تيسير النجار: الكتابة هي رئتي الثالثة



تصوير: محمد الكاشف

  • أرى الحياة كنص أدبي وأكتب النص كأنني أعيشه.. ولن أتوقف عن الكتابة سوى بموتي
  • أختي قتلت أصدقائي المتخيلين فلجأتُ إلى كتابتهم حتى لا أفقدهم مجددًا
  • كنتُ ألاحق أمي في المطبخ لتستمع إلى قصصي ومازلتُ أتبع نصيحتها حتى الآن
  • لم تصل لقريتنا «كابلات» التليفونات الأرضية ولا يوجد لدينا «واي فاي»
  • لم أكن يومًا كاتبة نسوية وأكره القولبة.. ويسعدني حين يصف أحدهم كتابتي بالسلاسة
  • أزمة «الكورونا» أشعرتني بالامتنان تجاه ذاتي لأنني قادرة على الشعور بالجمال بالرغم من الواقع التعيس الذي لم يحتمله غيري لفترة مؤقتة
  • تجربة التعليم المفتوح جعلتني أدرك أن لا وقت محدد لتحقيق الأحلام
  • لو استمعتُ لنصيحة البعض بالتفرغ للأدب وتركتُ الدراسة والعمل سأفقد روافدي ويجف خيالي
  • أحبُ تعجُّب أهل قريتي من كوني كاتبة.. وأحبُ دهشة المهتمين بالكتابة من كوني فتاة صعيدية ابنة القرية المتصالحة معها
  • المجتمع الذي لا يعطي المرأة حريتها يظلم الرجل بالتبعية.. ولا توجد حرية مطلقة سوى للإله وللشيطان

لا تؤمن بالفوارق العمرية بين البشر، وتتعامل مع الجميع بقدر من المساواة، يتحكم فيه صعودًا وهبوطًا – فقط – درجة صدق محدِّثها. وتشعر كثيرًا أثناء نقاشك معها أن عمرها يتجاوز السبعة وعشرين عامًا الذين أمضتهم على الأرض منذ مولدها في 26 فبراير 1993، لكن بمجرد أن تلتقيها وترتسم على شفتيها ابتسامة عريضة تُظهِر جزءًا من فكِها العلوي؛ تتيقن أنك أمام قلب طفولي لازال محتفظًا بسجيته، ولم تنل منه تجارب الحياة رغم قسوتها.

تيسير النجار هي الابنة الصغرى بين خمس بنات، وُلِدن بنجع المغارة التابع لقرية الأعقاب في محافظة أسوان، يفصلها عن أختها السابقة لها سبع سنوات، إذ أنجبها والدها بعد تجاوز سن الشباب، وإثر تعرضه لإصابة بالغة منعته من الذهاب إلى العمل مرة أخرى، لذلك لم تر تيسير فيه – مثل بقية الأطفال – صورة الأب الخارق والبطل، وإنما أحسّت ضعفه الإنساني، وأصبحت تخاف المرض أكثر من أي شيء، بعدما أدركت حجم ضعفنا كبشر وأن أقصى ما يستطيع المرء أن يوفره لنفسه هو سلامه الداخلي فقط.

تراقب والديها في شيخوختهما، وتترسخ داخلها يومًا بعد الآخر مقولة د.فيكتور فرانكل في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» بأن «تعيش كما لو كنت تعيش بالفعل للمرة الثانية وكما لو أنك قد عملت على نحو خاطئ في المرة الأولى مثلما تفعل الآن»، يدفعها ذلك لتفادي إعادة أخطائهما، لأنها تكره الندم، خاصة حينما لا يوجد وقتًا لإصلاح ما فسد، فهي تخاف ضياع حياتها فيما لا يستحق.

خوف تيسير جعلها تسعى لتحقيق النجاح منذ سن صغيرة، فنشرت قبل أن تكمل عامها الثالث والعشرين مجموعتها القصصية الأولى «خلف الباب المغلق» 2016، وتبعتها عام 2017 بالثانية «جئتك بالحب» الحاصلة على جائزة يوسف زيدان لإبداعات الشباب العربي 2019، وأخيرًا متتاليتها القصصية «مثل أسرة سعيدة» 2020.

حول ما يستحق وما لا يستحق في حياة تيسير النجار، وحول إخفاقاتها الصغيرة ومحاولات تغلبها على العصيب من ظروفها؛ دار لقاؤنا التالي.

متى أمسكتِ القلم لأول مرة؟ ولماذا؟

في طفولتي، ربما كنت في التاسعة من عمري. لم أكن أخرج من المنزل ولا أجد من يشاركني اللعب، فتخيلتُ أصدقاء لألعب معهم، وذات مرة انزعجت أختي من الضوضاء التي أسببها، فضربت شخصياتي المتخيَّلة بكلتا يديها، وصاحت بأنها قتلتهم. في تلك اللحظة شعرت بأنها اخترقت مجال خيالي، ومنذ ذلك اليوم فشلتُ في استحضارهم مرة أخرى. دفعني ذلك لكتابتهم بما أسعفتني قدرتي اللغوية، لأنني كنت في الصف الثالث الابتدائي تقريبًا، وأكملتُ نقصان جملي بالرسم حتى لا أفقدهم مجددًا، وكلما شعرتُ بالوحدة أنكببتُ على أوراقي أدوِّن من يبددون وحدتي. أما الكتابة الاحترافية نوعاً ما فكانت في الصف الأول الإعدادي، عندما فازت قصتي بالمركز الثالث على مستوى محافظة أسوان.

من كان أول شخص تعرضين عليه كتاباتك؟

أمي. كعادتي كنتُ ألاحقها في المطبخ وأقرأ قصتي، وتسمعني وتناقشني بالرغم من انشغالها الدائم. هي قارئة نهمة. كانت توضح لي الكلمات التي يستعصي عليَّ فهمها بالرغم من حصولها على الشهادة الابتدائية فقط، وكانت تنصحني بالتركيز على سياق الجملة حتى أفهم، وهذا ما أتبعه حتى الآن في فهم كل شيء؛ البحث عن السياق والسبب. بعدها صِرت أعرض كتابتي على المدرسين وكانوا يقرأون كل ما أكتب بحماس، وعند إذاعة قصتي «وسقطت الأقنعة» على راديو البرنامج العام في برنامج «من الحياة»، تعجّب أهل قريتي من هذا الحدث، وحصلتُ حينها على أول مكافأة من الكتابة. كان شعورًا مدهشًا.

لمن كانت قراءاتك التأسيسية التي تركت أثرًا داخلك؟

حين ينشأ المرء في قرية بصعيد مصر تنعدم الخيارات لديه. تخيلي أننا حتى الآن لم تصل لقريتنا «كابلات» التليفونات الأرضية، ولا يوجد لدينا «واي فاي»، كل الاعتماد على باقات المحمول التي تسرقها شركات الاتصالات سريعًا. لم يكن يوجد بمنزلنا سوى الكتب الدينية الخاصة بأبي، ولم تثر حماسي للقراءة. سأخبرك بصدق؛ أنا لم أؤسس في القراءة ومازلت حتى الآن أنزعج من حدود معرفتي وقلة إطلاعي مقارنة بسني، قرأتُ سلسلة المكتبة الخضراء في المرحلة الابتدائية، وتقريبًا قرأتُ كل مكتبة المرحلة الإعدادية التي كانت رفوفها بعرض متر وأقصر من قامتي، ووجدتُ في مكتبة المدرسة الثانوية أعمال يوسف إدريس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم. لا أستطيع اختزال كاتب عربي واحد في التأثير عليَّ لأن هناك كُتّابًا لم أقرأ أعمالهم الكاملة بعد.

ما أثّر في بشدة هو التفكير في كيفية أن أكتب مثلما أتحدث. من لا تستهويهم القراءة يقولون إنهم يشعرون بالملل، وأرجِّح أن سبب ذلك هو ابتعاد طريقة الكتابة عن سلاسة الكلام واستخدام مصطلحات صعبة تعطِّل تعاطيهم مع ما يقرأون، لذا يسعدني حين يصف أحدهم كتابتي بالسلاسة.

كنتِ دائمًا طالبة مجتهدة. لماذا التحقتِ بالثانوية الصناعية؟

القدر من اختارها لي، واخترتُ أنا في المساحة التي قدّمها لي الأدب ودراسة علم النفس. لم تكن الثانوية الصناعية سيئة بالكلية، دراستي للكمبيوتر ساعدتني في عملي الآن كمدخلة بيانات.

هل تشعرين أن التحاقك بالجامعة منحك إضافة حقيقية بخلاف المؤهل؟

أنا كسولة وتستهويني قراءة الأدب أكثر من أي شيء، ودراستي لعلم النفس تلزمني بالقراءة في هذا المجال المهم الذي يخدم الأدب. تجربة التعليم المفتوح جعلتني أدرك أن لا وقت محدد لتحقيق الأحلام فعلًا، أراقب سعادة كبار السن عقب انتهاء الامتحان، وحين يبلغونني بنجاحهم. أشكر نفسي أنني لم أحرم ذاتي من هذا الشعور بالنجاح والسعادة بهذه التجربة المميزة، وهنا أعني الشعور بتحقيق الذات من خلال اجتياز الاختبارات وإلزام نفسي بوقت محدد، ذلك التحدي المحبب وليس القيمة العلمية فقط التي يمكن أن نجدها في الكتب المتاحة بوفرة.

هل عملك في إدخال البيانات أضاف لكِ تجربة مختلفة أم أنه انتقص من وقتك وجهدك بلا فائدة؟

أحب عملي جدًا، فهو لا يخلو من الإبداع، حين أتأمل «البانرات» التي قمتُ بتصميمها على واجهة المحلات أشعر بالسعادة، قائمة الطعام الخاصة بالبواخر والمطاعم التي أضع بها ما أحب من ألوان، نظرة الرضا بعين العميل حين أنتهي من تنفيذ طلبه، أن يجلس بانتظاري حتى أنفذ ما يريد بالرغم من وجود غيري بالشركة؛ تلك أشياء تولد بداخلي بهجة خاصة. كثيرًا ما ينصحني البعض بالتفرغ للأدب وترك الدراسة والعمل، أعرف أن تلك النصيحة تنطوي على محبة لي، لكن ذلك التفرغ سيجعلني أفقد روافدي ويجف خيالي. الخيال يعزز بالواقع، وعملي يبصرني بحالات جديدة تصلح للكتابة وتعرفني بذاتي.

قبل العمل كنت أظن أنني شخصية غير صبورة، لكن زملائي والعملاء يصفونني بطول البال وحسن الاستماع للآخر. عرفتُ أن ما كان يسرِّب لي الملل هو الحديث غير الهادف، لكن حين يسرد لي سيد عجوز معاناته مع ابنه المدمن الذي اعتدى عليه بالضرب ثم أصيغ أقواله في شكوى للمسئولين وأقرأها عليه فتدمع عيناه شاكرًا أنني جسدت كلماته «زي بتوع الجرايد» على حد وصفه، أشعر بالامتنان للكتابة وعطاياها حقًا. ما من تجربة في الحياة يخوضها الإنسان بكل عقله وقلبه تمر بلا فائدة.

لا شك أن نشأتك الريفية في القرية صنعت لكِ تجربة متميزة. لكن؛ هل تحلمين بالتحليق بعيدًا عنها ذات يوم أم تخططين للبقاء فيها بشكل دائم؟

في الوقت الحالي لا أرغب في ترك القرية. كنت أرغب في ذلك بشدة عندما لم يكن مسموحًا لي به، أما الآن بعد زياراتي للقاهرة ومعرفتها؛ عرفتُ نفسي وأدركتُ أنني أشبه قريتي في بساطتها وعدم تكلفها. أخبرك سرًا؛ أحبُ تعجُّب أهل قريتي من كوني كاتبة، وأحبُ دهشة المهتمين بالكتابة من كوني فتاة صعيدية ابنة القرية المتصالحة معها.

وكيف جاءت الخطوة الأولى لابنة القرية إلى عالم النشر بمجموعة «خلف الباب المغلق»؟

فقط معرفتي بأن دار روافد مهتمة بنشر إبداعات الشباب والتجارب الجديدة والمراهنة على الموهبة، ذلك حمّسني للتواصل مع الشاعر إسلام عبد المعطي، ونشر مجموعتي معه.

تبعتِ ذلك بمجموعتك الثانية فحصدتِ جائزة يوسف زيدان بعد تنافسها مع روايتين وديوانين، لكنكِ لم تتوقعي الفوز. لماذا؟ هل في رأيك القصة القصيرة أقل حظًا أم انها لا تلقى التقدير اللازم؟

لم أتوقع الفوز لأنني أنا كاتبة المجموعة، بإمكانك اعتباره «ميكانزم» دفاعي، عادة أسعى بكل طاقتي ولا أتوقع الوصول للمدى، ربما لتفادي الإحباط عند عدم الفوز. وبالطبع لا تتلقى القصة القصيرة التقدير اللازم مع الأسف، ربما يرجع لكونها فن مربك؛ لكل قصة عالم مختلف، وليس مثل الرواية التي يتناولها القارئ كقطعة واحدة، وحتى عند الانقطاع عن قراءتها والعودة مجددًا يشعر بأنه يستكمل ذات الرحلة. وأصبح الشعر مثلها، قرأتُ الكثير من الدواوين وهو حالة واحدة ممتدة، وأحببتُ تلك التجربة بالفعل.

كيف أثرت الجائزة على مسارك؟

مازلتُ أسير في طريقي كما أنا، أعتبرها باقة من الزهور وجدتها بين فترة استراحتي خلال الطريق الذي أعرف أنه طويل.

قرأت لكِ تصريحًا بعد الفوز تقولين فيه إنك ستشترين بقيمة الجائزة المادية كتبًا. هل فعلتِ ذلك؟

لا، لم أفعل. أسوان لا تتوفر بها الكتب بشكل كافٍ، وحمل الكتب من القاهرة عمل شاق جدًا.

خضتِ تجربة النشر الخاص والعام دون أن تبرحي أسوان. ما الفارق بينهما بالنسبة لكِ؟ وما العقبات التي قابلتك في الحالتين؟

لكل منهما مزايا وعيوب؛ بالنسبة للنشر الخاص نجد أن الدعاية الممولة واسم الدار إن كان ذائع الصيت يخدمان العمل، فبعض الدور يكفي وجود اسمها لنجاح العمل وتصدره في الصحف والأخبار، ويمكن معها نشر ما تريد من طبعات، وإن كانت الطبعة في بعض الدور الخاصة مائتي نسخة فقط أحيانًا، لكن على جانب آخر لا تتوافر إصدارات الدور الخاصة في كافة المحافظات مثل أسوان، وأنا يهمني وجود كتابي لأهل منطقتي ومعارفي، كما أن أسعارها مرتفعة مقارنة بالنشر العام.

أما النشر العام فيعّد اعترافًا من الدولة بالكاتب، ويسقط عنه تلقائيًا تصنيف الأدب التجاري لأن تلك المؤسسات لا تنشر هذا النوع، لكن هناك بعض اللوائح التي تفسد متعة النشر؛ ففي حالة نفاد الطبعة الأولى، وهي ألف نسخة، لن تتمكن من إعادة النشر سوى بعد مرور ثلاثة أعوام على الطبعة الأولى، وهذا ما حدث مع مجموعتي «جئتك بالحب».

لكني بشكل عام أعتبر نفسي محظوظة بتجاربي الثلاث، ولم أجد عقبات مثلما أسمع من كُتّاب غيري.

كان «الفيسبوك» وسيلتك الوحيدة للتواصل مع العالم من حولك، وحاليًا في ظل زمن «الكورونا» والتباعد الاجتماعي أصبح التواصل عبر العالم الافتراضي هو المسيطر. هل تشعرين في ذلك بإرضاء لكِ وأنكِ لم يعد ينقصكِ شيء؟

لا، وإنما أدركتُ قيمة ما ينقصني، وشعرتُ بالامتنان تجاه ذاتي لأنني قادرة على الشعور بالجمال بالرغم من الواقع التعيس الذي لم يحتمله غيري لفترة مؤقتة، وذلك ليس لأفضلية بي، بل هو التكيف الفطري الموجود بالإنسان.

هل شعرتِ بتأثيرات «الكورونا» وفترة الحظر أم أنها لم تشكل فارقًا لكِ؟

بالرغم من أنني لم أغِب يومًا عن عملي ولم أتوقف عن ممارسة حياتي العادية، لكن الشعور باقتراب الخطر والموت كان يقتلني. لقد حُرمت من حضن كنت أحتاجه بشدة جراء هذا الفيروس، وذلك وضعني أمام الحقيقة؛ أن الواقع الافتراضي ليس كافيًا أو بديلًا عن الواقع، هو فقط سبيل له. كل كلمات المواساة ممن أحب لن تغنيني عن لمساتهم وضمتهم لي. أدرك أن بدايتي ككاتبة كانت افتراضية لكنها مرحلة ولم يكن يشبعني أن أظل هكذا شخصًا غير مرئي.

بعد قراءتي لمجموعاتك الثلاث وجدتُ أن معظم أبطال قصصك يرفضون واقعهم أو يحاولون الهروب منه. هل تعبّر تلك القصص عنكِ بشكل ما؟ وهل تحقق لكِ وسائل التواصل الاجتماعي ذلك؟ خاصة وأنها شريك في كثير من القصص.

أبطال قصصي ليسوا أنا، هم أبناء لحظات فكري في تلك اللحظات فقط. بعضهم حاول رفض الواقع بالفعل أو تقويمه، لكن في «مثل أسرة سعيدة» كانوا يحاولون تجميله وليس الهروب منه. كما أنني لا أعّد وسائل التواصل الاجتماعي هروبًا، إنها تقربني من الواقع الذي أريده، أخرجتني من شرنقتي، وأوصلتني بالحقيقة التي أريدها لنفسي.

كمثال بسيط؛ في قصة «فيسبوك سمايل» لم يكن هروبًا من البطلة، بل تمني للحياة التي تريدها وعجزت عن تحقيقها فاكتفت بتصدير هذه الأمنية على صفحتها الفيسبوكية، وهذا نفعله أحيانًا؛ نلتقط صورة مبتسمين فيها ونحن في الواقع لم نشعر بتلك السعادة من هذا اللقاء.

في مجموعتك الأولى كانت الغلبة للنساء كبطلات للقصص، وفي الثانية والثالثة صرتِ أكثر تنويعًا. هل خشيتِ من تأطيرك ككاتبة نسوية؟

كان ذلك يزعجني بالفعل لوقت قصير ومازلتُ أكره القولبة، لأنني لستُ كاتبة نسوية فقط، فمجموعتي الأولى احتوت على نص «بعد المحاكمة» الذي ناقشتُ فيه قضية سقراط وحال أبناؤه وهل سيرثون فكره أم لا، وقصة «جينات بجماليونية» تناولتُ فيها علاقة المبدع بإبداعه وهل سيتمرد عليه أم يظل تابعًا له، وغيرها من القصص. من الظلم اختزال المجموعة في مناقشة قضايا النسوية، وذلك لا يعني أن النسوية سبة، وسأفخر بها إن كتبتُ في هذا الموضوع فقط، لأن قضية المرأة قضية مجتمع، لكنني لم أغيّر كتابتي عن عمد، أحببتُ التجربة المختلفة، والكتابة عن عالم جديد. «جئتك بالحب» تناسب ما راودني من أفكار في فترة كتابتها، مثل الرومانسية والحروب التي تشهدها المنطقة العربية، وجدوى العلم والكتابة، وضعف المرض بعد تجربتي معه، بينما «مثل أسرة سعيدة» كتابة إنسانية بها البطولة للرجال والنساء والأطفال بشكل متساوٍ وتأثير العلاقات التي تربطهم ببعضهم على حالاتهم النفسية ورؤيتهم لذواتهم.

لا تهتمين بالأماكن أو ذِكرها، بطلك الأوحد هو الإنسان. لماذا تهملين المكان بهذا الشكل رغم أنه من العناصر الرئيسية في مكونات السرد؟

كما لاحظتِ أن معظم الأبطال يرفضون الواقع أو يسعون لتغييره، فهم أيضًا يشعرون بالاغتراب، وعندما يحدث ذلك لا يرى الناس في المكان سوى أنه جزء من أسباب حزنهم، وتكون أقصى أحلامهم الهروب منه، مثلما قالت مهجة بطلة قصة «هناك» إن «راضي لو لم يكن رجلًا لصار عالمًا تمنيتُ العيش فيه»، كان المكان في نظرها هو الرجل الذي بيده خلاصها، وكذلك بطلة «صخب الظلام» التي تعيش في مرض الألبينو ولا ترى سواه، ولا حتى الرجل الذي أحبها بصدق. إن أبطالي لا يمتلكون ذواتهم، كل رغباتهم في انقضاء الوقت وتغيير الحال. حين يمتلك المرء حلمًا يمتلك المكان.

مع كل مجموعة لكِ يلّح عليّ سؤال حول رؤيتك لحرية الفرد. هل تشعرين أنها مكفولة للرجال فقط؟

كنتُ أعتقد ذلك، وحين كتبت قصتي «صار لها جسد» يبدو ذلك جليًا، خاصة في هذا المقطع «كل ما رغب فيه، هو الحياة، وقد أصبح رجلًا وحصل على صك الحياة»، لكن مع التجربة والنضج، أدركتُ أن المجتمع الذي لا يعطي المرأة حريتها، يظلم الرجل بالتبعية، ولا يراعي حقوق الإنسان بشكل عام. ولا يمنع رأيي هذا أن بالفعل هناك امتيازات للرجل في المجتمع الشرقي، يولد الرجل منزّه بينما تولد المرأة مُدانة، كما أنه لا توجد حرية مطلقة سوى للإله وللشيطان.

هل وددتِ يومًا لو أنكِ وُلدتِ صبيًا؟

تمنيتُ ذلك في الماضي كثيرًا، بينما الآن فخورة بأنوثتي وجنسي، أنا إنسان كامل، ومن يقسّم البشر بسبب «الجندر»؛ غير سوى ونظرته قاصرة.

تبدين مخلصة جدًا لعالم القصة القصيرة، ورغم أن «مثل أسرة سعيدة» تبدو كـ «نوفيلا» لكنكِ صنفتِها كمتتالية قصصية. لماذا؟

ربما أنتِ تحبين أن ترينها هكذا. صار الآن الجمع بين أصوات مختلفة يسمى رواية، وصارت الرواية تدخل من أي باب. احترامًا لشخصياتي لم أزج بـ «مثل أسرة سعيدة» في أي إطار روائي يضطرني لتغيير الصورة التي اختاروا أن يظهروا بها، لمجرد رغبتي في كتابة الرواية، إهدائي لهم لم يكن من فراغ، فأنا شعرتُ بهم معي ورأيتهم بقلبي، المتتالية تناسب صوتهم الهامس وحالتهم الهادئة.

لو تعرضتِ لموقف وضعكِ في اختيار بين الكتابة وحياتك الشخصية. أيهما تختارين؟

الكتابة حياتي ولا سبيل للفصل بينهما، من يساومني عليهما كمن يخيّر أحد بين الاحتفاظ بيده أو قدمه، فالكتابة رئتي الثالثة التي لا أستطيع ولا أريد التخلي عنها.

هل لديكِ جديدًا تكتبينه حاليًا؟

بالطبع، أرى الحياة كنص أدبي، وأكتب النص كأنني أعيشه، ولن أتوقف عن الكتابة سوى بموتي.

أليس هناك ما ينتظر النشر؟

قاربتُ على الانتهاء من مجموعتي الجديدة «كما لو كنت أحبك»، ربما تُنشر قريبًا.

نُشر في أخبار الأدب بتاريخ 27-09-2020

Comments