بعد فوزه بجائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية عربية.. محمد فاضل عبد اللطيف: لا أريد أن أنضج أبدًا

 محمد فاضل عبد اللطيف2

  • الكتابة ابنة اللحظة وما يليها مجرد تأمل

  • لديّ ديوانان ربما لا يريان النور لأنني أؤمن بالانتخاب الأدبي وأن البقاء للأصلح

  • ودّعت الشعر ولم أعد في حاجة إلى كتابته

  • العالم العربي أهدر ستة عقود مهمة في التنظير والتجريب

نشأ بين أحضان عائلة محافظة هاجرت من موريتانيا إلى المملكة العربية السعودية، وعاش طفولة هادئة و«عادية» كما يصفها، إذ تلقى التعليم التقليدي من حفظٍ للقرآن ومبادئ العلوم الشرعية، ومع بدء سنوات المراهقة صار قارئًا، يذهب إلى مكتبات المدينة المنورة ليتعلم ويطلع، ويقف مشدوهًا أمام مد التاريخ الأدبي والشرعي، ومع الوقت توسعت قراءاته واهتماماته، وألهمته أفكارًا ليدوّنها، فصار محمد فاضل عبد اللطيف شاعرًا وروائيًا.

يدين عبد اللطيف بما وصل إليه؛ للكتب، ولازال يشعر حتى هذه اللحظة بالحاجة الماسة للتعلم والاطلاع، فالقراءة هي العادة التي أضفت عليه سمة التميز، لأنها غير دارجة، يتذكر: «من المشاهد التي لا أنساها من الطفولة؛ العثور على كتب دراسية ملقاة في الشوارع بانتهاء السنة الدراسية لمختلف الصفوف، كانت تلك غنائم صغيرة أحرص على جمعها، الوقوف أمام تلك المهملات المدرسية أشبّهه الآن بالعثور على كنز في الأزقة الجانبية، لحسن الحظ كان هناك كثيرون غيري يقتسمون هذه الغنائم، إذ تتعدد استعمالاتها المنزلية، فهي لا تقرأ دائمًا!».

تعلّق قلمه منذ سن صغيرة بالشعر، فأصدر وهو يخطو إلى الأعوام الأولى من عقده الثالث؛ ديوانه الأول «أبجديات أخرى» عام 1997، وبعد عشر سنوات أصدر الديوان الثاني «قواف وأصداء»، وقبل أن ينتقل إلى الرواية، نشر دراسة تاريخية بعنوان «حكاية وطن مترب» عام 2010، ثم «تيرانجا» روايته الأولى التي حصدت المركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2013، وأخيرًا «كتابُ الردة!» الحائزة على جائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية عربية قبل أسابيع.

تطرق عبد اللطيف في «تيرانجا» إلى قضايا عرقية حول الأحداث الدموية التي وقعت بين موريتانيا والسنغال في أواخر الثمانينيات، وفي «كتابُ الردة!» يسلّط الضوء على إشكاليات الإرث الكلامي، الديني والثقافي، وحياة المجتمع الموريتاني في السعودية، وصراع الهوية لأبناء الجيل الثالث من الموريتانيين هناك، من خلال رحلة يصطحبنا فيها بطل الرواية «عبدالله»، ويستهلها بعبارته «كل ما يرتد إليك يكون أقوى.. وكل ما يرتد عنك يكون أسرع… أنت لست الثابت الوحيد لتؤكد ذلك!».

حول رحلة محمد فاضل عبد اللطيف وإشكالياته دار حوارنا التالي معه.

بدأت النشر في سن صغيرة بديوان شعر وبعد عشرة سنوات أخرى تقريبًا نشرت الثاني. لماذا تلك المدة الطويلة بين الديوانين؟

ذلك صحيح، بدأت النشر في سن مبكرة، وهي مجازفة محمودة، لم يكن عملًا ناضجًا، وأعتقد أنها صفة لازمت أعمالي حتى هذه اللحظة، ذلك ما أحرص عليه، أن لا أنضج أبدًا حتى ألفظ النفس الأخير، فالكتابة ابنة اللحظة، وما يجيء لاحقا هو تأمل ما كتبته وتعليقك عليه، في الحقيقة التعليق لا يضيف شيئًا ذا بال، إنما الأهم هو استمرار فعل الكتابة بنزقه وصدقه، لأن تلك الاستمرارية بتلك المواصفات هي ما تجعل الأمر جديرًا بالقراءة، أكاد أجزم بأنني أستطيع إدراك معاناة كل كاتب من خلال كتابه، تلك الأعمال المضرجة بالعرق الفكري والأزمات تشعرني كقارئ بالجاذبية، وهذا التصميم البهي للكتابة هو ما أسعى لتحقيقه في أعمالي.

بعد سنوات طويلة من الكتابة اتجهت للرواية، ومنحتك في مدة قصيرة نسبيًا جائزتين كبيرتين، على عكس الشعر. أي اللقبين تفضّل؛ الروائي أم الشاعر؟

أفضّل لقب الكاتب، فهو الأقرب للفعل «اقرأ» باعث الحضارة والنور، النسق لا يعني الكثير، فهو قالب للتعبير، مؤخرًا وجدتُ نفسي في الرواية، وأحرص على إكمال مسيرتي فيها، لقد ودّعت الشعر منذ منعطف فائت، لم أعد أشعر بالحاجة إلى كتابته، وإن كنت مازلت أستمتع بقراءته، ربما يكون هذا هو سبب تلكؤي في إصدار الديوانين الذين أخذتهما السِّنة في أدراج النسيان، إن كانا جديرين بالانبثاق سيريا النور يوما ما، لا أجد في هذا قسوة، لأنني في مجال الأدب مؤمن بالانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الأدبي، فالبقاء للأصلح فنيًا، هو ما يمكث في القلب، وغيره يذهب جفاء.

أخبرني عن جائزتك الأخيرة؛ كيف جاءت مشاركتك في مسابقة نجيب محفوظ؟

كانت مشاركة رائعة، قام الناشر مشكورًا بكل الإجراءات، وفاجأني النبأ، الحقيقة لم أتوقع الفوز، نظرًا لعدد الأعمال الكبير، وكان خبرًا رائعًا في رمضان أشكر عليه وزارة الثقافة المصرية ومانحي الجائزة، أن يكون عملك الأفضل ضمن أعمال سنتين من الطباعة، وأن تحصد في عملك الثاني جائزة بهذه القيمة، هذا من فضل الله فحسب، لا إبداع ولا تميّز يوصل إلى هذا، بل هو توفيق الله وفضله لا غير، أنا سعيد جدًا بهذا وأعمل جاهدًا لأكون على قدر هذه المسؤوليات التي أصبحت محمّلًا بها تجاه الرواية الموريتانية تحديدًا والعربية عمومًا.

سُحبت روايتك من معرض الرياض في عام صدورها، هل تشعر أن الجائزة تعوضك عما حدث؟

تعوضني كثيرًا، سحب الرواية جاء بناء على شكاية، وتم تجاوز الأمر فيما بعد وأعيدت إلى رفوف المكتبات وحققت نجاحًا جيدًا، ما حدث الآن أنني تجاوزت الأمر تمامًا ثم جاءت هذه الجائزة لتؤكد للناشر صحة رهانه، وتؤكد لي أن الثبات يمنح نتائج باهرة.

أيهما أهم للعمل الإبداعي ويفيده بشكل أكبر من وجهة نظرك، النقد أم الجوائز؟

بالنسبة للكاتب نفسه النقد هو الأهم، النقد بكل أشكاله حتى لو كان سلبيًا، فهو يرفع مناعته على الأقل، طبعًا هذا إن كان يؤمن بنفسه، أما للكتاب نفسه فالجوائز هي الأهم؛ لنفرّق إذن للكاتب النقد وللكتاب الجوائز.

لماذا اخترت «كتابُ الردة» عنوانًا؟ وهل كان خيارك الأول؟

اخترتُ عنوان الكتاب قبل أن أكتبه، وهذا شيء غريب، لكنني كنت أتصور مجمل العمل في ذهني قبل أن أبدأ في كتابته، حاول أصدقاء كثر ثنيي عن هذا العنوان، لكنني رأيتُ فيه قيمة أدبية وترويجية، فالعنوان بحد ذاته مدعاة للنقاش، يجوب الفقه والقواميس لينتهي أخيرًا في مصب اللغة.

كتاب الردة

يمكن القول أننا حاليًا نعيش في سنوات من الشك والريبة حول كثير من الأمور، خاصة المتعلقة بالدين، هل ذلك ما دفعك لكتابة «كتاب الردة» الآن؟

لا أتفق مع هذا، نحن لا نعيش في سنوات الشك والريبة، وإنما في مرحلة متقدمة، أعتقد أننا الآن نعيش أزمات اجتماعية ناتجة عن سوء المعالجة فحسب، لقد أهدر العالم العربي ستة عقود مهمة، ضاعت في التنظير والتجريب، لكن الحداثة لم تترك لنا متسعًا من الوقت للتباكي، هناك دول عربية الآن تخلصت من هذه العقدة، وأخذت زمام المبادرة وقطعت أشواطًا رائعة نحو روح العصر، تلك الدول تشكّل الآن قدوة جيدة، والصراعات التي نراها والإرهاب المستشري هي الرقصة الأخيرة لعقود التخلّف التي سنتجاوزها لا شك، أحفل بنظرة متفائلة جدًا للعالم العربي في عقود قليلة.

ماذا كان الدافع إذًا؟

فتح ساحة نقاش لبقايا قريبة من تلك العقود، على اعتبار أن الحوار والنقاش هما قيمة هذا العصر، من خلال نقاش تلك السقطات يمكن أن يدخل القارئ في عصف ذهني حول فائدة الاختلاف والاحتراب اللفظي الذي أوصل دائمًا إلى الاحتراب العسكري، إذن فالتسامح الذي ينشده الجميع الآن هو أحد القيم البارزة لتلك الرواية.

تناولت في رواية «تيرانجا» الأزمة العرقية في موريتانيا والسنغال، ومؤخرًا رأينا أزمات مشابهة تطغى في الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، هل ترى أنها أزمة ذات صبغة عالمية؟

لا أعتقد أن ما عالجته رواية تيرانجا له علاقة بما يحدث الآن في العالم، تيرانجا عالجت أزمة التعايش العرقي في الوطن متعدد الإثنيات، وهذا مشهود في أماكن كثيرة حول العالم، ما يحدث في الولايات المتحدة وأوروبا أكثر تطورًا مما يحدث لدينا، فنحن مازلنا نناقش حق المشاركة، وهم يناقشون تفاصيل تنفيذية دقيقة لا تصلح للاستشهاد بها في واقعنا للأسف، الأزمات العرقية في الدول المكونة من إثنيات متعددة والواقعة في مسار العالم الثالث يمكن أن تكون حالاتها مماثلة لما حدث في موريتانيا والسنغال قديمًا، لكن هذا لا يعني أن الأمر بقي على حاله، أعتقد أنه من المستبعد الآن أن تكرّر تلك المأساة، فموريتانيا والسنغال أخذتا العبرة كما أن واقع الرأي العام ووعيه تطورا كثيرًا، لكنها تبقى عظة من الماضي يجب تذكرها دائمًا لتجاوز آثارها النفسية في المجتمع.

إذا نظرنا للصراعات المعاصرة من حولنا؛ كيف ترى الصراع العربي الصهيوني؟ والصراعات العربية العربية غير المبررة؟

أرى الصراع العربي الصهيوني صراع إرادة، بين مشروع دولة مؤسسة ذات طابع عرقي ديني، وشعب حي يرفض أن يلحق بالمؤابيين والحثيين. أما الصراعات العربية العربية فهي مؤسفة حقًا، وأعتقد أن الحديث عنها بالجملة لا يعطي معنى محددًا، يجب الفصل بينها نوعيًا وحينها لن تبدو صراعات عربية عربية.

تطرقت في روايتك الأولى إلى قضية عرقية وفي الثانية إلى قضية دينية، وهذه قضايا شائكة لا يرضي تناولها أصحاب الانحيازات، وهؤلاء الغالبية العظمى في الوطن العربي. ألم تخش أن يعرضك ذلك لمشكلات؟

حين تقف ملتزمًا بالخطوط الحمر ستنجح في كتابة زاوية تتحدث عن الأخبار المحلية في صحيفة، في الكتابة لا يتعلّق الأمر ببقائك في الظل، هناك من كتب أعمالًا جمة لم تصل إلى عقول وقلوب الناس، لأنه خاطب المسلّمات، يجب على الكاتب أن لا يخون المجتمع بالالتزام بقوانين السير التي وضعت للمركبات، عليه أن يشق طرقًا جديدة ستغدو سالكة لآخرين بعد مدة، وعليه أن يكون على مستوى المسؤولية في تحمّل كل تلك الآلام المتوقعة، يجب عليه في هذا أيضًا أن يكون صادقًا ولا يسعى لفعل ذلك لمجرّد الإثارة، فتلك حيلة لن تصمد بعد عمل واحد.

التشابك بين الصراع العرقي في «تيرانجا» والصراع الديني في «كتاب الردة». هل يشير ذلك إلى مشروع روائي تسير في دربه؟

سؤال جميل جدًا، هو بالفعل مسار روائي للتنقيب في الماضي، وليس التراث فحسب، وإبراز أهم السقطات، إذا امتلكنا خريطة للعثرات يمكن تجنبها على الأقل، أنا أعمل في مسار روائي لنقد تلك العقود الستة الماضية من عدة جوانب، لا أجد حاجة في نفسي لتأليف رواية عن امرئ القيس، بل كتابة عمل عن شخص عاش قريبًا منا، ونحن على تماس مع تجاربه، إذا كان هناك فعل الحاضر البسيط في الإنجليزية فأنا أتحدث عن الماضي البسيط الذي انصرم للتو زمنيًا لكنه مازال يفعل في حاضرنا المعقد، فكل تلك الطلاسم يساعد على المضي قدمًا في حياتنا الحالية، وتلك قضايا كثيرة من أهمها: ما يُعرف بالصحوة والطائفية والتطرف والديكتاتورية والقبلية وجملة من المواضيع التي يشكل نقدها في قالب زمني من الماضي البسيط معالم مشروعي الروائي إن أمكن أن يكون لي مشروع.

sds

عملك في مهنة متعلقة بالكتابة كمحرر في قناة العربية، هل أضاف إلى محمد عبد اللطيف المبدع أم أخذ منه؟

العمل في الإعلام لا شك أنه مشغلة كبيرة لأي كاتب، ولكنه من جهة أخرى يمنح النفاذ إلى المعلومات وتلك ميزة مهمة، الضابط في الأمر هو تأقلم الكاتب وفصله بين العمل والهواية. الكتاب المحترفون تجاوزوا هذا الأمر، أما نحن فمازلنا نجد أنفسنا في ساعات العزلة لكتابة شيء نحبه، والشغف يلعب دورًا كبيرًا، متى ما توفّر فسيكون هنالك وقت ومتسع رغم كل انشغال.

وددتُ سؤالك عن معنى الوطن بالنسبة لك، إن كان حيث وُلدت أم نشأت؟ لكني وجدتك مولعًا بشنقيط في قصائدك فأيقنت أنها وطنك الدائم. هل أصبتُ في يقيني؟

أعتقد أنك أصبتِ نوعًا ما، فشنقيط هي الوطن، لكن لا توجد دولة بهذا الاسم، إنها وطن مجرّد لم يتحقّق، وهو وطن بمقاييس فردية جدًا، ربما يكون عبدالله بطل الرواية اتفق معي كثيرًا في تعريف الوطن، وفي النهاية وبالمختصر المفيد أنا لستُ وطنيُا البتة.

كيف تقضي أوقاتك في زمن الكورونا؟ وما رؤيتك للحياة الثقافية خلاله؟

أقضيها في العمل المنزلي والعمل الرسمي من البيت والقراءة والمحادثات مع الأهل والأصدقاء عبر التطبيقات وممارسة الرياضة. أما الحياة الثقافية فأوجدت لنفسها وسائل للتعبير خلال الحظر، مازالت الندوات والأمسيات والفعاليات تقام بشكل إلكتروني، لكن هذه الأزمة لن تستمر والحظر سينتهي دون شك، لا يمكن أن يستمر لأنه يناقض طبيعة البشر، والبشر سينتصرون.

هل لديك جديدًا تكتبه أو ينتظر الطبع؟

نعم، لديّ عمل تجري كتابته ولم يصل مرحلة الطباعة بعد، فأعمالي تأخذ أوقاتًا طويلة، استغرقتُ بين روايتي الأولى والثانية خمسة أعوام، أرجو أن لا أحافظ على هذا المعدل، لكنني لستُ مستعجلًا، عملي الحالي أوشك على النهاية، ولكن التنقيح والمراجعة عادة يأخذان وقتًا اكثر بكثير من الكتابة، كتابة رواية تتم خلال شهرين أو ثلاثة، لكن مراجعتها قد تأخذ سنوات.

عمّ يدور هذا العمل؟

يتحدّث عن مشاكل من نوع آخر تتعلق بالجندر، أي جنس المولود.

Comments