاني كل شيء، وأعطاني ذاتي في المقام الأول».

ومن عطايا الأدب الأخيرة لمحمد آيت ميهوب، فوزه بجائزة الشيخ زايد للكتاب في الترجمة، عن ترجمته من الفرنسية إلى العربية لكتاب «الإنسان الرومنطيقي» لجورج غوسدورف، الصادر عن دار سيناترا ومعهد تونس للترجمة عام 2018، وقد وصفته لجنة التحكيم في بيانها قائلة «استطاع ميهوب ببراعة إنجاز ترجمته بحرفية عالية، تمكن من خلالها استيفاء المعاني الكامنة في النص الأصلي، على الرغم من كثافتها ورصانة الصياغة وإحكامها في النص الفرنسي».

يملك ميهوب إلى جانب هذا الكتاب، أكثر من عشرة كتب مؤلفة ومترجمة، ومسيرة حافلة بالنجاح على المستويين الوظيفي والإبداعي، هي محور حديثنا التالي معه.

كيف استقبلت خبر فوزك بجائزة الشيخ زايد؟

سعدتُ سعادة غامرة بهذا التتويج العلمي والأدبي، من أجلي طبعًا ومن أجل كتاب «الإنسان الرومنطيقي» أيضًا، إذ أنصفته هذه الجائزة. فهو كتاب مهم جدًا في تاريخ الفلسفة والفكر العالميين للفيلسوف والأديب الفرنسي جورج غوسدورف، ومرجع لا غنى عنه لمن يريد التعمق في الرومنطيقية والفكر الغربي الحديث عامة. لطالما تمنيتُ وأنا شاب أن أترجمه وأهديه إلى المكتبة العربية. وقد تحقق لي ذلك والحمد لله. أما اليوم وقد توج بجائزة الشيخ زايد رحمه الله تعالى، فأشعر أن ترجمتي أخذت أبعادًا جديدة تزيدها أهمية وتخول لها مزيد الانتشار بين القراء العرب. وهذا في رأيي أهم دلالات الجائزة والفلسفة العميقة منها.

لقد أمضيتُ سنوات طوالًا في ترجمة هذا السفر الفكري والأدبي الضخم معتكفًا عليه في عزلة وانفراد، وجاء هذا اليوم ليدفع بـ «الإنسان الرومنطيقي» إلى الأضواء ويضعه بين أيدي القراء والباحثين الأكاديميين المختصين على حد سواء، فيصير الانتفاع به عامًا متنوعًا. وفي ذلك أيضًا حكمة أخرى من حكم هذه الجائزة العريقة، التي شرفتُ بالحصول عليها، فهي أعرق الجوائز العربية على الإطلاق وإحدى أهم الجوائز العالمية رفعة ومجدًا. ويكفي أن يقرأ المرء تقرير لجنة التحكيم ليقف على مدى جدية عملية التحكيم والتزام أعضائها بقواعد التقييم الموضوعي النزيه. ولن آتي بجديد حين أقول إن جائزة الشيخ زايد ليست مجرد جائزة لتثمين الأعمال المرشحة إليها تثمينًا ماديًا كشأن أغلب الجوائز العربية، بل استطاعت أن تغدو مؤسسة نقدية وعلمية جامعة تساهم مساهمة كبيرة في تنشيط الحركة الثقافية والفكرية والأدبية العربية، وتؤثر تأثيرًا مهمًا في توجهاتنا الثقافية والفكرية الكبرى.

هل تختار العناوين التي تترجمها بشكل شخصي أم أنها تأتي في إطار مشروع واقتراح من جهة النشر؟

أعتبر نفسي مترجمًا محترفًا، أي مترجم يتعامل مع دور نشر ومؤسسات مختصة في الترجمة كمعهد تونس للترجمة ومؤسسة كلمة، ويتلقى مقابلًا ماديًا عن ترجماته وفق عقود تخضع للمعايير الدولية. لكنني في المقابل لستُ ذلك المترجم المحترف الذي يتخذ الترجمة مصدرًا للرزق ولا يرى فيها إلا عقودًا وآجالا زمنية يحاول أن يختزلها قدر الإمكان لتكثر الكتب المترجمة فتكثر أمواله، ولذلك تراه يترجم أكثر من كتاب في الوقت نفسه ويمكنه بسحر ساحر أن يترجم كتابًا ضخمًا في ستة شهور، ويتعامل مع دور نشر لا تخضع ترجماتها للمراجعة، ولا يعير أي اهتمام لتدقيق النص وتهذيبه. وهكذا تجد من هؤلاء المترجمين من لم تتجاوز سنه الخامسة والأربعين وله في رصيده عشرون كتابًا مترجمًا في الأدب والحضارة واللغة والفلسفة وعلم الفلك… كيف يمكن أن يتم ذلك؟ كيف وكل مترجم يحترم نفسه يخبرك بأن المعدل الذي نقضيه في ترجمة صفحة واحدة هو ثلاث ساعات، هذا إذا لم تكن عويصة التراكيب والمفاهيم.

الترجمة عندي رافد أساسي من روافد الإبداع، وكلما خضت تجربة ترجمية جديدة جعلتُ همّي الأول أن أبدع نصًا جديدًا لي تمامًا مثلما أفعل في كتاباتي السردية والنقدية. ذلك هو أفق الكتابة عندي دائمًا مهما اختلفت حقولها. لذلك ففي أغلب الحالات أنا الذي يقترح الكتاب الذي «أشتهي» ترجمته على الجهات التي أتعاون معها. هذا ما تم مع «الإنسان الرومنطيقي» و«الأقصوصة» وروايتي «مجد الرمال» و«ليلة الألف ليلة.. أم ملك المشنوقين». ولكن قد يحدث أحيانًا أن تقترح عليّ بعض المؤسسات أعمالًا تجد هوى في نفسي وأراها موافقة لميولي وتصوراتي الأدبية والفكرية، وهذا ما حدث مع مسرحية «نهاية اللعبة» لبيكيت، و«موسوعة الإسلام»، و«رحلة إلى بلاد التبت والترتاري».

ما سبب اختيارك لكتاب «الإنسان الرومنطيقي»؟ ولماذا الآن رغم أن نشره يعود لأكثر من ربع قرن مضى.. ورغم أنك تحمست له منذ سنوات؟

ترجمة هذا الكتاب المرجعي كانت حلمي منذ أن قرأته أول مرة قبل سنوات طويلة وأدركت قيمته المعرفية الكبيرة جدًا، وحاجة الدراسات العربية المهتمة بالرومنطيقية إليه على وجه الخصوص. ذلك أنّ الغالبية الساحقة من الدراسات الرومنطيقية العربية ذات منزع أدبي أساسي تنطلق في التعريف بها من مستواها الأخير الطافح فوق سطح الكتابات الرومنطيقية الأدبية وقد أضحت عناصر تعبيرية وفنية، وفي المقابل تهمل أساس الرومنطيقية الفلسفي العميق.

أما هذا الكتاب فيدرس الرومنطيقية في مشاربها الفلسفية المتشابكة في أديم الثقافة الإنسانية. ولعل من أهم الأفكار التي ألح عليها جورج غوسدورف طيلة فصول الكتاب أنّ الرومنطيقية هي مشروع فلسفي فكري ضخم مفتوح في الزمان والمكان ولا يرتبط بنوع مخصوص من التعبير الإنساني، ولا بحقل محدد من حقول المعرفة البشرية، ولذلك رفض في خاتمة الكتاب القول بموت الإنسان الرومنطيقي واعتبر أنه مازال حيًا بيننا طالما كان في الإنسان حب للخيال، وملاذ في اللاوعي، وشوق إلى الخروج من غربته الأنطولوجية الأولى واستعادة وحدة الكيان، وحلم بالفوز بأجوبة مطمئنة عن أسئلته الميتافيزيقية القديمة.

ورغم أنّ هذه الترجمة قد تأخرت بعض الشيء فالكتاب صدر أول مرة بالفرنسية سنة 1984، إلا إنها – مع ذلك – قد جاءت في الوقت المناسب نظرًا لازدياد الاهتمام النقدي والأكاديمي بالرومنطيقية في الأدب العربي، ولحاجة الباحثين العرب إلى تعميق معارفهم الفكرية والفلسفية بهذا المذهب الأدبي الذي أثر في كل المدارس الأدبية والفنية في القرن العشرين، ولحتمية تجاوز المقولات النقدية التبسيطية التي سادت النقد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. لذلك وانطلاقًا مما أعرفه جيدًا عن حاجات الدراسات الرومنطيقية في الأدب العربي، فإنني أعتبر أن الترجمة لم تتأخر وإن تأخرت. المهم أن يعرف الكتاب طبعة جديدة تنتشر على نطاق واسع ويصل إلى الباحثين العرب، وأنا على يقين من أنه سيغير نظرتنا إلى الأدب الرومنطيقي تغييرًا جذريًا ويخرج بالأبحاث المختصة فيه عن التعامل السطحي مع المفاهيم الرومنطيقية.

ما الذي يقدّمه «الإنسان الرومنطيقي» للمجتمع؟

لو تحدثنا عن الإنسان الرومنطيقي ككائن بشري اجتماعي، فقد كان الرومنطيقيون دائمًا في مقدمة المدافعين عن الحرية والحقوق الفردية والجماعية، ومن دعاة التسامح والتحاور بين الشعوب، وسعوا إلى إقرار مبادئ المساواة والعدل بين البشر، هذا إضافة إلى تغنيهم بقيم الحب والجمال والخير العام ودفاعهم عن المرأة في وجه المجتمعات الذكورية المغلقة.

أما «الإنسان الرومنطيقي» ككتاب، فأعتقد أن قراءته تتيح أمام الفرد الفرصة ليستكنه بواطن ذاته العميقة بوصفها كيانًا كليًا متعدد الجوانب والأبعاد، مركزه في ذاته ولكنه مترابط في الوقت نفسه مع الوجود الخارجي الحسي ومع العالم الغيبي الميتافيزيقي.

هل تصبو إلى أن تكون إنسانًا رومنطيقيًا؟ وهل صادفت شخصًا أو أكثر يمكن أن تعتبرهم نماذج للرومنطيقيين؟

(يضحك) أصدقائي وأحبابي يعتبرونني شخصًا رومنطيقيًا. والدكتور محمد محجوب مراجع الكتاب والمدير المؤسس لمعهد تونس للترجمة، كتب مرة يقول إن محمد آيت ميهوب ما نجح في ترجمة هذا الكتاب الوعر إلا لأنه هو الإنسان الرومنطيقي. طبعًا أقصد الإنسان الرومنطيقي وفق المفهوم الفلسفي الدقيق لا المفهوم المبتذل له، أي الإنسان الرومنطيقي الباحث عن صميم الكيان، الذي يجعل هدفه من الحياة فهم لب الوجود والوصول إلى حالة التناغم المطلق والود العام مع الوجود حين ينصهر في الوحدة الكلية في غير اكتراث بإكراهات الانتماء الواقعي وحتميات الوجود اليومي المادي، ويتصدر الأدب والفن والتأمل مركز هذه التجربة الفردية.

كما أنني لاقيت في حياتي – بالفعل – أشخاصًا كثيرين من الشعراء والرسامين والكتّاب يمكن أن نعتبرهم أناسا رومنطيقيين. وأريد من وراء ذلك التأكيد على أن الإنسان الرومنطيقي لم يمت وهو ما يزال قائمًا قريبًا منا وبيننا وفينا، فكل من تمسك بحرية الكيان ورفض أن يكون قطعة صغيرة في آلة التشييء الكبرى، وكل من تمكّنت منه جرثومة الأدب والفن ورغبة الإنشاء والخلق شكلًا أو كلمة أو صورة أو حركة.. فهو بالضرورة إنسان رومنطيقي.

أمضيت مدة ليست بالهينة في ترجمة الكتاب. هل السبب كبر حجمه فقط أم هناك صعوبات أخرى واجهتها؟

قضيتُ أربع سنوات في ترجمة الكتاب ثم سنتين في مراجعة الترجمة وتصويبها وإثرائها بالهوامش الإحالية والتوضيحية وإرفاقها بمعجمي الأعلام والمصطلحات المستعملة. ومن المؤكد أن ضخامة حجم الكتاب البالغ 370 صفحة من الحجم الكبير والحروف الرفيعة جدًا من جهة، ودقة المفاهيم الفلسفية وعمق الخلفيات الفلسفية والأنثروبولوجية التي ينطلق منها الكاتب من جهة أخرى، قد حتما امتداد العمل كل هذه المدة. بالإضافة إلى أنني بطيء في الترجمة وأرفض أن أكون على عجلة من أمري لكي لا أفوّت آجال تقديم الكتاب وتسلم المكافأة. بل أحبذ التأني في عملي ولا أنزعج البتة إن أمضيتُ أسبوعًا وأنا أترجم صفحة واحدة، فموعدي الحقيقي مع الإبداع لا مع المحاسب المالي.

هل تنوي استكمال مشروعًا يخص ترجمة أعمال جورج غوسدورف أم أنك اكتفيت بإطلاق شرارة الانطلاق إلى عالمه؟

هذا الرجل، الذي وُلد سنة 1912 وتوفى سنة 2000، من أكثر كتاب القرن العشرين تأليفًا، وقد كتب في حقول معرفية وفلسفية وإبستيمولوجية متعددة. وكل كتبه بدءًا من أطروحته «اكتشاف الذات» إلى كتابه الرائع «خطوط حياة»، جديرة بالترجمة وإتاحتها أمام القارئ والباحث العربيين حتى نستفيد منها ونوظفها في دراساتنا الأدبية والفلسفية. فأرجو أن تحقق ترجمتي المبتغى منها وعسى أن يلتفت إليه المترجمون المختصون الجادون ويبحثوا عن درة أخرى من درره وما أكثرها.

قُلت في حديث سابق أننا كعرب خرجنا من التاريخ منذ قرون لكنك لم تذكر السبب. هل لي بمعرفته؟

لأننا سكنا التاريخ واستسلمنا لسطوته واستعذبنا الإقامة في مقصورة ضيقة مغلقة من مقصوراته هي ماضينا المجيد التليد الذي قدسناه وأسطرناه، فأصبح خرافة مرعبة نخاف أن نكذبها ونناقشها ونتجاوزها. لقد غاب عنا أن التاريخ حركة وتيار عنيف جارف لا يتوقف، فعلينا أن نركبه ونسعى إلى أن تكون لنا فوق مياهه سفينة تسير إلى الأمام. لقد ثبتنا في نقطة زمنية معينة تعاملنا معها تعاملًا سكونيًا يشبه وقوف الجاهلي يتضرع لصنمه، فتحول الزمان إلى مكان وسجن، أما التاريخ فلم يتوقف بل ظل يسير دورته متقدمًا دائمًا. بعض الشعوب فهمت ذلك فسارت معه وأمم أخرى ومنها نحن، رضيت بالإقامة داخل الكهف الذي تحسبه تاريخًا.

«تحلم بأن يحكم الشعراء يوما ما». لماذا هم تحديدًا من الكتّاب؟ وهل تعتقد أنهم يملكون مقومات الحكم؟

تعرفين أن أفلاطون قد أقصى الشعراء من جمهوريته الفاضلة لأنهم يقولون كلامًا غامضًا مضطربًا لا يخضع للمنطق العقلي، ولأن المضامين التي يقدمونها تقوم على محاكاة العالم الحسي الذي هو نفسه محاكاة لعالم المُثل حسب أفلاطون. فهم إذن يحاكون نسخة النسخة، وبذلك هم أبعد الناس عن معرفة الحقيقة. وفي رأيي أن السبب الأعمق وراء طرد أفلاطون الشعراء هو أنهم فصيل من البشر يعيشون بالحلم وفي الحلم، وحين يصحون من أحلامهم يكتبون عنها ويدعون الآخرين إلى أن يقاسموهم إياها. بيد أن الحلم في الحقيقة ليس مقصورًا على الشعراء وحدهم. بل إن العالم حالم وينبغي للحاكم أن يكون حالمًا أيضًا. وهذا ما يبدو لي أن البشرية في أمس الحاجة إليه اليوم؛ أن يقودها زعماء حالمون وثّابون إلى تجربة تصورات عن الحكم لم يسبق إليها.

أعتقد جازمًا أن كارثة «كوفيد 19» ستفتح بعد أن تزول، الباب مشرعًا أمام الحلم. فبعد قرن بالضبط من الصدمة المذهلة التي عاشتها البشرية بعد الحرب العالمية الأولى حين رأت تهاوي الفلسفة الوضعية والنزعة الإيجابية والإيمان بالعلوم الصحيحة وقدرة الإنسان على امتلاك الطبيعة، ها هي اليوم تعيش الصدمة المذهلة الثانية وتكتشف هشاشة كل الإنجازات العلمية والتكنولوجية والإعلامية المهولة التي خلبت ألباب الناس في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وكما أن الصدمة الأولى أنجبت الحركة السيريالية الداعية إلى الحلم واتباع ما يمليه الخيال العجائي المطلق، فكذلك ستولد الصدمة الثانية حركات أدبية وفنية جديدة تستكشف قوى وطاقات جديدة في الحلم والخيال.

حديثك جعلني شبه متيقنة من أن الشعر هو الأقرب لقلبك من فنون الأدب. وهذا يحيلني لسؤال آخر أجده حتميًا؛ هل كتبت شعرًا ذات يوم؟

ليس تمامًا. أنا بالفعل أحب الشعر كثيرًا، أعشقه وألوذ به دائمًا، في كل الأوقات الخطيرة في حياتي سواء أكانت سعيدة أم حزينة، ولديّ فترة في السنة (أولادي صاروا يعرفونها!!) أعتكف فيها لأيام على قراءة الشعر فحسب. هكذا دون تخطيط مسبق! ومع ذلك لا أستطيع أن أقول لك إنه هو الأقرب إلى قلبي من بين فنون الأدب الأخرى. لا أفرّق بين أجناس الأدب. المهم عندي أن يكون بين يديّ نص أدبي ذو درجة عالية من الإبداع.. أيًا يكن شعرًا، رواية، قصة قصيرة، سيرة ذاتية.. لعلني منشدّ إلى الشعري بوصفه طاقة إبداعية ومجازية وجمالية عالية يمكن أن توجد في الشعر والنثر، أكثر من انشدادي إلى الشعر بوصفه جنسًا أدبيًا محددًا. لهذا فأنا لم أكتب القصيدة؛ لم أكتب إلا الشعر في قصصي القصيرة وروايتي «حروف الرمل»، بل وفي بعض مقالاتي وشهاداتي الأدبية، وقد نشرت لي «أخبار الأدب» بعضًا منها.

بما أننا نتحدث عن الشعر وعن فوزك بجائزة في الترجمة؛ بعض الآراء تجد أن الشعر لا يصلح للترجمة وأن ترجمته تنتقص منه كثيرًا. ما رأيك؟

لديّ دراسة في هذا الموضوع بعنوان «ترجمة الشعر بين الاستحالة والإمكان» ناقشتُ فيها هذه القضية وبيّنت الأسس النظرية والأدبية واللغوية التي قام عليها رفض كثير من النقاد، بدءًا من الجاحظ ووصولًا إلى البنيويين، ترجمة الشعر. وقد انتصرتُ للرأي الذي يقول بإمكان ترجمة الشعر إذا ما توفرت بعض الشروط. ومنها التخلّي عن الفهم التقليدي للشعر على أنّه نظم ووزن فحسب والتعامل مع الإيقاع تعاملًا أوسع أفقًا من التعامل التقليدي. وبهذا يمكن للمترجم التصرّف في البحث عن البنية الإيقاعية الموسيقية الملائمة للنص الأصلي. ومن الشروط أيضًا إعادة النظر في التقسيم الثنائي الحاد بين لغة خاصة بالنثر وأخرى خاصة بالشعر، والتحرر من ثنائية الخيانة والأمانة وفق التصور السائد عنها وبناء مفهوم جديد لمسألة الوفاء للنص الأصلي الذي يبقى دائمًا أفقا فنيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا يلتزم به المترجم ويحلم بالوصول إليه. ولكن الأمانة في الترجمة لا تعني مطابقة النص مطابقة حرفية. فعلاوة على أن ذلك الأمر أعسر من الصعود إلى القمر فإنه سينتج لنا نصوصًا ركيكة هي عبارة عن تنضيد لمقابلات لغوية قاموسية لا صلة لها بالشعر، وفي ذلك أكبر خيانة يمكن أن يقترفها المترجم تجاه صاحب النص. إن الأمانة في ترجمة الشعر هي أن يبذل المترجم المبدع قصارى جهده لينشئ بترجمته نصًا شعريًا يضاهي النص الأصلي في إبداعه وعبقريتة وقدرته على التعبير عن الحالة الوجدانية القريبة مما عاش الشاعر وهو يخلق نصه أول مرة، وبذلك يضمن التأثير في قارئ النص المترجَم مثلما أثر الشاعر في قارئ النص الأصلي. ولهذا لا يستطيع، في رأيي، ترجمة الشعر إلا من كان شاعرًا مبدعًا، فتكون الترجمة الفعلية هي مضاهاة النص المترجم للنص الأصلي في الطاقة الإبداعية، لا مجرد نقل للنص الأصلي.

انطلاقًا من مكانة الشعر المميزة عندك؛ هل تتفق مع الآراء التي تقول إننا في «عصر الرواية»؟

طبعًا أتفق مع هذا الرأي، لكنني في الوقت نفسه أستهجن المنظور الذي يعتمده بعضهم حين ينطلقون من هذا الحكم ليقروا بموت الشعر. هذا كلام لا معنى له ولا يفيد إلا من انتدبوا أنفسهم لحراسة مقابر الأجناس الأدبية. فالشعر قائم إلى اليوم وله ممارسوه وعشاقه وقراؤه ولعلنا في العالم العربي نشكو من كثرة الشعراء لا من قلتهم. ثم إن الرواية نفسها تطمح إلى معانقة الشعري، وكذلك تفعل كل الفنون في الحقيقة. فالشعر هو الأفق الأعلى لكل إبداع أيًا كان الجنس الأدبي أو الفن. والشعري لا يوجد في الرواية في مستوى اللغة فحسب، بل يمكن أن تظفري به في الأحداث والأطر وبنية الشخصيات. ومن هذه الزاوية فكثير من روايات نجيب محفوظ نفسه على درجة كبيرة من الشعرية، وفي السينما ماذا تسمين فيلم المومياء لشادي عبدالسلام؟ أليس قصيدة؟!

أقول هذا الكلام وأنا أترقب ما سيحدث في العالم من تحولات عاصفة بعد أزمة الكورونا، فلعلنا سنشهد تغييرًا كبيرًا فيما يخص التراتبية الأجناسية فنخرج من عصر الرواية لندخل عصر الشعر. ربما؟

أستاذ جامعي وناقد، مترجم، قاص وروائي. كيف أضافت كل مهنة للأخرى؟ وأي منها يملك السطوة في حياتك العملية؟

هي كالمرايا المتجاورة كل منها تبرز جانبًا منقوصًا من الوجه، يكون محرّفا بعض الشيء فتأتي مرآة أخرى تملأ جانبًا وتعرض بدورها جانبًا آخر منقوصًا وهكذا دواليك. إنها محاور متقاطعة تتجاذبني كلها في وقت واحد، وأجد نفسي ملزمًا تجاه كل شخصية منها بواجبات ما من حيث الوقت والجهد والتركيز والإخلاص. على أني أحاول أن أسرق من كل شخص في بعض الفضائل لأمنحها للشخص الآخر: فأستحضر صفة الناقد وأنا أكتب النص السردي الإبداعي، وأعتمد وأنا أترجم على حس المبدع وطموحه إلى كتابة الأفضل على الإطلاق، لكن أعوّل كثيرًا في الوقت نفسه على حرص الأستاذ الجامعي ودقته وصرامته في مسألة الأمانة العلمية، وأمارس عملي الأكاديمي مستلهمًا في تعاملي مع طلبتي روح المبدع الفنان. إنها إذن أبعاد متضافرة متداخلة يرفد بعضها بعضًا، يجمع بينها الطموح إلى معانقة الإبداع أينما طلب. أعرف أنّ الكثيرين يتخوفون من تعدد اهتمامات الكاتب ويفضلون التخصص في جنس واحد من الكتابة، أما أنا فأجد فيه ثراءً كبيرًا وامتلاكًا لزاوية نظر واسعة الأفق.

كما يدعم كل تخصص الآخر؛ هل تسهم عوامل في تحفيز الإبداع لديك؟ كالموسيقى مثلًا.

نعم. أنا من الناس الذين ينفرون من الفراغ الصوتي عندما يعكفون على الكتابة، لذلك أفضّل إحداث خلفية صوتية موسيقية، سواء أكانت موسيقى سيمفونية أو موسيقى الغرف أو أغاني غير صاخبة. أجد أن الموسيقى تساعدني على مواجهة الصفحة البيضاء وتملؤني وجدانيًا وتحفزني على البقاء أمام الورقة. بل إن كثيرًا من نصوصي السردية قد كتبتها في مقاهي ميناء مدينتي البحرية بنزرت في الشمال التونسي، وسط صخب البحارة وخصوماتهم عند لعب الورق ورتق الشباك.

انتقلت مطلع العام الدراسي الحالي من تونس إلى التدريس بالإمارات. هل تسمح لك هذه المدة القصيرة نسبيًا بالتحدث عن الفارق في الأجواء بين الجامعتين؟ خاصة في تعامل كل منهما مع أزمة كورونا الأخيرة؟

فعلًا كان من حسن حظي أن أتيح لي في بداية هذه السنة الجامعية الالتحاق بكلية التربية في جامعة زايد بأبو ظبي حيث أدرِّس اللغة والآداب العربية. وأنا سعيد جدًا بهذه التجربة الجديدة على المستوى الإنساني، إذ تعرفتُ على ثلة من الزملاء الأفاضل، وعلى المستوى الأكاديمي إذ احتككتُ بفضاء علمي جديد، وشرعتُ أجرب طرقًا جديدة متطورة في تدريس اللغة العربية لم يكن لي عهد بها في السابق. فجامعة زايد تعتمد أساسًا على أرقى وسائل التدريس الحديث. وقد تجلت مزايا هذه الوسائل في زمن الكورونا، إذ علقت الدروس الحضورية في الجامعة كشأن سائر الجامعات في العالم وأصبحنا ندرّس عن بعد، لم أجد أي صعوبة بالمرة لتأمين الدروس افتراضيًا، والآن أدرِّس للطلبة وكأنني في الفصل تمامًا، والفضل في ذلك يعود إلى قوة البنية التحتية الإعلامية والإلكترونية في الجامعة وفي دولة الإمارات عامة. في مقابل ذلك يسعى الآن زملائي في الجامعات التونسية إلى تأسيس منصات فعالة للتدريس الافتراضي وأرجو لهم كل النجاح والتوفيق.

كيف تقضي فترة الحظر؟ وما تصورك للحياتين الجامعية والثقافية في حال استمرار الأزمة؟

الحظر والعزلة ليسا جديدين عليّ، فقد أمضيتُ سنوات وسنوات أمارس الحظر الذاتي والعزلة الاختيارية لمدد لا بأس بها وأنا أكتب أو أترجم. لكنّ الصعب حقًا هو التفكير الدائم في ما سيحدث غدًا وبعد غد والشهر القادم. فالبشرية اليوم تواجه الفيروس والمجهول في وقت واحد. أحاول أن أسد جوعي إلى التنبؤ بالمستقبل عبر القراءة والكتابة وتأمل ما فات من العمر.

أما عن الحياتين الجامعية والثقافية فمما لا شك فيه أنهما يتأثران بهذا التباعد الإنساني. صحيح كما قلت لك إن التدريس عن بعد ناجح إلى حد المعجزة في جامعتي، ولكن مع ذلك لا شيء يغني في التدريس الجامعي عن التواصل الإنساني المباشر بين المدرس والطالب. ولعل الضرر في مجال الثقافة أكثر، إذ توجد قطاعات ثقافية كالمسرح والتصوير التلفيزيوني والسينمائي والمعارض التشكيلية وطباعة الكتب تقتضي وجوبا هذا التواصل الإنساني.

هل تكتب أو تترجم عملًا حاليًا.. أو لديك جديدًا تحت الطبع؟

لديّ مشروع ترجمة ضخم ومهم جدًا للدراسات السردية العربية اعفيني من الإفصاح عنه حتى يصير رسميًا. ومنذ شهر قدّمت كتابًا نقديًا جديدًا للطبع حول «تجربة محمود تيمور القصصية»، أرجو أن يرى النور بعد أن يزول الوباء اللعين ويتدفق نهر الحياة من جديد.

  

Comments